١١

سواء أكان السبب هو الفراغ الروحي الذي شعر به شرف بعد رحيل عبد الفتاح، أم الرغبة في الإتابة والإنابة عن آثامٍ متعددة بعضها في مقدمة الوعي مثل النشاط الليلي والبعض الآخر في خلفيته مثل قبلة ساعة التمام (التي أوشكت أن تدخل باب اللسانيات)، فإن سقوطه في شباك أصحاب اللحى كان محتومًا بحكم التطور الطبيعي للأمور، وبصرف النظر عن الدور الذي لعبه الشيخ عصام في هذا الشأن.

حقًّا إن وجود الملتحين وما يعدون به لم يغب عن فطنته ولا فطنة غيره. وغالبًا ما كانوا يخطرون على باله قبل النوم في خانة التمني. لا بسبب مبادئهم وإنما لما يتمتعون به من امتيازات بسبب علاقة أحد أمرائهم بالرائد الجوهري؛ المغرم بالجلوس إلى جوار الزهور؛ فالملل الذي كان يعاني منه هذا الضابط الوديع أوقعه هو الآخر في الشباك. فدأب على استعارة الكتب الدينية من الأمير المذكور، وسواء أكانت هذه الكتب قد رققت قلبه الرقيق من الأصل، أم أنه كان ينفذ تعليماتٍ سرية من مباحث أمن الدولة، في إحدى مراحل لعبة القط والفأر الدائرة بين الطرفين، فإنه أعطى لإخوة الأمير حق التحكم في تسكين إخوانهم، وزاد لهم الوقت المخصص لنزهة الفناء، وسمح لهم بشراء وتخزين أجولة من الأرز والمكرونة وعلب الصلصة، وصرح لهم باستخدام زنزانة مهجورة كمطبخ، وبحيازة السكاكين والأكواب الزجاجية والسخانات الكهربائية والمراتب الإسفنجية، وساعدهم على ترويج مشغولاتهم الخشبية من لعب أطفال ومساند للمصاحف وبيعها لزوار السجن.

لم يكن شرف وحده هو الذي اهتم بتتبع هذه الظواهر؛ فقد تابعها توكل أيضًا باهتمام رجل الأعمال الذي يبحث عن فرصة للاستثمار، وتضاعف اهتمامه عندما بدأت تحركات الشيخ عصام.

فلم ينقضِ على انتقال شرف إلى عنبر الملكية سوى أسبوعين عندما انطلقت بعد العشاء والنشرتين الإسلامية والمحلية، أصواتُ التهليل والتكبير من الطابق الثاني المخصص للملتحين. ومن الزنزانة التي تعلو شرف مباشرة، دوَّى صوتٌ جهوري ينادي كافة المسجونين طالبًا منهم أن يصلوا لله شاكرين! لماذا؟ لأن الشيخ عصام تخلى عن أفكار «الإخوان المسلمين» واعتنق أفكار «الجهاد». وتبع ذلك آيات من القرآن عن الذين اهتدوا وآمنوا، وأطباقٌ صغيرة من الأرز باللبن أُعدت على عجل، وساهم حارس الليل في نقلها إلى المؤمنين وحدهم.

وفي الصباح انتقل الشيخ عصام بنمرته وحاجياته، في موكب من الأنصار، إلى زنزانة أفكاره الجديدة.

وسرعان ما عُرف السبب؛ فقد أفتى بعض الإخوان بأن الذين قتلوا جنود الأمن المركزي في أسيوط يجب أن يتوبوا ويكفِّروا عن الجريمة، فثار أنصار الجهاد ودار صراعٌ أيديولوجيٌّ مكثف بين الجانبَين أسفر عن عدد من الجرحى والمنتقلين.

وبعد أسبوعَين بالضبط وفي نفس الموعد، انطلق التهليل والتكبير من زنزانةٍ جديدة في الناحية المقابلة ودعا صوتٌ جهوري إلى صلاة الشكر؛ لأن الله أنار فؤاد الشيخ عصام، وهداه فتبين ضلال الفكر الذي اتبعه واهتدى إلى الفكر الحق. وتلا ذلك الأرز باللبن. وفي الصباح شوهد الشيخ عصام حاملًا نمرته وحاجياته منتقلًا إلى موقعه الجديد، وفي هذه المرة لم يُعرَف السبب.

