١٦

خرج المأمور من معركة اللحى كما تخرج الشعرة من العجين (إذ لبس إدكو الموضوع برمَّته)، لكن التوفيق جانبه في حالة الاحتفال بالسادس من أكتوبر. فقد كانت مسئوليته واضحة كالشمس، ألم يجرِ الاحتفال بمبادرةٍ شخصية منه؟ ألم يترك للدكتور رمزي مهمة إعداده دون أن يكلف نفسه عناء السؤال عما ينتوي العمل بعرائسه؟ صحيح أنه شعر بالانزعاج في منتصف العرض لما جاء على ألسنتها وألسنة المتفرجين الذين دسهم الدكتور بين الحاضرين (لم يفهم الكثير مما ردَّدوه لكن شعورًا مبهمًا خالجه بأن الأمور ليست على ما يُرام). وداعبه خاطر إيقاف العرض وإلغائه. ثم أدرك أن الإلغاء سيستدعي «س» و«ج» من رؤسائه وهو أمر يمكن تجنُّبه لو مرَّ الأمر في سلام، لهذا تغاضى عن العبارات التي أثارت قلقه واكتفى بأن يأمر بالقبض على الدكتور عندما شرع في إشعال النار ثم تبيَّن أنه لا يمكن القبض على شخص مقبوض عليه بالفعل؛ فأمر بإرساله إلى التأديب ثم تراجع عن ذلك عندما تذكر أن التأديب مكتظ بأصحاب اللحى، فأرسله إلى زنزانته، واكتفى ببعض الإجراءات لمواجهة رد فعل البيروقراطية عندما يتسرب إليها نبأ ما حدث، فاستعد لزيارةٍ مفاجئة من ممثليها بفرق نظافة من خدم الميري مسحت ولَمَّعت الأرضيات ودهنت الطرقات وبعض الزنازين التي اختارها كي يدخلها الزائرون صدفة.

حطَّ الزائرون فجأة كما توقَّع وتجوَّلوا في العنابر والورش فألفوا النظام مستتبًّا، ودخلوا الزنازين بالصدفة ووجدوها نظيفةً مرتبةً مدهونة يقطنها نزلاء تم تأديبهم وإصلاحهم، كما وجدوا الطبيب في العيادة والممرضين في المستشفى، واستقبلهم العاملون بالمطبخ في معاطفَ بيضاء نظيفة بل وقفازات من البلاستيك الشفاف. لم يُفد كل هذا بشيء؛ ففي نهاية الأسبوع نُقل المأمور وزوجته الصغيرة النزقة (وفي جعبتها صندوق سكرابل) إلى أطراف الصعيد، وعُيِّن العميد «سيد الضروبش» مكانه.

لم يكن هذا بالطبع لقبه الحقيقي، وإنما اكتسبه على مرِّ السنوات الخمس والثلاثين التي قضاها في خدمة مصلحة السجون. وبدا مناسبًا لوجهه المتجهِّم وجسمه البدين وساقَيه المقوستَين قليلًا وحركات ساعدَيه العشوائية.

كان هو الذي اختار العمل في مصلحة السجون بعد تخرُّجه من كلية الشرطة؛ إذ استهواه تطبيق لائحتها، وأتيحت له الفرصة على الفور في ليمان «أبو زعبل» وبالتحديد في سجنٍ ملحق به يسمى «الأوردي» حيث كان الشيوعيون يتعرضون للضرب يوميًّا كي يردِّدوا أغنية أم كلثوم الشهيرة: «يا جمال يا مثال الوطنية».

ما أثار سيد الضروبش وقتها ليس رفضهم الغناء وإنما التبرير الذي قدَّموه. قال متحدث باسمهم (أستاذ في الجامعة) إنهم يحبون الغناء ويعتقدون بوطنية جمال عبد الناصر وعلى استعداد لأن يتغنوا باسمه ليلًا ونهارًا لكنهم لن يفعلوا ذلك تحت وطأة التعذيب. لم يكن الأمر متعلقًا برؤيةٍ خاصة بفن الغناء؛ فقد ظل يضرب واحدًا منهم (من عمال النسيج) بعصًا غليظة على رأسه كي يقول إنه امرأة فرفض. وعندما كلَّت يده وأوشكت رأس المعتقل على التصدع أوقف الضرب وسأله عن سرِّ تعنُّته. أجاب أنه لا يجد ما يشين في أن يكون امرأة؛ لأنه يؤمن بالمساواة التامة بين الجنسين، لكنه لن يقولها إلا بمزاجه.

بدلًا من أن تُشبع الإجابتان فضوله، ضاعفتا من ريبته في أن هناك ملعوبًا ما يدار من خلف ظهره. فهل يُعقَل أن يسجنهم عبد الناصر لكي يجبرهم على الهتاف باسمه، الأمر الذي كانوا يفعلونه طواعية وهم أحرار؟ ومن ناحيةٍ أخرى؛ فالمنطقي أن يصبحوا ضد النظام بسبب ما يتعرضون له وكونهم مستمرين في تأييده لغزٌ آخر. هل هي تمثيليةٌ متقنة من الجانبَين؟ ما لم يفهمه أبدًا هو تصرف السلطات معه؛ فهي نفسها التي أصدرت إليه الأوامر بتطبيق اللائحة على هؤلاء الكفار الملحدين وبعد ذلك على المؤمنين ذوي اللحى، وعاقبته في الحالتَين على أنه نفَّذ التعليمات بأمانة وتفانٍ، فاستحق لقب الضروبش بجدارة.

