١٠
نادوا عليَّ للزيارة وأخذني الحارس إلى المكاتب، وجدت المحامي الذي وكلته أمي في انتظاري. كان قصير القامة، ممتلئ الجسم يرتدي ملابس كاملة رغم حرارة الجو: سترة كاروهات رمادية اللون من صناعة المحلة، فوق بنطلون من الصوف الخفيف، داكن اللون وقميص من قماشٍ أبيضَ لامع، يبرز منه كرشه، وكرافتة ذات ألوانٍ صارخة. وكان يضع فوق ركبتيه حقيبةً جلدية من النوع المزود بقفل يعمل بالشفرة، تبدو عليها الجدة، وتشبه حقائب السامسونايت، لكنها لم تكن تحمل علامتها المميزة، وكان يرتدي حذاءً أسود اللون بلا رباط، من نوعٍ رخيص، انبعجت جوانبه عند الأصابع وتآكل جانب من نعله.
جلستُ أمامه على مقعد فتلقيتُ هواء مروحةٍ قديمة من إنتاج المصانع الحربية كئيبة الشكل، وُضعتْ فوق خزانةٍ معدنية. وكانت هناك واحدةٌ أخرى حديثة من طراز توشيبا فوق المكتب. لكنها كانت متوقفة.
قال لي: احكيلي يا أشرف كل حاجة من طأطأ لسلامو عليكو.
حكيت له كيف تعرفت بجون ودخلنا السينما، وانتبهت إلى أنه لا ينظر إليَّ وإنما يتطلع إلى النافذة المسورة بنظرةٍ شاردة، فكففت عن الكلام. ولم يعد يتردد في الغرفة سوى الطنين المرتفع للمروحة.
قال دون أن ينظر إليَّ: كمِّل، أنا سامعك.
أكملت قصتي وعندما انتهيت ظل صامتًا دون أن يرفع عينَيه عن النافذة.
تشجعت وسألته: رأي سعادتك؟
قال: خير إنشا الله.
تطلعت إليه مستفسرًا.
قال: الجلسة الجاية تقول للقاضي إن الاعتراف بتاعك كان تحت التعذيب، وتنكر كل حاجة.
قلت: وتفتكر ياخد بكلامي؟
نهض واقفًا في نشاط وهو يقول: ربنا يسهل.
أعادني الحارس إلى العنبر. لم أدخل زنزانتي، وتابعت السير حتى زنزانة عبد الفتاح، وجدت صديقَيه شحاتة وزغلول يجلسان أمامها في الطرقة يلعبان القمار بأغطية الكوكاكولا. كان الأول قصير القامة يعتني بشاربه الكث وملابسه الريفية، ويكبرني في العمر بعدة أعوام، ويتميز بالتحفظ الشديد، على عكس الثاني الحليق المهزار والودود الذي تجاوز الثلاثين، كانا من قريته ومشترکَین معه في نفس القضية. هتفا في نفسٍ واحد عندما رأياني: عاوز عبده؟ شوفه جوه، يمكن نايم.
وقفت مترددًا في مدخل الزنزانة. كان أحدهم قد حاول حجب الضوء ببطانية ثبتها فوق النافذة لكن طرفها تدلى كاشفًا عن النزلاء الغارقين في نوم القيلولة، وسقط جانب من أشعة الشمس بجوار عبده الذي رقد على ظهره، وغطى وجهه بقطعة من قماشٍ خفيف يشبه الناموسية لكيلا يزعجه الذباب. كان قد خلع جلبابه مكتفيًا بفانلة بحمالتَين من النوع المخرَّم وسروال فلاحي فضفاض يصل إلى ركبتيه.
ناديته بصوتٍ خافت فهبَّ جالسًا وهو يتلفت حوله مبهوتًا. انطرحت الناموسية عن وجهه واستقر الضوء عليه، كان خداه متوردَين من أثر النوم. كذلك كانت شفتاه. وكان كتفاه ممتلئَين مدورَين يهبطان إلى ذراعين نحيلين، وظهرت حلمتا ثدييه من بين خروم الفانلة.
أشحت بوجهي بعيدًا وسألته إذا كان يريد مواصلة النوم فأجاب بالنفي. نهض واقفًا فاستدرت وغادرت الزنزانة. انتظرت في الخارج حتى ارتدى جلبابه.
قال بمجرد خروجه: ولع لنا نص.
كان يحتفظ بسجائره معي وعندما نفترق في نهاية اليوم يأخذ لنفسه سيجارة واحدة يدخنها على عدة مرات بالاشتراك مع أصدقائه، أشعلت نصف سيجارة وانتحينا جانبًا، حكيت له ما دار بيني وبين المحامي من حوار، فبدا عليه عدم الارتياح.
قال: تفتكر البوليس والنيابة يسكتولك أو القاضي يصدقك؟
– أنا قلت له كده.
– وقالك إيه؟ كان لازم تاخد وتدي معاه.
قلت: مكنش سامعني خالص.