تكرر الأمر ذاته بعد أسبوعين بالتمام والكمال، وبعد أسبوعَين آخرَين انتقل الشيخ عصام إلى جماعةٍ جديدة، وأصبح انتقال الشيخ عصام من جماعة إلى أخرى طقسًا مألوفًا مثل التمام اليومي وصيحات حراس السور الخارجي وأذان الصلاة، تضبط الأحداث عليه فيقال مثلًا: الزيارة أو الجلسة القادمة ستكون قبل أو بعد يوم كذا الذي سينتقل فيه الشيخ عصام.

مرةً واحدة فقط انكسر فيها هذا الانتظام وتحرك الشيخ عصام في غير الموعد المقرر؛ وذلك عندما انتقل إلى صفوف جماعة «العزماوية» الذين يرفضون العمل؛ على اعتبار أن الرزق من عند الله ومكتوب على الإنسان تمامًا مثل الموت؛ أي إنه قضاء وقدر، بالإضافة إلى هذا كانوا يحرمون قتل الحشرات لأنها روح خلقها الله ولا يجوز قتلها بأي حال. لم يكن لدى الشيخ عصام اعتراض على الشق الخاص بالرزق، لكن شيئًا آخر غيره كان مكتوبًا عليه هو حساسية جلده الشديدة للحشرات، قرصًا ولمسًا. وتكفَّلت بعوضةٌ واحدة فعصها بكفه قبل النوم في إلقائه هو ونمرته إلى الطرقة بمجرد فتح الزنازين في أول صباحية.

سعى توكل إلى التعرف بالشيخ عصام أثناء نزهة الفناء، استمع منه إلى عرضٍ أيديولوجيٍّ مطوَّل، كان فيه غذاء أكيد لروحه وإن لم يفهم منه شيئًا. ولهذا السبب استجاب عندما دعاه إلى صلاةٍ مشتركة، في اليوم الوحيد الذي تتم فيه داخل العنبر: يوم الجمعة.

في الموعد المقرر توافد النزلاء على فناء الطابق الأرضي في ملابسَ نظيفةٍ مكوية (غسلها غير القادرين بأنفسهم على البلاط أسفل صنابير المياه بالدورة، ثم طووها تحت النمر وناموا فوقها) بينما غطى الريفيون رءوسهم بعمائمَ بيضاء ولفُّوا شيلانًا من نفس اللون حول رقابهم. وبسط الجميع بطاطينهم على الأرض في انتظار الشيخ الذي أرسلته مصلحة السجون ليعتلي منبرًا خشبيًّا وُضع في نهاية العنبر، ويطالبهم بإطاعة الله ورسوله وأولي الأمر (ابتداء بالدهشوري).

استعد توكل للمناسبة؛ فتوضأ على رءوس الأشهاد في الدورة، وخرج منها إلى الطرقة والمياه تقطر من يديه ووجهه، وصاح في ماكس ليحضر له المنشفة التي نسيها، كان ماكس في إحدى لحظاته التعيسة فقام شرف بالمهمة. جفف وجهه وساعدَيه وولج زنزانته حيث ارتدى جلبابًا نظيفًا ثم خرج إلى الطرقة حاملًا بطانيته وبدلًا من أن يتخذ لنفسه مكانًا بين الجالسين خطا فوقهم نحو الدرج وارتقاه إلى الطابق الثاني.

مرَّ بالزنازين المفتوحة التي بدت منها صناديق الخضراوات والفاكهة والمعلبات وكسرات الخبز الجاف، ولج زنزانةً واسعة، أُسدلت على حائطها الخلفي قطعةٌ عريضة من القماش كتب عليها بخط جميل آية من القرآن الكريم: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ صدق الله العظيم. وغطيت أرضها بالبطاطين استعدادًا لإقامة صلاة الجمعة على الأصول: نفس عدد الركعات ونفس البرنامج الذي يبدأ بالقرآن الكريم ثم الخطبة وفاتحة الكتاب، بل نفس الموضوع وهو الطاعة لله ورسوله وأولي الأمر (ابتداء بالأمير).

بعد الصلاة أدار البصر في الوجوه المحيطة به؛ كانت من كل لون، متوترة بنظراتٍ نارية، مكتئبة ساهمة، أو حائرة تساورها الشكوك. لكنهم أصغوا جميعًا عندما تحدث الأمير. كان شابًّا في منتصف عشرينياته، غزير اللحية والشارب، بادي العصبية، يغطي رأسه بعمامةٍ بيضاء غريبة الشكل، تنعقد خلف رأسه، ويتدلى طرفها فوق ظهره. قال إن درس اليوم هو تفسير آية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ، صدق الله العظيم.

