١٨

لم يُكتشف اختفاء المهدي إلا عند إجراء التمام المسائي. وكان شرف هو الذي نبه «اسحب الفجل» إلى غيابه؛ فنودي عليه في المرحاض وفي الزنازين الأخرى بالطابق الرابع وبقية الطوابق، وجرى البحث عنه في الفناء والمكاتب والفرن والمغسلة والورش دون جدوى.

وكما يحدث في أمثال هذه الحالات، قرر اسحب الفجل أن المهدي اشترك في طابور بعد الظهر. وشهد حارس الطابق الثالث أنه رآه يصعد السلم بعد انتهاء الطابور. وأكد عدد من النزلاء بينهم توكل أنهم لمحوه في الزنزانة قبل إجراء التمام بدقائق.

ظلت الزنزانة بغير تمام ولم يسجل الضروبش التمام العمومي في الدفاتر وبالتالي ظل السجن مفتوحًا. وطاف بأرجائه يوزع الشتائم والأوامر واضعًا على عينيه نظارة «فوارنيه» أخفتهما تمامًا بفضل زائدتَيها الجانبيتَين، مؤجلًا إلى آخر لحظة ممكنة إبلاغ مثلث الرؤساء (في المصلحة والمباحث والمخابرات). واستولت على السجناء حالة من الترقب الحذر كما تصف وكالات الأنباء لحظات الأزمات؛ فلو نجح الاختفاء تعرض الجميع للتكدير، وطُبقت عليهم اللائحة بحذافيرها؛ فيتم التشديد على دخول الممنوعات (منعها لا السماح بها) كي ترتفع أسعارها. ولهذا السبب تمنى الجميع سرعة ظهوره. دافعٌ آخر لهذه الرغبة الإجماعية هو الغيرة. فهل هناك سجين يحلم بالعثور على طاقية الإخفاء؟ بل إن البعض، مثل توكل، يعتبر ذلك من الفرائض.

شرح وجهة نظره من الناحية القانونية: لو القضية جناية الحكم يسقط بالتقادم بعد عشر سنين، ويسقط لنفس السبب بعد تلات سنين بس إذا كانت جنحة.

كان لديه مثالٌ جاهز هو ما حدث مع الملحن «بليغ حمدي» الذي غادر البلاد قبل ساعات من صدور الحكم عليه بثلاث سنوات في قضية مقتل المغربية سميرة مليان، وبعد انقضاء السنوات الثلاث عاد ولا يهم أنه مات بعد قليل.

من يضمن مثل بليغ حمدي أن تتحول الجريمة من جناية إلى جنحة؟ تبقى المفاضلة بين عشر سنوات في السجن وعشر مثلها من الاختفاء والخوف والحرية. رضا الأكثر خبرة بدخول السجن والخروج منه قدَّم حالةً أخرى بالمثال التالي: إذا كان الحكم ستة شهور ولا ترغب في أن تصبح لك سابقةٌ رسمية تطعن في الحكم. في هذه الحالة تنتظر في السجن نتيجة النقض التي قد تأتي بعد أربع سنوات، فمن يعوضك عن هذه الفترة لو صدر الحكم النهائي ببراءتك؟ استخلص شرف النتيجة: الأفضل أن يختفي الواحد ويعتمد على حظه، رغم أن الفشل ينتظره في غالب الأمر.

آخر المحاولات الفاشلة تمت في نفس الشهر من العام الماضي؛ فقد نجح مسجونان في تهريب منشار من الصلب في رغيف فينو، وعكفا على قضبان الزنزانة حتى تمكنا من نشرها، وتسلَّلا منها إلى السقف، وبطريقةٍ ما وصلا إلى السور وإلى الحرية التي لم يتمكنا من الاستمتاع بها أكثر من بضع ساعات؛ إذ قُبض عليهما في المنزل الذي اختفيا به والذي تركا عنوانه في ورقة بالزنزانة.