كنت فعلًا قادرًا على تمييز من يتظاهرون بالإصغاء إليَّ بينما هم يفكرون في شيءٍ آخر، حتى وهم يواجهونني بنظراتهم. كان الدكتور رمزي واحدًا منهم؛ فعندما ينظر إليَّ مباشرة ألاحظ أنه يحلِّق في مكانٍ آخر.
عبد الفتاح كان مختلفًا؛ كان يصغي إليَّ بكل جوارحه، ويشعرني بأن كل كلمة أقولها مهمة للغاية، وقد أدركت هذا كله يوم زيارة أمي وصرت أستريح للحديث معه.
قال: على العموم من هنا لساعتها تتحل. ع الأقل حتشوفه يوميها قبل الجلسة.
قلت متشككا: إن جه.
كانت أمي قد وكلته قبل أكثر من شهر ونصف ومع ذلك لم أقابله أو حتى أره سوى اليوم.
نادى الدهشوري علینا كي نخرج إلى الفناء، ولمحت الدكتور ثابت محفوظ يغادر زنزانته بمشيته المتخشبة. كان يرتدي قميصًا أبيض اللون بنصف كم، من طراز «سان ميكل»، وشورتًا مخططًا بالطول من طراز «هارتفورد» ونظارةً شمسية من طراز «ماتسودا».
أشار عبد الفتاح إلى حذائه وسألني: «ميستر» وللا «بالي»؟
كنت قد اكتشفت أنه لا يعرف الكثير من الأشياء مثل بعض أنواع السيارات والفروق بين ماركاتها وبالطبع لا يفهم في الملابس وأكسسواراتها، فحدثته عن هذه الأمور وهو يصغي مبهورًا، واستغرب أن تكون للأحذية ماركات.
تفحصت النقوش التي تغطي حذاء الدكتور ثابت وقلت: لا ده ولا ده، شايف التمساح. يبقى «لاكوست».
لمحت مستر تامر يؤدي التمرينات الرياضية فوجدتها فرصة لإبهار عبد الفتاح، شرحت له أسماء الملابس التي يرتديها: «سويت شيرت» وشورت «برمودا» وكاب «يا ماموتو» الجبردين.
تشابكت يدانا كالعادة وأخذنا ندور حول الفناء، انطلقت أحكي له قصة فيلم أحبه لشوارزينجر، تختطف فيه عصابة ابنته الصغيرة ويأخذونه في طائرة إلى أمريكا اللاتينية. لكنه يقفز من الطائرة في اللحظة التي ارتفعت فيها عن الأرض ويبدأ مطاردة أفراد العصابة ليعرف مكان ابنته ويقتلهم واحدًا بعد الآخر. وخلال ذلك يقتحم سوبر ماركت ببلدوزر ويهرب من الشرطة مرتين، ويسرق طائرةً برمائية يذهب بها إلى الجزيرة التي حُبست ابنته في أحد قصورها، ويتسلل إلى القصر حاملًا مدفعًا رشاشًا وراجمة صواريخ وعدة آليات فيتصدى لجيشٍ كامل من الحراس المسلحين ويقتلهم واحدًا بعد الآخر، إلى أن يواجه عدوه القديم رئيس العصابة فيدور بينهما قتالٌ دموي ينتهي بانتصاره وتحرير الطفلة. وهنا يصل جنرال الجيش المكلف بمطاردة العصابة فيقول له: هل تركت لنا شيئًا فيرد عليه شوازينجر بعبارته المشهورة: بعض الجثث فقط. فيعلق الجنرال: كالعادة.
أعجب بالفيلم فحكيت له فيلمًا آخر ﻟ «فان دام» يستأجر فيه حجرة لدى أرملة تعيش وحيدة مع طفليها. وتهددها عصابة تريد ضم المنطقة إلى مشروعٍ مشبوه، ولا يتورع أفرادها عن كل وسائل التهديد والضغط بل حتى القتل. وتبدو لحظة المواجهة غير متكافئة؛ فالشريف نفسه يقف إلى جانب الأشرار، أما الأرملة فليس إلى جوارها غير فان دام بقبضته الفولاذية وطفلٍ صغير ذي أفكارٍ شيطانية، ثم يخرج فان دام في النهاية منتصرًا ويفوز بقبلة من البطلة، لكن القيود توضع في يديه تمهيدًا لمحاكمته في قضيةٍ سابقة تتعلق بسرقة بنك!
روی لي هو قصة فيلم يقوم فيه «عادل إمام» بدور عامل في السكة الحديد يلتقي ﺑ «يسرا» التي رفضت التفريط في شرفها عندما حاول رجل أعمال استغلالها في صفقاته. أعجبتني قصة الفيلم جدًّا كما أعجبني تمسك يسرا بشرفها، والحب الذي نشأ بينها وبين عادل إمام.
