١٤

أوراق رمزي بطرس نصيف
(مسودة لمذكرة الدفاع)

لو أن أحدًا ذكر لي أني سأنام ذات يوم على أرض زنزانة كهذه لكنت ضحكت، أنا أضحك الآن عندما أتأمل الأمر؛ فلم يكن هناك في أي مرحلة من حياتي ما يوحي بنهاية كهذه، إذا كانت هي حقًّا النهاية! فأنا ولدت في أسرةٍ مستريحة؛ أبي كان موظفًا كبيرًا في وزارة المالية يحتفظ بعدة أطقم من الملابس خاصة بالمناسبات والفصول المختلفة، كنا نسكن في شبرا بشقةٍ كبيرة من خمس غرف بواحدة من العمارات المتينة ذات المداخل الرحبة التي بُنيت في الأربعينيات أو الثلاثينيات، وكانت لدينا شقة في الإسكندرية نقضي بها شهور الصيف، وأحيانًا نذهب إلى أهل جدتي لأمي في بورسعيد الذين كانوا يعيشون في فيلا كبيرة تابعة لشركة القناة؛ فقد كان جدي من كبار موظفيها.

كنت الابن الأكبر على بنتَين، واحدة منهما الآن في كندا والثانية في أستراليا، لا بد أن طفولتي كانت عادية؛ فأنا لا أذكر منها بوضوح سوى زيارة القسيس التي كان يقوم بها لمنزلنا مرة في الشهر يباركني خلالها بأن يرسم الصليب على وجهي وهو يتمتم شيئًا ما بالقبطية ثم يضيف بالعربية: العدرا تحميك يا بني.

أذكر أيضًا بوضوح صالة شقتنا والحائط الذي يتصدره تقويم جمعية المحبة القبطية، بصورةٍ ملونة للمسيح وآية كل يوم، وأسفلها محرابٌ صغير به أيقونة العذراء وتحتها شموع مضاءة بصفةٍ مستمرة، كما أذكر الأعياد التي كنا نذهب فيها إلى الكنيسة ونطوف حول المذبح في موكب يحمل أيقونة قيامة المسيح، والصلوات التي نختمها بالدعاء للبابا وجمال عبد الناصر.

أحسب أن الدعاء لعبد الناصر كان من قبيل الشعائر الرسمية فقد كان الأقباط متحفظين إزاء عبد الناصر. الأسباب عديدة، منها أن كثيرين منهم كانوا منضمين إلى الأحزاب السياسية التي ألغاها وحرمها، كما أن مجلس قيادة الثورة لم يكن به قبطيٌّ واحد، فيما بعد أصبح عبد الناصر بطل مراهقتي أثناء العدوان الثلاثي في ٥٦، يوم اخترق القاهرة في سيارةٍ مكشوفة من بيته في مصر الجديدة إلى الجامع الأزهر واعتلى منبره وقال للعالم «سنقاتل ولن نستسلم.» استولى عليَّ يومها شعور بالاعتزاز والكبرياء رغم أن أبي بدا مهمومًا ومتجهمًا ولم أعرف منحى تفكيره … على العموم أبي كان دائمًا متجهمًا، على الأقل في البيت؛ فعندما يأخذني في نزهة تنبسط أساريره ويضحك … أمي أيضًا كانت متكدرة، وأظن أن الأمور بينهما لم تكن على ما يرام!

***

كان أبي يصحبني في العصاري إلى صيدليةٍ، أو أجزخانة كما كانت تسمى، قريبة من منزلنا في شبرا. كان صاحبها صديقًا له يجلس بطربوشه الأحمر خلف مكتبٍ صغير فوق قاعدةٍ خشبية، يحيط بسطحه سياج من القضبان الخشبية الدقيقة المتجاورة بارتفاع شبر، وخلفه مصراع زجاجي معتم تتوسطه جمجمة وعظمتان، ويعطيني قطعًا من حلوى الربسوس السوداء التي كانت تنتج أيامها بأشكالٍ مختلفة؛ على هيئة غليونٍ صغير أو حبل أو مربعات أو دوائرَ متتالية في حجم النصف ريال تتوسطها حمصةٌ ملونة. ويجلس أبي على أحد المقاعد المصفوفة أمام المكتب ويبدآن النقاش حول الأحداث السياسية والمعارف المشتركَين، ويتبادلان تعليقاتٍ غامضة تتخللها نظرات لها مغزًى إذا ما ولجت الصيدلية امرأةٌ جميلة، خصوصًا إذا كانت تغطي وجهها بالبرقع ذي الأسطوانة النحاسية فوق الأنف، وتلف جسدها بالملاءة السوداء في إحكام طاوية طرفها تحت إبطها.

الصيدلي هو ابن أخت صاحب الصيدلية؛ شابٌّ بدينٌ أصلع الرأس يرتدي عويناتٍ طبيةً سميكة، يعمل من خلف حاجزٍ زجاجي دُهن بطلاءٍ أبيض لا يكشف عما يدور خلفه، تتوسطه فتحة تسمح بتبادل الحديث مع الزبون وقراءة الروشتة قبل الاختفاء في الداخل لتحضير الدواء.

كنا ما زلنا في عصر تحضير الدواء قبل أن تتحول الأدوية إلى حبوبٍ ملونة والصيدلي إلى بائع بقالة كل مهمته هو أن يتناول الدواء من الرف ويقبض النقود. أثارتني هذه المهنة منذ الطفولة وحلمت بأن أصير مثل ذلك الصيدلي الذي يقوم بأعمالٍ غامضةٍ مهمة خلف الزجاج المعتم بينما زبائنه ينتظرون.

***

كنا نلتقي في الصيدلية أحيانًا بصديق للصيدلي؛ شاب في العشرين من عمره يدعى «نسيم غبريال». كان وسيمًا أنيقًا ومصدرًا لكل جديدٍ مبهر، يحكي لأبي وصديقه ما يقرؤه في الصحف الأجنبية عن فضائح الملك، ويحمل معه دائمًا أشياءَ مثيرةً جديدة علينا، مستوردة من أمريكا، يعرضها للبيع؛ سلاسل، مفاتيح متصلة بنماذج لحيوانات تتألف من قطع منفصلة ذات ألوان خلابة يمكن فكها بسهولة لكن إعادة تركيبها تحتاج إلى مهارة، كرافتاتٌ فاخرةٌ عريضة ذات ألوان باهرة وبطانةٍ داخلية من الحرير الأبيض، وأشياء من هذا القبيل. وكان هو أيضًا الذي أبلغنا ذات مرة بأن مشروبًا جديدًا سينزل إلى الأسواق باسم بيبسي كولا لينافس الكوكا بزجاجة أكبر حجمًا بنفس الثمن وهو قرشان ونصف.

***

أتذكر أيضًا بواب منزلنا الذي كانت له ابنة في سني تدعى توحيدة. كنت أحب اللعب معها في مدخل المنزل، ولم تكن أمي ترحب بذلك، ويبدو أن البواب التحق بأحد المصانع في شبرا الخيمة؛ إذ بدأ يخرج في الصباح حاملًا رغيفًا من الخبز في منديل ولا يعود قبل المغرب، وقامت زوجته بعمله. كانت سمراء، فارعة القوام، ترتدي دائمًا ملابسَ نظيفة، شديدة الاعتزاز بنفسها، تعتني بنظافة ملابسها ومظهرها وترفض القيام بأي عمل داخل الشقق مثل الكنس أو المسح معلنة أنها سيدة منزل مثل بقية السكان وليست خادمة. وتتهرب من تلبية طلبات السكان بحججٍ مختلفة أو تغلق على نفسها باب غرفتها الكائنة أسفل السلم ولا ترد على نداءاتهم، ونشأ صراعٌ عنيف بينها وبين أمي التي قررت التوقف عن دفع القروش العشرة التي كان يعطيها كل ساكن للبواب. وأذكر أن شجارًا نشب بينهما مرة، وأهانتها أمي فردَّت عليها بوقاحة، وحرِّم عليَّ اللعب مع توحيدة فحزنت جدًّا.

أغرب ما في الأمر أني لا أذكر جيدًا شكل توحيدة على عكس أمها، وأتذكر يوم عدت من المدرسة واسترقتُ النظر إلى غرفتها فرأيتها ممددة على مرتبة فوق الأرض، وعرفت أنها مريضة، ثم رأيتها بعد أيام وهالني منظرها. كانت شاحبة الوجه شديدة الهزال محنية القامة. وفي نفس اليوم صعدت إلى شقتنا وشاهدتها تقبل قدم أمي وتعتذر لها ثم تأخذ منها بعض النقود، وأصابني هذا المشهد بحزنٍ عميق.

***

في المدرسة كنت متفوقًا، انضممت إلى جماعة المسرح، واشتركت في إخراج مسرحية لشكسبير أظن أنها هاملت، وأخرى لموليير نسيت اسمها. أحببت المسرح جدًّا حتى إني في الجامعة ألَّفت مسرحية عن العدوان الثلاثي لا أذكر منها شيئًا. انتقلت من مدرسة «الفرير» إلى شبرا الثانوية، أذكر تلميذًا معي في الفصل نسيت اسمه أعطاني مرة درسًا تذكرته عندما دخلت السجن، وساعدتني الذكرى على تحمل التجربة، كان أكبر مني ربما بسنة، ضئيل الحجم، مدمن قراءة، وأظن أنه درس الفلسفة بعد ذلك، وفي يوم كنا وحدنا في معمل الفيزياء، ووقع مني إناءٌ زجاجي فانكسر. وعلى عجل دفعت الزجاج بقدمي لأخفيه أسفل دولاب، رأيته يبتسم في سخرية وقال لي: لن تصبح رجلًا إلا إذا تعلمت كيف تتحمل مسئولية أفعالك.

لم أفهم وقتها ما يعنيه بالضبط؛ فقد كنت في العاشرة من عمري على ما أظن. لا أعرف أين هو الآن، على العموم كنت مبسوطًا في المدرسة. فقط درس الدين كان يشعرني بالحرج. فقد؛ فقد كان الفصل ينقسم ساعتها إلى قسمَين ويتجه القسم الأصغر وأصحابه — وأنا منهم — مطأطئ الرءوس كاللصوص إلى قاعةٍ خاصة حاملين الأناجيل، ونحن نحاول إبعادها عن أنظار زملائنا المسلمين.

في السنتَين الأخيرتَين من المدرسة الثانوية توطدت العلاقة بيني وبين تلميذ اسمه سمير صبحي يقطن فيلا قديمة من طابقَين قريبة من منزلنا. وكانت له أخت تدعى سارة تكبره بسنة. سمراء دقيقة الحجم جميلة العينين. كان جو بيتهما مختلفًا عن بيتي، به قدرٌ أكبر من التحرر، وعن طريقهما تعرفتُ بابن خالتهما لبيب وصديقه حلمي الذي أصبح من أعز أصدقائي.

التحقت بكلية الصيدلة. وسافر سمير للدراسة في الخارج، ودخلت سارة وحلمي ولبيب كلية الطب، كنا نلتقي يوميًّا؛ أخرج من الكلية في شارع القصر العيني ويخرجون هم من المستشفى ونجلس في مقهًى شعبيٍّ صغير في «المنيرة» نشرب الشاي أو القرفة، ثم نعود كلٌّ إلى كليته. وخلال ذلك كانت تدور المناقشات الحامية بيننا حول كل شيء؛ القصص والأفلام والموسيقى … لم نكن نهتم كثيرًا بالسياسة (ربما بسبب الجو البوليسي الذي ساد الجامعة والبلاد كلها) رغم المناقشات الواسعة التي دارت بين الأقباط حول التأميمات لأنها شملت أوقاف الكنيسة، لكننا تحمسنا للميثاق الوطني عندما نص على حق كل مواطن في الرعاية الصحية بأن العلاج والدواء يجب ألا يكونا سلعة وإنما حقٌّ مكفول غير مشروط بثمنٍ مادي وفي متناول كل مواطن في كل ركن من الوطن.

لم تكن هذه بالطبع آراء أهلنا، أبي مثلًا كان ساخطًا لأن التأميمات شملت الوكالة التجارية التي كونها صديقه صاحب الصيدلية بالاشتراك مع الشاب نسيم غبريال، والتي احتكرت تمثيل عدد من شركات الأدوية والعطور الأمريكية.

***

كانت سارة أكثرنا جرأة في المناقشات التي تمس التقاليد، أطلقنا عليها اسم الدكتورة درية شفيق التي اشتهرت في الخمسينيات بدفاعها عن حقوق المرأة. كانت تطرح تساؤلات من قبيل لماذا لا تكون هناك امرأة بين القسس؟ ثم تقول إن المرأة في نظر الكنيسة دون منزلة الرجل لأنها غير مؤتمنة على أسرار الدين وعلى رأسها سر إقامة القداس. فهي مثل أمها حواء قابلة للانجرار إلى الخطيئة، ناقصة عقل ودين كما قال المسلمون بعد ذلك. هذا بالرغم من أن الأناجيل الأربعة لا تضم كلمةً واحدة تفرق بين المرأة والرجل، فلم تكن العلاقة بين الاثنين ضمن رسالة المسيح التي كرسها للفقراء والعبيد. بعكس بولس الرسول، المؤسس الحقيقي للديانة المسيحية؛ فهو يقول في إحدى رسائله التي تقرأ أثناء عقد الزواج: «أيها النساء اخضعن لرجالكن كما للرب؛ لأن الرجل رأس المرأة، كما المسيح رأس الكنيسة.»

كنا نسألها في سخرية: وليه كده يا دكتورة؟ فتقول: إن أمراء الكنيسة طوعوا التعاليم الأصلية لظروفٍ اجتماعية حطت من شأن المرأة وعلت من دور الرجل؛ لأنهم وجدوا مصلحة في ذلك.

كنا نلتقي أحيانًا في نهاية اليوم ونذهب إلى منزلها ونتجمع في غرفتها. نأكل أي شيء ونذاكر قليلًا ونسمع الموسيقى الكلاسيكية، كنت سعيدًا بهذا الجو الذي يختلف عن جو منزلي حيث أبي المتجهِّم وأمي المتكدرة. شيئًا فشيئًا وجدت نفسي أفكر فيها طول الوقت، وقدرت أني وقعت في غرامها. ولم يكن عندي شك في أنها تبادلني مشاعري. كانت تنظر إليَّ بعينَيها الجميلتَين اللامعتَين نظراتٍ طويلة، وعندما كنا نعزف على البيان سويًّا كانت تترك يدها أحيانًا فوق يدي، ولم يخطر ببالي مطلقًا أن حلمي يحبها هو الآخر إلى أن فوجئت بهما يبلغانني بعزمهما على الزواج بعد التخرج مباشرة. أعتقد أنها أقوى صدمة تلقيتها في حياتي.

***

تزوج حلمي من سارة، وأقاما في منزلها. وتخرجت أنا فأخذت أبحث عن عمل. كان غبريال قد أفاق من صدمة التأميم واشترى صيدليتَين فالتحقت بإحداهما، وكنت أخرج منها إلى منزلهما مباشرة، ونسهر الثلاثة نثرثر وندخل في نقاشاتٍ ملتهبة أو نسمع رحمانينوف وبرامز أو أشترك أنا وسارة في العزف على البيان، لم يخطر لي أبدًا أن أسألها لماذا فضلت حلمي عليَّ. اعتبرت اختيارها لحلمي منطقيًّا؛ فهو أكثر مني وسامة وخفة دم، وأبوه طبيبٌ كبير وسيخلفه في العيادة، قنعت بأن أراها كل يوم وألبي طلباتها، وأدركت هي مدى نفوذها عليَّ. كانت تمتحنني أحيانًا، فتتمطى كالقطة وتقول إنها ترغب في أكل كباب أبو شقرة، وبسرعة البرق أكون في الطريق إلى محله في القصر العيني لأحضر لها طلبها، وكان حلمي يذاكر للماجستير فنخرج وحدنا ونذهب إلى نادي السينما. وكثيرًا ما كانت ترتمي إلى جواري على الأريكة وتنهمك في القراءة وتستند برأسها على كتفي.

لم أتحمل الموقف ففكرت في السفر، كانت هناك أسبابٌ أخرى بالطبع؛ فقد ضُبط غبريال في محاولة تهريب مبلغٍ ضخم من العملات الأجنبية للخارج ودخل السجن، بينما وُضعت أملاكه ومنها الصيدلية تحت الحراسة. وفي ظل الإدارة الحكومية الجديدة بدأت تتداعى؛ فلم يهتم أحد بإمدادها بالبضاعة، فضلًا عما كانت تشكو منه البلاد كلها من نقصٍ دائم في الأدوية الأجنبية بعد التأميم. وأصبح العمل بها يبعث على الملل، وفي نفس الوقت كنت أحلم بالحياة الرغدة وأهوى جمع المعلومات عن السيارات الجديدة، وأواظب على قراءة مجلة «بلاي بوي» لما بها من صور الموديلات الجديدة من الفتيات والسيارات، وكان الجو حولي وسط الأقباط مشحونًا بهاجس الهجرة؛ فتأميم الأوقاف أثار غضب البابا كيرلس وعداء الكنيسة. وشاعت قصة مؤداها أن البابا كيرلس زار عبد الناصر في الحلم وتوعده قائلًا: أبعد يدك عن أملاك الرب. فاستيقظ عبد الناصر مريضًا، وطلب أن يأتي كيرلس لزيارته فرفض، واضطر أن يذهب هو إليه، ألبسه البابا أبيض في أبيض ومسح عليه بالزيت المقدس فشفي، وبعدها تبرع عبد الناصر لبناء البطريكية الجديدة في العباسية.

أيا كان نصيب هذه القصة من الصحة، فإن بناء البطريركية الجديدة لم يخفف من قلق الشعب القبطي، كان الأغنياء الذين تعرضوا للتأميم أو يخشونه يغذون هذا القلق ويهاجرون بالمئات، وازداد المعدل بعد النكسة في ٦٧ إذ بدا المستقبل أمام الجميع غير مضمون، وخيم على البلاد جوٌّ ثقيل من الكآبة.

***

عبد الناصر كان مهتمًّا ببناء دولةٍ عصرية، وكانت أمامه فرصةٌ ذهبية للقضاء على التمييز بين المسلمين والمسيحيين، لكنه لم يفعل. بناء الكنائس مقيَّد بقانون يعود إلى أيام الخلافة العثمانية، مادة التاريخ في المدارس تتجاهل الحضارة القبطية، أي مسلم الأبواب مفتوحة أمامه ليصبح وزيرا أو سفيرًا أو محافظًا أو حتى مأمور مركز، بينما هناك قانون غير مكتوب يضع القيود في وجه الأقباط … مثلًا بالنسبة لدخول كليات بعينها مثل الشرطة والكليات العسكرية ثم مدارس المعلمين. ومع ذلك يقال إن هناك مساواة وإن مصر بلد التسامح … إلخ.

