١٧

رقدتُ في النور أغالب النعاس. أردت أن أنقلب على جانبي الأيسر، لكني تذكرت تعليمات سيادة الضابط خضرة لي بألا يغيب عم حسين عن بصري طول الليل، وأن أستدعي الحراس إذا اختفى فجأة. انقلبتُ على الجانب الأيمن واختلست النظر إليه. وجدته غارقًا في النوم؛ فهو ينام مبكرًا دائمًا ويستيقظ في الفجر وهو الموعد الذي يأتيه فيه الحبيب؛ أي الرسول عليه الصلاة والسلام.

كنا خمسة في زنزانة المخزن الصغيرة بالطابق العلوي المخصص لجرائم المخدرات والنفوس؛ أنا، والمهدي المنتظر، والنوبتجي توكل، والحاج شوقي، ورضا بوند. لم تكن هناك أماكنُ خالية في الزنازين الكبيرة؛ لهذا وضعونا سويًّا في هذه الزنزانة رغم اختلاف جرائمنا. وعيَّن لنا توكل أماكننا؛ فخصَّ نفسه طبعًا بالركن البعيد، ووضع المهدي المنتظر في مواجهة الباب مباشرة ورضا بوند في الركن الآخر. أما أنا فقد وضعني إلى جوار المهدي، بينه وبين رضا، وجعلني هذا أشك في أنه على معرفة بمهمتي السرية وربما كان رقيبًا علينا نحن الاثنين. لكنى سررت لأني تحررت أخيرًا من رفقة دلو البول.

خالجني أيضًا شعور بأن توكل سعد بهذا التغيير ليتحرر من وجود المتعلمين من أمثال عزت بيه وسامح والدكتور رمزي ومستر تامر. وفي أول ليلة لنا بالزنزانة جمع منا الرسوم التقليدية، ثم أعددنا مائدةً مشتركة وأكلنا في صمت. وتولَّى عمل الشاي بمساعدتي ثم صاح فينا فجأة: جرى إيه يا اخوانا؟ إحنا في ميتم وللا إيه. إنتو عمركم ما دخلتم: سجن؟

لم يرد عليه أحد فاستطرد: عرفتم اللي حصل النهارده مع سيادة الباشا المأمور؟

هرزنا جميعًا رءوسنا في حيرة.

قال: بعت جاب سيادة الضابط خضرة وقاله يقوم ع الفيوم في الحال بواحد مسجون. وطلب منه إنه يروح بالطريق الصحراوي عشان يمر على بيته في المنيل — بيت المأمور — ويشوف إذا كان هناك وللا لأ.

تطلعنا إليه في وجوم، وأخيرًا بدأ رضا بوند يضحك فاستوقفه توكل بإشارة من يده: لسه. مش تعرف اللي حصل بعد كده؟ سيادة الضابط خضرة قام على طول. على باب السجن قابل سيادة الضابط علي بلبل. بلبل سأله: على فين العزم؟ قال له: ع الفيوم. قال له: متوصلني معاك. قال له: مش حينفع عشان أنا طالع الهرم. ليه؟ قال له: المأمور عاوز كده، عاوزني أفوت على بيته وأشوف إذا كان هناك وللا لأ. بلبل خبط كف على كف: أما غبي صحيح. ما عنده التليفون يقدر يتصل ببيته ويسأل.

ضحكنا جميعًا فانبسط توكل. قال: لازم الواحد يضحك، وإلا طق. محدش واخد من الدنيا حاجة، حتة قطن بس، مش کده يا شرف؟ عارف عشان إيه؟

لم أكن أعرف، قال: محضرتش ميت بيتغسِّل؟ مشفتهومش وهم بیسدوا كل خرم في جتته؟ لو كنت شاطر قولي يعوزوا كام حتة قطن.

أحصيت على أصابعي: اتنين للمراخير واتنين للودان، والخامسة …

قاطعني: فيك ولا مؤاخدة.

انفجر ضاحكًا وخبط على النمرة: ساعة الحظ مهمة. تديني كم سنة؟

لم أردَّ فوجَّه السؤال إلى المهدي: تديني كام سنة يا عم حسين؟

لم ينتظر الإجابة واستطرد: أنا ثلاثة وخمسين ولي أخ أصغر مني بثلاث سنين لو شفته تقول عجوز. ده لأني مبشيلش هم. أقوم مِ النوم قبل الضهر. آخد الاصطباحة وأنزل، ألاقي الناس زي ما يكونوا مضروبين بالصرم، والصنايعية مقفِّلين ومكشَّرين. أزعق فيهم: جرى إيه يا ولاد القحايب؟ محدش عملكو حاجة إمبارح وللا إيه؟ وأقوم موزع عليهم الدوا على طول يفكوا ويهيصوا.

وأضاف موجهًا الكلام إلى شوقي عمر: صح وللا لأ يا حاج؟ اللي زينا بيخدموا البلد شوف الناس يبقى شكلها إيه إن مكنَّاش نخفف عليها. قال وبيحاكمونا على كده.

تذكرت أبو السباع وحديثه عن دوره القومي. وتأكدتْ شكوكي في توكل عندما هجعنا للنوم وطلب منه المهدي أن يخلع المصباح الكهربائي فرفض قائلًا إن التعليمات تقضي ببقائه مضاءً طول الليل، ورأيت المهدى يبتسم فأدركت أنه فهم أن هذا الإجراء يتيح للحراس رؤيته من النضارة أثناء الليل والتأكد من عدم اختفائه.

