١٢

أقرضني سامح إحدى قصص الألغاز البوليسية التي يحتفظ بمجموعةٍ كبيرة منها ويشاركه مستر تامر قراءتها، رغم أنها باللغة العربية وموجهة للصغار، استلقيتُ فوق نمرتي وبدأت القراءة، وإذا بي أسمع ضجة في الطرقة. خرجت من الزنزانة أستطلع الأمر فوجدت توكل محاطًا بعدد من النزلاء وقد بدا الانفعال على وجوه الجميع، وعرفت أن وفدًا من الطابق العلوي قد قابل سيادة الضابط إدكو وطلب منه تشغيل التليفزيون ليتمكن النزلاء من مشاهدة مباراة الدوري بين الأهلي والزمالك. ووافق إدكو على وضع التليفزيون في الطرقة وتأخير التمام ساعتَين لهذا الغرض.

بحثت عن شحاتة وزغلول وأبلغتهما النبأ الذي انتشر بسرعة البرق. وخرج نزلاء الزنازين المجاورة إلى الطرقة وعلى وجوهم مظاهر الانفعال والبهجة، وفوجئت بجارنا الطبيب يحزم وسطه بشالٍ أحمر اللون ويرقص معلنًا تأييده للأهلي، فصفقت له مشجعًا، ورقص زغلول أيضًا رغم أنه لا ينتمي لأي نادٍ.

لم أتمكن من معاودة القراءة ولا من عمل أي شيء، وأخذت أدخل الزنزانة وأخرج منها بلا سبب وفي إحدى المرات رأيت اللبناني الذي يسكن الزنزانة المقابلة قادمًا من الزيارة. وكالعادة التفَّ معارفه حوله يسألونه عن الأخبار ويتلقون تعليقاته الظريفة، وسمعته يقول إنه شهد ثلاثة من أمراء السُّنية يدخلون للمأمور، وفهم أنهم طلبوا مقابلته بخصوص موضوع التليفزيون.

استولى الوجوم على الجميع. وتطلعت إلى الطابق الثاني بحثًا عن الشيخ عصام لكني لم أرَ له أثرًا. وبعد قليل عرفنا من الدهشوري أن السُّنية احتجوا على تشغيل التليفزيون وطالبوا المأمور بإلغاء قرار إدكو لكنه رفض.

قبل التمام بساعة ظهر أحد السجناء في باب العنبر يحمل جهاز تليفزيون من طراز «جولدستار» الكوري، صفقنا له جميعًا وساعدناه على وضع الجهاز مكان المنبر الخشبي الذي يعتليه خطيب الجمعة، كما عاوناه في تثبيت الإيريال.

ظهر عددٌ إضافي من الحراس عند باب العنبر، وتجمع أغلب النزلاء في الطرقة فوق بطاطينهم. لم يكن الدكتور رمزي بينهم؛ فقد فضَّل البقاء في الزنزانة والقراءة؛ مما أكد لي أنه شخصٌ غريب. لم يظهر الدكتور ثابت أيضًا؛ فلديه تليفزيون خاص به في زنزانته، ولزم السُّنية زنازينهم وارتفعت منها أصوات قراءة القرآن.

كان الجو حارًّا مرتفع الرطوبة، ورغم ذلك بدا منظر السماء من خلال قضبان السقف رائعًا. وتمنيت لو كان عبد الفتاح بجواري. ثم نسيت كل شيء عندما بدأت المباراة التي سارت في البداية ببطء وملل إلى أن بدأ فريق الأهلي يسجل انتصاراته التي تُوِّجت بفوزه.

جمعنا بطاطيننا في غاغةٍ هائلة وكوَّن نزلاء الطابق العلوي مظاهرة صعدت السلم تُلوِّح بعلمٍ أحمر وهم يهتفون للأهلي، والتفَّ مؤيدوه وأنا منهم حول الطبيب الذي استأنف الرقص وهو يسخر من أنصار الزمالك.

بدأ التمام وانصرف الجميع إلى زنازينهم، كنا في حالةٍ غير طبيعية نضحك لأي سبب رغم الجو الخانق. استعدنا وقائع المباراة عدة مرات وامتد بيننا الحديث لساعةٍ متأخرة وتطور إلى شجار بين عزت بدوي وأبو السباع الذي كشف عن تأييده للزمالك. وعجبتُ كيف أن رجلًا في سنه وخبرته بالحياة يعجز عن اختيار الفريق الأفضل، وانقسمت الزنزانة إلى فريقَين أيضًا عدا مهندس الألومنيوم والدكتور رمزي، وتوتر الجو عندما هاجم أبو السباع حكم المباراة الأجنبي واتهمه بالتحيز للأهلي. وقال إن الزمالك يلعب جيدًا، لكن كان هناك اتفاقٌ سري على أن يخرج الفريقان متعادلَين دون نقاط استعدادًا لمباراة الكأس، وأن الأهلي خرق الاتفاق. أثارنا هذا الاتهام وأوشك عزت بيه أن يمسك بخناق أبو السباع لولا تدخل توكل.