وسرعان ما أثبت أن الآية ليست بالبساطة التي تبدو عليها وأن هناك أعماقًا وأغوارًا لا ينتبه إليها إلا صادقو الإيمان. على وجه التحديد: إن الجاهلية ليست فترة من التاريخ وإنما الجاهلية في كل عصر، وهي موجودة الآن في كل بلاد المسلمين دون استثناء؛ فالحكام العرب يحكمون بالقوانين الوضعية، وإذا أرادت الشعوب أن تحتكم إلى شرع الله، أُودع المطالبون في السجون وقطعت رقابهم.

النتيجة؟ ليس من حق الناس أن يسنُّوا قانونًا ثم يلزموا الناس بالتحاكم إليه، ومن أراد أن يتحاكم إلى هذه القوانين الوضعية فليبحث له عن أرض غير أرض الله، أما الجماعة فقد حملت أمانة تطبيق الشريعة الإسلامية ولن تتورع عن تقطيع الرقاب حتى يتم ذلك.

تحسس، توكل رقبته بيده؛ لا خوفًا عليها مما قد يصيبها في غمار النضال من أجل تطبيق الشريعة، وإنما لأنه اطمأن على مصيرها. إذ تصور أن تطبيق الشريعة سيؤدي إلى الإفراج عن كل من حوكم وفقًا للقانون القديم، وفتح صفحةٍ جديدة للجرائم التي سيرتكبها بعد ذلك.

كان في حاجة الآن إلى مزيد من التحديد الدقيق كي يتمكن من تخطيط حياته، فرفع يده متجرئًا على السؤال: متى تطبق؟

ولم يكد يطمئن إلى أنه ليس هناك موعدٌ محدد وأن ذلك يمكن أن يحدث في أية لحظة حتى زعزعت الفقرة التالية في الدرس رغبته في الإبقاء على رقبته؛ فقد كانت عن المرأة؛ التي حيرت الرجال منذ بدء الخليقة.

تحدث الأمير عن سلبيات عمل المرأة خارج البيت من أول الاختلاط بالرجال والتعرف بهم والتعطر لهم، إلى الخلوة بهم وارتكاب الفاحشة، ثم قال إن البقاء في البيت ليس سداحًا مداحًا، فله آدابه وقواعده. وكان يملك في جعبته ما يناسب المقام من أقوال منسوبة إلى الرسول وصحابته من أول: «علقوا السوط حتى يراه أهل البيت فإنه أدب لهم» إلى: «لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها، ولا تجد امرأة حلاوة الإيمان حتى تؤدي حق زوجها.»

ظهر الوجوم على وجوه الحاضرين إذ تذكروا نساءهم وسياطهم. وسارع الأمير إلى علاج الأمر مستعينًا بجعبته: «يكون للرجل في الجنة سبعمائة زوجة، ويعطيه الله القدير من القدرة ما يمكنه من مجامعتهن جميعًا كل يوم، مرة في الصباح ومرة في المساء، وتعود الزوجة بكرًا في كل مرة.» هنا كفَّ توكل عن تحسس رقبته فلم يعد يعبأ بمصيرها.

أطلق توكل لحيته وحرص على الاشتراك في صلاة الجمعة بانتظام بعد أن يتوضأ خصيصًا ويخرج من المراحيض والمياه تقطر من وجهه ويديه وينادي على ماكس ليحضر له المنشفة التي نسيها، ثم يرتدي جلبابًا نظيفًا ويرتقي السلم إلى الطابق الثاني وإلى زنزانة القتال من أجل منع الفتنة؛ ليجلس في وقار إلى جوار الشيخ عصام ثم يوجه سؤالًا واحدًا لا يتغير: متى تطبق؟

خلال ذلك كان الشيخ عصام منتظمًا في مسيرته بين الجماعات الممثلة في السجن من «التكفير والهجرة» إلى «القطبيين»، ومن «التبيين» إلى «الجماعة الإسلامية»، ومن «الناجين من النار» إلى «الشوقيين»، متوقفًا بين الحين والآخر فوق نمرة توكل (حيث توثقت علاقته بشرف) من أجل التقاط الأنفاس. ذلك أن الشيخ عصام، بصفته من بني البشر، كانت له رذائله وعلى رأسها التدخين الذي تُحرِّمه الجماعات بمختلف أسمائها واتجاهاتها.