وجدت نفسي أستريح للمهدي، كان يتكلم كثيرًا ويفتي في كل شيء، مثل الدكتور رمزي. لكن حديثه كان شيقًا على خلاف الأخير. كان مغرمًا بمسلسل «فالكون كريست» ولا يملُّ الحديث عن أبطاله، وحكى لنا منه عدة حلقات سبق أن شاهدتها لكني استمتعت بطريقته في الحكي. وكان يرتدي قمصانًا مشجرةً أو «بولو سبورت» وينتعل في الطابور حذاء «ريبوك» فوق جوارب من نفس الطراز نُقش عليها العلم الأميركي، وكان الطعام يأتيه يوميًّا، وعندما يحضره ويدخل الزنزانة يكشف محتوياته قائلًا بالفصحى التي لا يتخلى عنها أبدًا: «ترى ماذا أعدت لنا أم المؤمنين اليوم؟» كان يقصد زوجته وأراني صورتها وكانت جميلةً جدًّا رغم الحجاب الذي يغطي رأسها ويحيط بوجهها.

شرح لنا نظريته؛ وهي أن ربنا خلق مجموعة من الأرواح الشريرة والخيرة ذات دورات، وجعل الأنبياء روحًا واحدة خرجت منها دورة باسم عيسى وأخرى باسم موسى وثالثة باسم محمد عليه الصلاة والسلام وهو آخر دورة في الأنبياء. وقال إنه تحدى في التحقيقات أنه قادر على حل ثلاثة ألغاز حيرت العالم؛ مثلث برمودا، وقارة الأطلنطيد، وأصل موشيه دايان. وعندما سألته عن حل هذه الألغاز قال إنه يحتفظ به للوقت المناسب.

سأله توكل: وانت ناوي فعلًا تهرب؟

كان أمر الخطاب الذي أرسله إلى سيادة الرئيس قد ذاع في السجن.

قال: الحبيب هو الذي سيخرجني ويعيدني بعد أربع وعشرين ساعة.

– تعمل فيهم إيه؟ عندك معاد مهم؟ ولا يمكن مؤتمر؟

لم يكن المهدى يعبأ بمحاولات الاستفزاز ولا كان يغضب من المزاح. كان يتجاهله وينطلق في حديثٍ جاد ومنطقي ويجبر سامعه على احترامه والإنصات إليه.

اطمأننتُ إلى أنه غارق في النوم فاعتدلت على ظهري والتفتُّ ناحية رضا. كان أكبر مني بعشر سنوات، ضخم الجسم مستدير الوجه، حليق الرأس، ذا عينَين واسعتَين وشاربٍ كث. وكان معروفًا بأنه من أخطر لصوص السيارات، ودخل السجن عشرات المرات، ولديه أكثر من خمسين قضية.

قلت له: مش عارف أنام وعندي زيارة الصبح.

سألني: سلك ولا خاصة؟

قلت: خاصة.

عاد يسأل: مين جايلك؟

قلت: أمي هي اللي بتيجي دايمًا. وانت؟

قال: أمي برضه، معنديش غيرها.

طلبت منه أن يحكى لي كيف قُبض عليه فضحك.

قال: مش حتصدق.

لم يكن السجناء يتحدثون عادة بصراحة عن جرائمهم ويحرصون على التأكيد على براءتهم؛ ولهذا شعرت بالزهو لأن رضا يحكي لي كل شيء ولا يخفي شيئًا. وتأكدت أنه يثق فيَّ.

قلت وأنا أختلس نظرة إلى عم حسين وأتأكد من وجوده: احكيلي.

– شوف يا سيدي: مرة شفت أتوموبيل في المهندسين عجبني. مرسيدس فيها كل الكماليات وعليها اللوحة الخضرا بتاعت السفارات. مشيت وراها لغاية ما عرفت انها تبع سفارة أفريقية، بلد كده اسمها غريب. تَصوَّر نسيته؟ المهم. قعدت أراقب السفارة وأفكر في طريقة أخطف بيها الأتوموبيل، وفي يوم لقيت فيها شغل نقاشة وعمال بتيجي الصبح. رحت متنكر في هدوم نقاش ودخلت ضمن العمال وسهِّيت السواق وهربت بالأتوموبيل.

نظرت إليه في إعجاب، فضحك وقال: اللي حصل بعد كده يموِّت من الضحك.

كانت زوجته تنتظره على ناصية الشارع ومعها طاقم ملابس لسائقٍ رسمي. احتلت المقعد الخلفي وأنزلت الستائر ومضى هو بالسيارة إلى شارعٍ جانبي هادئ فأوقفها، استبدل ملابس النقاش بملابس سائق رسمية أحضرتها له. ثم انطلق فوق كوبري فيصل إلى الهرم وإلى طريق إسكندرية الصحراوي.

– طلعت بالأتوموبيل وهو رافع علم السفارة. فجأة لقيت ضابط مرور على موتوسيكل. كان بيتكلم في اللاسلكي. قلبي طب ومراتي قالتلي وقعنا یا رضا. قلتلها دي دورية عادية. مسألتش فيه وعديته بصيت لقيته جاي ورایا. مراتي قالتلي: اوعى تتهور یا رضا، بصيت لقيته مسرع ومحصَّلني، قلت رحنا في داهية حصَّلني وعداني. ولقيته عمال يفتح لنا السكة وماشي قدامنا كإنه الحرس بتاعنا. وكل شوية يبص ناحية مراتي باحترام … متنا على نفسنا م الضحك. الظاهر لما لقى أتوموبيل السفير ماشي من غير حراسة كلم الرئاسة بتاعته فكلفته بالحراسة، فضل قدَّامنا لغاية ما وصلنا إسكندرية وقُدام الشيراتون حيَّانا تحية عسكرية ورجع ع القاهرة عشان يبلغ إنه قام بمأموريته.