وليس معنى هذا أن الحظ لا يضرب ضرباته أحيانًا، فمنذ بضع سنوات حصل أحدهم — وكانت له علاقة بمافيا مخدرات إيطالية — على ملابس ضابط وغادر السجن بطريقةٍ عادية في يوم الأولمبياد وكانت تنتظره بطاقةٌ طائرة أقلَّته خارج البلاد قبل أن يكتشف مأمور السجن اختفاءه.

لم يكن عم حسين عضوًا في أي مافيا ولا تمكَّن من تهريب ملابس عسكرية فضلًا عن منشار؛ ولهذا السبب عثروا عليه بعد خمس ساعات. كان قد نجح في التسلل أثناء الطابور إلى خزان مياه فوق سطح المغسلة وانزوى به منتظرًا موعد تغيير الحراس في منتصف الليل ليستغله في التسلل إلى السور. لكن الخزان بدأ يمتلئ بالمياه قبل منتصف الليل بساعتَين ووجد نفسه مهددًا بالغرق فاضطر لمغادرته، وهنا كشفته الأنوار الكاشفة للحراس الذين كانوا ينقبون الفناء بحثًا عنه. وتولى اسحب الفجل سحبه إلى عنبر التأديب.

ترتب على ظهور المهدي إخلاء إحدى زنازين التأديب من أصحاب اللحى وعودتهم إلى زنازينهم الأصلية بالطابق الثاني من عنبر الملكية، وكان مذيع النشرة الإسلامية بين العائدين فاستأنف العمل على الفور، والظاهر أنه كان متأثرًا بطول الفترة التي عزل فيها عن العالمين الداخلي والخارجي، فبعد أن استعرض الثوابت بسرعة (الخمر والزنا والميسر والربا) انتقل للتعليق بصوت يرتعش من الغضب على اغتصاب المسلمات في البوسنة بواسطة وحوش الصرب، ثم انطلق يندد بعميد كلية الشريعة المصرية الذي أفتى بجواز إعادة غشاء البكارة للفتاة بواسطة الجراحة كي لا يفتضح أمرها أو يلحق العار بأسرتها طالما أنها تابت ورجعت إلى الله. وأعلن في سخط أن ذلك غش وخداع لا يقرُّه الإسلام، وإغراء لفتيات غيرها على الزنا. ثم ختم نشرته هاتفًا: هذه العملية حرام حرام حرام.

انتقلت عدوى السخط فيما يبدو إلى الدكتور رمزي كما اتضح من أول نداء له بعد ظهور المهدي: يا غلابة يا مساكين، هل تظنون أنفسكم أحياء؟ أنتم موتى. الواحد فيكم مرسوم ككائن حي لكنه ليس حيًّا على الإطلاق. تأملوا أحوالكم وأحوال زوجاتكم، الواحدة تطبخ وتعطي جسدها بدون انفعال، وتحمل وتلد وتواصل حياة هي والموت سواء، أنتم لستم سوى فئران تجارب، قبلتم معاملة الحيوانات، تشربون مياه الترع الملوثة بالحيوانات النافقة والمبيدات والقاذورات والخراء وتتنفسون الأتربة والأبخرة السامة وعوادم السيارات ويدقون رءوسكم بالميكروفونات والاستريوهات فيصيبكم الطرش وتنخفض نسبة المغنسيوم في أجسامكم فتتلاشى قدرتها على تجديد البناء وتضطرب أعصابكم وتنهار خلايا أمخاخكم ويصيبكم الاكتئاب، ويرتفع ضغط دمكم، إذا تبقى عندكم دم.

تعرَّف السجناء على أعراض العلل التي يشكون منها فهللوا للدكتور الذي واصل هجومه: هل تعرفون أن في مصر خمسة آلاف مصنع غير مرخص تنتج سلعًا غير مطابقة للمواصفات؛ مثل اللانشون والبسطرمة والسجق والجبن الأبيض وملح الطعام ومستحضرات التجميل وزيوت السيارات وإطاراتها وتيل الفرامل وأسطوانة الدبرياج والأسلاك الكهربائية والأجهزة الكهربائية المجمعة من أجهزةٍ قديمة. أي إنكم إذا لم تموتوا بسرطان المعدة والأمعاء فبحادث سيارة أو صعقة كهرباء.