لم يتبدد التوتر الذي خلقته المباراة في الصباح. انتظرنا الصحف في لهفة لنقرأ التعليقات الرياضية. وكانت زنزانتنا تحصل على صحيفتَين يوميتَين بشكلٍ منتظم؛ واحدة لعزت بيه والثانية للدكتور رمزي، وفي العاشرة وصلت الصحيفتان وكانت إحداهما تحمل في صدر صفحتها الأولى عنوانًا كبيرًا: «ضربة أمنية كبرى». قرأ لنا عزت بيه النبأ بصوتٍ مرتفع: «في مطاردة داخل جبل سمالوط بمحافظة المنيا لقي اثنا عشر إرهابيًّا مصرعهم وكانوا قد اشتركوا في اغتيال عشرين مواطنًا ورجل شرطة، وعثر بحوزتهم على تسعة مسدسات وبنادقَ آلية ومائة وخمسين كيلوجرامًا من الديناميت ومائة من البارود الأسود، وقنابلَ مجهزةٍ للتفجير وكمياتٍ ضخمة من المسامير مختلفة الأحجام، وعبوات فارغة معدة لملئها بالمواد المتفجرة، وعدد من الدراجات البخارية وخرائط ورسوم كروكية لعدد من الأهداف والمنشآت الشرطية.»

انفرد كلٌّ من عزت بيه والدكتور رمزي بصحيفته، وحاولتُ أن آخذ من الأخير الصفحة المخصصة لأخبار الرياضة لكنه رفض، كان يحب أن يمسك بالصحيفة كاملة ويُقلِّب صفحاتها على مهل ويتوقف طويلًا عند بعض الأخبار والإعلانات.

انتظرت حتى فرغ من القراءة وناولني الصحيفة، قرأت التعليقات الرياضية ولم أجد بها إشارة إلى اتفاق ما بين الناديين، وإن كان أحد المعلقين عدَّد بعض الفرص التي أضاعها لاعبو الزمالك دون مبرر. وكان إلى جانب التعليق نبأ عن نشاط السُّنية في محافظة المنيا؛ إذ اقتحم أربعة منهم بنك التنمية والائتمان الزراعي في إحدى قرى مركز أبو قرقاص وأطلقوا الرصاص على أسقف وحوائط البنك لإرهاب الموظفين والعملاء الذين انبطحوا أرضًا أسفل المكاتب، ثم انتزعوا الخزينة وفرُّوا بها داخل سيارة كانت تنتظرهم على مقربة.

أعجبتني جرأتهم وذكرت الخبر لتوكل الذي غمغم: ولاد الجنِّية. بحثت عن الشيخ عصام في الطابور لأعرف إذا كان قد قرأ الخبر، لكني لم أره بين السُّنية الذين تجمعوا في ركن الفناء وانهمكوا في نقاشاتٍ حادة. وما لبثنا أن عرفنا أن سجينًا بالطابق العلوي سبَّ واحدًا منهم أثناء نقاش حول تشغيل التليفزيون.

ظهر الشيخ عصام في مدخل زنزانتنا مع أذان العصر. انفلت داخلًا وانزوى في ركن توكل الذي لم يكن موجودًا. كان منفعلًا، ورفض أن يجلس، انتقلت إلى جواره فأسر إليَّ أن أميرهم أصدر فتوى بإهدار دم ثلاثة من السجناء بينهم السجين الذي سبَّ السُّني في الصباح.

تطلعتُ إليه غير مصدق وقلت: جد؟!

قال: طبعًا جد، كان لازم تشوف الإخوة وهم بيبوسوا إيده عشان يسمح لواحد منهم بشرف التنفيذ، حيدخل الجنة لو القتل تم بخمس طعنات ورا بعض.

خطر في بالي على الفور أن أحاول الاتصال بإدكو لأنقل إليه هذا الخبر الخطير. لكن السُّنية كانوا أسرع مني.

كنا نستعد للخروج إلى الفسحة حين سمعنا فجأة ضجة في أحد الطوابق العليا وأصوات صياح وصفافير ثم أقدام تجرى. وصاح فينا الحارس أبو حسين على الفور: ارجع زنزانتك انت وهو، بسرعة.