لمح السجينَ الذي يتولى توزيع الخطابات فأفلت يده من يدي وجرى نحوه، اقتربت من الحائط ووقفت مستندًا إليه. مرت جماعة من السجناء أمامي بينهم السجين الذي يزين أصابعه بالخواتم، كان معروفًا باسم عزيزة ويمشي بطريقةٍ فاضحة متلويًا كالنساء. رآني أتأمله فغمز لي بعينه وهتف: أمال فين الفردة بتاعتك؟
أشحت بوجهي متجاهلًا. لم يكن أول من أطلق على كلٍّ منا أنا وعبد الفتاح لقب فردة الآخر. فقد صار تلازُمنا موضع حسد الكثيرين.
عاد عبد الفتاح كسيف البال. رويت له ما حدث فعلق في اشمئزاز: مش عزيزة؟ سيبك منه، مفيش جوابات، لا لي ولا لك.
أشعلنا نصف سيجارة وقلت: أنا مش مستني جوابات من حد.
لم يكن هناك ما يدعو أحدًا من أهلي للكتابة إليَّ، وسيد اختفى، أما هدى فيبدو أنها نسيتني.
حدق فيَّ بعينَيه العسليتَين الواسعتَين غير مصدق: يا راجل!
كنت قد حكيت له كل شيء بصراحة، من أول قصة الحلاوة الطحينية إلى أبي الذي لا يكف عن نهري وإهانتي، وهدى التي أُغرمتُ بها، وكيف تعارفنا والتقينا، وكيف كنا نمشي بالساعات ويدها في يدي، ثم كيف تغيرت فجأة دونما سبب وأصبحت تتهرب مني.
قلت: مش قادر أفهم ازاي اتغيرت؟!
سألني إذا ما كنت قد عرضت عليها الزواج؟
تأملته مدهوشًا: الجواز؟ لا طبعًا، ازاي أقولها ع الجواز وأنا أهلي بيصرفوا عليَّ؟!
هزَّ رأسه في حكمة المجرِّبين: البنات تحب تسمع كلمة الجواز.
شردتُ قليلًا أحاول أن أتذكر تعبيرات وجهها وكلماتها ومراحل تغيرها، ثم سألته إن كان قد أحب أو فكر في الزواج، قال إنه يحب إحدى فتيات القرية لكن أهله مصرُّون على تزويجه لابنة عمه في صفقةٍ تبادلية تتضمن زواج أخته هو لابن العم. ورقَّت نظراته لذكر أخته وجعل يصفها لي بطريقة حببتني فيها.
حدثته عن أختي عايدة وكيف أنها تزوجت مبكرًا، ولم تعرف السعادة لأنها اضطرت للسكنى قرب مصنع الكيماويات الذي يعمل فيه زوجها، وأصيبت بالحساسية نتيجة الأبخرة المتصاعدة منه، وعندما فشل علاجها كان لا بد من مغادرة المنطقة والإقامة مع أمه التي دأبت على إساءة معاملتها. ثم وصفتُ له فاطمة التي تعمل في البوتيك وخُطبت عدة مرات دون أن تنجح واحدة منها. سألني عنها فوصفتها له. وأضفت أني أتمنى أن أُعرِّفه بها. قال إنه يود نفس الشيء بالنسبة لي وأخته.
قلت: إن شاء الله أول ما نطلع تزورنا.
قال في وجوم: ادعي ربك.
حكيت له عن شلة المعادي: عمرو طالب الهندسة الذي يقود السيارة واقفًا، بحيث يكون جسمه خارجها وقدمه اليمنى على البنزين. وهشام طالب الشرطة الذي زود سيارته الجيب بكافة أنواع السرينات ويهوى إطلاقها متتابعة، ووصفتُ له الموتورسيكل الغريب الذي يشبه سيارة جيب صغيرة والذي أهداه أبوه لشقيقه الأصغر في عيد ميلاده الثالث عشر وثمنه ١٠ آلاف جنيه، وشرحت له لعبة البولينج التي يلعبونها في صالة مخصوصة، ثم حكيت له قصة سالي فتعجب من أمرها وسألني عن عملها؟
قلت: ماكانتش لاقية شغل. كانت بتقول إنها خريجة سياحة وفنادق وتعرف إيطالي.
منين هي؟ فين أهلها؟
كانت بتقول إنهم ساكنين في الزمالك وإنها متخانقة معاهم وسايباهم.
– تبقى كانت بتستغلكم.
– لا والله. كانت كريمة جدًّا لما يكون معها فلوس، مرة عزمتنا كلنا في «بيتزا هت» وصرفت علينا متين جنيه حتة واحدة. كانت أول مرة أشوفها بتاكل. دايمًا يا إما بتدخن أو بتشرب شاي.
قال: يبقى كانت بتاخد أقراص.