***

تقدمت للعمل في فرع بيروت لإحدى شركات الدواء الإنجليزية، كانت صناعة الدواء تزدهر بسرعة، وشركاتها الكبرى تدفع مرتباتٍ أعلى من المرتبات التي تدفعها شركات النفط. قبلوني وسافرت على الفور. كانت بيروت في عزها، مدينةً أنيقة، قطعة من أوروبا، أو «باريس الشرق» كما كانوا يقولون، أحدث موديلات السيارات، مقاهي الروشة الواحد إلى جوار الآخر. كل شيء نظيف وله لمسة فينيس. في الصيف زحام السواح العرب وترش الملح مينزلش. أصبحت عندي سيارة ومسكنٌ جميل في حي الظريف الراقي، ولم أشعر بالغربة، وخُيل إليَّ أني تمكنت من القضاء على شبح سارة. وبعد علاقتَين عابرتَين؛ واحدة بفتاةٍ إنجليزية والأخرى بواحدةٍ لبنانية، تزوجت قريبة لإحدى زميلاتي اللبنانيات؛ فتاة مرحة واجتماعية ومن عائلة معروفة.

بعد سنتَين تلقيتُ عرضًا من شركةٍ سويسرية منافسة اسمها «كوش» لوظيفةٍ إدارية أعلى، كان العرض مغريًا؛ فالشركات السويسرية تفضل دائمًا السويسريين في المناصب الإدارية العليا. وكان عقدي ينص على أن أقضي ثلاثة شهور في «بازل» لأتعرف على إمبراطورية كوش ثم أتولى إدارة أحد فروعها في الخارج، وكان الراتب كبيرًا بالنسبة لسني، كما أن عبد الناصر كان قد مات، فتقطعت بشكلٍ ما الخيوط التي بقيت بيني وبين مصر.

***

… ذهبت لعمل مقابلة في بازل BASLE بسويسرا، وفوجئت بأن لديهم ملفًّا کاملًا عني. بعد ذلك اكتشفت أن بازل تضم ملفاتٍ كاملة عن رجالات الدواء في العالم والمصريين منهم، كل شيء عنهم؛ هواياتهم وأمزجتهم الخاصة وأسرارهم الحميمة، وهو أمرٌ طبيعي؛ لأن مصر كانت تشتري كيماويات وخاماتٍ دوائية كل سنة بمائتي مليون جنيه، وأدوية بمائة مليون جنيه.

كانت المقابلة صعبة، استقبلني رجلٌ بارد بعينَين ضيقتَين وفمٍ مقوس مثل رقم ۸. قدم إليَّ بعض المقتطفات من المجلات وطلب مني أن أقرأها وأعلق عليها تعليقًا فوريًّا.

الفقرة الأولى كانت للفيلسوف الألماني نيتشه NIETZSCHE يقول فيها: إن أخلاق التجار ليست سوى صورةٍ محسنة من أخلاق القراصنة. علقت على هذه الفقرة بقولي إن نيتشه فيلسوف لا يعرف شيئًا عن الحياة الحقيقية؛ فلم يكن من المعقول أن أوافق على كلامه، كما أني لم أكن فكرت في هذا الموضوع من قبلُ. أبديت تعليقًا مماثلًا على الفقرة الثانية وكانت لفيلسوفٍ آخر هو أوجست ببل AUGUST BEBEL يقول فيها إن كل أشكال البيزنيس تقوم على الغش والخداع، وقبل أن يناولني الفقرة التالية سألني فجأة: ما هو رأيك في النظام الرأسمالي؟ أجبته على الفور: له عيوبه ولكني لم أجد بعدُ أفضل منه. وكنت صادقًا في ذلك القول.

ودون أن تتغير ملامحه عاد يسألني: وقال، والاشتراكي؟ أجبته على الفور. له محاسنه لكني لم أجد أسوأ منه. وكنت أيضًا صادقًا في القول.

كان هذا السؤال فيما يبدو توطئة لما جاء بعد ذلك؛ فقد كانت الفقرة التي حملتها في يدي من مقالٍ طويل عن مصر في مجلةٍ أمريكية، بمناسبة وفاة عبد الناصر. وكانت تسخر من مصر وجمال عبد الناصر الذي، على حد قولها، قاد بلاده إلى الهاوية بسلسلة من القرارات الخاطئة بدأت بالتأميمات التي قام بها في مطلع الستينيات. هنا ألفيت نفسي في موقفٍ صعب ولم أدرِ ماذا أقول. كنت عاجزًا عن تأييد المجلة في سخريتها، رغم أني كنت أوافقها لدرجةٍ ما على انتقادها لسياسة التأميمات والدكتاتورية، وأنقذني الرجل من حيرتي بأن قال إنه لا يطلب مني تعليقًا وإنما الإجابة على السؤال التالي: لنفترض أنك أصبحت مسئولًا عن فرعٍ كبير للشركة في أحد البلاد، وحدثت به اضطراباتٌ سياسية هددت مصالحنا، فما هو التصرف الذي تقترحه؟

كانت لحظةً صعبة لكني تخلصت ببراعة. قلت له إني سأقترح الالتزام بالوقوف إلى جانب الحق.

إجابةٌ دبلوماسية. لا أعرف إذا كانت هي التي أدت إلى تعييني. المهم أنهم أعطوني الوظيفة، وعندما انتهت الشهور الثلاثة فوجئت بهم يستكملون تدريبي في كافة الأقسام مثل الإدارة المالية والأدوية والصناعة والتحليل والتغليف والشحن.

استأجرت منزلًا جميلًا بحديقة في ضاحيةٍ راقية من بازل وانضمت زوجتي إليَّ. استمتعنا بحياتنا؛ تنس وحفلات وعطلات نهاية الأسبوع في الجبال، بل بدأت أتلقى دروسًا في الطيران، بينما كان راتبي في ازدياد، وكنا نقضي عطلاتنا في لبنان إلى أن نشبت الحرب الأهلية فصرنا نقضيها في أماكنَ مختلفة من العالم.

***

بعد ثلاث سنوات بدأت أشعر بالرغبة في الحركة، ضقت بجو سويسرا الرمادي وبالسحابة الكثيفة من الأدخنة التي تغطي سماء بازل منبعثة من مصانع کوش و«روش» وغيرهما، طلبت منهم أن يجدوا لي عملًا في الخارج فعهدوا إليَّ أن أقوم بمسحٍ شامل لسوق أمريكا الجنوبية (٢٠٠ مليون شخص يقل دخل الواحد منهم الشهري عن ٦٠ دولارًا، وعشرة ملايين عاطل) استغرق مني تسع سنوات سافرت خلالها إلى كل بلدانها ومعي زوجتي، وكانت سعيدة بالسفر ومستوى الحياة، كما أن لبنان كانت تفترسها الحرب الأهلية.

لقد حضرت عن قرب أهم الأحداث التي شهدتها أمريكا اللاتينية في العقدَين الماضيَين، فلم تنقطع صلتي بهذه القارة بعد أن انتهيت من مهمتي، بدأت بشيلي وحضرت قتل رئيسها الليندي في سبتمبر ۷۳، وبعد ثلاث عشرة سنة رأيت المتظاهرين في بناما يجرُّون دمية من القش في ملابس عسكرية تمثل رئيسها نوريجا NORIEGA ويغزُّونها في مؤخرتها بعصًا خشبية. شاهدت القسس يقودون المظاهرات التي ترفع شعاراتٍ ثورية وتهتف باسم فيدل كاسترو، لمست كيف تحارب الولايات المتحدة بارونات المخدرات لتنفرد هي بسوقها. كنت في كراكاس عاصمة فنزويلا في ١٩٨٩ عندما فرض عليها صندوق النقد الدولي خطة تقشف رفعت أسعار الطاقة بنسبة ٨٠ بالمائة والمواصلات بنسبة ٥٠ بالمائة، فثار الأهالي وخرجوا إلى الشوارع، وشاهدتهم ينهبون المحلات التجارية بينما العسكريون المدربون على حرب العصابات يحصدونهم بالمدافع الرشاشة، رأيت إسرائيل تزود سوموزا سفاح نيكاراجوا بالسلاح والخبرة، وحكام الأكوادور الدمويين بطائرات كافير وتدرب فرق الموت التي اغتالت ٤٠ ألف مواطن في سلفادور، كما تدرب الكتيبة رقم ٣١٦ التي قامت بعملٍ مماثل في هندوراس، ورأيتها تتولى الحراسة الخاصة لنوريجا بارون المخدرات ثم تشترك مع السعوديين في تمويل ودعم الكونترا المناهضة لحكومة نيكاراجوا الشرعية.

والأهم أني رأيت كيف تعمل كوش والشركات الدولية.

***

في الماضي كانت شركات البيزنيس تقصر نشاطها على مجالاتٍ ضيقةٍ محددة. صناع الصلب ينتجون صلبًا، تجار التجزئة للملابس يبيعون الملابس للجمهور، وعندما كانت شركة ترغب في التوسع، كانت تفعل ذلك في مجالها، فيبتكر صناع الصلب عمليات تصنيع جديدة، ويزيدون طاقتهم الإنتاجية ويتوسع باعة الملابس في الموديلات والتصميمات، أو يفتتحون حوانيت جديدة وبالطبع كان البعض يتوسعون عن طريق ابتياع المنافسين. ثم كان هناك أولئك الذين سعوا إلى بناء عملياتٍ متكاملة بأن يمتلكوا مصادر المواد الخام لصناعاتهم ونشاطهم، والتسهيلات الإنتاجية ومنافذ التوزيع والبيع، فمثلًا كان صناع الغذاء يتملكون المزارع من ناحية وسلاسل حوانيت البقالة من ناحيةٍ أخرى، أو العكس: تمتلك سلسلة لحوانيت البقالة مصانع التعليب أو مصانع الغذاء.

ثم تجمعت عواملُ عديدة لوقف هذا النوع من النمو أو تقييده، وخاصة القوانين المعادية للاحتكارات التي وضعها الرئيس الأمريكي روزفلت في الثلاثينيات لإنعاش الاقتصاد. حدَّت هذه القوانين من توسع الشركة في مجالها، لكن رجال البزنس لا يملُّون البحث عن مصدرٍ جديد للربح بأي ثمن، ويزعم فلاسفتهم أن هذه الخاصية بالذات هي المسئولة عن التقدم الحضاري، وسرعان ما ابتكروا مفهومًا جديدًا يسمح بتوسع لا حد له.

كلمة السر الجديدة كانت التنويع. فبوسع أي شركةٍ قابضة أن تمتلك أي عدد من الشركات العاملة في مجالاتٍ متباينة دون أن تخرق القوانين المعادية للاحتكار، فولكس فاجن مثلًا دخلت مجال اللحوم، ونستلة ضمت المخللات إلى اللبن والشيكولاتة. هذا المفهوم عبَّد الطريق لظهور ونمو شركاتٍ عملاقةٍ متعددة النشاط والجنسيات ذات إمكانياتٍ هائلة. هل يتصور أحد أن جنرال موتورز مثلًا دخلها أكبر من دخل سويسرا؟! في الأصل كانت الفكرة سليمة ومعقولة ومفيدة للبزنس والجمهور. فالإدارة المركزية غالبًا ما أدت إلى تحسين الأداء وتخفيض التكاليف. كانت الشركة الكبيرة تحصل على الشركات الأخرى مقابل أسعارٍ جيدة ثم تديرها من أجل توفير المزيد والأفضل من السلع أو الخدمات لمزيد من الناس بأسعارٍ أقل. لكن بالتدريج أصبحت عمليات الضم والإلحاق غاية في ذاتها. وظهر متخصصون في الدمج يصنعون الملايين زوجوا فيات FIAT لستروين CITROEN ودوجلاس للطائرات DOUGLAS لمكدونل MCDONNELL وبيجو لرينو، فعن طريق ضم مزيد من الشركات، أمكن للشركة الأم أن تجعل بيانات موازنتها تعكس نموًّا مطردًا وهائلًا، والنتيجة أن ترتفع أسعار أسهمها ارتفاعًا هائلًا، وهنا اكتشفت الشركات التنويعية أنها تستطيع الحصول على شركاتٍ جديدة بمبادلة أسهمها بأسهم تلك الشركات، فإذا لم تتوفر لديها أسهمٌ كافية، استعانت بإصداراتٍ جديدة، ذات أسعارٍ أعلى بفضل المحاسبين وسماسرة البورصة، فإذا فشل السهم وحده في الإغراء، قامت السيولة، المقترضة في غالبية الأحيان، بالدور.

بالطبع يصعب على المواطن العادي فهم ذلك. أنا نفسي لم أفهم ما يحدث حولي إلا بعد مدة. كانت عملية مثل القرصنة؛ يشترون الشركات الناجحة بأسهم يصدرونها خصيصًا تكون قيمتها مرتفعة بتأثير الدعاية المحيطة بالعملية، ثم يجردون الشركات من السيولة النقدية والأرصدة الصلبة. هكذا اختفت المليارات، وفقد المدخرون الصغار كل ما كان لديهم. في أمريكا بالذات، كان بوسع أي شخص أن يشتري بنكًا دون أن يستثمر مليمًا واحدًا من نقوده؛ فهو يستطيع أن يقترض المبلغ كله من مؤسساتٍ ماليةٍ ضخمة، مستخدمًا البنك الذي يريد شراءه نفسه على أنه الضامن الوحيد، وعندما يصبح مسيطرًا على البنك، يقترض منه ما يكفي لسداد القرض، فضلًا عن مبلغٍ آخر يمكن أن يبتاع به بنكًا ثانيًا. ويمكن تكرار العملية إلى ما لا نهاية، عدة بنوكٍ أخرى، وبعد ذلك تأييد مرشح للرئاسة ثم يصبح وزيرًا للمالية أو يأخذ مكافأته بأن يلغي الرئيس الجديد بعض الضرائب أو يعطيه عقدًا بسيطًا لتزويد القوات الأمريكية المحاربة في مكانٍ ما، فيتنام أو الخليج، بزجاجات المياه.

***

عرفت كل هذا بالطبع من خلال العمل مع كوش ورؤيتها وهي تلتهم السوق والشركات الأخرى، وبالذات عندما تعرضت كوش نفسها للالتهام على يد شركة التليفون والتلغراف الدولية الأمريكية ITT آي تي تي؛ فقد اختارتني الإدارة عضوًا في فريق العمل الذي تولى دراسة الاندماج.
هذه الشركة هي ثامن أكبر شركةٍ أمريكية من حيث المبيعات، تستخدم حوالي نصف مليون موظف، نصفهم في أوروبا. أخذت بعد الحرب عشرات الملايين من الدولارات من الحكومة الأمريكية تعويضًا عن تدمير المصانع والمعدات التي كانت تملكها في ألمانيا النازية، نكتةٌ حقيقية. فالشركة زودت هتلر بمصانع الأسلحة التي قتل بها الجنود الأمريكيين، وخلال الحرب ضربت الطائرات الأمريكية مصانع السلاح الألمانية، وعندما انتهت الحرب أعطتها الحكومة الأمريكية عشرات الملايين من الدولارات تعويضًا عن هذه المصانع! المهم أنها تضخمت بسرعةٍ مذهلة في الستينيات نتيجة ازدهار سوق البورصة في أعقاب تسريع الحرب الفيتنامية. وبلغت ذروتها في ۱۹۷۲ عندما ابتلعت آفيس AVIS لتأجير السيارات التي كانت تملك أكثر من مائة ألف سيارة وتعمل في مائة بلد … وشركاتٍ أخرى تشترك في أنها تحقق أرباحًا: كلية إدارة، مدرسة سكرتارية، شركات تأمين، شركة باركينج سيارات ثم موتيلات، وشركة لإعلانات السيارات، ثم شركة نشر، وبعدها شركة إذاعة. مخابز وأخشاب وأدوات كهربائية وطفايات حريق وبناء منازل وأدوات تجميل ومصابيح ومضخات وأجزاء سيارات وأغذية. إمبراطورية تمتد من طعام الكلاب إلى الترانزيستورات، ومن كريم الوجه إلى التليفونات. زبائنها وموظفوها يمكن أن يتم التأمين عليهم من المهد إلى اللحد بواسطة شركة التأمين التابعة لآي تي تي، ويقودون سياراتٍ مستأجرة منها، تقلُّهم من منازل بنتها آي تي تي إلى فندق تملكه آي تي تي.
فقبل سنوات، التفتت آي تي تي إلى صناعة الفنادق التي كانت تحقق مكاسبَ ضخمة. لم تتمكن من شراء الهوليداي إن وسبقتها شركة الطيران الأمريكية TWA إلى الهيلتون. وهنا عثرت على فندقٍ صغير في إحدى الولايات الأمريكية باسم شيراتون فاشترته ووضعت خطةً خمسية لإقامة شبكة فنادق في ۳۸ بلدًا. نوعٌ جديد من الفنادق وقتها لا توجد بها مشكلة لغة لأن عامليها يتحدثون الإنجليزية، ولا نقد لأن كل شيء ببطاقات الائتمان (تملك الشيراتون حصة في بطاقة DINERS CLUB)، ولا مشكلة نقل لأن أفيس تنتظر في الردهة. عادة ليست هناك ضرورة لمغادرة الفندق، فداخله توجد الحوانيت ومكاتب الطيران والمكتبات، وبواسطة قرص التليفون يمكن للنزيل أن يشاهد الفيلم الذي يريده وهو في فراشه، كما أن الفلكلور المحلي متوفر في مشاربها مثل النارجيلة مثلًا أو قدرة الفول. لم تكن في الواقع عمليةً مربحة، وهي الآن تفضل أن يبني الآخرون الفنادق بينما تتولى هي الإدارة وتضع اسمها.

ولأن آي تي تي كانت تبحث دائمًا عن الشركات الرابحة لتستولي على سيولتها فقد وقع بصرها على كوش، وفي نفس اللحظة بدأت متاعبها.

كانت آي تي تي قد اشترت أكبر شركة مخابز أمريكية في ١٩٦٨، مقابل ۲۷۹ مليون دولار، وهي شركةٌ ضخمة حقًّا يتنوع إنتاجها بين شيبس البطاطس والبونبوني والكيماويات. وكانت مشهورة بدعايةٍ تليفزيونية تقدمها عن منتج لها يدعى بالخبز الأعجوبة Wonder bread: يصور أطفالًا ينمون بقفزات بعد أن يأكلوا الخبز الثمين.

في أمريكا جهاز حكومي يتولى مكافحة عمليات الاحتكار في التجارة والصناعة، وكان هذا الجهاز يجمع المعلومات عن آي تي تي في محاولة لإثبات انطباق القانون على نشاطها، فشرع يستقصي حقيقة المزاعم التي تروجها شركة المخابز في إعلاناتها، وفي مارس ١٩٧١ أعلنت لجنة التجارة الفيدرالية أنها مزاعمُ كاذبة وأن الخبز العجيب لا يحتوي على غير المواد الموجودة في الخبز العادي، فماذا كانت النتيجة؟ هل أغلقوا الشركة أو فرضوا عليها غرامة؟ أبدًا، انتهى الموضوع بأن وقَّعت الشركة على تعهد بإصلاح هذا الخطأ، وفقط.