رأيته يدفع نزلاء الزنزانة المجاورة داخلها بما فيهم النوبتجي الذي كان غطى رأسه بطاقيةٍ حمراء، وكان بينهم صاحب فرن ضخم الجثة يمر من فتحة الباب بصعوبة. وتابعت محاولات أبو حسين لإدخاله الزنزانة، وضحكت وأنا أراه يكاد يحمله حملًا ممسكًا بفلقتَي مؤخرته الضخمتَين، جاء دورنا فدفعنا إلى الداخل وأحصى عددنا في هرولة ثم أغلق علينا الباب دون أن يحفل بالرد على استفساراتنا، وانتقل إلى الزنزانة التالية. وكان حارسٌ آخر يقوم بالمثل على الناحية المقابلة.

انصرف الحارسان بعد التمام فقفز توكل إلى شراعة الباب وهو يلفُّ جسده ويثني ركبتيه بحيث استقر في فتحتها مستندًا بظهره إلى جدار وبقدمَيه إلى الجدار الآخر الذي رُكِّب فيه الباب، نادى على الحارس فلم يعبأ بالرد عليه. وقفت تحته وأحنيت رأسي لأضع عيني على النظارة. مددت إصبعي فأزحت غطاءها لكني لم أرَ شيئًا. كانت أصوات الصباح والشتائم تصلنا بوضوح من الطابق العلوي لكننا لم نتمكن من تمييزها وتبيُّن ما يجري، وما لبث مساجين العنبر كله أن شاركوا في الهيصة بالدق على الجدران والدلاء.

دوَّى فجأة صوتٌ جهوري کالرعد في مدخل العنبر غطى على الضجة: انتباه!

أدركنا أن ضابط العنبر أو المأمور وصل، ساد الصمت لحظات ثم علت الضجة من جديد، وسمعنا صوت أقدام تجري على السلم. لمح توكل الدهشوري فناداه، لكن هذا لم يحفل به. ورأيناه بعد قليل يتحدث مع نوبتجي الزنزانة المقابلة الذي تعلق بنافذة بابها مثل توكل ثم انصرف بسرعة.

صاح توكل في النوبتجي يسأله عما حدث فقال إن جماعة من السُّنية هاجموا زنازين الطابق العلوي وانهالوا على سكانها ضربًا بالأسلحة البيضاء والمطاوي وقطع الأخشاب وحنفيات المياه.

غمغم توكل في انفعال: ولاد الجنيِّة.

نادى على ماكس ليشعل له سيجارة، وعندما شرع الأخير في قطعها نصفين صاح به أن يعطيها له صاحية.

ذكرت ما قاله لي الشيخ عصام واستمع لي توكل باهتمام ثم ردد: ولاد الجنية. يكونوا حيطبقوها.

لم أفهم ما يعنيه، وأنصتنا لأصوات الصياح والضرب. ترددت صيحات الحراس وأوامرهم بوقف القتال دون جدوى، وفجأة دوَّى صوت بوق بطريقةٍ معينة وعلق توكل: نفير الكبسة.

أضاف أبو السباع: الحراسة من حقها الوقت تضرب في المليان.

دوَّت بضع طلقات، قال توكل إنها خارج العنبر. توقفت الضجة لحظة ثم اشتعلت من جديد. انطلقنا نتكلم جميعًا في وقتٍ واحد ونحن نحاول استخلاص حقيقة ما يجرى. وتعب توكل من تعلقه بنافذة الباب فهبط وصعدت مكانه.

سألني توكل من مجلسه في الركن: شايف حاجة؟

أجبت بالنفي، كان مجال رؤيتي يمتد من قاعدة السلم المؤدي إلى الطوابق العليا على يميني حتى الحائط الذي تنتهي عنده الطرقة على يساري. وكانت الطرقة خالية وقد تناثرت فوق أرضها شباشب وأحذية وأكوابٌ معدنية ومواسيرُ حديدية. ولم أتمكن من رؤية شيء في طابق السُّنية الذي يعلونا فلم يظهر منه سوى جانب من قضبان السور الحديدي الذي يحيط به.

سمعت توكل يقول: فاكر يا أبو السباع السنة اللي فاتت لما خطفوا ضابط وأخدوا سلاحه وحجزوه في زنزانة؟ دول ولاد جنية. قعدوا يتفاوضوا مع الإدارة طول الليل لغاية ما وافقت على كل اللي طلبوه.