الاسترخاء الذي مارسه الشيخ عصام فوق نمرة توكل كانت له مظاهره الأيديولوجية. ففي إحدى المرات أسرَّ لشرف في تردد بما يساوره من شكوك: إذا كان الناس في عهد الرسول استعملوا نقودًا من شقاف الحجر، فهل نفعل مثلهم ونتخلى عن استخدام الجنيه من أجل التمسك بالسُّنة وبكل ما كان الرسول يفعله؟

كان للمرأة، بالطبع، مكانها في تساؤلاته: ألم تمارس سيدتنا عائشة الحكم والفقه، وألم يعطِ الإمام أبو حنيفة المرأة حق القضاء في غير المسائل الجنائية؟ وهل يقصد بالاختلاط المحرم بين الرجال والنساء تواجدهم معًا في الجامعة والأماكن العامة؟ أم أنه لا يتحقق إلا عندما ينفرد رجل بامرأة ويلحق بهما الشيطان؟

تساؤلاتٌ أخرى أكثر حميمية كانت تدور برأسه وقادته إلى الدكتور رمزي، لا بصدد الأوزان والسرعات، وإنما الهرمونات. فكيف يمكن التأثير في لحيته التي لا تتجاوز بضع شعيرات أسفل الدقن وخطًّا خفيفًا على الوجنتَين، كي ترقى إلى مصاف لحية الأمير الكثة التي تكاد تغطي صدره وتصل إلى بطنه؟

كان يلقي بكل تساؤلاته جانبًا عندما يستعيد أمجاد الجماعة التي شارك في صنعها: قررنا نعمل نفقًا في عرض طريق صلاح سالم ونحشيه متفجرات. قعدنا نحفر شهرًا، وحفرنا حوالي ۱۲۰ مترًا. كنا عشرة لابسين لبس العمال. والقائد بتاعنا كان يقعد أول الطريق على كرسي لابس بدلة ضابط شرطة. لما حد يسألنا بتعملوا إيه يقوله إحنا بنحفر عشان المية، ومرة يقول عشان المجاري أو التليفونات.

لكن اهتمامات الشيخ عصام كانت تتسع للكثير من أمور الدنيا، يرويها مع سيجارة وسط حلقة متزايدة من المستمعين: إنتو عارفين مدير الليمان اتشال ليه؟ أنا عرفت الحكاية النهارده من الزيارة، سنية وداد الرقاصة هي اللي شالته.

– وإيه اللي وداه عندها؟

– هي اللي جتله، الظاهر اتمسكت في خناقة ولا دعارة … المهم في يوم بص لقى وكيل مصلحة السجون بيكلمه ويقوله يخلي مدير فندق شيراتون يزورها بشكل استثنائي. وإن الزيارة متوصي عليها من رئيس الوزراء. المأمور قال اللائحة تمنع. الوكيل قاله انت حر، الراجل جايلك في السكة. جاله فقاله أنا معنديش مانع لكن اللايحة بتشترط تصريح من المصلحة وإذن من النيابة، يهديك يرضيك. حكّم راسه يمشي باللايحة، فمشوه هو كمان بيها: طلعوه معاش برتبة لوا.

نتيجةٌ أخرى استخلصها وأمن عليها الجميع: الرقاصات هم اللي بيحكموا البلد.

بالإضافة إلى الأنباء المحلية وخلفياتها، كان الشيخ عصام يحتفظ بأرشيفٍ شامل لكبار موظفي وزارة الداخلية من أول من تاجر في إنتاج السجون، وزميله الذي خرج من الوزارة بعشرة ملايين من الجنيهات من وضع اليد على الأراضي، والثالث الذي كوَّن شركة أمن ضمت أربعمائة من قيادات الشرطة ولم يدفع فيها مليمًا واحدًا مكتفيًا باسمه، إلى من أعدَّ مشروعًا وهميًّا لإسكان الضباط ودفع من صندوق الشرطة ٤ ملايين جنيه ونصف لمكتب استشاري واشترى متر الأرض بسعر ٣٠ قرشًا وباعه ﺑ ٤٣ جنيهًا للضباط و١٥٠ جنيهًا للمستثمرين، وزميله الذي شارك بعدة ملايين في شركة صرافة وشركة تسفير عمالة للخارج، وطبعًا في شركة الأمن إياها، والثالث الذي اختلف مع زميل له على عمولة صفقة سلاح فهاجم بيته بالصواريخ.