نُقل الملازم أول سيد الضروبش إلى وظيفةٍ مكتبية في المقر الرئيسي للمصلحة عندما توفي أحد المعتقلين إثر ضربة شوم محكمة. هكذا لم يعد لديه من مجال لتطبيق اللائحة غير المنزل، وكانت وجهة نظره التي شرحها لأهل زوجته عندما استنجدت بهم أنه لا بد من احترام السلطة (خاصة وأنه لا يؤمن بالمساواة بين الرجل والمرأة).

تجوَّل سيد الضروبش بين مكاتب المصلحة لمدة عشرين سنةً بينما كان زملاؤه ينعمون بتطبيق اللائحة (ظهرت ملامح النعمة في شكل سياراتٍ فاخرة وشققٍ جديدة وملابسَ أنيقة ونساءٍ استبن) إلى أن بدأت موجة حرق نوادي الفيديو ودور العرض والمسارح والكنائس، ومسَّت الحاجة إلى خبراء تطبيق اللائحة فأُعيد إلى حلبته الأساسية حيث صال وجال إلى أن استُدعي لفرض الظبط والربط اللذين أخلَّت بهما احتفالات أكتوبر.

أقبل على عمله الجديد بهمة لتعويض ما فاته من فرص تطبيق اللائحة (فلم يعد بينه وبين التقاعد غير سنتين)؛ أمر بوضع الدكتور رمزي في التأديب (وتحرك شرف بالنتيجة بمقدار نمرة بعيدًا عن دلو البول) ثم ألحقه بعم فوزي، صانع العرائس، من باب الحيطة (تجاهل الدور الذي لعبه شرف وسامح وصبري إكرامًا لخدمات أولهم). وعندما تبين أن العنبر الصغير المخصص للتأديب كامل العدد بأصحاب اللحى، تصرف بذكاء؛ وضع كلًّا من الاثنين في زنزانةٍ انفرادية بالطابق الأرضي من عنبر الآخر؛ الدكتور في الميري وعم فوزي في الملكي، وطبق عليهما اللائحة؛ الفول والصراصير والفئران، فضلًا عن اللاءات الثلاث: الطابور والزيارة والقراءة. لكنه لم يتمكن من حرمانهما من سماع نشرات الأنباء أو إذاعتها، في حالة الدكتور رمزي.

ففي أول ليلة له بالزنزانة الانفرادية، وبعد النشرتَين التقليديتَين، الدنيوية والروحية، انطلق صوته من شراعة الباب. كان ضعيفًا مترددًا في البداية فلم ينتبه إليه أحد. لكنه ما لبث أن ازداد ثباتًا وقوة وأصغى أكثر من خمسمائة سجين لصوتٍ أجشَّ يحمل عليهم:

«لماذا تقبلون معاملة الحيوانات؟ لماذا تتركونهم يسرقونكم ويضطهدونكم؟ لماذا لا تطالبون بحقوقكم؟ طبقًا للائحة السجون، لكل واحد فيكم الحق في سرير ومرتبة وملاءات وبطاطين وأدوات طعام، وطقمَين من الملابس الداخلية والخارجية صيفًا وشتاء، لكنكم لا تحصلون على السرير والمرتبة والملاءات ويعطونكم بطاطينَ متهرئة وطاقمًا واحدًا من الملابس.

طبقًا للائحة السجون لكل واحد فيكم الحق في ١٤ وجبة في الأسبوع منها ٧ فول و۳ عدس و۲ لحم و۱ جبن و١ وجبة خضار ساخنة وقطعة عجوة تزن حوالي ۱۲٥ جرامًا. لكنكم لا تحصلون إلا على فتات لا يصلح ولا حتى للحيوانات.

طبقًا للائحة السجون لكل واحد فيكم الحق في رعايةٍ صحيةٍ كاملة لكن السجن به طبيبٌ واحد يأتي مرةً واحدة في الأسبوع لمدة ساعتَين، ولكي يفوز الواحد منكم بلقائه لا بد أن يدفع علبة سجائر للتومرجي، ثم في النهاية لا يحصل على غير حبتَين من الأسبيرين.

وإذا اشتكيتم أو تضررتم تعرضتم للجلد، وهي عقوبةٌ مهينة تنتمي إلى عصور العبيد وتتنافى مع الدستور.