قال أبو السباع: أنا حضرتهم في الليمان لما مسكوا السجن ومحدش قدر يعمل لهم حاجة لغاية ما جت القوات الخاصة اللي بتلبس أسود ورمت عليهم القنابل المسيلة للدموع. تعرف عملوا إيه؟ ملوا جرادل مية وأول ما قنبلة تدخل الزنزانة يلقفوها على طول ويرموها في المية فيطفوها.

غمغم توكل: ولاد جنية.

قال أبو السباع بأسفٍ حقيقي: وفي الآخر سلموا.

– تفتكر يحرقوا السجن؟

قال توكل: دول يقدروا يعملوا أي حاجة.

علق سامح: يمكن عايزين يهربوا.

قال: مفيش حاجة تعصى عليهم. لما كنت في سجن بني سويف الأمير بتاعهم هرب بمنتهى السهولة. تعرف عمل إيه؟ لبس هدوم واحدة منقبة جابوها له في الزيارة وخرج مع الزوار.

جاءنا صوتٌ غريب من خارج العنبر، أخذ يعلو بالتدريج مقتربًا منا، وتبينتُ فيه بعد لحظات صيحة جنود الأمن المركزي المعروفة: «هوه، هوه» وتردد نباح كلاب، ثم لمحت من طرف النافذة جنديًّا في ملابسَ سوداءَ متحصنًا بدرعٍ بلاستيكي.

صحت: أهم وصلوا.

انتشر الجنود في الطرقة مكوِّنين صفَّين متقابلَين، ودوَّت انفجاراتٌ عاصفة فوق رءوسنا مباشرة وملأ الدخان العنبر. وتلا ذلك أصوات تكسير وتحطيم وانهالت أكوام من الكتب والعلب المحفوظة والبطاطين والأحذية وسط الطرقة.

التهبت جفوني وتابعتُ بعينَين دامعتَين حوالي عشرة من السُّنية يجرون بين صفَّي الجنود الذين انهالوا عليهم بالهراوات الكهربائية حتى وصلوا إلى نهاية الطرقة. أجبرهم الجنود على العودة فواصلوا الجري والهراوات تنهال على رءوسهم وظهورهم كيفما اتفق، وقبل أن يصلوا إلى قاعدة السلم أمرهم الجنود بالجلوس على الأرض ووجوههم إلى الحائط، واستأنفوا ضربهم ثم سحبوهم على الأرض والدماء تنزف منهم إلى خارج العنبر.

ظهرت مجموعةٌ جديدة من السُّنية تجري بين صفَّي الجنود. وتكرر معها ما جرى مع المجموعة الأولى وأَحصيتُ ست مجموعاتٍ مماثلة قبل أن يتوقف التأديب ويسود الهدوء، وفجأة سمعنا صوت فتح زنزانة في طابقنا، وصاح صوتٌ آمر: انتباه!

جذبني توكل إلى أسفل وصعد مكاني ثم هبط مصفرَّ الوجه: تفتيش.

أخذ يقلب في حاجياته بسرعة ويتبادل الهمس مع ماكس، بينما بدا التوتر على الدكتور رمزي وشحبت وجوه الآخرين، الوحيد الذي احتفظ برباطة جأشه هو مهندس الألومنيوم الذي لزم ركنه ودفن رأسه في المصحف كأن الأمر لا يعنيه. وضع توكل شيئًا في فمه واكتشفت بعد ذلك أنه نصف موسى وضعه لصق خده. وناول ماكس أنبوبةً رفيعةً ملفوفة بورق السوليفان. وعلى الفور قرفص وفك الشورت الذي يرتديه وأنزل الكيلوت ودس الأنبوبة في مؤخرته.

راقبت الدكتور رمزي في اهتمام، أخذ يتحسس كيسه البلاستيكي في ارتباك ثم وضعه داخل بطانية طواها على شكل وسادة وعاد فاستخرجه ودسه في صدره.

أرهفنا السمع للأصوات القادمة من الخارج، كانت تقترب منا إلى أن أصبحت عند الزنزانة المجاورة، وساد السكون بضع لحظات، وفجأة اصطدم المفتاح بقفل بابنا وفتح في حركةٍ واحدة، ودوت الصيحة المعهودة: انتباه.

اعتدلنا واقفين فوق نمرنا، كان الذي فتح الباب هو الشاويش عبد الغفار الذي اشتهر بشاويش التأديب؛ إذ كان له تاريخٌ حافل بالاعتداء على المسجونين، وكان معه الشاويش بعجر وعددٌ آخر من الحراس لم نرهم من قبلُ، وخلفهم ظهر إدكو مختالًا بمشيته المشهورة.

اقتحم الحراس الزنزانة في سرعة، وانتشروا في أرجائها يقلبون النمر ويرفعون البطاطين ويهزُّونها ثم يلقون بها جانبًا ويبعثرون صناديق الطعام ثم يفتشون الأشخاص.