جهاز مكافحة الاحتكار يبدو مبعثًا للإعجاب كنموذج للديمقراطية الأمريكية. وشاهد على أن الرأسمالية تملك القدرة على تصحيح عيوبها، لكن الأجهزة الأمريكية لم تكن أبدًا عنيفة كما تبدو. والمواجهات الجريئة للحكومة مع البيزنيس دائمًا ما كانت تذوي بشكلٍ غامض؛ فالإدارة الأمريكية مدينة له دائمًا. كان الرئيس كينيدي KENNEDY الذي أحيط بدعايةٍ واسعة أعطته شعبية في العالم كله، من أشد أنصار الاحتكارات، وكذلك أخوه روبرت الذي كان يشغل منصب المدعي العام، وكان الأخير في صراعٍ دائم مع LEE LOEVINGER رئيس جهاز مكافحة الاحتكار؛ الذي أصبح هو نفسه بعد ذلك مستشارًا لآي تي تي! فلم تعجز آي تي تي أو الشركات المماثلة عن شراء أجدع جدع. اختار جونسون بعد ذلك رئيسًا جديدًا للجهاز هو البروفسور DTURNER DONAL الذي وضع كتابًا مشهورًا ضد الاحتكارات، لكنه أصبح أيضًا مستشارًا لآي تي تي. ودعا وزير ماليته JOHN CONNALLY صراحة إلى أن تتبنى الحكومة سياسة الاندماج بدلًا من مكافحته. وهي السياسة التي اتبعها نيكسون بعد ذلك.
انتهت مشكلة شركة المخابز. واستؤنفت الاتصالات لبيع كوش، وبدأنا نستعد للحدث القادم. وفجأة في مارس ۱۹۷۲، نشر صحفيٌّ أميركيٌّ كبير في الواشنجتون بوست هو JACK ANDERSON مقالَين أعلن فيهما عن وثائقَ سرية لآي تي تي تبين أنها خططت في ۱۹۷۰ لوقف انتخاب SALVADOR ALLENDE رئيس CHILE الماركسي. وأنها عملت بشكلٍ منتظم مع وكالة المخابرات الأمريكية لخلق فوضى اقتصادية في شيلي. كيف؟ تقوم البنوك بتأخير القروض وتتأخر الشركات في إنفاق النقود ويجري الضغط على بنوك الادخار ومؤسسات الائتمان لتغلق أبوابها ويتم سحب المعونة الفنية، وفي نفس الوقت تتضاعف القروض الموجهة إلى المؤسسة العسكرية الشيلية. ليس هذا فقط وإنما شجعت الشركة على قيام انقلابٍ عسكري وعرض رئيسها الذي ساهم من قبلُ بمبالغَ طائلة في إنجاح الرئيس نيكسون، عرض، من خلال مدير الوكالة جون مككون (الذي أصبح بعدها بسنة مديرًا ﻟ «آي تي تي»!)، تقديم مبلغ من سبعة أرقام للبيت الأبيض لهذا الغرض.
كان المقالان كافيين لإثارة البلبلة ولأن تهبط أسعار أسهم آي تي تي وتتوقف المفاوضات من جديد. لم يكن المقالان بالطبع ناتجَين عن حسن نية ولا تعبيرًا عن إخلاص للمبادئ. فهذا شيء لا يعرفه الغرب. حتى ما حدث بعد ذلك بسنة بالضبط (في مارس ۷۳)، عندما كون الكونجرس لجنة برئاسة سناتور اسمه CHURCII للتحقيق في عمليات المخابرات الأمريكية، وأحدثت ضجةً كبرى أيامها عندما أذاعت قوائم بأسماء عملاء المخابرات الأمريكية في البلدان المختلفة، ومنها مصر على ما أذكر رئيس تحرير صحيفةٍ يومية ومحرر كبير في صحيفةٍ أخرى. هذا غير كبار المسئولين، وبلغت الفضيحة ذروتها عندما ظهر مككون أمام اللجنة ليشهد بأنه انتقل من رئاسة السي آي إيه إلى آي تي تي في ١٩٦٥ وظل يعمل في وكالة المخابرات الأمريكية سرًّا في منصب مستشار، وأنه ناقش الانتخابات الشيلية مع خليفته في رئاسة المخابرات الأمريكية RICHARD HELMS وفيما بعدُ اجتمع به وبكيسينجر KISSINGER ليعرض المساعدة في إسقاط ألليندي.
المهم فشلت محاولة شراء كوش. وخرجت من التجربة بزاد من المعلومات الثمينة؛ تبينت مثلًا أن هناك مجموعة من الأسماء تدور في الحلبة الدولية مثل أوراق الكوتشينة. كأنما هناك قائمة من خمسين اسمًا يتم منها اختيار وزراء خارجية الدول الغربية ووزراء الدفاع وقادة حلف الأطلنطي وممثلي الدول الأعضاء فيه ومندوبيهم في الأمم المتحدة ومجلس الأمن ورؤساء الشركات الدولية العملاقة والبنوك … إلخ، نفس الأسماء تتكرر دائمًا ويتم تغييرها على طريقة لعبة الكراسي الموسيقية، بول هنري سباك PAUL HENRI SPAAK، النائب السابق لرئيس وزراء بلجيكا أصبح مديرًا لشركة آي تي تي ومنها إلى حلف الأطلنطي أو العكس لا أذكر، EUGENE BLACK الرئيس السابق للبنك الدولي، الذي قاد معركة السد العالي ضد مصر، أصبح رئيسًا لآي تي تي ومثله المدير السابق لوكالة المخابرات الأمريكية JOHN MCCON وروجرز، ماكنمارا، روكفلر، والتر ماندیل شولتز وهيج … كلهم … كلهم.

***

… كنت قد بدأت العمل في قسم الخامات BULK VITAMINS. لم نكن نبيع حبوبًا وكبسولات وإنما أطنان من الفيتامينات والكيماويات لفروع الشركة والزبائن الخارجيين الذين يصنعون الحبوب، أو أطنان من فيتامينات أ، د، وH، لتوضع في الدقيق أو المارجرين، وفيتامين ج للمشروبات الغازية والبيرة والنبيذ أو للعلب المحفوظة واللحوم الطازجة، أو كل الفيتامينات في الغذاء الحيواني. وكانت كوش وحدها هي التي تنتج كل الفيتامينات المعروفة، وعددها يصل إلى عشرين فيتامينًا.

إنتاج الفيتامينات يكلف كثيرًا. لهذا كانت أغلب الشركات الأخرى التي تنتج واحدًا أو اثنين من هذه الفيتامينات، تفضل أن تحصل عليها جاهزة منا بأسعارٍ منخفضة وتقوم بتعبئتها وبيعها تحت اسمها، بدلًا من إنتاجها بنفسها. وهذا ما كان يحدث طول الوقت. فخلال عملي مع الشركة أغلقت خمس شركات مصانعها واشترت منا؛ وبذلك تمكنت كوش من احتكار السوق والتلاعب بالأسعار كما تشاء.

كنا نجمع المنتجين الرئيسيين للفيتامينات والكيماويات في بازل ونناقش معهم الأسعار ونتفق على سعرٍ موحد؛ وبذلك تختفي المنافسة وتفرض على المستهلكين أسعارًا تحقق للمنتجين أرباحًا هائلة. فيتامين ج مثلًا يتكلف إنتاج الكيلو منه نصف دولار لكنه يباع بعشرة دولارات! والكيلو من فيتامين ﺑ ۲ يتكلف دولارين ويباع ﺑ ۳۳ دولارًا! فيتامين ج يتكلف دولارًا واحدًا للكيلو ويباع بستة! ومن خبرتي عرفت أنه من الممكن تقدير حجم الطلب على منتجٍ معين في السنوات القادمة، وعندئذٍ يحدد سقف للإنتاج يكون أقل قليلًا من الاحتياجات العالمية بحيث تبقى الأسعار عالية حتى ولو أدى هذا إلى ألا تعمل المصانع بكافة طاقتها.

في النهاية يجد المستهلك نفسه مجبرًا على الشراء بالسعر المطروح. فإذا جرؤت شركة على تحدي هذا السعر يمكن قتلها عن طريق تخفيض الأسعار إلى مستوى يؤدي إلى إفلاسها ثم إعادة رفعها مرةً ثانية، وبعد ذلك يأتي دور المنافذ. فيمكن الضغط على كيماويي الجملة الذين يحققون جانبًا كبيرًا من دخلهم من هذه المنتجات. وهؤلاء يملكون وسائل الضغط على الصيدليات. وهذه بدورها تتكفل بالأطباء، فإذا وصف طبيب لمريضه دواءً منافسًا منخفض الثمن، أبلغته الصيدلية أن الدواء غير متوافر فيتوقف عن وصفه.

لم تكن هذه هي كل الحيل في جعبة كوش. فلديها وسيلةٌ أخرى تكشف أكذوبة حرية المنافسة؛ تتفق مع أهم المستهلكين على أن يشتروا كافة احتياجاتهم أو على الأقل تسعين بالمائة منها من كوش مقابل أن يستعيدوا — سرًّا — في نهاية كل عام ٦ أو ١٠ بالمائة من حجم مشترياتهم «مكافأة على الإخلاص» بحيث لا يدري المنافسون بهذا التخفيض وإلا نافسوا بعمل تخفيضٍ مماثل. أطلقت كوش على هذه الوسيلة اسم «عقود الإخلاص FIDEL ITY»، وزعمت أنها تهدف لتوفير الأمان للعملاء.

***

توجد بالطبع في سويسرا قوانين تكفل حرية المنافسة، لكن سويسرا ككل الدول الرأسمالية الغربية، دولةٌ منافقة. من يطبق هذه القوانين ضد شركةٍ عملاقة يمتد نفوذها في كل مكان وتؤوي أبناء الساسة وواضعي القوانين ومنفذيها، ترعى الفن والموسيقى وتتبرع للقضايا الهامة وإسرائيل؟ بازل نفسها كانت مدينة لكوش بالكثير؛ فهي تستجلب الفرق الموسيقية لتعزف لمواطني بازل، وهي تستخدم آلافًا من سكان المدينة، كما أنها مدينة لها أيضًا بسحابة الدخان التي تغطي سماء المدينة، وتتحمل المسئولية عن ارتفاع نسبة الإصابة بالسرطان، بين سكانها.

هل توقف جشع كوش عند هذا الحد؟ أبدًا. هنا يأتي دور الفروع المنتشرة في أنحاء العالم. فهي تبيع لفرعها في إنجلترا الكيلو الخام من مسحوق ليبريوم LIBRIUM بثمن ۳۷۰ جنيهًا إسترلینيًّا بينما يمكن شراؤه في إيطاليا بتسعة جنيهات (والفاليوم VALIUM ﺑ ۹۲۲ جنیهًا إسترلینيًّا مقابل عشرين في إيطاليا)! السبب هو أن إيطاليا لم تكن بها حماية لبراءات الاختراع؛ وبالتالي يتألف ثمن المنتج من التكلفة الحقيقية زائد ربحٍ بسيط.

ولكي تتفادى دفع الضرائب أقامت فرعًا في مونتفديو بالأوروجواي حيث لا توجد ضرائب على أية أرباح تحققها، وحيث لا يوجد لها أيضًا وحداتٌ إنتاجية. ويتم تحويل الزبائن في مختلف أنحاء العالم إلى شركة مونتفيديو: فإذا كان المنتج يتكلف مثلًا ثمانية جنيهات للكيلو والسعر العالمي عشرين، فإن الزبون يشتري من فرع مونتفديو بعشرين بينما تتقاضی کوش بازل من كوش مونتفديو ثمانية جنيهات ونصف جنيه للكيلو؛ وبذلك تبدو أنها حققت نصف جنيه ربحًا في الكيلو بينما تكون كوش مونتفديو قد حصلت على الجزء الرئيسي من الربح وهو ١١ جنیهًا ونصف جنيه.

***

كنا نحن المديرين الصغار، نجتمع برئيس الشركة في قاعة اجتماعات تتسع لألفين من الجالسين، بناطحة سحاب عملاقة من الزجاج والرخام الإيطالي الفاخر ترتفع ۳۸ طابقًا. قاعةٌ دائرية تتوسطها منصةٌ مرتفعة تحيط بها صفوف من المقاعد المغطاة بلون كوش المميز وهو الأحمر الدموي، وعندما ندخل نجد أنفسنا كأننا في قاعة رقص ملكيةٍ غارقة في الأضواء الساطعة التي ما تلبث أن تخفت، بينما يأخذ الرئيس، الدكتور لاندر، مكانه على المنصة. وما إن يبدأ الحديث حتى نكون جالسين في ظلامٍ دامس بينما هو وحده يقف في دائرة من الضوء الساطع القادم من كشافات في السقف، دائمًا نفس الحديث: «حققوا مزيدًا من النقود لكوش.» «لم نبتكر شيئًا جديدًا منذ وقتٍ طويل.» «نحن نحتاج إلى مزيد من المنتجات ووسائل جديدة لكسب مزيد من النقود.»

مزيد من النقود لماذا ولأي هدف؟ تزعم كوش أنها تسعى وراء الربح من أجل دعم البحث العلمي. وهو زعم منافق أيضًا؛ فالبحث لدى كوش هو نوع من الاستثمار، سيقول البعض: وماذا في ذلك؟ إنه استثمارٌ مفيد للإنسانية، وهو منطق يمكن قبوله. سوى أن أبحاث كوش التي تنفق عليها الملايين لا تعبأ بتطوير عقاقير فعالة للأمراض المستعصية وإنما تركز على العقاقير الرائجة، التي غالبًا ما لا تكون لها فائدةٌ علميةٌ محققة.

لقد وضعت منظمة الصحة العالمية قائمة للأدوية الأساسية الضرورية وتضم ۲۰۰ دواء فقط رخيصة الثمن، لكن السوق به عشرات الألوف من الأدوية، وتنفق الشركات ٢٠ بالمائة من المبيعات لإقناع الأطباء بأفضلية منتجاتها، ومن ناحيةٍ أخرى فإن ما تنفقه الهند على الدواء يكفي لمد المياه النقية إلى سكان الريف؛ أي لاجتثاث أمراض الدوسنطاريا والكوليرا والتيفويد والإسهال التي تلتهم أكبر نصيب من الدواء.

لنأخذ حالة طفل أصيب بالإسهال في قرية من قرى الصعيد. غالبًا ما يكون السبب هو الماء الملوث أو زجاجات الرضاعة الملوثة. ستذهب أمه إلى أقرب صيدلية فيوصي البائع عادة بالمضادات الحيوية: تتراسكلين وكلورا مفينيكول وواحد أو أكثر من مضادات الإسهال مثل الميكسافورم MEXAFORM. لكن في بريطانيا مثلًا لا يمكن وصف التتراسكلين TETRACYCLINE لحالة إسهال إلا إذا شُخِّصت على أنها كوليرا، ولا يمكن إعطاؤه لطفل تحت ١٢ سنة بحال واستحالة للرضع؛ لأنه يمكن أن يعوق النمو وتكوين الأسنان. كما أن الكلورامفينيكول chloramphenicol لا يعطى إلا للتيفويد والعدوى الشديدة التي فشلت المضادات الحيوية الأخرى في علاجها؛ لأنه يمكن أن يسبب أمراضًا في الدم، أما الميكسافورم فغير موجود في السوق البريطانية إذ ثبت أن عنصره الأساسي الكليوكينول CLIOQUINOL يسبب دمارًا لا يمكن علاجه للجهاز العصبي. نفس الشيء ينطبق على مضادات مثل ستربتوميسين STREPTOMYCINE ونیوماسین NEOMYCINE وسلفونامید SULPHONAMIDE. مات ملايين الأطفال في العالم قبل أن يقتنع الجميع بأن أعظم مضادٍ حيوي في العالم لن ينقذ الطفل، بل ربما قتله؛ لأنه يدمر البكتيريا الطبيعية في الأمعاء، لكن الأم تستطيع إنقاذه بكوب ماءٍ مغلي وملعقة من السكر وملء أصبعين من الملح.
أغلب الأدوية المتاحة لا قيمة لها، والمستوردون والصيادلة في بلدان العالم الثالث يفضلون التعامل في الأدوية الأجنبية الغالية ولا يحفلون بتوفير الأدوية الأساسية الرخيصة بسبب هامش الربح الضئيل، روش مثلًا، المنافس الأكبر لكوش، تبيع بنجاح ريدوكسون REDOXON في المكسيك: الميكسيكيون يستطيعون الحصول على حاجتهم من فيتامين ج بشراء البرتقال وهو أرخص عشر مرات! كما تبيع هناك أيضًا باكتريم BACTRIM بثمن مائة بيضة للعشرين قرصًا ونفس العقار متوفر باسمٍ آخر من إنتاج شركةٍ أخرى بأقل من نصف الثمن. لكن الناس تُقبل على الأول بسبب الدعاية.

سعر كبسولة التتراسيكلين في الفيليبين أعلى ٨ مرات من سعرها في الولايات المتحدة، غريبة. مش كده؟ المفروض العكس، لكن هذه هي الحقيقة. الفقراء يدفعون أكثر.

تزعم النشرة المرفقة بدواء تنتجه شركة جلاكسو البريطانية، موجهة إلى المهن الطبية، أنه «يمكن أن يشجع عمليات النمو، وينشط الطاقة البدنية واليقظة والحالة الصحية العامة.» لكن الشركة لا توزعه في بريطانيا وإنما على حد تعبیر مديرها «في بلاد معينة عبر البحار حيث تختلف المفاهيم الطبية والعلاجية لدى الأطباء والصيادلة والجمهور عن مفاهيمنا!»

اختلاف المفاهيم؛ أي إنه يمكن إقناع أي فلاح في بلدٍ متخلف مثل بلدنا بأن يشتري دواء معينًا إذا قلت له إنه يقوي «العصب»، وهي كلمة لا معنى لها طبيًّا.

منذ أكثر من عشر سنوات أعلنت شركة ميرك MERCK الأمريكية خطة إنتاج جاء بها «هدفنا الوصول إلى ٧٥ بالمائة من نصيب السوق … ويمكننا الحصول على نتائجَ بارزة بالتأثير في السوق.» ما معنى التأثير في السوق؟ تقول الخطة أيضًا بصريح العبارة «الخطر الرئيسي على البيع هو أن تقوم حكومة ما بحظر استيراد أحد مستحضراتنا؛ لهذا يجب الاحتفاظ بعلاقاتٍ جيدة مع المسئولين في وزارات الصحة والتجارة لضمان استيراد منتجاتنا.»