تدبرت قوله فوجدته معقولًا، ورويت له آخر مرة رأيتها فيها. كنت قد ذهبت بالليل إلى الشارع الذي نقف على ناصيته في المعادي، ووجدت وفيق معها وكان مخدرًا تمامًا مضطجعًا فوق ظهر سيارة تحت شجرة، وقفنا نتحدث في انتظار أن يأتي أحد من الشلة، ثم قالت إنها تريد سجائر وليس معها نقود، وقلت لها إنه ليس معي أنا الآخر، وبعد قليل قالت إنها تريد أن تقضي الليلة عند صديقة لها وإنها لا تستطيع المشي لآخر الشارع. سألتها عن السبب. أجابت بحدة: دي حاجة شخصية! قال وفيق إنه ليس معه نقود هو الآخر، فقلت ننتظر حتى يأتي واحد من الشلة. فجأة لمحت عمرو خارجًا من فيلته وركب سيارته ومرَّ من أمامنا، قلت له رايح فين؟ فقال: محطة البنزين على الكورنيش عشان بيبيعوا هناك المارلبورو اللي في علبة مثل الكنت. لاحظت أنه مخدر جدًّا، قلت له: سالي عايزة تروح عند صاحبتها، فوافق على توصيلها. ركبت معهما وقاد ببطء شديد وأنا أنبهه للطريق، لغاية ما وصلناها ورجعنا.
أشعل عبد الفتاح نصف سيجارة وقدَّمه لي. قلت: تعرف يا عبده إني حاسس زي ما نكون اتولدنا مع بعض أو نعرف بعض من زمن بعيد، قال إنه يشعر بنفس الشيء وتعاهدنا على ألا نفترق أبدًا.
أضاف بعد لحظة: حظنا كويس إن عندنا نفس التهمة، فبعد شوية حيوزعوا الإيراد: الحرامية في زنزانة، وبتوع النفوس زيِّنا في واحدة غيرها. يمكن يحطونا سوا.
قلت: ولما نطلع نهاجر سوا.
قال: أنا خلاص تعبت من الهجرة، أنا عاوز أرجع بلدنا وأزرع.
قلت: آجي معاك وأزرع أنا كمان.
قال: حد يسيب مصر وييجي في الهوِّ اللي احنا عايشين فيه؟
حكيت له عن منطقة سكني وكيف أطلُّ على ترعة أصبحت مقلبًا للزبالة. وكيف نشرب من مياه الطلمبات الجوفية رغم علمنا التام بأنها مختلطة بمياه الصرف الصحي؛ لأننا لا نقدر على شراء المياه النقية التي يحضرها بعض الأشخاص في جراكن ويبيعون الواحد بربع جنيه. فلو اعتمدنا عليها لكلفتنا ٧٥ جنيهًا في الشهر.
قال: يبقى تعالى شوفنا بنشرب منين.
قلت له إن المواصلات العامة عندنا تنقطع بعد الساعة الرابعة عصرًا. وإن كشف الطبيب بالوحدة الصحية قيمته جنيه من غير السماعة وثلاثة إذا استخدمها. وإنه لا يوجد بالمنطقة سوى فرنين اثنين يخدمان ١٦ ألف نسمة فلا نجد الخبز إلا في الصباح.
رمقني بنظرةٍ جانبية وقال: برضه أحسن من عندنا، رغيف العيش بخمسة قروش وعندنا رسمي بسبعة. وكل حاجة عندنا ثمنها دوبل. ولو حبيت أشتري حاجة حلوة ملاقيش غير ملبن مفعص وحلاوة طحينية، إنتو هنا عندكو كل حاجة، البيوت عندكو طين؟ أنا كنت عايش في مطرح واحد من الطين مع أمي وأخواتي. مقدرتش أبني بيت زي الناس، عشان کده سافرت واتبهدلت. نمت في شوارع عمان وبغداد.
– وبنيت البيت؟
– لا. رجعنا كلنا بعد حرب الخليج، كان القطن نزل لخمس قناطير في الفدان. تصور بعد تمن شهور شغل في الأرض … اللوز ما فتحتش … ما كانش فيه مية واضطرينا نروي بمية المجاري. ودي كانت مصيبة. الدود زاد. والمبيد مكنش موجود في الجمعيات، مرشيناش. وحتى لو كان موجود … الموتورات خلصانة.
– محاولتش تسافر تاني؟
سافرت، جبت عقد السعودية بعدما رهنت القيراطين اللي حيلتنا. مكملتش سنة، ربنا ما يوريك؛ المصري هناك عبد تحت رحمة الكفيل السعودي، الباسبور بتاعك معاه، متقدرش تخرج من المدينة اللي هو فيها ولا حتى للحج أو العمرة من غير موافقته. السفارة بتاعتنا نفسها تطلب مننا موافقة الكفيل لما نيجي نجدد تصريح العمل.
– ومشيت ازاي؟
أنا حظي وحش دايمًا، قبل ما السنة تخلص راح الكفيل للشرطة وقالهم إني سرقت منه بضاعة. دخلوني السجن من غير ذنب، وبعدين الشرطة قالتلي إنهم ممكن يفرجوا عني بشرط إني أتنازل عن كل مستحقاتي عند الكفيل. أعمل إيه؟ وافقت … وأول ما خرجت رحلوني على مصر في أول طيارة من غير حتى ما آخد هدومي.
ذاب قلبي إشفاقًا عليه، ووضعت ذراعي على كتفه شاعرًا بالرغبة في أن أضمه إلى صدري.