تطلعت ناحية إدكو لكنه تجاهلني تمامًا، ووقف في مدخل الزنزانة يتابع ما يجري ويده في خاصرته.

ناول الحارس الذي فتش نمرة توكل علبة شاي لعبد الغفار فقدمها هذا لإدكو الذي ألقى بها في صندوق كرتون أحضره الحراس معهم، ولمحت الحارس يستدير بجسده ليحجب يديه عن نظر إدكو. ورأيته يعيد لتوكل علبة الصفيح التي يحتفظ فيها بأقراصه، ولاحظت أن هذه الحركة لم تغب عن عبد الغفار.

انتقل الحارس بعد ذلك إلى ماكس ثم مستر تامر. وعندما أراد أن يأخذ صندوق سكرابل احتجَّ صاحبه.

تدخل إدكو: متخفش عليه، حنحطه في أماناتك. لما تيجي تخرج تبقى تاخده.

أشار بيده فوضع الحارس علبة سكرابل في صندوق الكرتون. وأتبعها بالشطرنج ومروحة قاسم بيه التي تركها لمستر تامر وعلب الكبريت وصندوق الكولمان.

احتج مستر تامر مرةً أخرى فأوضح إدكو بلهجة ساخرة: التعليمات اللي عندنا إننا نمشي باللايحة، ولايحة السجون لا فيها سكرابل ولا فيها كولمان.

فقدنا طاولةً خشبية تلقاها عزت بيه قبل أسبوع وتبعتها الكوتشينة وقصص الألغاز. ولم ينجُ سوى المصحف الذي كان يمسك به مهندس الألومنيوم.

جاء الدور على الدكتور رمزي، انحنى الحارس على نمرته وفتَّشها بدقة ثم اعتدل واقفًا ومرَّ بيدَيه على ذراعَيه وسيقانه وظهره، استخرج الكيس البلاستيكي من صدره وناوله لإدكو.

قال الدكتور: دي أوراق شخصية.

تناول إدكو الكيس وألقى به في صندوق الكرتون دون أن يحفل بالرد.

قال الدكتور: دي مذكرات بكتبها عشان الدفاع بتاعي، اللايحة متمنعهاش.

رد إدكو دون أن ينظر إليه: اللي مش ضد اللايحة حنرجعه.

لم يستغرق تفتيش أبو السباع وأنا بعده غير دقائق ثم غادر الحراس الزنزانة. وانهمكنا في إعادة ترتيب نمرنا وحاجياتنا التي تبعثرت في أنحائها. وعندما انتهى تفتيش الطابق واطمأننا إلى خروج الضابط والحراس صعد توكل إلى شراعة الباب ليأتي بآخر الأخبار، عرفنا أن المعركة التي دارت بين السُّنية والسجناء، وبينهم وبين الحراس أسفرت عن ثلاثة من القتلى وحوالي المائة من المصابين والجرحى.

كان نومنا قلقًا غير منتظم ضاعفت منه الحرارة والرطوبة، وعندما استيقظنا سأل عزت بيه صاحب العمارة عن سر التأوهات التي كانت تصدر منه أثناء النوم، فقال إنه تعرض لكابوس، سأله عن طبيعة الكابوس، قال بصوته الأخنف: كنت باحلم إني نايم مع مراتي.

لم يفتحوا لتوكل كي يخرج قبلنا كالعادة. وتأخر فتح الزنازين فأخذنا ندق على الباب كي نذهب إلى المراحيض، وفتحوا علينا قبل الظهر بقليل. كان الحارس هو صبحي ذو الصوت المبحوح الذي لقبناه باسحب الفجل في عنبر الميري. وعرفنا منه أن بعض المصابين نُقلوا في الفجر إلى مستشفى القصر العيني كما نُقل قادة السُّنية إلى عنبر التأديب، ووضعوا في زنازين منزوعة البلاط أُغرقت بالمياه. أما الباقون في العنبر فقد طُبِّقت عليهم أقصى درجات التكدير فلم تفتح زنازينهم إلا واحدةً واحدة ولمدة خمس دقائق فقط، وأُجبروا على إخراج نمرهم ووضعها في الطرقة والبقاء على الأرض طول اليوم حتى موعد التمام، كما منعت عنهم الأطعمة والزيارات وصودرت متعلقاتهم الشخصية، ولم يُسمح للواحد منهم بغير حذاء ومنشفة.