تطلعت إليه مبهورًا بجرأته: محدِّش اكتشف المقلب؟

– جايلك في الكلام، قبل ما يوصل سمع بلاغ من قيادة الطريق السريع بسرقة سيارة سفير، واكتشف أنه كان بيحرس السيارة المسروقة. مبلغش حد رجع اسكندرية على طول، كنت سبت الشيراتون ونقلت فندق تاني ففضل ورايا لغاية ما لقاني. من غيظه تَف في وشِّي أول ما مسكني.

صاح فينا الحاج شوقي عمر أن نكفَّ عن الكلام كي يتمكن من النوم، وكان الجو قد مال إلى البرودة وتغطَّى الجميع بالبطاطين. سحب رضا بطانيته فوقه بحيث غطته تمامًا بعد أن ثنى ركبتيه إلى أعلى. وشعرت بالغيظ لأني عاجز عن تقليده وممارسة متعتي السرية. وظللت ساهرًا وحدي في الضوء أقاوم النعاس. وتسلَّيت باستعراض مغامرات رضا متخيلًا نفسي مكانه.

كنت واثقًا أن توكل مستيقظ رغم أني كنت أسمع شخيره بين الحين والآخر، وعندما بزغ الفجر نهض المهدي فتوضأ وصلى، وقام توكل أيضًا يعدُّ لنفسه كوبًا من الشاي، فانتهزت الفرصة وأخذت لنفسي تعسيلة.

ذهبت إلى الزيارة قرب الظهر وأنا كالمخدَّر من قلة النوم. وجدت أمي بمفردها ومعها كيس الطعام وكيسٌ آخر به بيجامة كستور وبلوفر من الصوف، بسطت البلوفر فوق حجري فألفيته رخيصًا للغاية لا يقارن بما بدأ يظهر على بعض المساجين. لم أتصور نفسي به في الطابور لكني أخذته بعد أن قدرت أني قد أحتاج إليه أثناء النوم عندما تشتد البرودة.

لاحظت أنها شاحبة الوجه ويبدو عليها الإعياء، وقالت لي وأنا أتفحص كيس الطعام إنها كانت عند المحامي بالأمس وطمأنها على نتيجة الجلسة القادمة في شهر ديسمبر. سألتها عن عايدة وعما إذا كانت فاطمة قد وجدت عملًا فهزَّت رأسها نفيًا. كنت أرغب في تجنُّب الحديث عن أبي. لكن الصمت ران علينا ولم أجد ما أقوله. سألتها عنه فانفجرت باكية.

قلت وأنا أكشف غطاء إناء صغير من المعدن: في إيه؟ حصل حاجة؟

وقبل أن ترد تبينت أنها أحضرت لي بطاطس مطبوخة فصحتُ بها: بطاطس تاني، مش قلت لك بلاش تجیبي لي بطاطس.

واصلَتِ البكاء فقلتُ لها متذمرًا: كفاية عياط بأه. انت حتقلبيها محزنة.

قالت: أبوك.

قلت: ما له؟

قالت إنه دخل المستشفى مصابًا بجلطة في المخ.

بحثت عن سجائر في الكيس فلم أجد. كنت دخنت آخر سجائري قبل الزيارة فسألتها في نرفزة: انتي مجبتيش سجاير؟

قالت إن مصاريفها كثرت بسبب علاج أبي وأدويته.

زعقتُ فيها غاضبًا: لما انتو مش قادرين على مصاريفنا خلفتونا ليه؟

أخذتْ تبكي في سكون، وأخذتُ أفكر في كل الأشياء التي حرمت منها بسببهم. على الأقل لو كنت دخلت مدرسة لغات لكنت الآن أتكلمها بطلاقة وكنت التحقت بالعمل في فندق أو شركة سياحة بسهولة.

أعلن الحارس انتهاء الزيارة فودعتها في صمت. وتبعته مع المساجين الآخرين إلى العنبر.

صعدت السلم الكبير الذي يتوسط الفناء الداخلي للعنبر. نادى عليَّ عم فوزي من شرَّاعة زنزانته الانفرادية فلم أردَّ عليه، كانت زنازين الطابق الثاني مغلقة كالعادة منذ معركة التليفزيون. وظهرت وجوه نزلائها الملتحين وراء قضبان الشراعات. حاولت أن أتبيَّن بينهم وجه الشيخ عصام فلم أتمكن.

واصلتُ الصعود إلى الطابق الثالث المخصَّص لقضايا الأموال العامة من رشوة واختلاس واحتيال وتبديد. كان يتقدمني أحد نزلائه حاملًا صندوقَين كبيرَين أحدهما يحمل شعار «بتزا هات» والثاني شعار «لا بوار» الحلواني. استقرت عيناي على إليتَيه اللتين كانتا تتراقصان بشدة بسبب بدانته. وكان في انتظاره عند رأس السلم اثنان من زملائه يرتدي أحدهما روب دي شامبر مکويًّا فوق بيجامة. كانوا يشتركون في زنزانةٍ واحدة تزدحم بالخيرات من معلبات تونة وأنشوجة وسردین وماکریل وکومبوت وخلافه وبها ثلاجة «فيليبس» صغيرة، وينامون فوق أسرَّة حديدية وضعت فوق بعضها، كان الثلاثة أيضًا يشتركون في ملكية ثلاث قرًى سياحية على شاطئ البحر الأحمر وتهربوا من سداد ضرائب وتعويضات مقدارها أربعة عشر مليونًا من الجنيهات، وكان رأي الحاج شوقي أن هذا لا يكفي لسجنهم، ولا بد أن أحد الكبار حاول الاستيلاء على القرى، وعندما فشل جرَّهم إلى السجن.