لماذا تقبلون استغلال النوباتجية والحراس؟

هل تعرفون أن لائحتهم تعطيكم حق الاحتجاج والاعتصام والإضراب عن الطعام حتى تأتي النيابة لتسجل مطالبكم؟»

ران الصمت على العنبر عدة لحظات ثم انطلقت صيحات التهليل من الزنازين المختلفة، ما لبث أن غطى عليها صوتٌ جهوري وجَّه إلى الدكتور أقذع الشتائم (تتعلق برجولته المفترضة)، تلاه صوتٌ جهوريٌّ آخر أعلن: «الدكتور رمزي عاوز يروح لأمه يا جدعان»، وكرَّر ثالثٌ نفس الاستنتاج مقلِّدًا عربية الدكتور الفصحى: «الدكتور رمزي يريد الذهاب إلى أمه يا رجال.»

من جانبه قرر الدكتور أن يعطيهم القدوة فأعلن في اليوم التالي الإضراب عن الطعام إلى أن يتم تطبيق اللائحة والدستور.

تلقَّى الضروبش نبأ هذا الإعلان بغير مبالاة، ففضلًا عن سذاجة المطالب، تنصُّ اللائحة على عمل محضرٍ رسمي بالإضراب بعد مرور أربع وعشرين ساعةً. لكن اللائحة شيء وتطبيقها شيءٌ آخر. فمنذ قيام الثورة لم تعد السجون تنفذ هذا النص إلا بعد مرور أربعة أيام على الأقل تستخدم خلالها كل وسائل الإقناع حتى يعدل المسجون عن الإضراب وبالتالي لا يثبت أمره في أوراق السجن. لم يهتم الضروبش بمحاولة إقناع الدكتور؛ إذ تصوره غير أهل لذلك، اكتفى بأن عرضه على الطبيب النفسي الذي أرسلته المصلحة خصوصًا، ووجَّه جهده كله إلى حملة الظبط والربط التي شنَّها، فأحال للتحقيق علي بلبل لأنه غادر السجن قبل موعده (الساعة الثالثة والنصف في قول الضابط مرقص فهمي، والرابعة والنصف في قول أمين البوابة). فتَّش على طفايات الحريق فوجدها معطَّلة ثم اكتشف أن لا أحد بالسجن كله من ضباط وحراس ومسجونين يعرف كيفية تشغيلها؛ فأحال الجميع (الطفايات) للتحقيق. لاحظ وجود كثير من الكلاب الضالة في أنحاء السجن فأحالها إلى «سماوي» متخصص اصطيادها وضربها بالنار ليلًا. هجم على المخازن فوجد بها ٢٩٤ كيلو عجوة تالفة بسبب انتهاء صلاحيتها للاستهلاك الآدمي، وتبين أن تحقيقًا إداريًّا جرى في هذه الواقعة منذ ثلاث سنوات وأُرسلت نتيجته إلى المصلحة بالمحضر رقم ١١٦. وأقرَّ مراجع المخازن بالمصلحة «إدوار لبيب» باستلامه، إلا أنه أفاد بتسليمه لرئيسه «عبد القادر الدسوقي» الذي أنكر ذلك؛ وبالتالي ضاع المحضر المذكور نهائيًّا.

فتح «س» و«ج» مع المساعد أول شرطة أمين المخزن الذي كان اسمه، بالضرورة، إبراهيم أمين، فقرر أن العجوة التي تسلمها كانت سليمة.

  • س: وكيف عرفتَ أنها كانت سليمة؟
  • ج: لأن اللجنة التي استلمتها من شركة قها وقَّعت بأن الكمية صالحة، وتم الصرف منها في حينه إلى أن أوقف سيادة النقيب أحمد الجوهري الصرف.
  • س: هل تعرف لماذا أوقف سيادة النقيب أحمد الجوهري صرف العجوة المذكورة؟
  • ج: بناء على شكوى المساجين.
  • س: وبماذا اشتكى المساجين؟
  • ج: اشتكوا من وجود آثار عض بها.

كشف التحقيق أن الضابط المذكور خالف التعليمات؛ لأنه فعل ما فعله دون أن يحرِّر محضرًا به أو يطلب لجنة لتحديد المسئولية والصلاحية؛ ولهذا أحاله الضروبش إلى التحقيق.

خلال ذلك كان الدكتور يواصل نداءاته من شراعة الزنزانة، فبعد أن ملَّ تكرار ندائَي الحقوق والإضراب عن الطعام انتقل إلى مجال تخصصه:

– هل تعرفون أن ٦٠ بالمائة من ثمن الدواء في مصر يذهب إلى الموزع والمستورد؟ وأن الدواء الذي تدفعون فيه الآن ثلاثة جنيهات ستدفعون فيه عشرين بعد تطبيق الجات؟ هل تعرفون أن ٥٥ بالمائة من الأطفال مرضى بأكبادهم، وأن عدة أفراد لا وطن لهم ولا ضمير كدسوا ثروات بالملايين من استيراد الأطعمة الفاسدة ورشِّ المبيدات؟ هل تعرفون أنهم يبيعون السرطان لعشرين مليون طفل؟ اشربوا هذا بطعم البرتقال، كلوا هذا بطعم الفراولة، الحسوا هذا بطعم الأناناس والشكولاتة والملح والخل والكاري والكباب والخراء. مياهٌ غازية وكولا ملونة وشكولاتة وحلوى وأعصرة وشربات ومربات وجيلي وغزل بنات، عبارة عن مكسبات طعم ورائحة ولون، أي أمراض تُدوِّخ أطفالكم طيلة العمر إلى أن يقصفه السرطان بعد أن يصابوا بالفشل الكلوي من جراء المياه الملوَّثة، أو الطرش والغباء بسبب التعرض للرصاص المنبعث من عوادم السيارات، أو يرحمهم الرحيم فيقعون في بالوعة مجاري أو تدهسهم سيارة أو ينفخهم صاحب ورشة.