شملت إجراءات تطبيق اللائحة منع بيع السكر في الكانتين حتى لا يستخدم في عمل الشاي في الزنازين؛ لأن إشعال النار ممنوع. ولهذا السبب أيضًا مُنع التدخين داخل الزنزانة ليلًا، كما حُددت كمية السجائر التي يمكن شراؤها من الكانتين بحيث لا تزيد عن ثلاث علب في الأسبوع.

طلب عزت بيه من الحارس أن يذهب إلى الكانتين ليشتري سجائر لأن سجائره نفدت فأخبرنا أن الكانتين مغلق بسبب التكدير. وهنا وعده توكل بأن يحل له المشكلة بعد التمام. وأبرز توكل نفوذه. فلم تمضِ ساعتان إلا وأحضر له أبو حسين كوبًا كبيرًا من الشاي تناوله من نافذة الباب شربه باستمتاع دون أن يبالي بأحد منا ولا حتى بماكس.

استُدعي الدكتور رمزي لمقابلة إدكو، وعاد حاملًا كيس أوراقه؛ كيسه البلاستيكي، انزوی فوق نمرته وأخذ يتصفح محتويات الكيس إلى أن اطمأن على أوراقه.

سألته: كله تمام؟

فوجئ بسؤالي وقال: آه، تمام.

شعرت بلذةٍ غريبة. كنت الوحيد بين النزلاء الذي يعرف ما حدث لأوراقه. وفكرت أن ذلك قد يعني انتهاء مهمتي. ووجدتني آسَف على ذلك. انتظرت أن يستدعيني إدكو ليخطرني بما عمله. لكنه لم يفعل أبدًا. فبعد يومين نُقل إلى سجن قنا، وسمعنا أن لجنة تحقيق من مصلحة السجون اعتبرته مسئولًا عما حدث لأنه سمح بتشغيل التليفزيون. دفعني هذا إلى التفكير في سبب تصرفه، وعما إذا كان تعمَّده ليتمكن من وضع يده على أوراق الدكتور رمزي بطريقة لا تثير الشك.

علق توكل على نقل إدكو قائلًا: الدور ع المأمور، تلاقيه الوقت بيرعش.

قال زكي عز: وهو ذنبه إيه؟

أجاب توكل: هو المسئول عن الظبط والربط.

حلَّ محل إدكو ضابطٌ آخر برتبة رائد، اشتهر بالقسوة وعُرف باسم «خضرة»؛ فقد كان له شعرٌ مُجعَّد بقصة، وأظافر لامعة مصقولة منمقة، ووجه يخلو من الشعر، وصوتٌ رفيعٌ حاد. وكانت ملابسه العسكرية أنيقة، والمدنية من أقمشةٍ فاخرة وتنبعث منه دائمًا رائحة العطور الغالية. وعلق الدكتور رمزي على شخصيته قائلًا إنه خجول ويخفي خجله بالصراخ وأوامر الضرب.

نفذ توكل وعده بعد التمام فبعث بحارس الليل إلى سجين بالطابق العلوي محكوم عليه بالإعدام في قضية تجسس لإسرائيل يُدعى مصطفى، وكان ينتظر تنفيذ الحكم منذ سبع سنوات ويتمتع بمجموعة من الامتيازات تعطى للمحكومين بالإعدام؛ ومنها حصةٌ مجانية من السجائر على حساب المصلحة. لم يكن يدخن فتاجر فيها وأصبح يبيع الخمسة منها بسبعة ارتفعت طبعًا بسبب الظروف إلى تسعة.

حُرمنا من الطابور لمدة ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع أبلغنا الضابط خضرة أننا سنخرج لمدة ربع ساعة فقط. وعندما هبطنا إلى الفناء فوجئنا بالمأمور جالسًا فوق مقعد وضع في الظل وقد مدَّ ساقَيه أمامه، كان يرتدي قميصًا كاكيًّا بكمَّين قصيرَين على كتفَيهما النجوم الدالة على رتبته، ويغطي عينَيه بنظارةٍ شمسية من طراز «فريري» ذي الزوايا الغريبة.

التفت المأمور ناحيتنا ثم أشار إلينا بغليونه أن نقترب؛ قادنا الحارس إليه وأدى التحية العسكرية.

تجاهله المأمور وخاطب الدكتور رمزي: إزيك يا رمزي، عاملين إيه؟

كان لمخاطبة الدكتور رمزي باسمه الأول هكذا دون لقب الدكتور وقعٌ غريب على أذني. لكنه لم يهتم وسارع بالرد: تعبانين يا باشا، حنتخنق من قفلة الزنزانة طول النهار، الدنيا حر وعددنا كبير، ثم احنا ملناش ذنب في اللي حصل.

– السجن كده يا رمزي، الغلط يحط الكل.