بلغت الطابق الرابع وأنا أفكر في أن زنزانتهم تمتلئ بالتأكيد بصناديق المارلبورو، وداعبني خاطر التسلل إليها، لكني استبعدت الأمر لصعوبته. مضيت إلى زنزانتي مارًّا بعم حسين الكعكي جالسًا إلى جوار حارس الدور، وضعتُ حاجیاتي فوق نمرتي. ولمحت توكل يتناول زجاجة المياه الخاصة به، وعندما وجدها فارغة اتجه ناحية الباب، أسرعت نحوه قائلًا: عنك يا نبطشي.

جمد في وقفته وتطلع إليَّ متمعنًا. وشعرت به يفكر بسرعة في مدلولات تصرفي وما سيترتب عليه. وانتظرت قراره وقلبي يخفق في صدري.

ترك لي الزجاجة وقال وهو يخطو إلى الخارج: ماشي.

طرت بالزجاجة إلى دورة المياه فملأتها وعدت. لم يكن بالزنزانة غير الحاج شوقي، ولاحظت أنه يبكي. كنت أشفق عليه لأنه مهدَّد بخطر الإعدام مثلي. كان تاجرًا ناجحًا في الموسكي إلى أن سقط في الإدمان وأهمل عمله فتكاثرت عليه الديون واتجه إلى الاتجار في الهيرويين لتغطية نفقاته. وأعدَّت له الشرطة كمينًا فتقدم له ضابطٌ متنكر اتفق على شراء كميةٍ كبيرة من تذاكر الهيرويين، وفي الموعد المحدَّد للتسليم بكوبري القبة حوصر وضُبطت معه الكمية مع الخاتم المعدني الذي يستخدمه في ختم التذاكر و٥ آلاف جنيه حصيلة البيع.

وضعتُ الزجاجة بجوار نمرة توكل واستدرتُ لأنصرف، وهنا تبينتُ أن الحاج شوقي في حالة غير طبيعية. كان مخاطه يسيل من أنفه فوق فمه ويعرق بشدة ثم بدأ يتشنَّج ورأيته يتبول على نفسه والظاهر أيضًا أنه تبرز؛ إذ شممت راحةً عفنة. لم أدرِ ماذا أفعل؛ فأسرعت أبحث عن توكل ووجدته جالسًا مع حارس الدور وعم حسين الكعكي فناديته وأبلغته بحالة الحاج شوقي.

اتجه توكل بخطواتٍ سريعة إلى الزنزانة، كان شوقي ما زال بمفرده، وقد أقعى فوق نمرته محتضنًا نفسه بساعديه، انحنى توكل فوقه وقال له شيئًا. هزَّ الحاج رأسه نفيًا فاعتدل واقفًا وقال: لما ممعكش يبقى خد أنجكة؛ أرخص. قلت إيه؟

مدَّ شوقي يده إلى كيسه فاستخرج منه ثلاثة صناديق من سجاير كليوباترا أعطاها لتوكل الذي انتزع من أحدها ثلاث علب وضعها في جيبه ثم ناداني وناولني الصناديق الثلاثة قائلًا: خد السجاير دي للحاج رأفت في زنزانة ستَّاشر، وهات الحاجة اللي يديهالك. طيارة. بس اوعى الشاويش يشوفك.

لم أكد أتحرك حتى نادى عليَّ وأشار إليَّ أن أقترب منه ثم همس: قل له يدِّيك العدة كمان.

مضيت إلى الزنزانة ١٦ في الربع المخصَّص للمخدرات بالناحية الأخرى من الطابق، كانت واسعة تضم خمسة وعشرين نزيلًا توحي محتوياتها بالثراء وتزين جدرانها صور المجلات.

كان الحاج رأفت معروفًا للجميع؛ فقد دخل السجن ثلاث مرات لتنفيذ أحكام آخرها الحبس خمس سنوات. وكان ينفق ببذخ وتأتيه في الزيارة تورتاتٌ ضخمة وكمياتٌ كبيرة من الخضراوات والفاكهة ويرتدي ملابس بلديةً فاخرة. وكانت زوجته مسجونة أيضًا وللمرة الثانية وعندما خرجت أول مرة أشاع أولادها نبأ موتها وأقاموا لها سرادقًا كبيرًا في بولاق أبو العلا بينما اختفت في شقةٍ فاخرة في مدينة نصر زاولت منها نشاطها إلى أن قُبض عليها.

وجدته متربعًا فوق نمرته وفي يده مسبحة … كان ضئيل الحجم يعاني من شيء في عينَيه كالحول لم أدرك كنهه وإن كان يحدُّ من قدرته على الرؤية. وكنت قد سمعت أن زوجته أيضًا شبه عمياء.

أخذ مني السجائر ووضعها بجواره على الأرض ثم نادى أحد النزلاء الشبان وأسرَّ إليه بشيء فغادر الزنزانة، ولحظت أنه اتجه ناحية المراحيض، طلبت منه سيجارة فأعطاني واحدة «روثمان».

عاد المسجون الشاب بعد لحظات فأعطاه لفافةً صغيرة ناولنيها قائلًا: خبِّيها كويس.