انضم إلينا الدكتور رمزي وسمع عبارة عبد الفتاح الأخيرة فعلق قائلًا: وإيه اللي جبرك على كده؟ مش كان أحسن تزرع في بلدك؟ يعني كان لازم تليفزيون وفيديو وسهر لغاية الصبح؟
ردَّ عليه منفعلًا یعني انتو مش بتسهروا في مصر؟ وبعدين حقولك حاجة: إحنا بنبيع قنطار القطن بخمسمية جنيه. تعرف بيطلع لي كام فيهم؟ مية وخمسين. تعرف الشركات اللي بتشتريه بتبيعه بكام في أوروبا؟ بألفين وخمسمية؟ ده يرضي ربنا؟
قال الدكتور: بس لما كل الفلاحين يسافروا مين حيزرع؟
– وانتو بتسافروا ليه؟ إحنا مش بنسافر عشان نشتري شقق تمليك وفيلات وشاليهات وعربيات أو عشان نحط كذا ميت ألف عند الريان والسعد، بنسافر عشان نخرج من فقرنا، عشان ناكل. ماهاجرناش عشان نبعت لبيوتنا الآلافات كل شهر يشتري بيها الأولاد الهيرويين، وإنما عشان نجيبلهم جزمة وجلابية. ليه تبقى الثلاجة والغسالة والتليفزيون الملون والتكييف وحمامات السباحة حلال ليكم وحرام علينا؟
ارتبك الدكتور أمام عنف الهجوم وقال: أنا مقلتش حاجة. أنا ببص للنتيجة. إحنا مضطرين نشتري القمح من بره.
– طيب هي فين الأرض دي اللي نزرعها قمح؟
– هو انتو خليتو أرض. ما انتو بتبنو عليها.
– سبحان الله! یعني مش من حقنا نسكن زيكم في بيوت زي الناس وللا عاوزينا نفضل عايشين في عشش طين، في الوقت اللي عندكو بدل الشقة اتنين وتلاتة؟ طب إدونا أرض نبني عليها، فين هي الصحرا اللي انتو بتتكلموا عليها في التليفزيون؟
لاحظت أن الدكتور رمزي لم يغضب وإنما كان يفكر، ونادى علينا الدهشوري لنعود إلى العنبر فاتجهنا إلى بابه بخطًى متثاقلة. لمحت سامح ممسكًا بالحافظة الجلدية الصغيرة التي تضم علبة الشطرنج. كان قد شرح لي قواعد لعبها فقلت لعبد الفتاح، تحب أعلِّمك الشطرنج؟
قال: يا ريت.
لحقت بسامح وسألته إذا كان يمكن أن يقرضني علبته لأعلِّم عبد الفتاح، اعتذر بأنه سيلعب الآن مع الدكتور رمزي. عدت لعبده وقلت له إني سأحصل على قطع أفضل من العنبر الآخر. كنت أقصد التي يصنعها عم فوزي من لباب الخبز، أما الرقعة فيمكن رسمها فوق غطاء صندوق «نيدو» أو «تانج».
هزَّ رأسه قائلًا: منصحكش.
قلت: ليه؟
قال مشيرًا إلى أعلى: الجماعة مانعين الحكاية دي هنا؛ أي حاجة معمولة من العيش حرام.
وقفنا في الطرقة لا ندري ماذا نفعل، واقترح أن نذهب إلى زنزانته لنلعب الورق. لعبنا البصرة مع صديقيه إلى أن حان موعد التمام، وشعرت بالاكتئاب عندما تصورت زنزانتي.
وكأنما قرأ أفكاري إذ قال: يا ريتك تفضل معانا للصبح.
قلت: اسمع. عاوزك تروح لتوكل وتقوله إن عيد ميلادك النهارده وإنك عازمني عندكم. شوف حيقول إيه.
لم أشأ أن أذهب بنفسي؛ إذ سبق أن تحدثت معه في شأن الانتقال كليةً إلى زنزانة عبده لكنه رفض الفكرة متذرِّعًا بأن كشوف التسكين في المكاتب ولا يستطيع التدخل فيها.
انطلق عبده يبحث عنه، واتجهتُ أنا إلى زنزانتي فوقفتُ في مدخلها وقلبي يدق، ترددت صيحات التمام، ورأيت عبده يقترب ووجهه طافح بالبِشر.
قال لي عندما أصبح بجواري: كله تمام. عاوز علبة.
قلت وأنا أستدير داخلًا الزنزانة: علبة عشان ليلة واحدة المفتري؟ زي بعضه.
– ولازم واحد من عندنا ييجي مكانك. عشان كشوف التمام.
– والنبطشي بتاعكم؟
– متشيلش همه.
أحضرت السجاير وحملت نمرتي وبطانيتي وانتقلت إلى زنزانة عبده. وحل أحد بلدياته مكاني.
كان عبده يحتل الركن الذي يشغله عزت بيه في زنزانتي، بين صديقَيه شحاتة وزغلول. ورحب الاثنان بي وأفسحا لنمرتي مكانًا بجوار عبده، بينه وبين شحاتة. كانت هناك بضعة سنتيمترات من الأسفلت العاري بين كل نمرة وأخرى فلم يزد النزلاء على عشرة. وكنت أعرف من عبده حكايات أغلبهم.