استجاب شرف بسرعة للشيخ عصام الذي كان وسيم الطلعة، ذا هيئةٍ أبوية، وعينَين واسعتَين صافيتَين، (عسليتَين أيضًا). وكان الاستلطاف متبادلًا، فأقدم الشيخ عصام على خطوة غير مسبوقة.

لم يكن الملتحون يعبئون بدعوة النزلاء إلى أفكارهم ومحاولة ضمِّهم لأنهم كانوا يعتبرون السجين شخصًا مسلوب الإرادة وبالتالي لا تجوز دعوته. لكن الشيخ عصام لمس في شرف استعدادًا للهداية، ولما كان الله تعالى يهدي من يشاء، فقد أعطاه اختبار القبول في التنظيم:

«بسم الله الرحمن الرحيم، استطلاع رأي، رجاء منك أخي الحبيب أن تكتب ورقة تحتوي على المعلومات الآتية: (١) الآفات والسلوكيات الخاطئة التي تعتقد أنها موجودة بيننا. (۲) الموضوعات التربوية والسلوكيات التي تعتقد أنها موجودة بيننا. (٣) الموضوعات التي تقترح أن نتناولها خلال المواعظ والنشرات والأنشطة الأخرى. (٤) أسماء كتب الرقائق التي تملكها. (٥) أجب على الأسئلة الآتية بلا أو نعم: هل لك قدرة على إلقاء المواعظ؟ هل تجيد التلاوة؟ هل ختمتَ القرآن؟ هل تحسن الخط؟ هل لك قدرة على تجميع بعض الموضوعات التربوية من كتب الرقائق؟

تذكير: الإجابة من السنن. التوقيع: لجنة التربية.»

كان هناك الكثير مما يدعو للإعجاب في سلوكيات الإخوة الملتحين: ذلك النظام الصارم الذي يسمح بانقضاء اليوم دون أن يشعر المرء (تمامًا مثل أبي صليبة): الاستيقاظ لصلاة الفجر ثم العودة للنوم حتى يحين موعد الخروج إلى الدورة، وبعد ذلك التدريب على الكاراتيه والكونغ فو، ثم المحاضرات الدينية وتحفيظ القرآن وبقية الصلوات الخمس فضلًا عن الإضافات؛ تعاونهم وتكافلهم وتضامنهم (الذي تجلى في المطبخ المشترك العارم وصناديق الفاكهة الموسمية التي تصلهم بانتظام وتوزَّع فيما بينهم بالعدل والقسطاس).

ومن ناحيةٍ أخرى لم يكن شرف، المؤمن بالتعددية في الزي، راضيًا عن ملابسهم المتماثلة، التي تساوي بين فقيرهم وغنيهم، (فيما عدا تريننج لأحدهم وبنطلون وفانلة أيضًا من اللون الأبيض لآخر)، ولم يكن يملك كتابًا واحدًا من كتب الرقائق ولا كان يعرف المقصود بالكلمة، ولم يكن قد ختم القرآن ولا كان يجيد التلاوة أو إلقاء المواعظ، ولا كان يعرف شيئًا عن الآفات والسلوكيات الخاطئة الموجودة بينهم: مرةً واحدة فقط، أثناء الزيارة، لمح أحدهم يلتهم دجاجة بدلًا من أن يحملها إلى زملائه ليتم توزيعها بالعدل، ومرةً أخرى وجد أحدهم يحاول أن يسبق الآخرين داخل الدورة بالقوة، ثم كان هناك الأمير الذي ظهرت عليه أعراض الجنون بعد تعرضه لتعذيبٍ وحشي في أقبية وزارة الداخلية فقرر أتباعه اختيار أمير غيره، ولم يعجبه هذا القرار فحاول قتل الأمير الجديد.

وازن أشرف طويلًا بين الإيجابيات والسلبيات، وبعد تدبرٍ وتفكيرٍ عميقَين اتخذ قراره، وكان على وشك كتابة المطلوب عندما استدعاه الرائد «إدكو».

لم يكن هذا هو اسمه الحقيقي وإنما اسم شهرة. وكان طويل القامة رفيع الجسد أصفر الوجه، يتميز بمشيةٍ مستهترة، وشراسةٍ وقسوةٍ بالغتَين. فلا يمر يوم أو يومان إلا ويضرب سجينًا أو يوقع عليه عقوبة ما.

صرف إدكو الحارس الذي أحضر السجين الشاب وخاطبه وهو يقلب في ملف ذي غلافٍ وردي اللون: إنت بتعرف تقرا وتكتب، مش كده؟

رد الشاب بوجل: أنا أخدت الثانوية العامة يا سعادة الباشا.