بلغت أنفي رائحةٌ غريبةٌ منفِّرة وأنا أدسُّ اللفافة في صدري، أطفأتُ السيجارة عند منتصفها وأسرعتُ إلى زنزانتي، ألفيتُ العرق يقطر من خدَّي الحاج شوقي ويتجمع حول إبطَيه.

فكَّ توكل اللفافة واستخرج منها لفافةً أخرى ملوثة ببقعٍ بُنِّية فميَّزتُ رائحة البراز. انحنى فوق دلو البول وأشار لي أن أصبَّ له كوزًا من المياه. وبعد أن شطف اللفافة الملوثة صببتُ له المزيد من المياه فصبَّنها وغسلها جيدًا. ثم شطفناها للمرة الأخيرة وغسل يديه كما غسل علبة صلصة صغيرة فارغة.

طلب مني أن أُوارب باب الزنزانة وأقف خارجه في الممر لأحذِّره إذا اقترب الحارس أو دخل الضابط العنبر. خرجت وواربت الباب ثم اختلست النظر من فرجته. رأيته يفكُّ اللفافة المغسولة ويستخرج منها قطعة قطن ومحقنًا بلاستيكيًّا وبالونة حمراء معقودة الطرف. وبسط ورقة جريدة فوق نمرته وضع فوقها محتويات اللفافة، ثم ملأ كوبًا من مياه الدلو وناوله الحاج شوقي ليمونة من كيسه مزَّقها بأسنانه.

كنت أعرف أن الليمون يُعصَر على البودرة الرخيصة المخلوطة بشوائب ولا تصلح للشم لتطهيرها من التلوث قبل استخدامها في «الأنجكة» أي الحقن.

راقبتُ يديه تتحركان بحذق وسرعة. امتصَّ بعض المياه في إبرة المحقن ورفعها في الضوء ليتأكد من صفائها. ثم فضَّ بالونة وسكب ما بها من مسحوق في علبة الصلصة وعصر عليه الليمونة ثم سحب الخليط إلى المحقن من خلال قطعة القطن.

قال شيئًا للحاج شوقي ففكَّ هذا حزام بنطلونه وشمَّر عن ذراعه ثم ثناه بعنف عدة مرات كأنما يُطرِّيه ولفَّ الحزام بمهارة حول الجزء العلوي من ذراعه، واحتوى طرفه في يده اليمني. تحسَّس توكل ذراعه بأصابعه إلى أن عثر على وريدٍ كبيرٍ بارز قرب المرفق، فأمسكه بين الأصبع الوسطى والإبهام، وجعل يضخُّ بيده حتى نفرت العروق على ظهرها. وضع طرف الإبرة وضغطها، اندفعت الدماء إلى القطَّارة فضغط الحقنة ودفع المحلول ببطءٍ شديد، بعد عشر ثوانٍ تنهَّد الحاج شوقي في نشوة. واسترخى جسده ولانت ملامحه وتباطأ تنفُّسه. سحب توكل الإبرة حتى أوشكت القطَّارة أن تمتلي بالدماء، ثم جذب السنَّ ومسحه في ورقة كلينكس، ومسح أيضًا ذراع الحاج النازف، وجمع العدة بسرعة وأعادها إلى کیسها، ودسَّه في صدره فولجت الزنزانة. وفجأة انحنى الحاج شوقي إلى الأمام واضعًا يده على بطنه ثم تقيَّأ فوق نمرته.

لم يُبدِ توكل انزعاجًا وقال له: ميهمكش. دايمًا كده في الأول، عشان كده اسمه السم.

أشعل سيجارة، وعندما نظرت إليه قدمها لي لآخذ منها نفسَين، راقبني وأنا أستنشق الدخان بشراهة. وأمرني بإعداد الشاي للحاج شوقي ففعلت، ولاحظتُ أن علامات الانبساط بدأت تظهر عليه بالتدريج وأشعل سيجارة جذب أنفاسها في عمق.

سألني توكل: انت مجتلكش سجاير في الزيارة؟

أجبت: لا. وكنت عايز أستلف منك.

قال: ممعيیش.

ثم أضاف: متقلقش. حتفرج.

ناولني عقب سيجارته فجذبت نفسًا عميقًا ساخنًا جعلني أسعل بشدة. وولج عم حسين الزنزانة فقال عندما رآنا: سمعتوا الخبر؟ الدكتور رمزي رجع العنبر، حطُّوه في زنزانة أموال عامة بالدور التالت.

كنت قد تابعت أخباره منذ نقله إلى زنزانةٍ انفرادية في العنبر الآخر، ثم إضرابه عن الطعام. وكانت حالته قد ساءت بعد مرور عشرة أيام، لكنه ركب رأسه وواصل الإضراب طالبًا أن تأتي النيابة لسماع أقواله، وركب المأمور رأسه هو الآخر ورفض إبلاغ النيابة وفشلت محاولات إقناعه بوقف الإضراب، وبعدها بأسبوع رآه الطبيب وأعلن عدم مسئوليته عن حياته وراجت إشاعة بأنه مات، ثم عرفنا أن المأمور نقله قسرًا إلى المستشفى بسبب تدهور حالته لكنه امتنع عن تناول العلاج مشترطًا مجيء النيابة؛ فاضطر المأمور للخضوع وأخطر النيابة التي جاءت وأخذت أقواله؛ فأوقف الإضراب وخضع للعلاج.

هبطتُ إلى الطابور فوجدته جالسًا في الشمس، مستندًا بظهره إلى حائط العنبر وممددًا ساقَيه أمامه وقد بدا عليه الهزال الشديد، وأحاط به سامح وأبو السباع ومستر تامر الذي غطَّى عينَيه بنظارة «لويسول» وارتدى سويت شيرت أسفل «باركا» زرقاء من النايلون، ذات وسطٍ مطاطي.