كانت هناك أسرةٌ كاملة من تاجر مخدرات وابنَي أخيه، واحتل الركن الذي يلي نمرة شحاتة رجلٌ متين البنيان، شديد الاعتناء بملابسه ومظهره، مارس الطب بدون شهادة لمدة ١٧ سنة في المستشفيات الخاصة والحكومية، بينها مستشفى الشرطة والقصر العيني والسلام الدولي، وذلك بعد أن زور جميع مسوغات تعيينه وخطابات توصية من وزير الصحة ونقيب الأطباء. وبعد الحكم عليه وارتدائه الملابس الخضراء قُدِّم للمحاكمة من جديد، فأثناء وجوده في السجن زوَّر عدة توكيلات لشقيقته لصرف مستحقاته من المستشفيات التي عمل بها.
وكان هناك اثنان لهما قصةٌ غريبة، الأول معلم صاحب مصنع للحلاوة الطحينية في باب الشعرية يستخدم موادَّ فاسدة في صناعتها. والثاني هو مفتش التموين الذي قبض عليه، فبعد ذلك بأيام ضبط ۷۰۰ صفيحة جبن فاسد لدى بقال وتحفَّظ عليها في ثلاجة بباب اللوق ثم طلب من البقال عشرة آلاف جنيه له ولأمين الثلاجة مقابل تمكينه من سحب كميات الجبن من الصفائح وملئها بموادَّ أخرى. والظاهر أن شخصًا ثالثًا لم يحصل على نصيبه أبلغ عنه، واجتمع مفتش التموين بصانع الحلاوة بالصدفة البحتة في نفس الزنزانة.
رحب بي النوبتجي وكان صعيديًّا متقدمًا في السن، يقضي عقوبةً مؤبدة في قضية ثأر، وجيء به من سجن قنا إلى القاهرة ليجري عمليةً جراحية في القصر العيني. ألحف عليَّ بسيجارة وأصرَّ أن أتعشى فوق نمرته، وتمسك عبده بأني ضيفه ولا بد أن يتكفل هو بعشائي فدعانا نحن الاثنين. وتبين أن عبده لا يأكل بمفرده وإنما مع صديقيه، وفي النهاية تعشينا نحن الخمسة سويًّا، وتكونت أمامنا مائدةٌ حافلة بها نوعان من سمك البلطي، واحد مقلي والآخر مشوي، وطاجن من الأرز المعمر أرسله إليه أهله من سوهاج مع أقاربه القاهريين الذين يحضرون له طعامه مرتين في الأسبوع، وبعد العشاء قدم لي النوبتجي الشاي وسيجارة.
اشتدت حرارة الجو فخلع عبده جلبابه وبقي بالفانلة والسروال. وخجلت أن أفعل مثله. وجلست فوق نمرتي المبسوطة إلى جواره سعيدًا بالحفاوة التي قوبلت بها. كان كل من يشعل سيجارة أو نصف واحدة يصر على أن يكون لي النفَس الأول. وتمنيت لو كنت أعيش معهم دائمًا.
طلب مني شحاتة أن أقصَّ عليهم أحد الأفلام التي رأيتها، واكتشفت أن عبده ينقل إليهم ما يسمعه مني. حكيت لهم قصة فيلم أمريكي سمعتها من مستر تامر، عن سكرتيرةٍ أمينةٍ مجتهدة وطموح رغم أنها لا تحمل شهادة عليا، تُطرد من عملها لأنها تمسكت بشرفها، وتجد عملًا كسكرتيرة لمديرة في شركة استثمارات، تقدم السكرتيرة لمديرتها مشروعًا جريئًا يدر عمولةً ضخمة؛ يقوم على إقناع مليونير يتميز بالاستقامة والأمانة بشراء محطة راديو. تتظاهر المديرة بأن المشروع لم يعجبها، بينما تعمل على تنفيذه في السر بالتعاون مع شركة استثمار أخرى، ناسبة فكرته إلى نفسها. تكتشف السكرتيرة الأمر فتقرر الانتقام. تنتحل شخصيتها وتتصل بمدير شركة الاستثمار الأخرى الذي يقع في غرامها ويحتالان حتى يلتقيا بالمليونير في حفل زفاف ابنته فتقنعه أثناء الرقص معه بشراء محطة الراديو، لكن المديرة تكتشف الأمر وتتهمها بالاحتيال والكذب. وتعجز السكرتيرة عن الدفاع عن نفسها فتترك الشركة وتوشك المديرة على إنجاز الاتفاق لمصلحتها، لولا أن المليونير الأمين يكتشف الحقيقة فيعيِّن الفتاة مديرة لشركاته، وتتزوج مدير شركة الاستثمار الأخرى، وتتحقق كل طموحاتها.
علق تاجر المخدرات: لو مكنش المليونير أمين مكنتش البنت كسبت، آدي الفرق بينا وبين بلاد برة.
قال الدكتور: إحنا معندناش أمانة خالص. شوفوا دكاترة الطب واللي بيعملوه في الناس.