طبعًا لم يكونوا يعرفون كل هذا وإلا ما ردوا عليه بنداءاتٍ معاكسة تضمنت اتهاماتٍ بذيئة تتعلق بأمه (أهونها رغبته في الخروج إليها)، استفزت الدكتور فوجَّه إليهم السباب:

– يا حيوانات يا مساكين! دفعتم نصيبكم من الأموال الهائلة التي تنفقها الدولة على تعليم وتدريب أطباء يستنزفونكم ويعاملونكم معاملة الحيوانات، يجرون لكم جراحات لا تحتاجون إليها وينسون مشارطهم في بطونكم. دفعتم نصيبكم من الأموال الهائلة التي تنفق على إقامة مستشفيات لا يدخلها من يحتاج إليها، تستخدم أدويةٌ فاقدة الصلاحية ولا تقبل الحالات العاجلة وحوادث الطرق دون أتعاب وتتقاضى أجورًا باهظة رغم أنها معفاة من الضرائب لمدة خمس سنوات على الأقل ومعفاة أيضًا من الجمارك، جهاز الأشعة الذي ثمنه ٢٠٠ ألف جنيه جمركه ٥٠ ألفًا ويدفع المستشفى ألفًا واحدة فقط ثم يطالبكم بالآلاف. يا غلابة يا مساكين … الواحد منكم يعيش في كشك طوله لا يتعدى ثلاثة أمتار وعرضه متر ونصف متر والسقف تبدو منه السماء بعد أن فتَّتته الأمطار … تعانون البرد وتقضون حاجتكم ليلًا في دورة مياه مشتركة يستعملها ثلاثون أسرة على الأقل أي مائة وخمسون شخصًا على الأقل. وتحصلون على المياه العذبة من المسجد القريب وأحيانا تشترون الجركن بخمسين قرشًا … وحولكم آلاف الشقق المغلقة والأبراج العملاقة، اسألوا أنفسكم: لماذا تقبلون كل هذه المهانة؟

لم يعبأ الضروبش بنداءات الدكتور إذ انشغل بالبحث عن خاتمه الذهبي الذي فقده في غمار تطبيق اللائحة، كان قد اشتراه بعد تعيينه في المصلحة من أول راتب له. ولهذا كان يستبشر به بعد أن ربط بينه وبين طاقة القدْر التي فتحت له. وبلغت معزة الخاتم عنده أنه رفض بيعه لمواجهة الضائقة التي مرَّ بها عندما أغلقت الطاقة ونُقل إلى المكاتب. لهذا جند السجن كله بحثًا عن الخاتم دون جدوى، وفي النهاية الْتجأ إلى «المهدي» المنتظَر.

كان عم حسين الكعكي متهمًا في قضية إهانة أديان، ويؤمن بأنه المهدي المنتظَر الذي تحدَّثتْ عنه الأديان المتهم بإهانتها، وأنه سيحكم العالم في القريب. لم يكن الأمر هزلًا؛ فقد آمن به الكثيرون وعلى رأسهم دكتور في أصول الفقه بالأزهر، أخرج أولاده الأحد عشر من المدارس على أساس أنها مضيعة للوقت طالما أن زعيمه سيحكم العالم قبل أن تنتهي السنة الدراسية.

أحضره الحارس في قميصٍ مشجَّر وبنطلون هافانا. كان ربعة، ممتلئ الجسم، حادَّ النظرات، فصيح اللسان، تبدو عليه ملامح الذكاء والحيوية البالغة.

خاطبه الضروبش باستخفاف: إزيك يا عم حسين. عامل إيه؟

أجاب المهدي المنتظر برصانةٍ بالغة: أحمد الله وأشكره يا سيادة المأمور.

أخفى المأمور ضيقه من تجريده من لقب الباشا المعهود وقال: الله! إنت بتعرف ربنا أهوه … أمال إيه اللي بيقولوه عليك؟

سيطر المهدي المنتظر على أعصابه وشرح للمأمور كيف أنه يؤمن بالله وبرسله جميعًا بما فيهم هو نفسه. وعندما لم يبدُ الاقتناع على وجه المأمور أضاف: أنا سيادتك تحدَّيت النيابة والقضاة أني قادر على حل ثلاثة ألغاز حيَّرت العالم.