– ودخلت الجامعة؟ لا … إنت في معهد تجاري.

أخرج ورقةً من الملف وناولها لأشرف: عارف الورقة دي؟

تعرف شرف على خطه والخطاب الذي كتبه للترزي. دوَّت القنابل في معدته وأحسَّ أنه على وشك أن يفعلها أمام الباشا الذي وجه إليه نظرةً باردة كالثلج وأبرز ورقةً أخرى، رسمية هذه المرة، مكتوبة على الآلة الكاتبة ومدموغة بشعار مصلحة السجون، ناولها له وطلب منه أن يقرأها بصوتٍ مرتفع.

قرأ شرف: «بسؤال المسجون أنكر قيامه بأي شكوى وأنه لم يقع عليه أي ضرر من مأمور أو ضباط السجن، وعلل إرسال هذه الشكوى بأن يكون أحد المسجونين يريد الإضرار به وتخزينه من العمل بالورشة فأرسل هذه الشكوى.»

توقف شرف عن القراءة فصاح به إدكو: كمِّل!

أكمل: «تحريات المباحث: المسجون محكوم عليه بالحبس لمدة ٦ سنوات و٧ شهور في جملة قضايا سرقات وقد ضبط في ٢٥ / ١١/ ۱۹۹۳ وبحوزته ۲ طربة حشيش بعد عودته من جلسة نيابة، يعتبر من المسجونين المنحرفين وله نشاط في الاتجار بالممنوعات داخل السجن وخاصة المواد المخدرة، وقد سبق أن أرسل شكاوى عديدة تبين عدم صحتها وتم تغريبه إلى ليمان طرة بالإضافة إلى أن السيد مأمور السجن والضباط العاملين معه يتمتعون بسمعةٍ طيبة.»

لم يجد شرف ضرورة لقراءة السطرين الأخيرَين لكن الضابط وجَّه إليه نظرةً صاعقة؛ فواصل القراءة: «النتيجة: ثبت من الفحص عدم صحة ما جاء بالشكوى وأنه يهدف منها إلى النيل من الضباط الذين ضبطوه محرزًا مادةً مخدرة.»

قال الضابط: واحد زيك مستني حكم إعدام مش يخليه في حاله؟

– سعادتك أنا مقصدتش. أنا أصلي …

– وكمان رايح تنضم للإرهابيين؟!

هنا وجد شرف لسانه: يا سعادة الباشا أنا ما انضميتش لحد.

– أمال بتقعد معاهم ليه؟

– أنا مليش دعوة بيهم.

– والشيخ عصام؟

– ولا حاجة، إحنا صحاب، بندخن سوا.

– بس؟ ولا بتعملوا حاجات تانية؟

أوضح سيادة الضابط إدكو ما يقصده بحركة من أصابعه؛ احمرَّ لها وجه الشاب البريء.

– وبتقولوا إيه؟

– مفيش. بيقول الشريعة سمحة. وكل زمان له احتياجاته. حاجات زي کده.

نهض إدكو وأدار المروحة بعيدًا عنه وهو يقول: سيادة المأمور كان عاوز يحطك في التأديب لكن أنا اتشفعتلك على أساس انها أول مرة تخش السجن، وكمان سنك صغير.

– الله يخليك يا سعادة الباشا.

لكن رحمة الباشا لم تكن من أجل الفوز بدعاءٍ نابع من القلب.

– بص. إحنا عارفين كل حاجة بتحصل في السجن. مين اللي حشش ومين اللي بيبيع مخدرات ومين اللي اتسخمط. كل حاجة.

تمامًا مثل علي بلبل الذي يرى بخرم مؤخرته.

إذن ما هو المطلوب؟

خدمة بسيطة تتيح لأشرف التكفير عن ذنبه لها فوائد أخرى كثيرة؛ معاملة جيدة في حالة الحكم عليه والخروج بربع المدة على أساس التقرير الذي سيكتبه الضابط.

بالتحديد شوية معلومات.

الملتحين؟

قال الضابط بغير اهتمام: لا. إنت خليك مع الشيخ عصام ولو عرفت حاجة مهمة إبقى قولنا عليها.

إذن ماذا؟

– الدكتور رمزي، متعرفش بيكتب إيه كل ليلة؟

– لا يا باشا. هو محرَّص قوي على ورقه مبيخليش حد يشوفه. وما يسيبوش بعيد عنه حتى لما يلعب رياضة أو يروح الحمام، يكون لفه في كيس بلاستيك ويلفّ عليه القميص بتاعه ويخليهم قدام عينيه. ولما ينام بيحطه تحت دماغه.