ضحك عبده فاحتدَّ الدكتور: بتضحك؟ أنا مفيش حد مات مني، ولا اتسرقتْ منه كلوة، أو واحدة قلتلها إن عندها ورم وهي معندهاش. أنا اللي متخرجتش من كلية الطب كل اللي عالجتهم خفُّوا.
سألته عن تخصصه فقال إنه باطني وأطفال في الأساس، لكن يعالج أيضًا أمراض الصدر والقلب والحساسية والنفسية، وأضاف ضاحكًا: زي ما بيعمل الدكاترة التانيين بالضبط.
أثارت شخصیته فضولي فسألته عن قصته، وعرفت أنه أصلًا من أسرةٍ فقيرة جدًّا ويحلم من الصغر بأن يصبح طبيبًا. كان يعيش في منطقة الهرم وتعلم اللغة الإنجليزية في الشارع من احتكاكه بالسياح، ثم تعرَّف على ثريٍّ عربي عرض عليه السفر معه إلى بلاده للعمل عنده؛ فتعلم الإنجليزية في معهد متخصص، وبعد عمل ٦ سنوات سافر إلى ألمانيا والتحق بمعهد تمريض لمدة سنة عاد بعدها ليمارس الطب.
اشتبك عبده مع زغلول في مصارعةٍ عنيفة. تحاشيت النظر إلى صدره العاري وتأملت عضلات زغلول النافرة في قلق، لم يعد لديَّ شك في انتصاره رغم ما أبداه عبده من جرأة وعنف. وبالفعل ألقى به أرضًا وبرك فوقه وأجبره على أن يعلن هزيمته بصوتٍ مرتفع ثم رأيته ينحني فوقه كأنما يريد أن يهمس له بشيء والتقط أذنه بشفتيه وامتصها من أعلى إلى أسفل وعبده يقاوم ضاحكًا ويحاول دفعه عنه.
شعرت بالضيق والتقت نظراتي بعيني مفتش التموين. كان في سن سامح تقريبًا وإن كان اللون الأبيض غزا شعر رأسه الغزير، قال لي: كان عندكم قاسم بيه.
سألت: إنت تعرفه؟
ضحك وقال: أعرفه كويس.
لم أكن قد رأيتهما معًا، كما أن السفير لم يشر إليه بالمرة.
قال: أنا قبل ما اشتغل في التفتيش كنت في إدارة اللحوم، حظه حلو إنه خرج بكفالة.
تردد لحظة ثم غير الموضوع: أنا نفسي تقرا حيثيات الحكم بتاعي.
غير صوته مفخمًا إياه واستطرد: «هذه العقوبة رادع لكل من يسقط عنه ضميره فجأة فيصبح لا يجد خيرًا في هذه الدنيا غير جمع المال بأية وسيلة ولو كان هذا على حساب هذا الشعب وصحة أبنائه.»
لوی شفته ثم قال: كل ده عشان حتة جبنة.
كنت أستمع إليه بغير تركيز شاعرًا بالإحباط، وتمنيت لو لم أكن جئت. وشرع البعض بالغناء. وجاء الدور على النوبتجي فغنى بعض المواويل الصعيدية التي لم أفهم منها كلمةً واحدة، أتبعها بأغنيةٍ قديمة لم أسمعها من قبلُ عن أبي العيون السود والوداد الذي ضاع ومتى يعود. كانت الأغنية جميلة وحزينة. وشعرت فجأة بالرغبة في البكاء.
استولى النعاس على البعض فأعلن النوباتجي نهاية السهرة وخلع المصباح الكهربائي. استلقى كل واحد فوق نمرته ورقدت على ظهري أحدق في السقف بينما رقد عبده على بطنه مديرًا وجهه ناحية زغلول، وتردد تنفسه في عمق وانتظام، وسرعان ما انضم إليه شخير زغلول المرتفع.
رفعت رأسي بعد قليل وأمعنت النظر إليهما. كان زغلول يرقد على جانبه الأيسر معطيًا ظهره لعبده، وتفحصت المسافة الفاصلة بينهما من الأسفلت العاري على ضوء مصباح الطرقة.
كان نومي متقطعًا وفي الصباح كنت في حال سيئة. أردت أن أذهب إلى زنزانتي فقال عبده: تمشي من غير فطار؟ لا يمكن.
أعدَّ طَبقًا من المشِّ الصعيدي استخرجه من برطمانٍ زجاجيٍّ كبير خلف نمرة شحاتة. وأضاف إليه قليلًا من الزيت وبضع قرون من الفلفل المخلل الحامي.
أكلت بدون حماس متحاشيًا النظر إليه فسألني: مالك؟
لم أرد.
أصرَّ: فيه حاجة حصلت؟
قلت: مفيش.
بدت عليه الحيرة وتشاغلت أنا بالأكل ثم سألته بعد لحظات: إنت تعرف زغلول من زمان؟
قال: لا. أنا اتعرفت عليه في اللومان.