لم يكن المأمور في هذه اللحظة معنيًّا بغير لغزٍ واحد؛ أشار عليه المهدى أن يستدعي كافة الأشخاص القريبين منه، من الضباط والحراس إلى المجندين والنوباتجية. تفرَّس في وجوههم الواحد بعد الآخر فاصفرَّت جميعها وبدا الارتباك على أصحابها. اصفرَّ وجه الضروبش أيضًا إذ ظن أنهم اشتركوا كلهم في سرقة الخاتم، لكن سر المهدى كان باتعًا فقد خطا نحوهم وأشار بحركةٍ مسرحية إلى أحد المجندين الذي تراجع قليلًا إلى الخلف في ارتباكٍ شديد. تولى الضباط الباقي فوجَّه إليه علي بلبل السباب وتوعده بالويل والثبور، وعاجله خضرة بصفعة على وجهه وركلة في مؤخرته، ثم تسلَّمه مرقص فهمي إلى أن اعترف.

عبر الضروبش عن امتنانه بطريقة أسلافه من الحكام. طلب من المهدى المنتظر أن يتمنى عليه شيئًا بعد أن وعده بتحقيق أمنيته. فطلب نقله من الزنزانة التي يسكنها وضمه إلى أعوانه وأتباعه.

لم يكن فصله عنهم لسببٍ غير أزمة المساكن وضيق الأماكن. أما ضيقه بزنزانته الحالية فكان جمال عبد الناصر هو المسئول عنه. ففي غمار التصريحات اليومية الصادرة عنه والتي تبلور أفكاره وفلسفته، والتي قسم فيها الأرواح إلى خيِّرة وشريرة، أعلن ذات مرة أن ناصر من عتاة المجرمين، دون أن ينتبه إلى أن الزنزانة تضم ثلاثة من عتاة الناصريين الذين حُكم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة في تنظيم ثورة مصر المسلح، وكانوا في طريقهم من الليمان إلى القصر العيني للعلاج. ولم يكونوا في حاجة إلى أية أسلحة كي يحوِّلوا حياته إلى جحيم.

ارتبك سيد الضروبش وقال: السجن زحمة الوقت ع الآخر، لكن في أقرب فرصة حانقلك.

كان المهدي المنتظر خبيرًا بوعود الحكام فقرر أن يعتمد على نفسه. في نفس الليلة أيقظ زملاءه في الزنزانة عند الفجر، وهو الموعد الذي يتلقى فيه الوحي، وهتف فيهم: أبشروا يا إخواني.

بُهت الإخوان وتبادرت إلى أذهانهم بُشرى واحدة لا غير وعندما استوضحوه الأمر قال: الحبيب أخبرني أنه تمت إعادة تقويم عبد الناصر في البرزخ وتقرَّر ضمُّه إلى العناصر الخيرة.

بالمقابل أعاد الناصريون تقويم المهدي المنتظر. وكما يحدث عادة في هذه الحالات، اشتطوا في الأمر فآمنوا بالرجل وبدعواه. ومن جانبه وثق هو فيهم فأسرَّ إليهم ببقية رسالة الحبيب: في نهاية الشهر الهجري التي تحلُّ بعد أسبوع سينطلق موكب المهدي المنتظر من المنطقة المقدسة (أي السجن الذي تقدس بوجوده) بعد أن تنزل من السماء أربعة أسود تفتح الطريق أمامه ودابةٌ قادرة على التمييز بين المؤمن وغيره تهش للأول وتكشر للثاني، وتصادف أن الْتجأت إحدى القطط الضالة إلى الزنزانة في نفس اليوم فاعتقد الجميع أنها الدابة المقصودة وشرعوا يعاملونها برقَّة بينما أخذ هو يردد لكل من يخاطبه في شيء: إن هي يا بني إلا مسألة أيام.

تضاعف إيمان الجميع بمقولات المهدي ودعاویه وبأنه سيخرج ويحكم العالم كله، وأبلغ الناصريون المحامين الذين كانوا يسعون إلى استصدار عفوٍ صحي عن بعضهم: أوقفوا مساعيكم، خلاص الدنيا كلها حتتغير بعد يومين.

حل اليوم الموعود أخيرًا دون أن يحدث شيء بالطبع. فانقلب الجميع على المهدي المنتظر وأشبعوه سخرية واستهزاءً، تحمَّل الرجل الموقف في بسالة المجاهدين وأصحاب الرسالات دون أن يصيبه اليأس. وبعد عدة أيام أيقظهم في الفجر قائلًا إن الحبيب جاءه وعاتبه لأنه أفشى السر؛ فالخبر كان له وحده، ولهذا قرر أن يربيه بتأجيل التنفيذ. وأكد الحبيب ما سبق أن قاله بخصوص قرب خروجه في موكب ليحكم العالم فهو الحق بعينه، لكنه، عقابًا له، لن يذكر له من الآن لا الموعد ولا الزمان ولا الكيفية.

خلال ذلك انشغل الضروبش بإعادة تقويم الرائد مرقص فهمي على ضوء اعترافاتٍ جديدة من سارق الخاتم الذهبي، ألمحت إلى الرواتب الشهرية التي يحصل عليها من المساجين الذين يعملون في مشغولات الخرز والخشب كي يسمح لهم بالخروج إلى الزيارة يوميًّا لعرض منتجاتهم على الزائرين.