– أنا عاوز أعرف اللي في الورق ده.

ما الذي يمنعه؟

– سعادتك تقدر تفتشه وتاخده.

وفي الحال ندم على تهوُّره فقد رمقه إدكو بنظرته الباردة: لأ فكيك يا روح أمك. ثم أوضح في اقتضاب: أنا مش عاوزه يحس بحاجة.

أصرَّ شرف على تقديم عونه: سيادتك تقدر تفتش الزنزانة كلها؛ أظنك بتدور على مخدرات وتاخد ورقه تقراه على مهلك وبعدين ترجعهوله.

– إنت متعرفوش، دا شیطان. حيفهم على طول.

وجد شرف الشيخ عصام في انتظاره عندما عاد إلى زنزانته فروى له الجزء الأول من لقائه مع إدكو الخاص بشكوى الترزي. وبالمقابل روى له الشيخ عصام تاريخ الضابط المسجل في أرشيفه، فاسمه الحقيقي هو رشدي سلامة. وكان رئيسًا لمباحث مركز إدكو برتبة نقيب عندما ذهب إليه تاجر ماشية كبير بتوصية، ودون أية وثائق اتهم شقيقَين من إحدى عائلات البلدة بأنهما استوليا منه على ٤٢ ألف جنيه؛ فركب النقيب سيارته ومعه زمرة من رجال المباحث وأحضر أحد الأخوين إلى المركز، طلب منه رد النقود فأنكر أنه أخذ شيئًا من المليونير فبدأت عملية إقناعه، وقبل أن يقتنع سقط فوق مكتب النقيب بعد أن نزفت الدماء من فمه وأذنَيه فنقلوه إلى مستشفى البلدة دون جدوى؛ فقد كان اقتناعه حاسمًا لا رجعة فيه.

أثار اقتناع المسكين أهالي البلدة فتجمعوا رجالًا ونساءً وصبية، وزحفوا على المركز يريدون الثأر من النقيب الجلاد كما وصفوه، وانتزعوا الباب الخارجي للمركز في محاولة لاقتحامه. ولم تفرقهم سوى طلقات الرصاص التي انهمرت عليهم من قوة المركز وصرعت أحدهم، هنا انفجر غضبهم فهاجموا كل الأبنية الحكومية؛ المخبز الآلي والسنترال، ثم أشعلوا النار في مبنى مجلس المدينة الذي يعانون من فساد رئيسه وهاجموا الفيلا الحكومية المخصصة لسكنه لكنه أفلح في الهرب بسيارة هو وأسرته.

طبقًا للتقليد المصري، لم تستمر انتفاضة إدكو طويلًا؛ إذ وصلت سيارات الأمن المركزي العملاقة، تقلُّ مئات من الجنود المصابين بالأنيميا والضباط السمان المفتولي العضلات، ببنادقهم ورشاشاتهم، وتحولت المدينة إلى ثكنةٍ عسكرية تنطلق في سمائها القنابل المسيلة للدموع لتسقط بين المنازل وعلى أسطح البيوت وتعبئ الجو بالغاز الحارق الملهب للجفون، ثم ظهر رجال مكافحة الشغب في الشوارع المؤدية إلى قلب المدينة يمسكون بمن يضعه حظه العاثر في طريقهم من شباب ورجال عُزل فيوسعونهم ضربًا ويحملونهم في سيارات إلى المركز.

وكما يحدث في هذه الحالات، ما إن انتهى إقناع أهالي البلدة، حتى بدأ توزيع الجوائز والمكافآت، فنُقل النقيب رشدي إلى مصلحة السجون. كيف يمكن أن يكون العمل في هذا المكان الكئيب مكافأة؟ سؤال رد عليه الشيخ عصام بسؤالٍ آخر على طريقة أهل ملوي: وما الذي يدعو خريج كلية الشرطة لأن يطلب العمل في مصلحة السجون؟ بص مثلًا المسائل المالية؛ المفروض إن للمسجون غيارين داخليين في الشتا واثنين في الصيف، شُفت حد بيستلمهم؟ المفروض أيضًا إن له كمية معينة من اللحم والعدس والفول والجبن. والعيانين لهم بيض ولبن ولحم. كميات هائلة بتشتريها المصلحة ومحدِّش بيشوفها. الانتفاع من فوق لتحت.