على خلاف ما حدث في عنبر الميري، حيث كان الاستنكار لنداءاته شاملًا (من باب الجهل على الأقل)، انقسم عنبر الملكي بشأنه إلى مؤيِّدين ومعارِضين وبين بين، وتم الانقسام على أساسٍ طابقي، لا طبقي، فبينما صفق له سكان الطابق الأول من نشالين ولصوصٍ صغار (ولو من باب التهريج) وإيراد جديد (لم تتضح الرؤية له بعدُ)، هاجمه سكان الطابقَين الثاني المخصص لأصحاب اللحى (على أساس الخلاف الأيديولوجي المزمن بين محمد وعيسى) والثالث المخصص لقضايا الأموال العامة من رؤساء شركات وموظفين كبار ومحتالين وقوادين ومزيِّفين وأصحاب قرًى سياحية (على أساس موقعهم فوق قمة النظام الاجتماعي؛ وبالتالي مسئوليتهم في الدفاع عن كل تجلياته). لنفس السبب تعاطف معه سكان الطابق الرابع من قتلة وتجار مخدرات ينتظرون أحكامًا تتراوح بين المؤيد والإعدام (كما سبق أن تعاطفوا مع تطبيق الشريعة). ولم يعبأ به نفرٌ قليل من سكان هذا الطابق هم «الحمر».

كانوا ثلاثة جواسيس لإسرائيل يرتدون ملابس الإعدام الحمراء، يحتلون ربعًا كاملًا من الطابق وينفرد كلٌّ منهم بزنزانةٍ خاصة، ولا يُتاح لهم الاختلاط ببقية السجناء. وهو وضع يعتبر امتدادًا لمناخ عهدٍ سابق كانوا يتعرضون فيه للأذى على يد المساجين العاديين قبل أن تعطيهم «كامب ديفيد» الشرعية. وبالرغم من تغير الأوضاع وثقتهم في حتمية الإفراج عنهم لم يكونوا ينعمون بالنوم غير ليلةٍ واحدة فقط في الأسبوع هي ليلة الخميس لأن الجمعة هو اليوم الوحيد الذي لا تنفذ فيه أحكام الإعدام. أولهم وليم الهش الذي لم ينكر أبدًا جريمته وأعلن أمام المحكمة: «إسرائيل مش محتاجة جواسيس هي عارفة كل حاجة عن مصر.» وكان شابًّا، من جيل أكتوبر، عمل في مصنع ملابس بالإسكندرية يصدِّر إنتاجه المتميز إلى إسرائيل دون علاماتٍ مصرية، وهناك توضع عليه علاماتٌ إسرائيلية ويصدَّر إلى أوروبا. عن هذا الطريق سافر إلى إسرائيل والتقطته فتاة بادلته الحب بالمعلومات فأدمن الاثنين والتحق بالموساد.

ثانيهم «مصطفى صور يا بيه»، كان حارسًا (ماركة غفير لا أمن) لشركة مقاولات في سيناء، يتصيد الجنود الذين يمرون به ويتوقفون لشرب الشاي أو الماء ويعرف منهم أسماء وحداتهم وأرقامها في البريد الحربي وأسماء الضباط، فيحفظها في ذاكرته لأنه أمي لا يعرف الكتابة أو القراءة، ثم يسلم هذه المعلومات إلى مندوبٍ إسرائيلي. وفي يوم عثر في كوم من الزبالة بجوار مبنًى للدفاع الجوي في الإسماعيلية على ورقٍ غريبٍ مثقوب من الجانبين فسلمه للمندوب الذي سعد به قائلًا إنه ورق كمبيوتر مهم وكافأه بكاميرا ومهمة تصوير مداخل ومخارج شبكة الكهرباء في المبنى. وتتابعت بعد ذلك مهام التصوير التي أنجزها بكفاءة، أما السبب في لقب الشهرة الذي عرف به في السجن فيعود إلى ما جرى أثناء التحقيق معه بواسطة المخابرات المصرية وهي قصة لم يكن يملُّ روايتها بتفكُّه بالغ؛ إذ قال له الضابط المحقق متلطفًا: يا عم مصطفى قل لنا المواقع اللي انت صورتها عشان نغيرها.