استقبل الضروبش هذه الاعترافات بهدوء. وانتظر فرصةً ملائمة للتصرف. سنحت الفرصة سريعًا؛ ففي أثناء مروره بالفناء وجد سيارة «مازدا» يجرى إصلاحها بواسطة أحد السجناء، أخبره الحراس أنها خاصة بالضابط مرقص فهمي وقد عهد بها إلى هذا المسجون بالذات لأنه من الخبراء النادرين في السيارات اليابانية (سرقتها بالطبع). وفي اليوم التالي رأى سيارةً أخرى من طراز «أوبل» مكان السيارة المازدا يتولى الخبير الياباني إصلاحها. استفسر من مرقص فهمي نفسه فقال إن السيارة لزوج أخته الذي أعجب بالإصلاحات التي تمت على المازدا فرجاه أن يطبقها على الأوبل. وبعد يومَين كانت هناك ثلاث سياراتٍ متجاورة في الفناء من ماركاتٍ مختلفة، أراد أن يستفسر عن الأمر فبعث في طلب مرقص فهمي. قيل له إنه غادر السجن لشراء مهمات للكانتين، بحث عن الخبير الياباني فاكتشف أنه غادر السجن أيضًا في رفقة الضابط، وتبين أن الاثنين نزلا إلى السوق لشراء قطع غيار للسيارات الثلاث.

لم تكن اللائحة تتضمن ورشة لإصلاح السيارات أو إمكانية استخدام الفناء لأغراض غير التريض (للمساجين) والجلوس إلى جوار الزهور (للضباط)، ولا كانت السجون قد دخلت بعدُ برامج الخصخصة، كما أن مغادرة السجن بالنسبة للنزلاء كانت لها حالاتٌ محدَّدة، ليس بينها أبدًا النزول إلى السوق، لهذا جرت مواجهةٌ حاسمة. بين الضروبش والضابط لم تؤدِّ إلى إحالة الأخير وإنما أثمرت نتائج أكثر إيجابية أهمها تدعيم الورشة بخبيرَين آخرَين من تخصصاتٍ أخرى (السيارات الفرنسية والأمريكية) وإطلاق عملية الشاي.

ففي سعيه من أجل إحكام الظبط والربط، شنَّ الضروبش سلسلة من حملات التفتيش العشوائي (تسبقها معلوماتٌ محدَّدة من المرشدين) صادر فيها الممنوعات التي صادفته وعلى رأسها بالطبع الشاي الذي عهد به إلى الضابط مرقص فهمي كي يبيعه سرًّا للمساجين من خلال شبكة المرشدين. وقبل أن يتمكن هؤلاء من استهلاكه قام الضروبش بحملةٍ تفتيشيةٍ عشوائية ثانية فصادر نفس الشاي الذي سبقت له مصادرته وعهد به لمرقص فهمي لیبيعه من جديد وهكذا.

لم يكن قلقًا بشأن الدكتور رمزي، حقًّا إن اللائحة، الموروثة من العهد الملكي، تنصُّ على ضرورة استدعاء النيابة للتحقيق في مطالب المضرب عن الطعام في موعد لا يزيد عن ٤٨ ساعة منذ بداية الإضراب أي منذ بداية تسجيله في الدفاتر، إلا أن هذه المدة امتدت بلا حدود في ظل الثورة. وبذلك أتيحت الفرصة للدكتور كي ينوع نداءاته ويوسع من مجالها: يا غلابة يا مساكين … هل تعلمون أن خمسة من أهالي القرية يشغلون أهم المناصب الإدارية بها، من العمودية إلى إدارة الجمعية، هم أنفسهم تجَّار الأسمنت ومواد البناء والمقاولون الذين يتعهدون ببناء المنازل على الأراضي الزراعية التي اشتروها وقاموا بتقسيمها وبيعها من قبلُ. وهم كبار الحائزين يملكون ثلث الأرض ويستأجرون الربع ويملكون ثمانين بالمائة من أدوات الإنتاج خاصة الجرارات وماكينات الري ورافعات المياه ويقومون بتأجيرها لصغار الفلاحين بدعم المعونة الأمريكية بأجورٍ مرتفعة بينما يستخدمون الأدوات الموجودة في الجمعية التعاونية بأجر أقل وهي التي قيل للفلاح إنها معطلة …

تهدج صوته من التعب لكنه واصل: يا غلابة يا مساكين … هل تعرفون أن ثمانية تجار يسيطرون على سوق الخضر والفاكهة، وأربعة على تجارة اللحوم المستوردة، وسبعة على البقالة وثلاثة على سوق السمك … وأن كل هؤلاء يتفقون عليكم كل مساء … وأن المستهلك ليس هو الضحية الوحيدة. المنتج أيضًا من الضحايا … فالمزارع والصياد لا يحصلان على أكثر من نصف حقهما ويذهب النصف الآخر لتجار الجملة.