تطلعت إلى الدكتور بإعجاب وسألته عن الإضراب وهل كان شاقًّا. هزَّ كتفيه قائلًا: أصعب وقت هو التلات أيام الأولانية بعدها تكون المعدة تعودت والواحد نفسه تنسد.

انضم إلينا رضا وقرفص إلى جوارنا، كان يرتدي سترة «أولد إنجلند» من الجبردين مخططة طوليًّا فوق بولو من القطن «ثوماس بيربريز»، وكرافتة من نفس الماركة بألوان العلم الألماني، وينتعل موكاسان جلد بنعل كاوتشوك فوق جواربَ قطنية «بول سميث». ولاحظت أن بنطلونه ضيق يضغط على محاشمه ويوضح تفاصيلها.

سأله عن هدفه من الإضراب فقال ببطء: تطبيق اللايحة والدستور بالنسبة لمعاملة المسجونين.

علق رضا ساخرًا: واطبَّقوا؟

أجاب الدكتور في تردد: النيابة سجلت كلامي، لما نشوف.

نهض رضا واقفًا وهو يقول: شالله يا نيابة.

أخرج علبة سجاير مارلبورو تناول منها سيجارة، نهضتُ واقفًا وأنا أنظر إلى العلبة. علقت على أناقته فقال بزهو: دي عدة الشغل.

أعطاني سيجارة فوضعتها في عبِّي لكي أدخنها بالليل. قال ونحن ندور حول الفناء: لازم ألبس كويس عشان محدِّش يشك فيَّ، مرة فتحت باب أتوموبيل وفجأة لقيت صاحبه جنبي. تمالكت أعصابي وقلت له إن العربية بتاعته سدَّة السكة قدام عربیتي وإني معرفتش أزقها لقدام فجربت المفتاح بتاعي وفتح. الراجل مشكِّش في حاجة واتأسف لي. الهدوم اللي أنا لابسها ساعدتني، وفضلت واقف لغاية ما مشي.

سألته: إنت ناوي على حاجة النهارده؟

ضحك: يا ريت. مفيش غير المحامي.

نفخ الحارس في صفارته معلنا انتهاء الطابور. وناداني توكل بمجرد صعودي وأخذني إلى دورة المياه فانتحينا فجوةً صغيرة في مدخلها بعيدًا عن الأنظار.

قال بصوتٍ خافت: اسمع. الوقت لازم نشيل العدة والتموين لعمك شوقي قبل التمام، يمكن يحصل تفتيش. فإيه رأيك؟

لم أفهم ما يقصده، قلت: اللي تشوفه.

قال: أنا حطيت كل حاجة في لفَّة صغيرة، همتك بقى يا بطل.

أراني لفةً واحدة احتوت على عدة خوابير مدكوكة في بعضها البعض وملفوفة ببلاستيك الأكياس الناعم.

تطلعت إليه متسائلًا فصاح فيَّ: إيه يا واد حتستعبطلي؟ يللا خش البسهم.

بدت لي اللفافة كبيرة الحجم ودون تفكير قلت: وليه ما يلبسهمش هو؟

قال: ما انت شايف ازاي بيريل على روحه، أنا لو مكنش عندی بواسیر کنت لبستهم على طول ولا الحوجة للئيم.

قلت محتجًّا: لكن دول كتير.

ضحك: يا بني لا كتير ولا حاجة. مش فاكر لما إدكو مسك الواد بريمة وغسل له معدته؟ فاكر طلع منها إيه؟

تذكرت أنهم أخرجوا من بطنه عشرين علبة سجاير وكتلة حشيش وأفيون وعدة أمواس حلاقة وحوالي ألف جنيه.

قال: مفيش مشاكل، انت بس تزقها زقَّة صغيرة، ولما نعوز حاجة تحزق فتتزفلط على طول من غير ما تحس. بس خلي الخابور الأحمر ده في الآخر عشان لما نعوز نعمر دماغنا يبقى في إيدنا.

قلت: طب افرض جابوا الأجهزة اللي بتكشف كل حاجة في الجسم؟

ضحك: هو إنت معرفتش؟ مش عطلت كلها ومعرفوش يصلحوها. رموها في المخازن.

قلت: ولما أدخل الدورة الصبح؟

کشر قائلًا: الله بأه. يا بنى متخافش. حاخدها منك ساعتها. بالنهار أقدر أتصرف إنما المشكلة بالليل. عشان المهدي الله يجحمه.

كنا فعلًا نتعرض بسببه لتفتيش شبه يومي في أوقات مختلفة وخاصة بعد التمام، أخذت اللفافة ودسستها في صدري فأضاف محذرًا: بس اسمع. كلمة واحدة منك وتروح في الباي باي. فاكر اللي حصل لسكسكة؟

كان سكسكة نشالًا مشهورًا في عنبر الميري، وأبلغ الإدارة عن شحنة مخدرات دخلت السجن. وبعد أسبوع وجدوه في المرحاض مغمًى عليه وعينه مفقوءة.

قلت: أيوه فاكر. متخفش.

وقف هو في مدخل الدورة بينما دخلت المرحاض الأخير وأسدلتُ ستارته. قرفصت وفككت اللفافة وأخرجت الخوابير فلبستها واحدًا بعد الآخر وحرصت على أن يكون الأحمر في الآخر.