لقد رأيت فقرًا شديدًا في العالم ورأيت الناس عاجزين عن شراء الفيتامينات والأدوية. ورأيت كيف أن كوش عندما سمعت بنبأ انتشار وباء إنفلونزا في الهند بدلًا من أن تنتج كميات أكبر من فيتامين ج وتخفض السعر، قللت حجم الكميات الذاهبة إلى السوق وزادت الأسعار. وفي نفس الوقت لم تطور شركةٌ واحدة دواءً جديد للتدرن الرئوي منذ عام ١٩٦٦ بسبب اعتقادها أن هذا المرض لا يصيب البلدان المتقدمة؛ وبالتالي لا يدرُّ علاجه ربحًا!

عشرون عامًا تقريبًا من العمل مع كوش كشفت لي الحقيقة المرة، ليس عن كوش وحدها وإنما عن عالم الدواء العالمي أيضًا. وبينت لي ما كنت أجهله ولا يخطر لي على بال: إن نفاق الغرب لا حدَّ له! (ألم تصدر الأمم المتحدة التي يسيطرون عليها ۱۹۲ قرارًا ضد إسرائيل لم تنفذ منها واحدًا، بينما يرغموننا نحن على التنفيذ بكل احترام؟).

هل يعرف أحد أن حكومات إنجلترا وفرنسا وسويسرا تعفي صادرات الأدوية من الرقابة على السلامة والنوعية والجودة وهي الرقابة المفروضة محليًّا على أي دواءٍ جديد قبل الترخيص بتوزيعه؟ وأن هيئة الغذاء والدواء في أمريكا تسمح بتصدير الأدوية التي انتهى تاريخ مفعولها أو غير مسجلة نهائيًّا تحت عنوان «استقصاء»؛ لتجربتها على الشعوب الأخرى؟

ولا يقف الأمر عند هذا الحد؛ فدواء لوموتيل LOMOTIL مثلًا المضاد للإسهال يستخدم في أمريكا تحت تحذيراتٍ مشددة بالنسبة للجرعة؛ لأن تجاوزها ولو بقدرٍ طفيف يؤدي للوفاة، لكنهم صدَّروه إلى السودان في عبوات كُتب عليها «هذا الدواء استعمله رواد الفضاء في رحلات جيمني وأبولو»، ويمكن استخدامه للأطفال من عمر عامٍ واحد! المضاد الحيوي كلوروميستسين CHLOROMYCTICINE مُنع في أمريكا وبِيع في المكسيك وتسبب في وفاة ٢٠ ألف شخص. عقار ديبوبروفيرا DEPO-PROVERA لمنع الحمل منع في أمريكا بسبب إحداثه تشوهات في الأجنة وأمراضًا سرطانية لحيوانات المختبر، لكنه ما زال يباع في ٧٠ دولة من العالم الثالث.

أذكر أني حضرت مؤتمرًا للسكان في طوكيو عام ١٩٧٧، ووقف مندوب الوكالة الأمريكية للتنمية يدافع عن حبوب لمنع الحمل ثبت أنها تؤدي إلى تضخم الثدي. قال بكل صفاقة إن هذه الحبوب، تجعل ثدي المرأة أكثر جمالًا وتفيد الجميع بما في ذلك صانعو الأحجام الكبيرة من السوتيانات!

لو أحصيت الأدوية الضارة التي تباع في بلادنا أو البلاد المماثلة لنا بينما هي محرمة في بلدها الأصلي سأحتاج إلى كشكولٍ كامل. عقار رونیسترول الذي ثبت أنه يعوق النمو في الأطفال يباع في البرازيل على أنه فاتح لشهية الأطفال، دهان فرامیکرون FRAMYCORT من شركة فيزون FISONS يحتوي على نيوميسين سلفات NEOMYCIN SULPHATE في بنجلاديش لكنه في بريطانيا يحتوى على FRMYCETIN SULPHATE فراميستين سلفات بسبب الآثار الجانبية الخطيرة للنيوميسين. فاليوم روش الذي توزعه في تايلاند لا يحمل التحذيرات والآثار الجانبية الموجودة على الدواء الذي توزعه في أوروبا أو أمريكا. عقار بتنيلان BETNILAN من جلاسكو GLAXO الموزع في بنجلاديش تؤكد نشرته أنه فعال في علاج الروماتويد RHEUMATOID لكنها لا تشمل التحذير الذي يوزع في بريطانيا عن ضرورة استخدام أقل جرعة ممكنة وأن الجرعات يجب تخفيفها بالتدريج، الأكثر من هذا أن الجرعة الموصوفة في بريطانيا تتراوح بين نصف ملجم واثنين يوميًّا، وهي في بنجلاديش ثلاثة ملجم! مبيد الفوسفيل الممنوع دوليًّا سُمح بتصديره إلى مصر وتسبب سنة ١٩٧١ في نفوق ۱۳۰۰ جاموسة! … القائمة طويلة.

***

هناك أكثر من عشرين ألف شخص يموتون سنويًّا في العالم الثالث من جراء استخدام المبيدات الحشرية التي لم يعد الغرب يستخدمها على نطاقٍ واسع. جهل السكان هو السبب كما يقال؟ أبدًا. بدليل هذه القصة التي وقعت في مصر دونًا عن أي بلاد الدنيا.

في ١٩٧٨، وكنت وقتها في فنزويلا، أعلنت مجلة دير شبيجيل الألمانية أن شركة سيبا جايجي CIBA GEIGY السويسرية للأدوية، قامت بتجربة المبيد الحشري جاليكرون GALYCRONE على أطفالٍ وشبانٍ مصريين بعد أن ثبت أنه يسبب أمراضًا سرطانية لفئران التجارب وأن تقريرًا أمريكيًّا سجل ظهور نزيفٍ دموي في بول الفلاحين في نفس اليوم الذي استخدم فيه المبيد. وفي أعقاب نشر النبأ أصدرت الشركة بيانًا اعترفت فيه بأن «بعض الأطفال المصريين أصيبوا بالسرطان نتيجة استخدام مبيد جاليكرون عام ١٩٧٦». وكان رد فعل السلطات المصرية مضحكًا فقد أعلنت وزارة الصحة أنها لا تسمح بإجراء تجارب على أي مواطن تعرض حياته للخطر، وأن تجارب استخدام الجاليكرون كانت على دودة القطن وليس على المواطنين! ونفت أن تكون أية آثار ظهرت على المواطنين، والأدهى من ذلك أنها دافعت عن المبيد وأكدت أن الأبحاث الجديدة عليه أكدت خلوه من الآثار الضارة على الحيوان والإنسان؛ ولهذا أعيد تسجيله في قائمة المبيدات المسموح بتداولها في مصر. أما ممثل الشركة في القاهرة فاعترف بأن المبيد سبَّب «بعض المتاعب الصحية» للأطفال المصريين بسبب جريهم في الحقول وراء طائرات الرش ونفى أن تكون حدثت إصاباتٌ سرطانية.

من ساعتها بدأتُ أتساءل: الأمراض والتشوهات الخلقية التي أصابت الأبرياء من ملايين الفقراء في أفريقيا وآسيا نتيجة التجارب الكيماوية التي تقوم بها الشركات الغربية، كيف تعوض؟

***

كنت أتردد على القاهرة عندما تسمح الظروف؛ أي أكون في طريقي من بلد إلى آخر. هناك شيءٌ مثير في أن يفطر الواحد في أمستردام ثم يمكنه بعد ذلك أن يتناول طعام الغداء في فندق سميراميس وسط القاهرة، وجئت خصيصًا مرتين؛ الأولى عندما مرض أبي وأشرف على الموت، والثانية عندما ماتت أمي بعده مباشرة. وكانت المناظر التي تطالعني تملؤني بالأسى والنفور، ويصدمني وسط البلد بالقبح والتراب، أذكر حانوتًا كبيرًا للأحذية على ناصية شارعَي شريف وقصر النيل تفنن في عمل ديكور لواجهته فأحاطها بحدوةٍ هائلةٍ سوداء اللون من الخشب أو الكاوتشوك لا أدري. كانت بشعة. وعندما بدأ الانفتاح أملت أن يؤدي إلى تنشيط الاقتصاد وتحديث البلد.

على العموم أنا كنت أعيش في أماكنَ مشابهة أثناء تنقلي في أمريكا اللاتينية، فلم أشعر بالغربة أبدًا، وخصوصًا عندما استقر بي الأمر في المكسيك.

كنت اقترحت على الشركة إقامة مصنع فيها للاستفادة من تخفيض العملة وضآلة الأجور، فعرضوا عليَّ أن أتولى المهمة. قضيت فيها تسع سنوات من ۸٢ حتى حرب الخليج، أعتبرها أهم فترة في حياتي.

***

المكسيك أمم ولغات … قرابة التسعين مليونًا … وعاصمتها ستصبح قريبًا أكبر مدن العالم، يسكنها الآن ١٦ مليونًا أو أكثر، الزحام والمواصلات والضجة والوجوه المتجهمة. كل شيء يشعرك أنك في القاهرة؛ الأهرامات! نعم، عندهم أهراماتهم، والقصور الجديدة التي يملكها أهل البيزنيس ومهربو المخدرات والمتقاعدون من الساسة وقادة الشرطة، بينما تتكوم عائلاتٌ مكونة من خمسة أشخاص وأكثر في غرفة واحدة، ثلث سكان العاصمة بهذا الشكل. والتلوث … كل يوم ١١ ألف طن من العادم في الهواء. إذا خرجت من السيارة لبضع دقائق يسودُّ قميصي ووجهي، الشوارع الجانبية حية ومزدحمة طول الوقت … حوانيت الميكانيكية والسمكرية في كل مكان، حوادث السيارات كل يوم، عشش الصفيح، كأنك في القاهرة. فارقٌ واحد يتضح على الفور؛ فعلى عكس القاهرة المؤدبة المستكينة، المظاهرات هناك كل يوم؛ مظاهرات تهتف لكاسترو أو للحمر، وهم السكان الأصليون، ومظاهرات ضد الجوع وضد الاعتقالات.

المكسيك أيضًا جنة للسائح الذي معه دولارات. في سنة ٧٦ خفضت الحكومة قيمة العملة إلى النصف لسداد ۲۰ مليار دولار سبق أن استدانتها من أجل التنمية؛ الفكرة أن التخفيض سيؤدي إلى تخفيض قيمة الصادرات بالنسبة للدولار وبالتالي زيادة حجمها. ومن حصيلتها يمكن تسديد الديون. هذه هي وجهة نظر صندوق النقد وأنصار التخفيض، أما الواقع فمختلف. المضحك هو أن الديون التي تم التخفيض بزعم تسديدها جاء أغلبها من أمريكا وتولى رجال الحكومة والصناعة تهريبها إلى أمريكا مرةً أخرى في صورة استثمارات خاصة لهم دون تنمية أو دياولو.

في البداية نزلنا في شقةٍ فندقيةٍ كبيرة كانت تكلفني أقل من عشرة دولارات في اليوم، ثم ابتعتُ (أو على الأصح ابتاعت لي الشركة) شقةً كبيرة في الطابق السابع عشر من مبنًى حديث، وأصبح لديَّ ثلاث غرف نوم وصالتا استقبال وثلاث حمامات وغرفة للخادمة وحمام لها ومطبخ ومصعدان يصلان مباشرة إلى شقتي، كان أغلب السكان الآخرين من الدبلوماسيين ورجال الأعمال مثلي، وأثثنا منزلنا مثلهم من حانوتٍ مخصص للصفوة، لا بد من أن يدق الواحد جرسًا ويتم فحصه أولًا من خلال عينٍ سحرية قبل أن يسمحوا له بالدخول والشراء. وكان عندنا طباخ وخادمات وسيارة «موستانج» لها سقف من الفينيل. وقررنا أن الوقت قد حان لإنجاب الأطفال، أحببت المعيشة هناك، وأن يكون لديَّ منزلٌ كبير وسيارة بسائقها، وأن ألعب الجولف وأمارس رياضة القوارب. وتجاهلت عن عمد البون الشاسع بين حياتي وحياة الأهالي.

كانت سعادتنا مرتبطة بقبول النظام الاجتماعي الذي نعيش داخله، وفي ذلك الوقت لم أهتم بالتفكير في عدالته. كان مرتبي الرسمي مثلًا في ارتفاعٍ مستمر؛ ومع ذلك كنت أحصل على أكثر منه بكثير؛ كنت أقبض راتبًا مضاعفًا في يونيو وثلاثة أضعاف في ديسمبر؛ والهدف من ذلك هو مكافأة العاملين من خلف ظهر زملائهم. فالجميع كانوا يعرفون بشكلٍ رسمي أن لهذه الوظيفة مثلًا راتبًا شهريًّا معينًا، لكنهم لا يعرفون كم عدد المرات يتقاضى فيها الموظف هذا الراتب، وهذا المبدأ هو المطبق في دفع رواتب العاملين في الخارج، لكن بهدفٍ آخر هو الإبقاء على المستوى المنخفض للأجور في البلدان النامية. فعندما اتفقت مع الشركة على مستوى راتبي كمدير في المكسيك، قامت بتحديد المقدار الذي سيدفع لي فعلًا بها والمقدار الذي سيوضع لي بحسابي السويسري في بازل. ثم أخطرت المحاسب المكسيكي بالمبلغ الذي سيدفع لي في المكسيك وحدها، وهو الذي سأعلنه وأسدد عنه الضرائب، أما المبلغ الموجود في البنك السويسري فلن يعلن عنه في سويسرا ولن أسدد عنه أية ضرائب في أي مكان.

أرادت كوش أن تخفي عن العاملين المحليين لديها في البلاد الأخرى مقدار ما يحصل عليه زملاؤهم العاملون بعقودٍ أجنبية؛ فالفارق بين ما كنت أتقاضاه وبين ما يتقاضاه الكيمائي المكسيكي الذي يعمل عندي يبدو في الظاهر الفارق الطبيعي بين وظيفته ووظيفة المدير، فلو أدركوا أني في الواقع أتقاضي ضعف ذلك المبلغ وأنه يمثل قيمة السوق الغربية الحقيقية لهذه الوظيفة لحدثت ثورة؛ لأنهم يحملون نفس مؤهلاتي بالضبط. النساء اللاتي كن يعملن في قسم التغليف والتعبئة كن يتقاضين مقابل العمل من الثامنة صباحًا إلى الخامسة بعد الظهر أقل مما أعطيه لخادماتي.

***

نجحتُ؛ المكسيك بها كتلةٌ رئيسية من السكان لا تملك قوةً شرائية وتعيش على حافة الفقر، ومع ذلك تمكنتُ خلال ثلاث سنوات من تحقيق مبيعات مقدارها ١٥ مليون فرنك سويسري، وكان لديَّ مائتا موظف.

في البداية كنت مثل السواح تمامًا، رحلات في أنحاء البلاد حيث الطبيعة الوحشية المتنوعة. ذهبت إلى ACAPULCO التي حولتها قروض البنك الدولي من قرية صيادين إلى جنةٍ سياحية للأثرياء، حيث يمكن للواحد في فندق البريزيدنتي IL PRESIDENTI أن يشرب كأسًا من النبيذ وهو داخل حمام السباحة … تفرجت على مصارعة الثيران، وجربت رياضة تسلق الجبال، استمتعت بألوان الطعام والفنون … الأسماك المشوية في ورق الموز، التورتيلا وفاكهة البابايا والموسيقى الشعبية ولوحات ريفيرا وسيكورس العملاقة وآثار حضارة الأزتيك الرفيعة في وسط البلاد والمايا في جنوبها، شعب المايا من الشعوب المتميزة في تاريخ البشرية، قبل الميلاد بخمسمائة سنة كان أبناؤه يعرفون الكتابة ولديهم تقويم، وكانت مدنهم تقوم على مجتمعاتٍ منظمة على درجةٍ عالية من التكنولوجيا والعمارة والنحت والرسم والتجارة.

شيئًا فشيئًا ازددت معرفة بالتاريخ المأساوي لهذا البلد الجميل؛ في سنة ۱٥۲۰ غزاه الإسبان، ونجحوا خلال عقدٍ واحد في تدمير ثلاث حضاراتٍ متجاورة: الأزتيك والمايا والإنكا، وتم ذلك تحت راية المسيح مثلما تم الفتح العربي لمصر تحت راية الإسلام. أقنعوا الأهالي بمسيحٍ أشقر، وظهرت العذراء لأحد الهنود وطلبت أن تُبني لها كنيسة في مكان ظهورها، وطبعت صورتها على ردائه، ولم يبخل سفاح الغزو الإسباني كورتيز بالتبرعات لبناء كنيسة سانت فرانسيس لتصبح مركز نشر الكاثوليكية في أمريكا، بينما كان يقود، بوحشيةٍ نادرة المثال، عملية نهب الذهب المكوَّم في المعابد، فلم يكن المساكين من أبناء هذه الحضارات يعرفون له فائدةً عملية … التاريخ غريب حقًّا. فوق أكوام من الجثث وأنهار من الدماء ولدت الحضارة الرأسمالية؛ فقد ساهم هذا الذهب في تمويل رحلاتٍ استكشافية وحملاتٍ استعمارية وابتكاراتٍ صناعية، ودامت السيطرة الإسبانية ثلاثة قرون، وهذا وجه شبه أيضًا معنا؛ فقد جثم الأتراك على صدورنا نفس المدة وحوالي نفس التاريخ، وقبلهم مكث الصليبيون الأوروبيون نفس المدة.

أوجه الشبه كثيرة كما قلت. في العاصمة يوجد هرم CUICUILCO المستدير الذي بني منذ أربعة آلاف سنة، وفي مدينة CHOLULA المقدسة أكبر هرم في العالم وهو في حقيقته عبارة عن سبعة أهرامات فوق بعضها، بُنيت فوق بعضها في عصورٍ مختلفة. لكن التاريخ الحديث لبلدينا حافل بأوجه التماثل أيضًا، من الثورات الفاشلة حتى صندوق النقد الدولي.
في سنوات مراهقتي رأيت فيلمًا أمريكيًّا باسم «فيفا زاباتا»، كان EMILIANO ZAPATA أحد الذين تزعموا فلاحي المكسيك في عشرينيات هذا القرن، هاجموا الأغنياء وصادروا أراضيهم ثم وزعوها على المعدمين. الآن في المطاعم الفاخرة والحفلات يأكل الميكسيكيون المحترمون على صوت موسيقى شعبية تعزفها فرقة من العواجيز، يرتدي أفرادها الملابس الشهيرة التي كانت تميز زاباتا ورجاله؛ رداءٌ أبيض اللون من سترة على شكل القميص، وسروال يُربط بخيط عند خاصرة القدم أو الكاحل، وقبعةٌ عريضة من القش لها قمةٌ مخروطية، وشريط من الطلقات النارية فوق الصدر أو شريطان متعانقان فوق البطن، وأخيرًا البندقية الخشبية القديمة، هذا هو ما تبقى من الثورة.