وفي اليوم الذي بعده عاد إلى قضية الطعام، ويبدو أن عزيمة الامتناع عنه أصابها بعض الوهن، وأنه شعر بالحنين إلى بعض الأنواع المحبَّبة إليه، فأراد أن يشد من أزر نفسه: هل تعلمون أن مربي الدواجن يضيفون حبوب منع الحمل إلى أعلافها من أجل تسمينها فيعرضونكم لخطر الإصابة بسرطان الكبد؟ وأن البصل الأخضر والفجل والجرجير والكرات التي تعيشون عليها وتحلمون بها؛ ملوثة بالرصاص الذي يسبب الأنيميا والتخلف العقلي ويمحو الذاكرة ويجعل الواحد ينسى حتى أمه، وبالكادميوم الذي يضر بالكلى ويؤدي إلى الإجهاض؟

هلل المساجين لندائه كالعادة، وصاح أحدهم من زنزانة في الطابق الرابع: يا كاديوم إنت يا كايدهم.

هل اكتفي الدكتور؟ كلا.

في اليوم التالي واصل اختبار معلوماتهم: هل تعلمون أن في مصر ٣٠ ألف سيارة من طراز مرسيدس. متوسط سعر الواحدة ٧٠ ألف جنيه أي إن المجموع ۲۱۰۰ مليون جنيه تكفي لسداد ثلث العجز في الميزانية العامة أو نصف أصل الديون العسكرية؟ وإن المرسيدس التي تدعى بالزلمكة لا يقل ثمنها عن ٤٠٠ ألف جنيه وهو مبلغ يكفي لشراء ثلاثة أتوبيسات للنقل العام وبناء أربعة آلاف وحدةٍ سكنيةٍ اقتصادية؟

هل تعلمون أن سعر طفاية السجاير في المرسيدس المدعوة بالشبح ۷۰۰ جنيه أي ما يكفي لإطعام ١٤٠٠ مصري بوجبة إفطار مكونة من ۲۸۰۰ سندوتش فول، وأن سعر الإطار الواحد لهذه السيارة يساوي مرتب عشرة موظفين مصريين في شهر، والفانوس الواحد بها ثمنه ٤٥٠ جنيهًا والتكييف ١٥ ألفًا؟ هذه هي السيارة التي يملكها الآن ١٣٦٠ من الذين يدعون أنفسهم برجال الأعمال ومنهم وزراء ورؤساء صحف، وحجزها ٤٠٠ غيرهم دفعوا جميعًا فيها ما يساوي ثلثي تكاليف فوائد الدين السنوية على مصر ومقدارها أربعة مليارات جنيه. وهم لا يدفعون عنها ضرائب؛ فهي تمرُّ من الموانئ بنظام التربتيك الذي ابتكروه خصيصًا لمصلحتهم، فيضع صاحب السيارة قيمة الجمرك في أحد البنوك فتوفر له ضريبة التربتيك التي تقدر بالألوف بدلًا من الجمرك الذي يقدر بالملايين، أو يكون أصلًا صاحب مشروع يتمتع بالإعفاءات الجمركية فتضاف السيارة إلى الأصول المعفية.

بمجرد أن تعرض الدكتور رمزي للسيارات بدأ الضروبش يشعر بالقلق. استخرج ملفه وتصفح التقرير الطبي الذي أهمل قراءته في حينه. كان بتوقيع الدكتور حمدي السكري، الطبيب بمستشفى حلوان للأمراض النفسية. وجاء به أن المسجون «يتمتع بشخصيةٍ قوية تميل للعظمة، كما أنه جذاب للآخرين، ذكي يحب الناس جميعًا وخاصة ذوي المراكز المرموقة، طموحه أكبر من قدراته، ذو ذاكرة قوية، يتمنى أن يصلح الكون، مضطرب نفسيًّا نتيجة ما يحدث حوله من انحرافات.» حاول أن يستخلص من ذلك نوع الإجراء الذي يتعين اتخاذه، وقبل أن يصل إلى قرار وقع ما صرف اهتمامه في اتجاهٍ آخر.

فبينما هو يقرأ خطابات السجناء لشطب أي إشارة إلى سوء المعاملة وبحثًا عن أي عبارة يمكن أن تغذي مشاعره الإيروتيكية الذاوية، هبطت عليه فجأة لجنةٌ مشتركة من لواءات المصلحة (مباحث السجون) والداخلية (أمن الدولة) والمخابرات العامة؛ وتبين أن المهدي المنتظر تمكن من تسريب رسالة إلى رئيس الجمهورية. لم ينزعج ممثلو البيروقراطية لأنه تمكن من إخراج رسالة من السجن عن غير الطريق الرسمي، ولا لأنه تجاسر على مخاطبة رئيس الجمهورية، ولا على الطريقة غير اللائقة التي خاطبه بها؛ إذ وصفه بأنه من الأشخاص ذوي الأرواح الخيرة، ثم حذره من أن يتعرض للإفساد على أيدى أصحاب الأرواح الشريرة، ولا أزعجهم قوله إنه يستطيع أن يقدم للرئيس الدليل على صدقه بأن يحل الألغاز الثلاثة التي حيرت العالم، ما أزعجهم لدرجة بلَّلت ملابسهم الداخلية هو ما جاء في نهاية خطابه من أن الله سيخرجه من السجن لمدة أربع وعشرين ساعة بكيفية لا يعلمها إلا هو (أي سبحانه تعالى).