قال الدكتور: سيادتك احنا محرومين من كل حاجة. من لعب الرياضة ومن المكتبة ومن الكانتين. مش عارفين نشرب كباية شاي، ولا عارفين نتسلى!

– ليه؟ مبتحكوش حكايات؟

– حكينا لما قلنا يا بس.

– مبتلعبوش حاجة؟

– ما انتو أخدتم مننا كل حاجة في التفتيش … الشطرنج والطاولة.

– كان عندكو كمان سكرابل. أنا وريتها للمدام وعجبتها خالص.

سارع مستر تامر قائلًا: يا باشا اعتبرها بتاعت سيادتك. ع العموم أنا في أول زيارة حابعت أجيب واحدة جديدة لسيادتك.

قال المأمور: المدام تعرف لغات وتحب تتسلى.

سكت لحظة كأنما نسي الموضوع الذي كنا نتحدث فيه ثم قال: العبوا استغماية. ونظر إليَّ فجأة ثم خاطبني قائلًا: مش انت بتاع بطشة؟

اندفعت الدماء إلى وجهي وأجبته: أيوه يا باشا.

سألني: تعرف تلعب صلح؟

لم أصدق أذني. كنا نلعب هذه اللعبة ونحن صغار فيقف أحدنا معطيًا ظهره لنا ويغمض عينَيه ويعقد ساعديه بحيث يبسط إحدى كفَّيه أسفل كتفه ثم ننهال على كفه بصفعاتنا ويتعين عليه أن يعرف من الذي ضربه.

قلت في تردد: أعرف سعادتك.

انفجر ضاحكًا، وحِرت: هل أضحك معه، وعلى ماذا؟ وخطر ببالي أنه يعرف بأمر علاقتي بإدكو وانتظرت أن تبدر منه إشارة لكنه لم يفعل.

كفَّ مرةً واحدة عن الضحك وتحول للدكتور رمزي: إنت لسه عاوز تعمل مسرح؟

قال الدكتور: يا ريت.

قال المأمور: ومين اللي حيشترك معاك؟ كلهم هنا بهايم. وأشار بيده إشارة شملتنا جميعًا بما فينا الدكتور.

فتح فمه ليرد فاستوقفه المأمور: لأ. مسرح لأ. وسكت لحظة، ثم قال: على العموم أنا بفكر نعمل حفلة، عاوز أغير الجو اللي في السجن. ستة أكتوبر داخل، والمصلحة عاوزانا نحتفل.

وفجأة فقد اهتمامه بالحديث وحدق في حذائه، وقبل أن أحدد نوعه أشار للحارس كي يصرفنا قائلًا: زود لهم الطابور نص ساعة.

استُدعي الدكتور لمقابلة المأمور بعد الظهر وغاب لديه حوالي الساعتين، وعندما عاد بدا منفعلًا.

قال: من بكره الطابور حيرجع زي الأول.

بدا الضيق على توكل الذي يمثل حلقة الصلة بيننا وبين إدارة السجن، سأله في لهجةٍ عدائية: والسكر والسجاير؟

أجاب الدكتور: الراجل وعدني إن كل حاجة ترجع زي ما كانت لكن بالتدريج. بشرط نساعده في الاحتفال بستة أكتوبر.

– نعمل إيه يعني؟

– هو كان عاوز حد يغني، قلت له أبو السباع صوته يجنن، وكمان عاوز يعمل مسابقات في الورش ويوزع جوائز من الترفيه. وحاجات زي کده.

قلت نبطشي الزنزانة اللي جنبنا بيغني صعيدي حلو.

قلت له نعمل كمان مسرحية. الراجل مقالش لا. إنما قال لي حتجيب ممثلين منين؟ وعاوزين مخرج. قلت له: أنا المخرج، وحجيب الممثلين.

– إنت تعرف تخرج؟

– شوية.

انطلقت التعليقات الساخرة؛ قال توكل مقلدًا أغنيةً قديمة: مدام مخرج تنكر ليه؟

وعلق رمضان بخبث: سبع صنایع.

لزم الدكتور الصمت ولم يستجب للاستفزازات، وبعد العشاء لجأ إلى أوراقه ثم وضعها جانبًا وشرد، لاحظت أنه يتأمل وجوه زملائنا في الزنزانة واحدًا واحدًا، ثم سألني عن نزلاء زنزانة عبده والزنزانة التي كنت فيها في عنبر الميري، حكيت له عن الولد الفلسطيني الذي أعدموه عدة مرات، وعن سامي عازر والصورة التي يحتفظ بها في الإنجيل، وحسن بكبورت والهرش الذي عاني منه، وبطشة وخلافه مع سوزوكي، وعم جابر الذي دخل بالأتوبيس في المحطة، وسامبو الذي قتل زوج عشيقته، وعم فوزي الذي قتل ابنة أخته ويقضي الوقت في عمل عرائس على شكلها وهيئتها، وبلحة وزميله الذي بدأ حياته بسرقة علب الصلصة، ومجاهد الذي نشرت الصحف قصته تحت عنوان ضاعت القيم وجاء الحقد.