أما صندوق النقد الدولي فله قصةٌ أخرى.

***

في الولايات المجاورة للعاصمة المكسيكية رأيت مشهدًا نادرًا يتكرر كل شتاء؛ بلايين الفراشات تهاجر من الولايات المتحدة وكندا بحثًا عن الدفء والطعام فتستقر وسط المكسيك. وتختفي الأشجار تحت كثافة جموعها، وغالبًا ما تنقصف أغصانها نتيجة ذلك. وعندما يأتي الربيع تعود إلى مواطنها بعد أن تترك بيضها فوق الأشجار ليفقس ويتغذى على راحته.

هذا هو الدور الذي تقوم به المكسيك بالنسبة لجيرانها الأغنياء في الشمال على مدار العام، لقد تحولت الزراعة من الإنتاج المحلي (الذرة والقمح) إلى الإنتاج من أجل التصدير (البصل والخيار والطماطم والأسبرجس والفراولة). والنتيجة أن المكسيك تجد نفسها مضطرة للاستدانة من أجل الحصول على القمح والذرة؛ لأن الناس لا يمكن أن تغمس الجبن بالفراولة (التي تعجز عن شرائها لارتفاع سعرها). وتكتمل الدائرة الخبيثة إذا عرفنا أن ٥٦ بالمائة من الفواكه والخضراوات المنتجة للتصدير في أمريكا الوسطى تلقى حرفيًّا في الزبالة؛ لأنها إما تواجه سوقًا متخمة في الولايات المتحدة، أو لا تستوفي المعايير الجمالية للمستهلكين هناك! كما أن الأرض التي يحصل عليها المستثمرون بثمنٍ رخيص يستخدمونها بصورةٍ رخيصة تؤدي إلى استنزافها باستخدامٍ مدمر للري والمبيدات، لكن الشركات الزراعية تدرك أن بإمكانها الانتقال إلى أراضٍ جديدة أو حتى إلى بلدٍ آخر حيث يمكن بدء العملية برمَّتها من جديد!

***

في وادي ثامورا رأيت مشهدًا مثيرًا من نوعٍ آخر. في البلدة التي تحمل هذا الاسم مائة ألف من السكان وتأتي آلافٌ أخرى إلى الوادي بحثًا عن عمل، وينامون في الطرقات؛ حيث تمثل نفقات المواصلات بالنسبة للبعض ٣٠ بالمائة من الأجر اليومي إذا وجدوا عملًا. ويعيش أكثر من ثلاثة أرباع السكان في أحياء من الكرتون تطوق البلدة بعرض نصف ميل بلا مرافقَ صحية ولا مياهٍ جارية والقليل من الكهرباء. وهناك أيضًا قصور يملكها مليونيرات الفراولة.

شاهدت خمسة آلاف باحث عن العمل محتشدين من الخامسة صباحًا بجوار محطة القطار. وفي حراسة عسكريين مسلحين بالبنادق نصف الآلية كانوا ينتظرون مجيء مندوبي الشركات في الشاحنات لينتقوا بضع مئات من العمال يتقاضون أقل من الحد الأدنى القانوني للأجر وهو ثلاثة دولارات يوميًّا، ويقنع النساء والأطفال بثلثي هذا المبلغ.

***

رغم مظاهر الفقر الشديد المحيطة بي كانت هناك أيضًا مظاهر ازدهار اقتصادي لا ينكر لم أرها في كوبا أو دول الكتلة السوفييتية التي مررت بها في زیاراتٍ عابرة؛ فالواردات الأجنبية في كل مكان. نجحت الخطة الأمريكية التي رعاها البنك الدولي لخلق طبقةٍ متوسطة متلهفة على شراء الواردات من أمريكا بالطبع. انهالت القروض من البنوك التي تجمعت فيها أموال النفط العربي بعد ٧٣، وصار البنك الدولي في كل مناسبة يستشهد بالمكسيك ليدلل على نجاح مفهومه للتنمية، أما الأزمة التي ظهرت سنة ٧٦ فقد حلَّتها الحكومة كما ذكرت من قبلُ بتخفيض العملة. لهذا فإن ما حدث عام ۱۹۸۲ جاء مفاجأة؛ أعلنت المكسيك فجأة ودون مقدمات عجزها عن تسديد ديونها الخارجية لأكثر من ٥٠٠ بنك.

قضيت يوم الإعلان كله بمكتبي، ولم أغادره إلا في ساعةٍ مبكرة من صباح اليوم التالي. كنا نتدارس تأثير القرار على عمليات الشركة في المكسيك. وظل المركز الرئيسي في بازل على اتصال بنا. كان هناك قلقٌ عظيم بسبب ضخامة استثماراتنا، كما كنا نريد أن نعرف كيف نستفيد، وما لبث الاطمئنان أن عاد إلينا؛ فقد تقدمت أمريكا بخطة تقوم على تكرار الروشتة السابقة التي أودت باقتصاد المكسيك؛ تخفيض مجمل قيمة الديون مقابل التزام المكسيك بالعودة لتسديدها عن طريقَين: الأول هو الاقتراض من جديد والثاني بيع الموارد المحلية؛ أي الصناعات والأراضي والغابات، بأثمانٍ زهيدة للمستثمرين الأجانب والمحليين.

تدفقت الاستثمارات مرةً أخرى. وخرجنا من هذه العملية بنصيب الأسد؛ إذ اشترينا عديدًا من شركات الدواء الصغيرة والصيدليات، بل وبعض مؤسسات العلف الحيواني وشركاتٍ أخرى بأثمانٍ زهيدة للغاية، كنت أبعث بتلكس إلى بازل ذاكرًا مواصفات الشركة المعروضة للبيع، وكان الرد دائمًا كلمة واحدة: اشترِ.

طبعًا لم نعبأ بالمظاهرات التي عمت البلاد، اليسار تحرك ورفع شعار «لا لبيع المؤسسات العامة» … وتجمعت قواه خلف مرشحٍ واحد للرئاسة كان معروفًا بعدائه لسياسة الخصخصة وأوشك على الانتصار في انتخابات ۸۸. لكن النتيجة زُيفت وجاء إلى الحكم منافسه ساليناس. كان معروفًا بأنه من رجال الصندوق، وكان شديد الدهاء، لم يستخدم تعبير الخصخصة وإنما ابتكر تعبيرًا جديدًا هو «فك الشركات». وتمت هذه العملية بهدوءٍ شديد.

شهدت فترة ساليناس ازدياد نفوذ تجار ومهربي المخدرات، وأصبحت المكسيك منتجًا كبيرًا للماريجوانا والهيروين، عصاباتٌ كبرى تخصصت في الترويج والتهريب معتمدة على رشوة رجال الشرطة والجيش والحكومة. كان التهريب يتم بواسطة مركباتٍ عسكرية خاصة بالقوات البحرية المكسيكية تدعمها مدفعيةٌ مضادة للطائرات. وبلغت ثروة ساليناس ٥٠٠ مليون دولار في بنوك الخارج، طبعًا مبلغٌ صغير بالمقاييس المصرية. كما قلتُ أوجه الشبه معنا كثيرة.

***

انفجرت فقاعة الازدهار في ١٩٩٤ وللمرة الثالثة أعلنت المكسيك عجزها عن تسديد ديونها، وأجرت تخفيضًا جديدًا للعملة. وفي لحظةٍ واحدة ارتفعت قيمة الدولارات لدى المستثمر الأجنبي؛ إذ بدأت أسعار السلع المكسيكية بالدولار تنخفض يومًا بعد يوم، وفي نفس الوقت ارتفعت أسعار نفس السلع بالبيسو، العملة المحلية، دون أن تتحرك الأجور.

كنت قد عدت إلى مصر فتابعت منها التطورات. سارعت الولايات المتحدة بترتيب صفقة إنقاذ من عدة قروض بلغت خمسين مليارًا من الدولارات قدمتها هي وصندوق النقد الدولي وبنوكٌ أخرى مقابل أن تودع المكسيك كل عائداتها من النفط والمنتجات البتروكيماوية لدى البنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك تحت السيطرة الفعلية للولايات المتحدة بحيث تصادر فورًا إذا توقفت عن سداد ديونها. فضلًا عن تقريرٍ أسبوعيٍّ مفصَّل عن الوضع الاقتصادي تقدمه المكسيك للدائنين. مع الالتزام بتقليص الإنفاق على الخدمات الاجتماعية والصحية وغيرها.

علقت صحيفة «الموند ديبلوماتيك» الفرنسية على هذه العملية بقولها: خمسون مليارًا من الدولارات مقابل الاستيلاء على تسعين مليون إنسان؛ أي على آلاف الملايين من ساعات العمل المعروضة في سوق أقرب إلى أسواق الرقيق.

***

حرب الخليج دراما أخرى لا تقل عن الزلازل الطبيعية والاقتصادية التي عصفت بالمكسيك، كشفت لي عقم الوضع العربي كما أكدت لي نفاق الغرب. ربما لا يعرف الكثير عن وحشية صدام حسين وساديته والجرائم التي ارتكبها في حق العراقيين؛ العرب منهم والأكراد. في سنة ٧٩ وفي اجتماع لزملائه في قيادة حزب البعث أمسك برأس صديقه عدنان وجعل يخبطه في الحائط حتى تفجر منه الدم، لقد رأيت جانبًا من هذا الاجتماع في فيلم فيديو أذاعته سي إن إن: صدام في بذلةٍ بيضاء جالسًا خلف منصةٍ مرتفعة مطلًّا على قاعة امتلأت بالجالسين وينادي اسمًا وراء اسم فيصيح الواحد منهم: «والله العظيم أنا مو خاين سیدي.» لكنهم يقتادونه للإعدام. في السنة التي جرت فيها انتخابات الرئاسة المكسيكية ضرب ۷۰ ألف مواطن في بلدةٍ كردية بقذائفَ مدفعيةٍ محشوة بغاز سيانيد الهيدروجين القاتل، هذه عينة فقط من جرائمه لكن ما فعله الأمريكان بالعراق كان أشبه بفيلم من أفلام الرعب؛ مائة ألف طلعة جوية على بغداد والمدن الرئيسية أعادت العراق إلى عهد ما قبل التصنيع، حطموا عن عمد البنية التحتية للاقتصاد العراقي؛ نظام توليد الطاقة الكهربائية ومصافي النفط والمصانع الكبرى والطرق والجسور وخطوط التليفون والتلغراف، جملة الخسائر التي أحدثوها قدرت بأكثر من ۲۰۰ مليار دولار.

عندما انتهت الحرب وعادت الكويت لأهلها قررتُ أنا العودة إلى مصر. كانت الفكرة تراودني منذ بعض الوقت. وسبق أن طلبت من كوش بحث إمكانية نقلي إلى مصر، كان الرد وقتها سلبيًّا بسبب صغر حجم عمليتها هناك؛ إذ كانت صناعة الدواء الوطنية توفر ٩٣ بالمائة من احتياجات الاستهلاك المحلي. وفي سنة ١٩٩٠ وقع ما يشبه الانقلاب في حياة كوش الداخلية مبعثه أن أكثر من سبعين بلدًا بدأت تنفذ برامج خصخصة وتبيع مؤسسات دولة بمقدار ١٨٥ مليون دولار (نتيجة أعباء ديون القطاع العام و٢٠ سنة من الإدارة الفاشلة) … وبدأت كوش تخطط لتوسيع عملياتها، خلال ذلك تضاعف شعوري بالملل وعدم الاستقرار، مللت الحديث طول الوقت بالإنجليزية والإسبانية ومع زوجتي بالفرنسية، ولم تعد مباريات الجولف تغريني ولا تغيير السيارة، كنت أعيش في أعلى مستوًى أنا وأسرتي، لا ينقصني شيء. ومع ذلك وجدتني أتطلع حولي في غربةٍ كاملة بالرغم من «روزالينا».

روزالينا كانت سكرتيرتي، سمراء خمرية ذات ملامحَ إسبانية، كانت قصيرة القامة ممتلئة الجسم، تبرز الجوبات القصيرة جمال فخذيها. وعندما كنت أمرُّ بها وهي جالسة خلف مكتبها كنت ألمح دائمًا كيلوتها الأبيض، وربما كان ذلك هو السبب في العلاقة التي نشأت بيننا، وربما كان الأمر راجعًا إلى البرودة التي تسللت إلى فراشي الزوجي، لكن المؤكد أني أغرمت بها بعض الوقت. أعجبني فيها حيويتها وسرعة انفعالها وتلويحها بيديها أثناء الحديث (على العكس من زوجتي البيضاء الرصينة)، وكانت تعيش بمفردها مع طفل من زوجٍ سابق.

ربما كنت أمرُّ بما يسمى بأزمة منتصف العمر أو بغمِّ الإنجاز. أيًّا كان الأمر فقد أخذ الاكتئاب يستولي عليَّ. كلما تأملت فيما يجرى حولي، وجدت أن أمريكا اللاتينية تقف على حافة الهاوية بسبب الظلم والاستغلال … تبينت أن فقر الأغلبية الساحقة من الناس ضروري كي تتمكن أقليةٌ قليلة من ممارسة التبذير، فحتى يزيد البعض استهلاكهم لا بد أن يخفض الكثيرون منه، ولكي يلتزم هؤلاء بالحدود المرسومة لهم تقوم الأقلية بتكديس الأسلحة الحربية وتتصدى للفقراء.

رأيت الناس في الأرجنتين، وهي من أكبر الدول المنتجة للحوم في العالم، يعجزون عن تذوق اللحم، ومن النادر أن يحصل الأرجنتيني العادي على كوب من اللبن أو قطعة من الجبن. السبب أن الأرجنتين في حاجة إلى تصدير اللحوم لدفع ما عليها من ديون (لم يستفد منها هذا الأرجنتيني العادي)؛ ولذلك يتجه مربو الماشية إلى التسمين والتصدير، ويذهب اللحم مباشرة إلى مصانع التجهيز العملاقة ليظهر بعد ذلك على شكل أقراص في محلات «مكدونالد» أو علب تحمل صورة البقرة في شبرا.

الناس الآن لا يعملون ليعيشوا بل هم يعيشون ليعملوا؛ مثل شغالة النمل. هناك ناس يعملون أكثر لأنهم لا يستطيعون توفير احتياجاتهم، وكما هو الحال في مصر، يقوم غالبية سكان أمريكا اللاتينية بعملَين في وقتٍ واحد، وأحيانًا ثلاثة، فليست أمامهم وسيلةٌ أخرى للخلاص من الجوع.

الوقت يتناقص وثمنه في تزايدٍ مستمر، أصبح يباع ويؤجر، لكن من هو سيد الوقت؟ إن السيارة والتليفزيون والفيديو والكمبيوتر والتليفون المحمول وغيرها من أدوات الرفاهية التي ابتكرت لربح الوقت أو تبديده أصبحت تتحكم فيه. فالسيارة تحتل حيزًا مكانيًّا في المدن وتستهلك وقت الإنسان، إنها نظريًّا تفيد في اقتصاد الوقت لكنها في الواقع تستنفده، ذلك أن جزءًا هامًّا من الوقت المخصص للعمل يستخدم في تسديد ثمن الانتقال إلى مكان العمل، وهذا الانتقال يتطلب المزيد من الوقت بسبب تعطل حركة السير.

تعلمت في باراغواي أن الفلاح أقل قيمة من البقرة، وفي البرازيل أن الذي يزرع الأرض لا يملكها والذي يملكها لا يزرعها. أدركت لماذا يهجر القرويون حقولهم وينزحون إلى المدن.

عاصمة المكسيك تشهد سنويًّا زيادة تقدر بنصف مليون ساكن. وبحلول نهاية القرن ستصبح مع العاصمة البرازيلية أكبر مدينتين في العالم. المدن الكبيرة في جنوب الكوكب صورة للمدن الكبيرة في شماله، لكنها صورةٌ مشوهة. فعواصم أمريكا اللاتينية لا تعرف الممر الخاص بالدراجات ولا الهدوء أو الهواء النقي، الأرجنتين مثلًا تنتج الوقود الخالي من الرصاص لتصدره إلى الخارج وتبقي على الوقود السام للاستهلاك الداخلي، كم عانيت في المكسيك من عوادم السيارات؟ كنت أحيانًا أعجز فعليًّا عن التنفس في الشارع لأن خمسة ملايين سيارة تغطى المدينة بسحابة من الغبار، نفس الشيء في ساو باولو عاصمة البرازيل وسنتياجو عاصمة شيلي اللتين تنافستا عام ١٩٨٩ على لقب أكثر المدن تلوثًا في العالم.

المجتمع الاستهلاكي يبتلع الناس ويجبرهم على الاستهلاك بينما يقدم لهم التليفزيون دروسًا في العنف. هكذا يمكن أن يعيش المعدمون بعيدًا عن الميسورين لكنهم يطلُّون عليهم يوميًّا من خلال الشاشة الصغيرة التي تعرض فجور الاستهلاك الفاحش، وفي نفس الوقت تلقنهم كيف يشقُّون طريقهم في الحياة برصاص السلاح.

العنف الذي يشهده الشارع ليس إلا امتدادًا للعنف على الشاشة؛ فالتجول في شوارع أمريكا اللاتينية أصبح خطرًا لكن البقاء في البيت أخطر، المدينة سجن؛ فمن لم يكن سجين الفاقة فهو سجين الخوف، من يملك شيئًا مهما كانت تفاهته يشعر أنه مهدَّد ويخشى أن يصبح ضحية لاعتداءٍ ما، أما من يملك الكثير فيعيش منعزلًا في أبراج الأمان، تلك العمارات والمجمعات السكنية الضخمة المزودة بكاميرات المراقبة والحراس المسلحين والتي تنتشر الآن في أنحاء بلادنا.

لم تعد للإنسان أية قيمة. اختفت نغمة رعاية الأطفال بعد أن تخلت الدولة عن دور الرعاية استجابة لتعليمات صندوق النقد الدولي. أصبح التخلص من الأطفال الزائدين، أطفال الشوارع الفقراء والعمال والمهمشين، يتم بواسطة الجوع والرصاص؛ فهم ليسوا صالحين للمجتمع، والتعليم حق الذين يستطيعون دفع ثمنه، أما من لا يستطيعون فليس لهم الحق في الوجود. في جواتيمالا اغتالت الشرطة أكثر من أربعين طفلًا من المتسولين والذين كانوا يعبثون في صناديق القمامة، وقد عثر على جثثهم مشوهة مفقودة العيون مبتورة الآذان ومدفونة مع الفضلات، وعندما انتشرت ظاهرة أطفال الشوارع في البرازيل تشكلت فرق إعدام من رجال شرطة سابقين ومهربي مخدرات طاردتهم مثل الكلاب الضالة وقتلت منهم ٤٥٧ طفلًا عام ١٩٨٩ وارتفع الرقم في ١٩٩٣ إلى أربعة أطفال يوميًّا.