وجدته في انتظاري عندما خرجت فأشعل سيجارة كاملة وقدمها لي لندخنها سويًّا، وعدنا إلى الزنزانة فوجدنا الحاج شوقي مصهللًا. وجدت صعوبة في الجلوس إلى أن تعودت على وجود الخوابير في أمعائي.

تخلَّى الحاج شوقي بعد العشاء عن الحذر الذي لازمه معنا، ومضى يحكى مغامراته، روى لنا كيف كان عليه مرة أن يذهب إلى الإسكندرية بسيارته اﻟ ۱۲۷ ليسلم «بضاعة». فخبأها في خزان البنزين ولم ينتبه إلى تأثير ذلك على سعته الصغيرة من الأساس، وإلى أنه لم يعد يتسع لأكثر من عشرة لترات، وتوقفت السيارة في الطريق، يا دوبك بعدما عبر البوابة، بعيدًا عن أي محطة بنزين، لم يعد أمامه غير أن يعتمد على السيارات المارة. فأشار لواحدة رفضت التوقف، واعتذر سائق الثانية بقلة ما معه. وكانت السيارة التالية للشرطة وهي التي أعطته. جاء الدور على رضا فقال: مرة فتحت أتوموبيل فلقيت ع الكرسي شنطة فيها ٦٥ ألف جنيه. أخدت الشنطة وسبت الأتوموبيل وبعد أسبوع رجعت سرقته.

اعتدلت في جلستي بحثًا عن وضعٍ أكثر راحة وسألته إذا كان حزينًا لأنه دخل السجن. هزَّ كتفيه وقال: أزعل ليه؟ كلها كام شهر وأخرج وأرجع لنشاطي.

– ازاي؟

– حاخرج بكفالة وبعد كده يبقوا يلاقوني.

كنت مفتونًا بحكاياته، لا أملُّ سماع المزيد، وأتخيل لي دورًا فيها. وخطر لي فجأة أن أسأله عما دفعه لاختيار هذا الطريق.

أطرق برأسه ثم ابتسم: كنت بازهق من المدرسة وأهرب مع الشلة نطلع نتفسح. وكنا مصاحبین ۳ بنات وعاوزين نعمل مغامرات على طريقة الأفلام، عملنا رحلات في النيل. كنا نسرق القوارب ونتفسح بيها طول النهار وفي آخر اليوم نسيبها على الشط التاني. وبعدين نقلنا على الأوتومبيلات نسرقها وبعد ما نتفسح نسيبها في أي حتة بعيدة. تعلمنا السهر والسجاير، ومصاريفنا زادت فبقينا ناخد حاجات من الأوتوموبيل قبل ما نسيبه ونبيعها. وبعد شوية مبقيناش نسيبه خالص، بقينا نبيعه للتجار اللي يفكوه ويبيعوه قطع غيار.

سألته عن أهله وهل كانوا يسببون له مشاكل. فتردد لحظة ثم قال: لا. عادي.

تخيلت نفسي عضوًا في شلته وأشاركه في مغامراته، ثم سألته عن المرة الأولى التي قُبض عليه فيها. فقال إنهم سرقوا سيارة وذهبوا للسهر في عوامة على النيل فتشاجروا مع آخرين، وقطع أحدهم حبل العوامة فجرفها التيار إلى عرض النهر، وبدأت تصطدم بالقوارب الصغيرة، وتملَّك الذعر الجميع، إلى أن أنقذتهم شرطة الإنقاذ النهري، وسحبت العوامة إلى المرسى وألقت القبض على كل من عليها. وهنا اكتشفت الشرطة أمر السيارة المسروقة فأحالت رضا وأصدقاءه إلى النيابة التي راعت ظروف المراهقة والدراسة؛ فاكتفت بتوجيه تهمة استهلاك وقود لهم بدلًا من تهمة السرقة، وأحالتهم إلى المحكمة التي قضت عليهم بالحبس ۳۰ يومًا.

– الشهر ده كان بدايتي الحقيقية. كان زي المدرسة. اتعلمت فيه حاجات كثير من المعلمين الكبار، ولما خرجت أخدت علقة محترمة من أبويا ومنعني شوية من الخروج، رحت مصنَّع طفاشة تنفع لكل أبواب الأتومبيلات، وبدأت أشتغل لوحدي ونجحت بفضل الطفاشة، وبعد شوية سكنت لوحدي واتجوزت صاحبتي.

تصورت المفتاح السحري في حوزتي وأنواع السيارات التي سأطير بها. ثم انتبهت إلى أنه يبكي.

بُهت الجميع وساد الوجوم. ولم يلبث أن تمتم: ربنا انتقم مني، أنا عمري ما حبيت واحدة زيها، الواحد له مرة واحدة بس يا يلقاها یا میلقاهاش. متتعوضش أبدًا. كانت تعمل معايا كل حاجة، كنا نسرق سوا ونهرب سوا ونتفسح سوا …

سرد علينا ما حدث: كانت بمفردها في الشقة تعد الطعام عندما أمسكت النيران بملابسها النايلون. صرخت واستنجدت بالجيران إلا أن النيران تمكنت منها، ونقلها الجيران إلى المستشفى بين الحياة والموت، لكنها لم تكفَّ عن النداء باسم رضا حتى جاء وظل يبكي بلا دموع حتى لا تشعر به إلى أن لفظت أنفاسها في حضنه.

ران الصمت علينا واكتأبنا. وأخرجَنا توكل من حالتنا بأن صاح: الله … أمال بقى … لو كان الواحد بدل ما اتجوز اشترى بالفلوس بهايم مش كان أحسن؟ أنا متجوز من ثلاثة وعشرين سنة وحبيت خمسة. اجَّوزت على مراتي، وبعدين طلقت الجديدة، واجَّوزت واحدة عرفي.