استُدعي المهدي المنتظر لمقابلة البيروقراطية، وقف أمامهم محاطًا بحارسَين أمسكا بساعدَيه حتى لا يخرج من السجن بدونهما، سأله لواء مباحث السجون: إيه يا عم حسين اللي انت باعته للريس؟

أجاب عم حسين على الفور: الرئيس رجلٌ طيب وخيِّر. وأنا استخدمت حقي في مخاطبته.

سأله لواء المخابرات العامة: وإيه هي بأه الألغاز اللي حيَّرت العالم؟

أجاب المهدي المنتظر: إنها ثلاثة يا سيادة اللواء. مثلث برمودا وقارة الأطلنطيد المختفية وأصل موشيه دایان.

– ما له موشيه دايان؟

أجاب بثقة: أصله سفاحٌ أمريكي كان موجودًا في أمريكا سنة ١٨٠٠، لو ضاهى أحد بصماته ببصمات موشيه ديان لتطابقا.

– وانت ناوي تهرب؟

– لا يا سيادة اللواء. الله سبحانه سيخرجني من هنا لمدة ٢٤ ساعة فقط وأعود مرةً أخرى.

تدخل لواء مباحث أمن الدولة: حتعمل إيه في الأربعة وعشرين ساعة دي؟ إذا كان عندك مصلحة مستعجلة قلِّنا عليها وإحنا نشوفهالك من غير ما تتعب نفسك وتتعب المولى معاك.

– أستغفر الله يا سيادة اللواء. إنها إرادة الله ولا رادَّ لمشيئته.

أمر اللواءات بإخراجه من الغرفة على أن ينتظر بالخارج مع حارسَيه.

فور خروجه أعلن الضروبش بصوتٍ حاول أن يجعله قويًّا: الجن الأحمر نفسه ميقدرش يطلع من السجن من غير إذني.

تطلع إليه لواء أمن الدولة باستخفاف، وطالب لواء مباحث السجون بوضع المهدي في التأديب وتشديد الحراسة عليه، ردَّ الضروبش بأن التأديب لا يوجد به مكانٌ فارغ، وأن الحراسة مشددة عليه بالفعل وهو في زنزانته.

عاد اللواء الخبير بأوضاع السجون يتكلم: بالنهار طبعًا مفيش مشكلة. تقدروا تراقبوه بكذا طريقة. المشكلة بالليل. مين حيراقبه طول الوقت؟ حتى لو حطيناله حارس مخصوص على الباب، منضمنش إنه يسيب مكانه ويروح يشرب شاي أو ياخد تعسيلة.

استشار لواء المخابرات العامة أوراقه وقال: معلوماتنا أن الساحر ميقدرش يخرج نفسه من المكان إنما يقدر يخفي نفسه في المكان، فافرضوا إننا حطيناه في زنزانة لوحده وأخفى نفسه؟

بعد تفكير ومشاورات توصلوا إلى وضعه في زنزانةٍ خاصة مع عددٍ محدود من النزلاء بينهم مرشد أو اثنان يتكفَّلان بمراقبته طول الوقت — وخاصة بالليل — والإبلاغ عن تحركاته وخططه واللحظة — لا قدر الله — التي يختفي فيها.

أضاف لواء أمن الدولة: إحنا حنراقب كمان بيته والأماكن اللي بيتردد عليها عشان لو خرج. مفيش أي معلومات عن مكان معيَّن بيتكلم عنه؟

قال الضرويش: هو دايمًا بيتكلم عن مكان اسمه البرزخ، لكن مبيقولش هو فين.

سجل اللواء هذه المعلومة، فتدخل لواء المخابرات العامة: باين عليه مكان خارج البلاد. يبقى من اختصاصنا.

عند انصراف اللواءات حرص كلٌّ منهم على الانفراد بالمهدى المنتظر لاستفساره في شأن «بعض المتاعب الصحية». ولم تغب طبيعة هذه المتاعب عن فطنة المأمور الذي سبق أن استشار المهدي فيما يؤرق كل المآمير واللواءات.

انفرد الضروبش نفسه بالمهدي بعد انصراف الزائرين: اسمع يا عم حسين. إنت لازم تفهم أنا معنديش حاجة ضدك. أنا بأدِّي واجبي وبس.

– فاهم يا سيادة المأمور.

– أنا عاوزك تحلف ع المصحف إنك متضرنيش بحاجة، أنا عارف إنك واصل وبتاع ربنا.

حلف عم حسين واطمأن المأمور فسأله في استعطاف: إنت ناوي ترجع فعلًا لو خرجت؟

أجاب المهدي المنتظر بتؤدة: كله بأمر الله.

أمره بالانصراف واجتمع على الفور بضباطه لتدبير الزنزانة الخاصة واختيار نزلائها. وعندما جاء دور المرشد الذكي الذي سيتولى المراقبة والإبلاغ تذكَّر الضابط خضرة أنه ورث بين ما ورث من متعلقات إدكو وأوراقه: أشرف عبد العزيز سليمان وأن هناك غطاءً جاهزًا للعملية؛ فقد حان الوقت لترقية نزلاء زنزانة الإيراد الجديد بالطابق الأرضي وتوزيعهم على الزنازين المتخصصة بالطوابق العليا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