بلدانٌ عديدة في أمريكا اللاتينية ألغت عقوبة الإعدام، لكنه يمارس بها يوميًّا لحماية حق الملكية. ففي بيونس أيرس أواسط ١٩٩٠ أطلق مهندسٌ النارَ على طفلَين سرقا رادیو سيارته، وعلق أهم صحفيٍ أرجنتيني على الحادث في برنامجٍ تليفزيوني قائلًا: لو كنت مكانه لفعلت الشيء نفسه.

في فبراير ۱۹۹۱ حلَّ وباء الكوليرا بمدينة ليما عاصمة بيرو، وذهب ضحيته المئات في أيامٍ قليلة؛ إذ كانت المستشفيات تفتقر إلى الأمصال والملح؛ لأن الإجراءات الاقتصادية الصارمة التي فرضها صندوق النقد الدولي أتت على ما تبقى من خدمة الصحة العمومية.

في بوليفيا لا يتوافر ماء للشرب بالقرى، بينما يلمع الديش فوق أسطح المنازل. وفي شيلي تعلن الإحصائيات باعتزاز عن تضاعف الإنتاج الغذائي وتعلن في الوقت نفسه عن تضاعف أعداد ضحايا الجوع.

سقطت حواجز الحماية التي شيدتها دول أمريكا اللاتينية في الماضي، اليوم تبيع الدولة المؤسسات العامة مقابل لا شيء أو أقل من لا شيء. إنها تسلم المفاتيح وكل ما تبقى إلى المحتكرين الدوليين؛ عدة مئات من الشركات والبنوك العالمية التي تملك القدرة على التلاعب بالناس وأموالهم، بينما تتحول هذه الدول إلى أسواقٍ حرة، أما التكنوقراطية الدولية فتحاول إقناع الناس بأن تحرير السوق هو سر تحقيق الثروة! إذا كان الأمر كذلك فعلًا فلماذا لا تطبقه البلدان الغنية التي تنصح به؟ ذلك أن السوق ليس حرًّا على الإطلاق في فرنسا وألمانيا وكندا بل والولايات المتحدة نفسها.

***

تكررت المناقشات الحادة بيني وبين زوجتي، التي تابعت في قلق انسحابي داخل نفسي في السنوات الأخيرة، وتعليقاتي الساخرة والانتقادية على التطورات السياسية، وخاصة كل ما له علاقة بكوش والشركات العالمية، أو السياسة الغربية والأمريكية بوجهٍ خاص. مرة قرأت عليها تقريرًا موجهًا من كوش إلى مساهميها، جاء فيه أن الشركة تغلبت على كافة الأساليب التي استخدمتها الحكومات لتشجيع صناعة الدواء الوطنية وإعاقة الصناعة الأجنبية، بما في ذلك الضرائب والتعرفة الجمركية والنسب وقيود النقد والدعم والتأميمات، تطلعت إليَّ في دهشة عندما أبديتُ سخطي. حاولتُ أن أشرح لها أن كوش صارت مصدر خطر على استقلال أي بلد؛ فنفوذها أقوى من الحكومات، وهي غير مسئولة أمام أية جهة في أي مكان، وهي تتحكم في أموالٍ هائلة، وبوسعها أن تنقل ما تشاء من هذه الأموال من أي بلد وإليه. الأرباح يمكن تصويرها على أنها خسائر، والأصول تباع، كل هذا دون أن يعرف هذا أحد أو يتبيَّنه بسبب السرية المضروبة على حساباتها. كيف يمكن لأي حكومة أن تتحكم أو تسيطر على كيان مثل هذا يشبه سمك الجيلي؛ موجود في كل مكان وليس موجودًا في أي مكان؟ أعدت على سمعها ما اقترحه أحد المديرين من ضرورة التفكير في شراء أو استئجار بعض الدول الأفريقية الغنية بالموارد الطبيعية طالما أن حكوماتها عاجزة عن حل مشاكلها. قالت لي يومها إن كل هذا لا يعنينا في شيء طالما أن كوش تكفل لنا حياةً آمنة.

لزمتُ الصمت، كان هذا يحدث دائمًا كلما تبادلنا الحديث. أول خلافٍ حاد نشأ بيننا بعد سنوات قليلة من زواجنا … كنا نتحدث عن الحرب الأهلية اللبنانية. وأزعجتني الكراهية التي ظهرت في صوتها عندما جاء ذكر المسلمين والفلسطينيين. قلت لها إن اللبنانيين بكل طوائفهم مسئولون عما حدث في بلادهم. غضبت مني، حرصتُ بعد ذلك على تجنب الموضوعات التي تثيرها، لكن هذا لم يحلَّ المشكلة، مع الزمن أدركت أنه يستحيل أن يتقاسم اثنان الحياة دون أن يتمكن كلٌّ منهما من عرض آرائه، ودون أن يتجادلا بشأنها.

مرة كانت تريد شراء كاميرا فيديو أحدث من التي عندنا فحدثتُها عن ضحايا الجوع في بنجلاديش والصومال، ورددتُ على سمعها أقوال القديس فرانسيس الأسيسي بأن الإنسان الذي لا يحتاج إلى شيء يملك كل شيء. وأن الخطوة الأولى في اكتشاف الإنسان لنفسه هي أن يفك ارتباطه بالأشياء. دار بيننا نقاش انتهى بأن صاحت فيَّ: أنت لا يعجبك شيء ولا أحد؟! ومن يومها انقطع كل خيط بيننا.

***

لا أريد أن أحمِّل زوجتي المسئولية الكاملة عن فشل علاقتنا؛ فهي في نهاية الأمر محكومة بظروف نشأتها. وربما يكمن الخطأ في أني توهمت أن ارتباطي بها سيشفيني من سارة، فأنا لم أنقطع عن التفكير فيها. كانت قد انتقلت مع زوجها إلى إنجلترا في بداية الثمانينيات. وظللنا على اتصال بواسطة الكروت التقليدية في المناسبات والأعياد، لكني لم أحاول الالتقاء بها.

***

جاءني الفرج أخيرًا ووافقت إدارة بازل على نقلي. كانت مصر قد وقَّعت على اتفاقيات الجات ومضت خطواتٌ واسعة في تطبيق الخصخصة والشراكة الأمريكية والأوروبية؛ الأمر الذي فتح آفاقًا وردية أمام شركة مثل کوش.

في السابق كانت الشركات الأجنبية تتمتع باحتكار براءات اختراع الأدوية الجديدة لمدة لا تزيد عن عشر سنوات تستطيع الشركات المصرية بعدها القيام بتصنيع هذه الأدوية لحسابها. ومدت الاتفاقية التي وقعت عليها مصر هذه المدة إلى عشرين سنة.

في البداية تصورت أن مصر تعرضت لضغوط أرغمتها على التوقيع؛ فالآثار المترتبة عليها خطيرة للغاية، وأهمها ارتفاع الأسعار إلى خمسة وستة أضعاف مستواها الحالي؛ مما يقضي على الصناعة المحلية، أما الأجنبية فيمكنها أن تخفض الأسعار لبعض الوقت وتعوض الأمر بعشرات الطرق، ثم تبين لي أن الأمر أعمق من ذلك.

فالاتفاقية تعطي مصر فترة سماح مدتها عشر سنوات قبل أن يبدأ تطبيق إجراءات حماية براءات الاختراع الأجنبية، والمقصود أن تستغل هذه الفترة في الاستعداد للمستقبل بالتجديد والإحلال والأبحاث والابتكار. وإذا بي أقرأ في الصحف تصريحات لبعض المسئولين يدعون فيها إلى التنازل عن هذه المدة الآن بحجة جذب الاستثمارات الأجنبية.

غباء أم عمالة؟ تأكد لي أن النخبة الحاكمة في مصر لا تفكر في المستقبل على الإطلاق، كان أمامي مثال كندا: طبقت الجات فورًا فسيطرت الشركات العالمية على تسعين بالمائة من مبيعات الدواء في كندا مقابل عشرة بالمائة فقط للشركات الكندية التي تخصصت في إنتاج الأدوية بأسمائها الكيميائية ذات النوعية العالية والتكلفة المعقولة، وتلبي ٣٠ بالمائة من احتياجات المواطنين من الدواء الرخيص. أصبح لمصنِّعي الأدوية ذات الأسماء التجارية الشهيرة، ومنهم كوش، الحق في تقاضي أسعار احتكارية لمدة عشرين عامًا. انتهى النظام الذي كان يوفر منافسةً سعرية وارتفعت أسعار الأدوية إلى خمسة أضعاف خلال عامٍ واحد. وقدر الإخصائيون أن الكنديين سيتكلفون نتيجة ذلك ما بين سبعة وعشرة مليارات دولار خلال فترة اﻟ ١٥ سنة المقبلة بينما تُضَخ أرباحٌ هائلة في جيوب الشركات العالمية المملوكة للأجانب.

في بازل كان مديرو كوش يفركون أيديهم في سعادة؛ فمصر الآن تستهلك أدوية بمقدار مليارين ونصف مليار جنيه. ومع الجات سيرتفع هذا الرقم إلى ١٣ مليارًا. عسل بالنسبة لكوش! المضحك في الأمر أن الاختيار وقع عليَّ لأتولى إدارة فرعها في مصر، ألم أكن أسعى للانتقال إليها؟

الباقي كان متوقعًا؛ رفضت زوجتي العودة معي إلى مصر بحجة الإرهاب الذي يتعرض له المسيحيون، وكنت أنا قد وصلت إلى حالة لم أعد أعبأ بها بأي شيء في سبيل العودة، فاتفقنا على أن أذهب وحدي بينما تنتقل هي وابنتانا إلى لبنان ليعيشوا مع أهلها. اتفاق أشبه بالانفصال.

***

كانت أختي الصغرى قد تخلصت من شقة العائلة في شبرا، وأقمت في الهيلتون إلى أن وجدت لي الشركة شقةً مفروشةً فاخرة بمنطقة المهندسين. وخلال ذلك كنت أتعرف على مهل على البلد الذي لم تسمح لي زياراتي الخاطفة بتبيُّن ما وقع به من تغيرات.

سمعت من قبلُ الكثير عن نتائج الانفتاح … ثم أنا قادم من بلد عالم ثالث لا يختلف كثيرًا عن مصر … الطبقة الوسطى فيه ما إن تكتسب بعض المال حتى تكتشف أنها لا تستطيع الحياة دون سيارة … ومع ذلك هالتني صور الفساد والضياع … وانتشار المخدرات … صور شبان زي الورد في صفحة الوفيات كل يوم. لفت نظري بالذات الوضع الصحي والدوائي … حقن البنج التي تذهب بالمريض، المستشفيات غير المرخصة، الأدوية المغشوشة وأكياس الدم الملوثة، الليزر الذي يسبب العمى، والطبيب الذي يسرق الكلية.

بحثت عبثًا عن شجر البانسيانا الذي كان يغطي شوارع كثيرة في العباسية والظاهر وشبرا والجيزة، رأيت أكياس القمامة في كل مكان؛ فوق الأرصفة وأمام الفيلات وبين السيارات. ورجال تتدلى من صدورهم سلاسلُ ذهبية يخوضون في القمامة ليشتروا من الصيدلية سبراي ضد الذباب والبعوض وأدوية ضد الإسهال. أدهشني انتشار الصيدليات في كل شارع، رأيت سيارات من كافة الماركات والأنواع يقودها شبانٌ صغار أو رجال ونساءٌ سمان في طريقهم إلى الطبيب للعلاج من السكر أو الضغط المرتفع. لاحظت بذاءة المباني والدكاكين، واختفاء اللغة العربية من أسماء الحوانيت، الثراء الفاحش والفقر البيِّن، اللسان المعوجُّ في محاولة للتشبه بالأجانب وأبناء الذوات، الإهمال والركاكة واللكلكة والهلفطة، الأنيميا وسوء التغذية، انعدام القواعد الصحية البسيطة التي تربينا على مراعاتها والتي كنا نقرؤها في صبانا على ظهور كراسات الدراسة، الأكاذيب في الصحف وعلى الشاشة، الخداع دون رقيب، انعدام الكرامة الوطنية، التعصب، الأنانية المطلقة.

بعد أسبوع طالعتُ في صفحة الوفيات نعي نسيم غبريال، فوجئت بالمربعات التي أُفردت له على عدة صفحات وعدة أيام والأوصاف التي أُسبغت على تاجر الشنطة ومهرب العملة السابق وأقلها: رجل الأعمال والصناعة، ابن مصر، فخر كل مصري، فقيد الوطن. لكن المفاجأة الكبرى تمثلت في حجم نشاطه والشركات والمؤسسات التي يرأسها أو يتولى رئاستها إخوته وأقاربه. شركة للفنادق يرأسها ابن أخته، شركة تأمين، وأخرى للسياحة وثالثة لليموزين، شركة أدوية، شركة لصناعة فلاتر السيارات، العالمية للاستيراد والتصدير، ملابس جاهزة يرأسها ابن عمه، محلات نیوکلوزث، مكتب هندسة، شركة للمقاولات والتنمية العقارية، دعاية وإعلان، تجارة سيارات، شحنٌ جوي وبحري، أدواتٌ صحية، تجارةٌ عالمية في المناطق الحرة. وبعد هذه الشركات جاء أفراد الجوقة المناسبة؛ محاسبٌ قانوني، مكتب محاماة، مهندسٌ استشاري، جراح، مدير مستشفى، معمل تحاليل طبية، كير سيرفيس للأمن، مدرسة لغات، فنادقُ عائمة، مجوهرات.

المجموعة الأخرى من إعلانات النعي بدأت بمفاجأة؛ المهندس عبد الحكيم عبد الناصر! وأكدت لي البقية مدى ما وصل إليه من نفوذ؛ بنك القاهرة باركليز، بنك أميريكان إكسبريس، البنك المصري الأمريكي، فنادق كونستا العالمية (لأن المدير العام لفندق القاهرة ابن أخته)، نیسان مصر، سوزوکي إیجبت ومودرن موتورز، کیا موتورز إيجبت وآشيا موتورز، إيجبت کار، توكيل رينو، جنرال موتورز، المصرية الكورية للخدمات والصيانة. منصور شيفروليه، شركات إتدكو وإتكو وإفكو وناتكو وإيكو وإمكر وإركو، جمعيتا مستثمري مدينتي العاشر من رمضان والسادات، كوكاكولا، أكتوبر فارما للأدوية، سترو مصر، آرت لاين للإعلان، إسو، موبيكا، ديكوراما لونا للعطور والمكياج، شركة المعارض الدولية، شركات سياحة، بلاستيك سيراميك، تسويق، توكيلات أدوية وسيارات، کریازي.

وتلا ذلك كله نعي الأئمة والكنيسة وعلى رأسها البابا شنودة الذي رأس صلاة الجنازة، الوزراء، المحافظون، مراكز البحوث، أعضاء مجلسي الشعب والشورى، رؤساء وأساتذة الجامعات، رؤساء المجالس المحلية والصحف والمجلات والأحزاب، مديرو الأمن، الكتاب والصحفيون، الهيئات القضائية، السفراء، الغرف التجارية، رئيس اتحاد الصناعات، رؤساء النقابات المهنية والعمالية، المهندسون، الأطباء المحامون، البنوك القوات المسلحة، الشرطة.

أدركت فعلًا كم تغيرت البلد!

***

بحثت عن لبيب؛ الوحيد الذي بقي من فترة الصبا، وجدته قد استقر في بلدته بقنا حيث افتتح عيادة، وعلمت منه في التليفون أن سارة في مصر، جاءت وحدها في زيارة لأهلها. ذهبت لرؤيتها، وقفت أمام باب الفيلا القديمة مضطربًا وقلبي يدق في قوة، ثم دفعته ودخلت، وصعدت بضع درجات إلى بابٍ خشبي، فوجئت بصورةٍ ملونة للعذراء ملصقة فوقه وإلى جوارها لوحةٌ خطية صغيرة برسم الله محبة. فتحت لي، صدمني وجه ذو بشرةٍ كابية، وجسمٌ بدين، وشعرٌ أسود فاحم لكنه لا يتماشى مع التجاعيد والجيوب المنتفخة تحت العينين اللتين فقدتا لمعانهما. صافحتني يدٌ سمينةٌ مكرمشة غير تلك الرقيقة التي كانت تعزف البيانو.

تعمدتْ أن تُجلسني بحيث يسقط ضوء النافذة على وجهي وتبقى هي في الظل، تبادلنا حديثًا متقطعًا عن أولادنا؛ حديثًا بلا حماس. تأملت الغرفة؛ الأثاث القديم، تقويم جمعية المحبة القبطية، بصورةٍ ملونة للمسيح وآية اليوم. غادرتني لتحضر القهوة فتابعتها بنظري؛ صارت لها مؤخرةٌ عريضة حاولت إخفاءها أسفل جوبةٍ واسعة تصل إلى قدميها. لمحت في ركن الغرفة محرابًا صغيرًا به أيقونة العذراء وتحتها شمعةٌ كهربائيةٌ مضاءة وكتابٌ مفتوح. نهضت وتقدمت منه. كان الكتاب مفتوحًا على صفحة بها سطور من رسالة للقديس بولس: «يزينَّ ذواتهن بلباس الحشمة مع ورع وتعقل لا بضفائر أو ذهب أو لآلئ أو ملابسَ كثيرة الثمن، بل كما يليق بنساءٍ متعاهدات بتقوى الله.» ونحن نشرب القهوة كنت أتأمل ملابسها المتواضعة مثل ملابس الراهبات وهي التي كانت تتفنن في زينتها، درية شفيق انهزمت.

***

ذهبت لزيارة لبيب؛ أخذت الطائرة إلى الأقصر، ثم سيارة بيجو مكدسة بالفلاحين. بعد ساعة كنت أمام منزله … صف مرضى من المدخل وعلى الدرج حتى غرفة الكشف. صفٌّ آخر من المقاعد عليه مرضى آخرون. نساء يحملن أطفالهن، الجدران القذرة تزينها تقاويمُ لامعة من شركات الأدوية الكبرى. عرضٌ جذاب لعلب لبن الأطفال الصناعي فوق رفٍّ تحت النافذة. صورة الأطفال الأصحاء الذين يطلُّون من العلب نقيض الأطفال المرضى الباكين. لبيب تضاعف حجمه … عادي، الشعر الأبيض عادي، التجاعيد أيضًا عادية، لكن النظرة البليدة الميتة في عينَيه فاجأتني، حتى فكرت أنه يتعاطى مخدرًا ما. يبدو غير متأثر ومتماسك. استقبلني بحرارة ثم تجاهلني فجأة ليرحب بشابٍّ أنيقٍ أحضر له رزمة من الروشتات تحمل اسمه، فهمت من حديثهما أنه طبعها له خصيصًا. ثم رأيته يعطيه نشراتٍ خاصة بشركة أدوية ألمانية. أدركت الموقف؛ فالشاب كما أكد لي لبيب بعد ذلك مندوب الشركة، والروشتات «خدمة خاصة» للأطباء تقدمها الشركة بالإضافة إلى أنها وسيلة لمراقبة ما يصفه للمرضى؛ ففيما بعدُ يذهب المندوب إلى الصيدلية ويفحص الروشتات … وبعد ذلك تصل الهدايا … من الثلاجة إلى السيارة، ونفقات السفر لحضور مؤتمرٍ علميٍّ مزعوم لكنه دعاية للشركة، طبعًا إلى جانب عشرة بالمائة عمولة من الصيدلية.