كان يستمع إليَّ شاردًا ثم انفعل فجأة وسألني أن أصف له العرائس التي يصنعها عم فوزي وكيف يصنعها. قلت له إنه يجمع كل ما تقع عليه يديه من فضلات أثناء عمله في الخدمة، من خرق قماش وقش وورق جرائد وعلب كرتون. كل شيء وأحيانًا يسرق القطن من العيادة، وإذا لم يجد قطنًا حشا العروسة رملًا.

قال: تعرف أرشميدس اللي قال: وجدتها؟

قلت: سمعت عنه.

قال: أنا كمان وجدتها.

– إيه هي؟

– عمك فوزي. هو لسه هنا؟

– أنا لسه شايفه من يومين. كان بينضف الحوش، ليه؟

– كان بياخد وقت قد إيه في عمل العروسة؟

حاولت أن أتذكر: ليلة أو ليلتين، على حسب.

قال: تعرف أنا فكرت في إيه؟ عمرك شفت مسرح عرايس؟

قلت إنني ذهبت مع تلاميذ المدرسة مرة من عدة سنوات إلى مسرح العرائس في العتبة.

قال: نعمل واحد.

سألته في استغراب: هنا؟

قال في حماس: أهو ورشة النجارة موجودة، وعندنا ترزية كمان وعم فوزي. مش كان معاكم عامل صباغة؟

قلت: أيوه، سامي عازر.

قال: المأمور يجيبلنا القماش وإحنا نخيطه ونصبغه في المطبخ بالألوان اللي تعجبنا. نقدر نلون الوشوش بأقلام الفلوماستر أو بهباب الحلل والطباشير. ويجيبلنا كمان قش وكرتون نقدر کمان نعمل حاجات كثير من الورق المفضض. وناخد كذا بدلة من بدل العساكر والسجانة.

سكت وأمسك بورقة وقلم وكتب بضعة أسطر ثم وضع طرف القلم بين شفتيه وحدق في السقف، وأخذت أتأمله شاعرًا أنه غير طبيعي بالمرة.

التفت إليَّ وقال وهو يقرأ من الورقة: شوف يا سيدي، حنعوز اتنين ثلاثة جدعان زيك يعرفوا يقروا كويس، واتنين تلاتة تانيين عشان يحركوا العرايس. ممكن واحد بس. وساعة منعرض ناخد كرسي وللا اتنين من كراسي المعوقين اللي في المستشفى ونركب كشافين وللا ثلاثة من كشافات الحراسة.

قلت: ومين اللي يخرج؟

نظر إليَّ وقال: أنا، مش مالي عينك؟

مش قصدى. إنت تعرف؟

قال: مش قلت لك أنا كنت بأمثل في المدرسة؟

– هو اللي يمثل يقدر يخرج؟

أجاب في ضيق: أنا كمان اشتركت في الإخراج.

تردد لحظة ثم أضاف: في الكنيسة.

شرح لي أن كل الكنائس تحتفل بعيد القيامة قبل شم النسيم بتمثيل قيامة المسيح. فتُظلم الكنيسة وتنشد التراتيل التي يرددها الكورس والحاضرون ثم يسود الصمت ويدق القسيس باب الهيكل خلفه عدة مرات بعنف قائلًا: «افتحوا الأبواب ليدخل ملك المجد.» وعلى الفور تفتح أبواب الهيكل وتضاء الكنيسة في نفس اللحظة فتنطلق الزغاريد وتبدأ الأناشيد.

قسيس الكنيسة بتاعتنا في بورسعيد كان عجوز ومدهول، عمره ما عرف يخرج المشهد مظبوط. ساعة ما يخبط ويزعق ويقول افتحوا الأبواب ليدخل ملك المجد يتهيأ له أنه حيدخل حقيقي. فتجيله حالة ذهول وينسى يولع النور. أبويا الله يرحمه قاله: ما تخلي رمزي يساعدك، بقيت أقف جنبه عشان أولع النور في اللحظة المناسبة.

– وده يعملك مخرج؟

قطب جبينه: لأ. تقدر تقول مساعد مخرج.

شعرت أنه غضب فسكتُّ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