جاراه الحاج شوقي متسائلًا: وأنهي واحدة فيهم بتبسطك؟

– اللي أنا متجوزها عرفي.

أشعل سيجارة وبدأ يتحدث جادًّا: لازم تحسس مراتك إن فيه واحدة تانية ويا ريت تعرفها وتكون أقل منها في حاجة عشان تتجنن، أيوه كده.

أدار بصره فينا ثم أضاف بزهو: نيِّمتهم جانبي واحدة على يميني والثانية على شمالي. أنا الجاهل. حد فيكم يا متعلمين عملها؟

قال عم حسين وهو يتناول مسبحته: معاذ الله يا أخ توكل.

تجاهله توکل ونظر إليَّ وقال: وانت يا شرف؟ تلاقيك لسه مدخلتش دنیا؟ مش عاوز تدخلها؟ تعالَ جنبي هنا وأنا أعلِّمك.

لم أدرِ بماذا أردُّ. خفت أن أنتقل إلى جواره، ومن ناحيةٍ أخرى إذا لم أرد سأتعرض لسخريته. وأخيرًا أجبت وأنا أهزُّ كتفيَّ: مش عايز.

نظر إليَّ بوقاحة وقلدني بصوتٍ أنثوي: مش عايز. مش عايزة ليه يا بطة؟

ارتفع صوت الدكتور رمزي فجأة من الطابق الثالث: «يا غلابة يا مساكين. فكروا بعقولكم. إنهم يسرقونكم طول الوقت ويضحكون على ذقونكم. وأنتم تتجاهلون حقوقكم، الأمور ليست سداحًا مداحًا في البلدان المتقدمة كما يحاولون إيهامكم. الدولة في البلدان المتقدمة تحمى مواطنيها عندما يشترون احتياجاتهم من السلع، وعندما يتحدد سعرها وعندما يعلن عنها وعندما توزع في السوق. البائع مثلًا يجب أن تتأكد نظافته وخلوه من الدرن والالتهاب الوبائي بشهادةٍ صحية غير مزورة. ويجب أن يمر مراقب أغذية يأخذ عينات من السلع الغذائية ليتم تحليلها في معاملَ مختصة، ومن واجب الدولة أن تراعي اعتبارات الأمان في السلع التي تشترونها، وأن تحميكم عندما تتحدد شروط البيع وعندما تتحدد المواصفات والبيانات اللازمة عن السلعة كمحتوياتها وتاريخ إنتاجها وصلاحيتها ووزنها وتركيبها وسعرها …»

هلَّل المساجين وأعلن أحدهم نبأ عودة الدكتور رمزي من المستشفى. والظاهر أن هذا الاستقبال شجَّعه فمضى يقول: «ضحكوا عليكم وسرقوكم عندما أعلنت الشركات والجمعيات عن فتح باب الحجز لسلعها بدفع الثمن مقدمًا كاملًا أو جزئيًّا؛ لتمول أعمالها بأموال المستهلك دون أن يحصل على عائد استثمار أمواله وينتظر سنوات، فإذا اشتكى قالوا له خذ نقودك، طبعًا دون عائد استثمارها، وعندما يستلم السلعة يجدها من موديل غير الذي اتفق عليه، وأحيانًا بسعر غير الذي تعاقد عليه، وإذا اشتكى يجد أن شروط الحجز تعطي الشركة الحق في تعديل التصميم والسعر والتأخير في التسليم. ضحكوا عليكم وسرقوكم عندما فرضوا عليكم تقسيطًا في أسعار السلع يضاعف ثمنها تقريبًا. وعندما تقاضوا منكم مبالغَ كبيرة بصرف النظر عن مستوى السلعة أو الخدمة ونوع المعاملة التي تتلقونها؛ التليفون الذي يتكرر عطله، الكهرباء التي يتقلب تيارها ويتلف ما لديكم من أجهزة. ثم جاء أصحاب شركات توظيف الأموال وأبلغوكم أنهم ضد الربا وأنكم طبقًا للشريعة تستحقون ربحًا مقداره ٢٥ بالمائة وأكثر فأخذتم الربا وعشتم في نشوة عامًا أو اثنين لغاية ما راحت عليكم أموالكم ومع ذلك لا تتعظون، تستسلمون بكل بلاهة لكل ما ينشر في الصحف أو يعلن في التليفزيون.»

علق توكل وهو يشعل نصف سيجارة: الراجل ضرب. الصيام خلاه يهلوس، هو عايز يغير الكون وللا إيه؟ هو ما له وما للحكومة والتجار. عامل راسه براسهم؟ عاملي فيها فلَّة؟ طب ولما يرقعوه حكم محترم؟ حتنفعه الفلسفة دي؟ كده وللا لأ يا شرف؟

ناولني النصف فأجبت على الفور: تمام يا معلمي.

كانت أول مرة أخاطبه بهذا اللقب وأعجبه ذلك فانطلق في الكلام: بص. أنا مبدئي هو امشي مع الريح وميل معاها لما تميل وانت تستريح. طب قولي يا حاج … صاحبك وللا أخوك؟ أخويا هو اللي ينفعني. أنا سيبت أختي بتعمل عملية وواحد صاحبي في الإنعاش ورحت أعزِّي في واحد ليَّه عنده مصلحة. آه. هو كده. صح وللا لأ يا عم حسين؟

قال عم حسين وهو يبسط بطانيته استعدادًا للنوم: غدًا إن شاء الله أحدثك عن رأيي في كل ما ذكرت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