لاحظت أنه يكتب المضادات الحيوية بسهولةٍ شديدة ولا يهتم بفحص نتائج التحليلات التي يأتي بها المرضى. عندما علقت على ذلك قال لي إن كل نتائج معامل التحليل في المستشفيات الحكومية والمعامل الخاصة صورية، وإن الشخص لن يخسر شيئًا إذا كان سليمًا وأخذ مضادًّا حيويًّا. قلت له إن هذا خطأ؛ فهذا الشخص لن يستجيب بعد ذلك للمضاد الحيوي عندما يمرض فعلًا.

لم أكن أبالغ؛ فالاستخدام العشوائي للمضادات الحيوية قد قضى على أثرها وأنتج أمراضًا متعددة المقاومة تقهر أقوى المضادات وبعضها ليس له علاج، والبعض الآخر تحول إلى أوبئةٍ عابرة للحدود مثل الشركات العالمية تمامًا! الطبيب في أمريكا اللاتينية يفعل مثل لبيب تمامًا: يصف المضاد الحيوي لكل شيء؛ من الصداع إلى انغراز الأظافر في اللحم. إنها تُبلَع وتُمصُّ وتُدهَن بها الجروح وتُطعَم للدجاج والأبقار من أجل التسمين وخصوصًا في الولايات المتحدة. لقد رأيت في السنغال أقراص المضادات الحيوية تباع في الأسواق ويعتقد الناس أن حبةً ملونة أو اثنتين يمكن أن تكفيا للشفاء، ولا أحد يعبأ بتصحيح هذه المعلومات وإقناعهم بأن النتيجة في هذه الحالة ستكون مضاعفة المرض وتطوره إلى شكل يستعصي على العلاج.

لم يجادلني لبيب، وبدا رافضًا للمناقشة أو التفكير فيما قلته أو غير مبالٍ به. قال لي: أنت تتكلم كخواجة. تسعة وتسعون في المائة من الأمراض في مصر سببها عدم نظافة الشارع والأكل. عند طلوع النهار في الريف تجد الشعب المصري نائمًا أمام المستشفيات، نحن هنا نشرب مخلفات الإنسان والحيوان والأسماك الميتة الطافية على وجه المياه … لكن لا أحد يفعل شيئًا لعلاج هذا. فماذا أستطيع أنا أن أفعل؟ أنا مضطر للمسايرة، وفي النهاية أنا معرض للقتل على يد أصحاب الدقون، هل تذكر مجدي فام؟ دخلوا عليه منذ شهر في وضح النهار وقتلوه.

طلب مني أن أنتظره نصف ساعة نصعد بعدها لرؤية زوجته وأولاده. وقفت قرب النافذة أتأمل الطريق؛ نساء محجبات ومنقبات يسرن في صمت، فلاح يتحامل على نفسه حاملًا كيسًا من البلاستيك مليئًا بالأدوية … فيتامينات ونوفالجين لن تفيده شئيًا. أبواق السيارات التي تزحف بين الناس والحيوانات أسفل عاصفة من التراب. حانوت كُتب على واجهته لافتة باللون الأحمر «فاميلي شوب». ضحكت، جاءني صوت لبيب من خلفي … قال إنه أعد لي غرفةً بعيدة عن ضجة الشارع. أجبته بأني لن أبيت وأني سأعود إلى القاهرة بقطار المساء.

***

تسلمت عملي في مكتبٍ فاخرٍ غير بعيد عن منزلي. أصص النباتات تحف بالمدخل وفوق الدرج المؤدي إلى مكتبي مباشرة؛ ربما لتخفي أكوام القمامة في الشارع. استقبلني المدير السابق الذي أصبح الآن نائبًا لي؛ شابٌّ مهذب أنيق، يدعى ماجد عبود، من النوع الذي يوجد دائمًا في أروقة الشركات والبنوك الأجنبية والفنادق الكبرى في العالم الثالث والذي وجدت منه الكثيرين في مصر، طموح لا يقف شيء في طريقه، تلقَّى تعليمًا أجنبيًّا سطحيًّا، عرض عليَّ عمليات الشركة وخطط الإنتاج.

کوش مصر كانت في وضع ممتاز، وتستولي على حصةٍ ثابتة من سوق الدواء بأسعار مجزية للغاية، ويرجع الفضل في هذا إلى القانون رقم ٣٤. هل يتصور أحد أن ٦٠ بالمائة من ثمن الدواء في مصر يذهب إلى الموزع والمستورد؟ ذلك كله بفضل القانون المذكور. كانت التأميمات الناصرية قد ألغت الوكالات الأجنبية وحتمت أن يتم استيراد الدواء والخامات عن طريق هيئة تابعة للقطاع العام؛ وبذلك أمكن توفير الدواء بسعرٍ رخيص، رغم طبعًا السلبيات المعروفة التي ترجع إلى البيروقراطية والغباء، والتي أدت إلى عدم توافر بعض الأدوية. القانون ٣٤ الذي صدر مع الانفتاح ألغى هذا الوضع واشترط أن يتم استيراد الأدوية والخامات عن طريق الوكلاء، أو فروع الشركات الأجنبية في مصر، وبأسعار يتفق عليها من خلال مظاريف وعطاءاتٍ وهمية. الشركات الأجنبية حققت مكاسبَ هائلة من هذا القانون؛ شركة هوكست الألمانية (التي تساهم دولة الكويت بأكثر من ٢٤ في المائة من أسهمها) حققت في سنةٍ واحدة ربحًا صافيًا في صنفَين فقط من الدواء مقداره ملیون و۲۰۰ ألف جنيه، شركةٌ أجنبية خالصة هي سكويب الأمريكية كان رأسمالها المدفوع ٥٫۷ مليون دولار بلغت مبيعاتها في ٥ سنوات نحو ٥٥ مليون جنيه. كيف؟ يكفي أن تتولى توريد الخامات والكيماويات للقطاع العام بأسعار تزيد أحيانًا ٣٠ ضعفًا عن السعر الأصلي، وتصل هذه المواد قبل انتهاء صلاحيتها بعدة شهور أو بعد انتهاء الصلاحية، وطبعًا لا يتكلم أحد؛ فالثمن مدفوع، أو تطرح أدوية حرمت منظمة الصحة العالمية استخدامها لتتخلص من المخزون المتراكم لديها بدلًا من إعدامه، أو أدوية تحت التجربة ولا تستطيع الشركة التي أنتجتها أن تجرِّبها في أمريكا أو أوروبا إلا على الحيوانات الراقية المكلفة مثل الشمبانزي.

هناك طبعًا هيئة الرقابة على الأدوية وظيفتها التأكد من مطابقة الدواء للمواصفات العلمية … لكن التعليمات تأتي للهيئة من أعلى بتغيير نتائج التحليل لتصبح مطابقة للمواصفات. رئيس الهيئة عضو مجلس إدارة شركة أدوية وعضو جمعيةٍ عمومية لشركةٍ أخرى، كما أنه عضو في لجنة البت لشراء المواد الخام بشركة قطاع عام؛ أي إنه البائع والمشتري والحكم بينهما! هناك أيضًا العمولات والهدايا التي تبدأ من: السيارة، تعيين أبناء كبار المسئولين، عقود لكبار الموظفين بالعمل في وظائف مستشار بعد التقاعد؛ والنتيجة أن كوش والشركات الأجنبية الأخرى تستطيع أن تحدد نسب الاتفاقات المشتركة وأسعار البيع، وتعدل كما تشاء شروط منح الامتيازات والرخص لصالحها. عشت هذا كله من قبلُ في المكسيك دون أن أتورط فيه تمامًا لأني كنت بعيدًا عن هذا الجانب من الإدارة. أما هنا فقد صرت مسئولًا عن كل شيء.

***

عندما كان ماجد عبود يتولى الإدارة، قامت الشركة بتصنيع شراب لعلاج متاعب الجهاز الهضمي في مصنعها بالأميرية، وأرسلته إلى هيئة الرقابة الدوائية للتحليل وبيان مدى مطابقته للمواصفات، وكشفت نتائج التحليل أن العينات من ست تشغيلات غير مطابقة للمواصفات؛ مما يعني عدم صلاحيتها وضرورة إعدامها. ويبدو أن المسئولين عن التحليل كانوا يضغطون من أجل الحصول على علاوة للرواتب الشهرية التي يتقاضونها منا، فجاءت نتيجتهم صحيحة!

وقررت الشركة إجراء تغيير في تركيب الدواء لتفادي العيوب، وفعلًا تم حذف أربع مواد من تركيبه وأضيفت موادُّ أخرى ثم أُرسلت عيناتٌ جديدة إلى الهيئة، واكتشفت أن ماجد أرسل العينات بنفس أرقام التشغيلات السابقة، وأدركت على الفور بحكم خبرتي ما ينتويه؛ طرح المستحضر الأول في السوق عندما نحصل على الموافقة على المستحضر الجديد طالما أن أرقام التشغيل واحدة.

اعترضتُ على هذا التصرف بحجة لا أخلاقيته وتعارضه مع القواعد الملزمة لعملنا؛ فتطلع إليَّ في دهشة. قال لي بصراحة إن بازل لن تعترض بل على العكس، أفهمني أن هذا هو ما تريده بازل. طبعًا كنت أعرف، أنا نفسي لم أعترض على تصرفاتٍ مماثلة في المكسيك، لكني وجدت نفسي عاجزًا عن التصديق عليها في مصر.

أصررت على موقفي، وأمرت بإعدام التشغيلات السابقة. وتلقيتُ فاكسًا من بازل يقرُّ تصرفي بلهجةٍ جافة. وحرص الفاكس في نهايته على أن يذكرني بأن بعض القواعد الملزمة في أوروبا تتعارض أحيانًا مع التقاليد المحلية أو أسلوب الحياة في بلد مثل مصر!

***

عرض عليَّ ماجد خطة الإنتاج ففوجئت بأن أغلبها أدوية سعال ومقويات، قلت له متعالمًا: أنت تعرف أن هذا كلام فارغ. فهذه ليست أدويةً حقيقية، إنها مثل شربة الحاج محمود. لم يكن قد سمع عن هذه الشربة المعجزة التي كانت تباع في الموالد والقرى. قلت: شركة الدواء الحقيقية ملزمة بأن تقدم للسوق علاجاتٍ فعلية لأهم الأمراض المستعصية الموجودة البلهارسيا، السرطان، الالتهاب الكبدي الوبائي، الدوسنتاريا، التيفود … إلخ، جمع لي الشاب نشرات الشركات الأخرى واكتشفت أن السوق المصري به ۱۸۰ دواءً للسعال و۲۸۰ من المقويات، وفي هذه الأثناء قرأت في الصحف أن حريقًا نشب في مديرية الشئون الصحية بأسوان والتي تخزن فيها كميات من أدوية التوسيفان والكودافين، وأن التحقيق أسفر عن تلف ثلاثة آلاف زجاجة منها، أما ما تبقى سليمًا من الزجاجات فكان ممتلئًا بشراب الكركديه! وفهمت أخيرًا السبب في اهتمام كوش والشركات الأخرى بأدوية السعال التي تحولت إلى أدوية مزاج، ولم أدهش عندما جاء فاكس من بازل: لا يمكن لكوش أن تتجاهل سوقًا هامة ومجزية مثل سوق السعال والمقويات.

***

الجزء الباقي من خطة الإنتاج كان مخصصًا لتعبئة المبيدات التي تنتجها كوش، وعندما درستُ الأرقام التي عرضها عليَّ ماجد اكتشفت أن في مصر مافيا تربح من استيراد المبيدات ۲۰ مليون دولار سنويًّا بعد أن قامت بتهريب ۱۲ مبيدًا محرمة دوليًّا رخيصة الثمن لكن قاتلة وخاصة للأطفال. لم يكن بين منتجات كوش المصدَّرة إلينا واحدة من هذه المبيدات المحرمة لكن هذا لم يكن مبررًا لأن تحتل مكان الصدارة في نشاطها.

العالم كله أصبح يدرك أن استخدام المبيدات لم يؤدِّ إلا إلى مضاعفة الحشرات والآفات ۱۷ ضعفًا. النظافة التامة داخل وخارج المنزل تمنع توالد الحشرات. كنت أبتسم في ألم وأنا أرى جزارًا يرش اللحم بمبيد ضد الذباب، أو بائع عصير يرش دكانه لنفس الغرض، أو عندما أشاهد في التليفزيون إعلانًا عن المبيد ذي القوة الرباعية أو الخماسية، وأعرف أن الناس ستهرع لشرائه لتتخلص من الصراصير والذباب والناموس، وتقرب المسافة بينها وبين المرض الذي ستنفق عليه من الجهد والمال أضعاف أضعاف ما يتطلبه تنظيف المنزل والمنور والسطح والتخلص من القمامة وإصلاح شبكات الصرف.

***

المشكلة أفدح في الزراعة. استمعت مرة في التليفزيون إلى دكتور ومدير لمعهد التغذية يؤكد أن بقايا الرش على المحصول تزول بعمليات التقشير والغسيل قبل التناول وأنه بذلك يتم التخلص نهائيًّا من بقايا المبيدات، وما تبقى يكون غير ضار بالمرة؛ عرفت فورًا أنه يعمل مندوبًا لشركة مبيدات لأنه كان يكذب.

لا الغسيل ولا الطهي ولا الغلي يقضي على بقايا المبيد التي تعسكر في لب الثمرة وتضمن لآكلها التسمم والسرطان وتشويهات المواليد والعقم. في قضية الأغذية الفاسدة استعان المتهم الأول (وهو موجود معي في الزنزانة الآن وأنا أكتب هذا الكلام) بوزير الصحة كشاهد نفي، وأمام المحكمة أبدى الوزير تعجبه من القول بمسئولية الأغذية الملوثة عن أمراضٍ عديدة متسائلًا في عهر: أين هي الإصابات التي تؤيد هذا الكلام؟

هذا الوزير، وهو الآخر دكتور، يعرف الحقيقة جيدًا، في حالة المبيدات فإن التعرض لجرعاتٍ قليلة (عن طريق الأنف والفم والجلد) لا يُحدث أثرًا مباشرًا وإنما تتراكم الآثار في أماكنَ معينةٍ كالمخ والكبد والرئة حتى تأتي جرعةٌ مؤثرة يمكن أن تؤدي إلى الشلل والموت. نفس الشيء في حالة الأغذية الملوثة، علبة لبن الطفل بها كمياتٌ ضئيلة من عنصر السترونشيوم المشع تعني بالقطع إصابته بالسرطان بعد عشرين سنة.

فقط في حالة تلوث الثمار، وخاصة العصيرية، بالزئبق والرصاص، عن طريق مياه الري، يمكن التخلص بسهولة من أثارهما بتناول كوب من اللبن عقب تناول أي طعام أو فاكهة من هذا النوع حيث يقوم كالسيوم اللبن بطرد هذه العناصر وإخراجها من الجسم. لكن مَن ضمن أن اللبن نفسه غير ملوث؟ وهل يستطيع الفقراء تحمل سعره؟

***

كان هناك مشروع قديم لدى كوش لإقامة مصنع لاستخلاص العطور النباتية في مسطرد، ذهبتُ لزيارة المنطقة التي تغذي القاهرة بالخضراوات وتقع بجوار ترعة الشابورة، فوجئت بالقمامة تفرش الطريق هضابًا، وبأن الترعة التي تروي الحقول عبارة عن مستنقعٍ قذرٍ كريه الرائحة مليء بجميع أنواع القمامة من علب الصفيح والبلاستيك إلى مخلفات الإنسان والحيوان ومصانع البوتاجاز والبلاستيك والصباغة. رأيت المواسير تخرج من جدران مصنع وتصب في قلب الماء، ورأيت المخلفات قد سدت المجرى المائي وارتفعت إلى مستوى الماء بما حملته من موادَّ بتروليةٍ أزوتية وشحوم اختلطت بالطين، كانت المياه التي تروي حقول الطعام تتسرب بصعوبة وقد سبح عليها زيت أسود مختلطًا بألوان الصباغة. وملأت الجو رائحة الصابون والبوتاسيوم.

تُباع محاصيل هذه الحقول من الخضراوات في سوق مسطرد وروض الفرج ولا يدرك الفلاحون أنهم يصدِّرون السم؛ فهم يأكلون منه أيضًا. وفيما بعدُ تابعت تحليلات أجرتها مراكزُ بحثيةٌ عديدة على مجموعة من الخضراوات، أثبتت أن نسبة الرصاص وصلت إلى ٣٦٧٠ ضعفًا في البصل الأخضر، تليه الكسبرة والفجل ثم الملوخية، وسجلت الملوخية أعلى نسبة في الكادميوم يليها الفجل والجرجير، امتصاص الرصاص لدى الأطفال يفوق كثيرًا مثيله لدى الكبار ويسبب الأنيميا والتأخر العقلي، أما الكادميوم فيؤثر على الكلى ويسبب الإجهاض. مأساةٌ حقيقية لأن هذا طعام الفقراء. كنت أكتئب عندما أرى الغلابة في ميدان رمسيس أو العتبة يتزاحمون حول العربات التي تبيع الطعمية المقلية في زيتٍ أسود أو الكبدة التي تتجمع فيها كل السموم التي تدخل الجسم، وسرعان ما انتقلت المشكلة إلى ساحتي.