كان قد قضى به عدة أسابيع في زنزانة مجاورة لزنزانة الربان المشهور.
قال: نفسي كنت تشوف زنزانته. متقوليش المخزن بتاعنا اللي فيه الدكتور ثابت. دا حاجة ثانية خالص. ولا الهيلتون، موكيت ومروحة كهربا وتليفزيون ملون وثلاجة فيها كل حاجة تيجي على بالك من أكل أو شرب وتلفون دولي.
سألته: وعشان إيه التليفون الدولي؟
– بيضارب في البورصات بفلوس الغلابة اللي لمها وطلَّعها بره.
– وازاي السجن سمحله بكل ده؟
هزَّ كتفيه: الفلوس تعمل كل حاجة. دا حتى مراته كانت بتزوره كل خميس وجمعة.
– بتبات؟
– كل شيء ممكن، على العموم هي خلفت وهو في السجن.
ساد بيننا الصمت حتى انتهينا من الأكل، قلت وأنا أشعل سيجارة: قولي يا عبده. إنت حكيتلي عن اصحابك بس مقلتليش أنهو واحد فيهم كان عزيز عليك.
تأمل طبق المش الفارغ ثم قال: كتير.
ترددت قليلًا ثم قلت: أكتر واحد.
– عويس. كان معايا في المدرسة. وفضلنا على طول مع بعض بعد كده. ورحنا الأردن، سوا.
– رجع معاك؟
– لأ. مرضاش. قال ازاي يرجع من غير الريكوردر والفيديون.
شربنا الشاي ثم ذهبت إلى زنزانتي، وعندما حان موعد الطابور خرجنا إلى الفناء سويًّا وسرنا متجاورَين في صمت، وفجأة نادى أحد الحراس على عبده قائلًا إنه مطلوب في الإدارة، اضطربت أمعائي وعجزت عن التفكير.
مشیت خلفهما حتى بوابة الفناء، ولحق بي شحاتة وزغلول. قال الأول: يمكن ترحيل.
قال زغلول: لوحده؟ طب وإحنا؟
قال شحاتة: يمكن يندهولنا الوقت.
قضينا الساعة المخصصة للطابور واقفين بجوار البوابة دون أن يظهر أثر لعبده أو الحارس الذي صحبه، ونادى الدهشوري معلنًا انتهاء وقت الفسحة فاتجه الجميع إلى بوابة العنبر في بطء وتكاسل، وبقيتُ في مؤخرتهم أتطلع خلفي طول الوقت، مضيت إلى زنزانته وألقيت نظرة داخلها كأنما لأتأكد من غيابه ثم عدت إلى زنزانتي فوقفت في بابها. وانضمَّ لي شحاتة بعد قليل.
قلت له إني أخشى أن يكون قد رحلوه فعلًا، طمأنني قائلًا إنه لا يمكن أن يأخذوه مباشرة؛ فلا بد من أن يأخذ حاجياته الموجودة في الزنزانة ويتسلموا منه نمرته. وقفنا سويًّا حتى اقترب موعد التمام. وأحضر نوباتجية الخدمة دلاء الطعام ووضعوها أمام مدخل دورة المياه.
حاول شحاتة محادثتي لكني كنت مضطربًا عاجزًا عن متابعته. وهتف الدهشوري طالبًا دخول الزنازين ليقوم بالتمام وهنا لمحت عبده يلج العنبر. ورآني فلوَّح لي مبتسمًا. جريت نحوه واحتضنته ثم قبلته في فمه.
أبعدته عني وأنا أتأمل وجهه: كانوا عاوزينك ليه؟
قال: ولا حاجة، يملوا شوية أوراق.
– ترحيل؟
– مقالوش.
تعالت صيحات الحراس في الطوابق المختلفة: التمام.
شرع الدهشوري في التتميم على الزنازين وإغلاقها مبتدئًا من دورة المياه. سحبت عبده من ذراعه وأردت أن أدخل الدورة لنكسب بعض الوقت معًا لكن الدهشوري رآنا فنادى علينا لندخل زنزانتينا.
مضيت معه إلى زنزانته في نهاية الطرقة. في هذه الأثناء وصل الدهشوري إلى زنزانتي فوقف أمامها ونادى عليَّ غاضبًا. ثم خطا نحونا منفعلًا، جذبت عبده من ذراعه نحو زنزانتي لكن الدهشوري صاح به: ارجع زنزانتك.
توسلت إليه: معلهش يا حضرة الصول ربنا يخليك. حادِّيله سجاير. قال في حدة: لا، خلاص التمام، ابقى ادِّيله بكره.
توسلت إليه فقال لي: روح انت هات السجاير وهو يفضل هنا.
طرت إلى زنزانتي فأحضرت ثلاث سجاير ناولتها لعبده فقدم واحدة للحارس.
أخذ الدهشوري السيجارة وتشاغل عنا.
قلت لعبده: اسمع. بعد أدان العشا على طول تولع سيجارة وأنا أولع واحدة ونفكر في بعض.
أطرق برأسه وناداني الدهشوري للمرة الثانية فمضيت إلى زنزانتي.