مزق شرف استطلاع الرأي، وتفرَّغ لدراسة المشكلة التي استعصت على إدكو، لم يستغرق طويلًا في البحث عن حلٍّ لها؛ إذ قدمه له الدكتور رمزي نفسه قبل أن ينتهي اليوم. فقبل التمام بنصف ساعة انتحى بالشاب جانبًا وقال له: وهو يناوله كيس البلاستيك والمفكرة، أنا داخل آخد دوش وعاوزك تاخد بالك من الحاجة دي. متخليش أي حد ياخدها منك أو يبص فيها.

تسارعت دقات قلب شرف وهو يفكر بسرعة: دش المرحاض لا يستغرق أكثر من عشر دقائق، وأغلب نزلاء الزنزانة لم يخرجوا بعدُ إلى الفسحة، أين إذن يختلي بالأوراق ليلقي عليها نظرة؟

أثبت شرف ما يتمتع به إدكو من فراسة، فقد؛ فقد حمل الكيس في يد وانطلق إلى المرحاض. تبين على الفور شبشب الدكتور رمزي أمام كابينة الاستحمام الأخيرة: ساعده الحظ فوجد الكابينة الأخيرة من الناحية الأخرى خالية فولجها واتخذ وضع قضاء الحاجة، فضَّ محتويات الكيس وأقبل يتفحص محتوياته في اطمئنان. فلو خرج الدكتور قبله سيقول له إنه اضطر لدخول المرحاض فأخد الأوراق معه، وتأخر به لأن ولادته كانت متعسرة أو مستفيضة، حسب الحال.

طالعه المشط الذي يحرص عليه الدكتور رمزي من أجل تنظيم الشعيرات الباقية فوق رأسه ثم صورةٌ فوتوغرافية ملونة لامرأة وطفلتَين وصورة لكل طفلة على حدة، وأدرك شرف بذكائه الذي شحذته التطورات أن اهتمام إدكو موجَّه إلى بقية المحتويات فركز عليها؛ قصاصات صحف ومذكرات بخط اليد تتضمن وقائع القضية المتهم فيها سعادة السفير، قصاصة من صحيفة تشتمل على قائمة بممتلكات الدكتور ثابت محفوظ، قصاصات تتضمن إعلانات عن أجهزة التكييف (طبعًا، ليه لأ؟) والقرى السياحية (إجازة بعد انتهاء المحاكمة؟ أو مشروع؟)، تصريحات لكبار المسئولين عن الاقتصاد والأمن، تقارير لهيئات أجنبية (له اتصالات)، أسماء شركات أجنبية (ومصالح)، مقالات بالفرنسية والإنجليزية عليها سطورٌ مخططة وبجوارها تعليقات بالعربية (اهتمامات واسعة) إحصائيات ودراسات وأرقام (علاقة بجهاتٍ أجنبية؟ في الغالب لأنه شخصٌ محترم)، مفكرة بها ما يشبه مذكراتٍ شخصية أو خطاب طويل، بضع صفحات تحمل سطورًا قصيرة على هيئة أبيات الشعر أو المسرحيات.

تعجب لما يمكن أن يثير اهتمام الضابط في هذه الأشياء غير المترابطة؟ وأخيرًا في لحظة تجلٍّ خطر له أن الدكتور رمزي زميل له في المهنة. احتار في تحديد الجهة التي يعمل لحسابها، فمن الواضح أنه لا يعمل لحساب السجن ولا لحساب إسرائيل التي يحتل جواسيسها زنازين معروفة، فلمن إذن؟

بعد أربعة أيام نودي عليه للزيارة، وانتظر طويلًا في الردهة المؤدية إلى قاعتها إلى أن اتضح أن لبسًا قد وقع في الأسماء وأعيد إلى زنزانته. وخلال ذلك التقى به إدكو (الذي رتب الأمر كله لهذا الغرض) ليستمع إلى عرضه لمحتويات الأوراق على قدر استيعابه لها.

استمع إدكو في اهتمام ثم أعرب عن رغبته في رؤيتها بنفسه لتصويرها ثم إعادتها إلى مكانها دون أن يشعر صاحبها. كيف يمكن تدبير ذلك دون أن يتسرب الشك إلى الدكتور؟

قضى شرف، هو وحضرة الضابط إدكو، ليالي عديدة يفكران معًا (من مكانَين متباعدَين) في المشكلة دون جدوى إلى أن تكفَّل الملتحون بحلها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