***

اكتشفتُ بعد فترة أني عمليًّا لا آكل شيئًا. أنا من المغرمين بالأكل الصحي؛ السلاطة الخضراء والفواكه والأسماك. ما رأيته في مسطرد صدَّ نفسي عن كل أنواع الخضراوات والفاكهة، بالإضافة إلى ذلك كنت أعلم تأثير المبيدات التي ترشُّ بغير حساب في كافة مراحل الزراعة، والمواد الكيماوية الشبيهة بالهرمونات التي تؤدي إلى زيادة حجمها وتبكير تلوينها ونضجها. وكان بوسعي أن أتصور دورتها في طعام الماشية وبالتالي امتنعت عن اللحوم الحمراء والألبان ومنتجاتها، وكنت قد عرفت من معارفي أن اللبن المتداول غالبًا ما يكون ملوثًا بالميكروبات الضارة مثل ميكروب الحمى المالطية والسل والتهاب الزور والحمى القرمزية، وأن المصانع تضيف الفورمالين الذي يستخدم في حفظ الجثث إلى الجبن، كما تستخدم ماء الأوكسجين لحفظه. وكانت لديَّ شكوكي بشأن اللحوم والأجبان المستوردة (وقد تأكدت فيما بعدُ أثناء وجودي في السجن) فتجنَّبتها، وأتبعتها بالدواجن عندما علمت ما يفعله مربو الدواجن من تسمينها بالهرمونات. وحل الدور أخيرًا على الأسماك عندما اطلعت على درجة التلوث التي وصلت إليها مياه النيل فضلًا عن البحر الأبيض (الصرف الصحي) والبحيرات. في حالة مركَّبٍ واحد هو الديلدرين، والذي يتواجد في المخلفات الصناعية، فإن وجبة من السمك كل يومين تعني خطر الإصابة بالسرطان بنسبة واحد إلى مائة. اتجهت إلى النشويات التي كنت أتجنبها دائمًا ففوجئت بتلوث الدقيق وبأن أصحاب المصانع يبيضون الأرز بتراب البلاط. تجنبت أيضًا مياه الشرب لما اكتشفتُه بها من كائناتٍ دقيقة وشوائب ونسبٍ عالية من الكلور الذي يضاف إليها عشوائيًّا، ولم أطمئن للمياه المعبأة في زجاجات والتي توصف بأنها طبيعية أي جوفية. فمن يضمن لي أن مياه الصرف لم تتسلل إليها؟ كما امتنعتُ عن تناول المياه الغازية من كولا وغيرها لأني أعرف أكثر من غيري مضارَّها. ولم يبقَ أمامي في النهاية سوى أن أقوم كل يوم بغلي كمياتٍ كبيرة من المياه أحملها معي أينما ذهبت.

تأكدت أن الإنسان في مصر لم يعد يساوى أية قيمة، وتعجبت لشعب يدمر نفسه بنفسه أو يتفرج بلا مبالاة على الدمار الذي يلحقه به الآخرون. حمدت الرب لأن ابنتيَّ لم ترافقاني وإن كنت لا أضمن أن الحال ليس من بعضه في لبنان، بل ربما كان أخطر.

***

بدأت متاعبي الحقيقية عندما قررت كوش. بناء مصنع في مدينة ٦ اكتوبر لمكسبات الرائحة لتستفيد من الامتيازات الممنوحة للمستثمرين الأجانب: الأسعار الرمزية للأرض، والإعفاء من الضرائب حوالي عشر سنوات، فضلًا عن الأجور المنخفضة … إلخ. هناك أكثر من ٣٠٠ مادة كيماوية تضاف إلى طعامنا وتجعله أكثر جاذبية من حيث اللون أو الطعم أو الرائحة دون أن تضيف إليه أية قيمةٍ غذائية، بل تمثل خطرًا على صحة الإنسان، وتؤدي إلى تشوه الأجنة. ولا يقتصر الأمر على الطعام وإنما يمتد إلى الأدوية ومستحضرات التجميل مثل أحمر الشفاه ومعجون الأسنان والحلويات، وخاصة الحلويات الشعبية كحلوى الموالد وغزل البنات والشربات والمربات والجيلي. الشكولاتة مثلًا يستخدم في صناعتها لونٌ صناعي تناوله يمكن أن يؤدي إلى تسمم الكبد. والبيانات المسجلة على أي كيس لا رقابة عليها ولا تمثل أي معلومةٍ محددة بالنسبة للمستهلك الجاهل. وتجني الشركات من وراء ذلك مكاسبَ هائلة وإلا ما كانت إحداها ترصد لمسابقةٍ تليفزيونية جوائز مقدارها مائة ألف جنيه.

عندما عكفت على دراسة المشروع انتابني القلق، اكتشفت أن المصنع مخصص لإنتاج مادة التريكلوروفينول TRICHLOROPHENOL، وكنت أعرف أن ألمانيا وهولندا وانجلترا أغلقت المصانع التي تنتج هذه المادة بسبب خطورتها؛ فهي إذا تعرضت لحرارةٍ عالية تنتج واحدًا من أخطر السموم على الإنسان هو DIOXIN. وهو أقوى من السيانيد السام بسبعين ألف مرة، لكن الأمر لم يكن قاصرًا على ذلك.

فقد تبينتُ أن رقم الإنتاج المستهدف هو خمسين طنًّا في الأسبوع، وهو رقمٌ كبير جدًّا بالنسبة لتجارة الروائح، وهنا تذكرت أن التريكلوروفينول عنصرٌ أساسي في تركيب ما يسمى بالعامل البرتقالي الذي يستخدم في صناعة الأسمدة والمبيدات وثبت ضرره على صحة الإنسان فسحب من السوق في أغلب البلدان الأوروبية، وكان المقرر أن يتم شحن الكمية المنتجة إلى مصنع تملكه شركةٌ تابعة لكوش في الولايات المتحدة ومنها طبعًا إلى أي مكانٍ آخر.

تذكرت الكوارث التي تحدث كل يوم في العالم الثالث. في مطلع الثمانينيات وقعت أسوأ كارثةٍ صناعية عرفها التاريخ قبل حادث تشيرنوبيل؛ ففي مدينة «بهوبال» الهندية مات حوالي عشرة آلاف شخص نتيجة استنشاق غاز ثاني أكسيد الميثيل السام المتسرب من أحد مصانع المبيدات الحشرية التابعة لشركة «يونيون كاربيد» الأمريكية، وتعرض ما يقرب من نصف مليون شخص آخرين لأضرارٍ صحيةٍ جسيمة ما زالوا يعانون من آثارها حتى الآن.

ويظهر كل يوم ضحايا جدد أصيبوا بأمراض في الرئة والسرطان والعيون. ومما يزيد من معاناة هؤلاء البطء الشديد المتعمد في إجراءات المحاكم الهندية التي تنظر طلبات التعويضات التي يتقدمون بها.

تابعت وقتها وصف الصحف للكارثة، كيف سقطت الطيور من السماء أو هوت ميتة من أعشاشها، وترنحت الكلاب والقطط كالسكارى قبل أن تسقط على جانبها ميتة والدماء تتدفق من أفواهها وآذانها ومؤخراتها، وشاهدت على شاشة التليفزيون آلاف الأشخاص في أسمالٍ بالية يترنحون في الشوارع بعيونٍ حمراء كالدم يمسكون بطونهم ويتوقفون بين الحين والآخر ليفرغوا ما في أجوافهم ثم يسقطون على الأرض.

ثبت من التحقيقات بعد ذلك أن أكثر الدول الغربية تحرم إنتاج هذا الغاز على أراضيها وأن المصنع الهندي توءم من حيث التصميم لمصنع الشركة المقام في أمريكا. لكنه لا يحتوي على أيٍّ من أجهزة الأمن والحماية المتقدمة التي زُود بها المصنع الأمريكي.

لم تجد الشركة من تبرير لما حدث سوى تصريح لرئيسها في التليفزيون قال فيه: «إن الرأسمالية تعني التقدم، والتقدم قد يؤدي أحيانًا إلى بعض المضايقات.» وأتذكر أني وقتها أقنعت نفسي بصحة هذا الزعم.

***

في أول أسبوع بعد عودتي إلى مصر قمت بزيارةٍ سريعة للإسكندرية عبر الطريق الصحراوي وعندما مررت بمنطقة العامرية شاهدت مصنعًا لشركةٍ أمريكية ينتج البطاريات الجافة وترتفع فوقه سحابةٌ سوداء من الأدخنة. وتساءلتُ في أسًى بيني وبين نفسي عن إجراءات الأمان المتَّبعة ومدى تزويد العمال بالملابس الضرورية والمعدات اللازمة.

لم يكن في استطاعتي وقف مشروع المكسبات في مدينة ٦ أكتوبر الذي تكلف أكثر من مائة وخمسين مليونًا من الدولارات (على فكرة! كوش لم تتكلف شيئًا، أخذت قرضًا بالمبلغ من بنوك القطاع العام المصرية) ولا رغبتُ في ذلك، كل ما في الأمر أني عاهدت نفسي على الاهتمام بإجراءات الأمان، واسترحت عندما تبينتُ أن المصنع صممه مهندسٌ سویسري، كما أني تصورت أن البناء سيكون من مسئولياتي المباشرة.

بازل كان لها رأيٌ آخر؛ فقد طلبت مني تشكيل إدارةٍ خاصة يعهد برئاستها لنائبي تتولى متابعة العمل في بناء المصنع، كي أتفرغ أنا لالتهام شركات القطاع العام المعروضة للبيع، وعندما أوشك العمل على الانتهاء جاء المهندس السويسري في زيارةٍ تفقدية وأسرَّ لي منفعلًا أن المصنع لم يشيد طبقًا لرسوماته؛ إذ جرى التوفير في إجراءات الأمان التي حددها والتي تتكلف عدة ملايين من الدولارات.

اتصلت ببازل على الفور وجاءني ردٌّ فاتر بوعد النظر في الأمر، ولحظتُ أن ماجد عبود يتجنبني، واستمر العمل في المرحلة الأخيرة من البناء كأنما لم يحدث شيء.

فكرت في الاستقالة، ثم قررت القتال؛ حررت خطابًا إلى كل من وزارتي الصناعة والصحة المصريتَين أُخطرهما فيه بانتهاء العمل في بناء المصنع، وبضرورة حضور مندوبين عنهما للتأكد من سلامة إجراءات الأمن المتبعة. لم يعبأ أحد بالرد عليَّ. فكتبت إلى الصحف خطابات غفل عن التوقيع تعرض الموضوع، ونشرتْ إحدى صحف المعارضة تحقيقًا عن المصنع. وهنا تحركت وزارة الصناعة وزارتنا لجنةٌ ثلاثية من كبار موظفيها أبدت حزمًا غريبًا أدهشني وأسعدني … وكان القرار بوقف ترخيص البناء ما لم تُستوفَ إجراءات الأمان الواردة في التصميمات الأولية.

استرحت؛ شعرت أن مجهودي أثمر، وهنا ظهر اللواء محسن فهمي في الصورة.

***

عندما كنت أدرس ملف شركات القطاع العام المعروضة للبيع، كان يعاونني في ذلك ضابط شرطة سابق، في حوالي الستين من عمره، يرأس إدارة الأمن، هو اللواء محسن فهمي.

كانت مهامه متشعبة تمتد من حماية أسرار الشركة وتأمين مكاتبها ومبانيها ضد التخريب والعمليات الإرهابية إلى إمداد الإدارة بما تحتاج إليه من معلومات. كان يحتفظ بملفاتٍ تفصيلية عن شركات الدواء العاملة في مصر وخاصة المصرية، وعن كبار العاملين بها. وعندما أقول تفصيلية أقصد مثلًا أدق المعلومات الشخصية؛ دخل الشخص واحتياجاته الفعلية، وعلاقته بزوجته وأولاده، وإمكانية شرائه، وعاداته فيما يتعلق بالجنس أو اللهو. بل كنت أشك في أنه يحتفظ بتسجيلاتٍ صوتية لبعض كبار المسئولين تكفي لإدانتهم والضغط عليهم. لكني لم أحاول التأكد من ذلك كأنما أردت أن أعفي نفسي من المسئولية عن الأمر كله.

لم يكن هذا الأمر بالجديد عليَّ ففي المكسيك كانت لدينا ملفاتٌ مماثلة، لكن ملفات محسن فهمي أصابتني بصدمة، ربما كنت في أعماقي أتمنى أن تكون الصورة مختلفة في بلدي، وبدلًا من ذلك طالعت صورةً مؤسية لقادة الاقتصاد والبلد. أبسط وصف لهم أنهم يتميزون بالدناءة والخسة. مثلًا رئيس مجلس إدارة قد الدنيا، حاصل على درجة الدكتوراه، يتفنن في إعداد قوائم بمستلزمات منزله من أرز وبيض ولحم بحيث تتوزع الرشوة المطلوبة على أشياء عديدة صغيرة القيمة. وآخر يسرق الملاعق الفضية من الطائرات، وثالث مليونير من كبار الصحفيين يبعث بابنته لتصرف منا مجانًا روشتة أدوية لا يتجاوز ثمنها سبعين جنيهًا، ورابع من كبار رجال الدولة يفرض ابنه شريكًا على المشروعات الناجحة، وخامس يتعمد تخريب مصنعٍ ناجح، لصالح منافسٍ أجنبي، مقابل رحلة استجمام في أوروبا. كيف يكون وضعنا ونحن نعلم كل ذلك عن رؤساء الشركات المباعة وفرصتنا في تحديد الثمن الذي نشتري به مقابل هديةٍ صغيرة للمسئول أو بمجرد الإشارة لمعلوماتنا عنه؟

***

ما أقدمنا عليه يمكن أن يطلق عليه وصف المذبحة؛ بدأنا ندرس شراء مصنع أقامته إحدى شركات القطاع العام لتصنيع الأمبولات المعقمة، كان أول مصنع من نوعه في مصر وجاءت لجنة من بازل قررت أن المصنع غير مطابق للمواصفات من حيث مستوى العمالة والنظافة والتعقيم. ومع ذلك أمرت بازل بشرائه وتحويله من الإنتاج إلى مجرد مقر لتغليف المنتج الذي تصنعه في سنغافورة، وفقدت مصر فرصة في التقدم على طريق التصنيع. وكان من الممكن علاج الأمر بتطوير العمالة أو حتى استبدالها بغيرها وتجديد أجهزة التعقيم وفرض شروط صحية صارمة.

تكررت مهزلة المكسيك، وتوالت الفاكسات من بازل: اشترِ. ووردت التعليمات بتسريح العمالة بأي طريقة؛ فبدأنا نعرض على العمال التقاعد مقابل خمسة عشر ألفًا من الجنيهات، ووافق أغلبهم لأنهم كانوا في حاجةٍ ماسة للمبلغ.

وتُوِّجت جهودنا باصطياد أكبر شركة أدوية في مصر لا تقل قيمتها في السوق عن مائتي مليون جنيه، لكننا تمكنا، بوسائل اللواء محسن فهمي، من الحصول عليها بسبعين مليونًا. وعلى الفور طُرحت الأرض الواسعة التي تشغلها مصانع الشركة ومكتبها في الأميرية للبيع كأرض للبناء، وقُدِّر العائد المنتظر بعشرة أضعاف هذا المبلغ. وشرعنا في نقل المصنع إلى مدينة العاشر من رمضان مستفيدين من الإعفاءات والتسهيلات المقدَّمة للمشروعات الجديدة.

***

عقب أن زارتنا لجنة وزارة الصناعة استمر العمل في تشطيب البناء بمصنع المكسبات كأنما لم يحدث شيء، ولم يتخذ ماجد أي إجراء لتنفيذ الاتفاق الذي توصلنا إليه. وبدأت أشعر بشيءٍ غريب في تصرفات اللواء محسن فهمي معي، ضبطته أكثر من مرة يتأملني بإمعان، كما يتأمل القط الفأر، كانت لعينَيه حدقتان صفراوان بعثت نظرتهما الرعدة في أوصالي.

أكثر من مرة شعرت أن أحدًا دخل شقتي في غيابي وعبث بمحتوياتها. في البداية شككت في السفرجي والشغالة الفلبينية اللذين ينفردان بالشقة طول النهار. ثم اتجهت شكوكي ناحيةً أخرى عندما اكتشفت أيضًا أن أحدًا يعبث بمحتويات مكتبي في الإدارة، وفي أحد الأيام سقطت مني سماعة التليفون على الأرض وتحطمت وعندما رفعت الحطام تبينت جهازًا صغيرًا للتسجيل مثبتًا في بوق الإرسال أيقنت على الفور أن محسن فهمي يسعي ورائي.

في هذه اللحظة انفجرت قضية الرشوة: ألقت الشرطة القبض على ماجد عبود بتهمة عرض رشوة مقدارها مليونين من الجنيهات على رئيس لجنة وزارة الصناعة من أجل التجاوز عن إجراءات الأمان، وبعد أسبوع فوجئت بالقبض عليَّ وتوجيه الاتهام نفسه إليَّ. وعرفت أن ماجد عبود زعم أنه كان ينفذ أوامري واستشهد بمحسن فهمي الذي قدَّم خطابًا موجهًا مني إلى رئيس اللجنة يشير إلى ما تم الاتفاق عليه بيننا بخصوص إجراءات الأمان، كما قدم تسجيلًا تليفونيًّا لحوار بیني وبين رئيس اللجنة حول إطاري كاوتشوك؛ كان هذا قد ذكر لي أنه يجد صعوبة في الحصول على نوعٍ معين من الإطارات لعربته الفولكس، فتطوعت لتزويده بهما دون مقابل، لكن النيابة أصرَّت على أن عجلتَي الكاوتشوك سيم أو شفرة للمليونين.

فيما بعدُ استطعت أن ألمَّ خيوط ما حدث. فالمبادرة التي قام بها ماجد بوحي من تعليمات عامة من بازل، اصطدمت بجشع رئيس اللجنة الذي أراد الاستئثار بالمبلغ، واشتمَّ زميلاه الرائحة فواجهاه طالبَين نصيبهما، وعندما رفض أبلغا الشرطة نكاية فيه. وتفتَّقت عبقرية محسن فهمي عن طريقة لاستغلال الموقف من أجل التخلص مني. وبالفعل أصدرت كوش قرارًا بفصلي بتهمة تجاوز حدود مسئولياتي باتخاذ إجراء — تقصد الرشوة — يتعارض مع المبادئ الأخلاقية التي تلتزمها الشركة؛ مما أساء إلى سمعتها.

***

طبعًا لن أتركهم في حالهم … وسأقاتل حتى النهاية … لكن مصيري الشخصي لم يعد يقلقني كثيرًا … فترة السجن أتاحت لي فرصة للتفكير والقراءة، وتحقيق حلمٌ قديم من أحلامي هو كتابة المسرحيات. والتمعن في تجاربي. وفي أحوال البلد وأحوال العالم. أعرف أني أقف على حافة هوة قد تطيح بي شخصيًّا، لكني أرى بلدي وأفريقيا كلها بل وأغلب الشعوب السيئة الحظ تقف فعلًا على حافة هاويةٍ حقيقية.

أحيانًا أشك في أني ضحية أوهامي ومشاكلي الشخصية وفشلي في علاقتي بزوجتي، أو ببساطة ضحية أزمة منتصف العمر، أو ربما كنت طبقًا لاتهام زوجتي مغرورًا يتوهم أنه قادر على إصلاح الكون … ربما!

وأعرف أني لن أتمكن من تغيير شيء؛ فالأمر أخطر من أن يقوم شخصٌ واحد أو حتى جماعة أو حزبٌ واحد بذلك.

ومع ذلك لا أستطيع أن أتجاهل ما يحدث.

***

ملحوظة: سلم مأمور السجن هذه الأوراق إلى مندوبٍ خاص من وزارة الداخلية سلمها بدوره في اليوم التالي إلى اللواء محسن فهمي، مدير الأمن بالفرع الإقليمي لشركة كوش العالمية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