فرد عم مصطفى وهو يبتسم: صور يا بيه من الإسكندرية لغاية أسوان.

الثالث «يوسف ليفي» هو الإسرائيلي الوحيد بين الجواسيس (والملتحي الوحيد بينهم)؛ ولهذا يستمتع بزيارةٍ دورية من ممثل السفارة الإسرائيلية یزوده خلالها بحاجته من الهيرويين ويؤكد له قرب الإفراج عنه، وهو مصير لم يشكَّ فيه أبدًا بعد أن رأى بنفسه كيف أدانت المحكمة زميله «مصراتي» فتبول أمامها ثم أفرجت عنه السلطات (هو وابنته) وسلَّمته لأهله معزَّزًا مكرَّما. كان يعيش في عالمٍ خاص به يتمحور بين صحيفتَين يوميتَين (فهو الوحيد أيضًا بين الثلاثة الذي يجيد اللغة العربية قراءة وكتابة)؛ «الجمهورية» ليتابع قضايا الدعارة التي تخصصت في نشرها بالتفصيل. ويسجل أسماء المتهمات ثم يخمن السجون التي ذهبن إليها فيكتب إليهن خطابات يهربها عن طريق الحراس أملًا في عقد أواصر علاقةٍ عاطفية على الورق.

الجريدة الثانية التي كان يتابعها بانتظام هي جريدة «الأهرام» ليبرهن على عبثية الوجود؛ ما فعله في خدمة إسرائيل (واستحق عليه الإعدام) لا يساوي شيئًا، إلى جانب ما يؤديه لها صاحب العمود اليومي الصغير في جريدة مصر الأولى.

ترتب أيضًا على ظهور المهدي وإحالته إلى عنبر التأديب أن الزنزانة المخصوصة في المخزن فقدت مبرر وجودها فأعيد توزيع نزلائها طبقًا لقواعد اللائحة؛ رضا لطابق الحرامية، والحاج شوقي في زنازين المخدرات، وشرف وتوكل مع أقرانهما من القتلة في زنازين النفوس؛ حيث تحرر الأول من مهام الرقابة والتخزين لينتقل إلى مهامَّ أخرى أكثر إثارة.

في زنزانته الجديدة التي اتسعت لأكثر من عشرين قاتلًا واحتلَّ فيها كالعادة أول درجة في السلم (بجوار دلو البول) ألفى شرف نفسه في عالمٍ شديد الثراء. على خلاف الجرائم الأخرى كانت للقتل دوافع غاية في التنوع؛ من الثأر لأب أو ابن قُتل في القرن الماضي أو الذي قبله، إلى علاج الموقف الذي نشأ عن رش قليل من المياه النقية أمام دكان خضري، كان هناك من قتلوا صديقهم بالعِصيِّ والحجارة وحرقوا جثته لأنه طالب بنصيبه من عدة مئات من الجنيهات سرقوها من أحد المخابز، ومن ألقى بمطلقة شقيقه من الطابق الثاني بعد أن صبَّ عليها كمية من الكيروسين وأشعل فيها النيران لاستيلائها على الشقة، ومن قذف رأس خطيبته بحجر فهشَّمه عندما التقى بها مع أمها في الطريق فوجَّهت إليه سؤالًا سخيفًا بشأن إعداد منزل الزوجية بعد أن مضى على الخطوبة خمس سنوات، من ذبح شقيقه الصغير وشقيقته الطالبة في الجامعة ليقنع أصدقاءه التلاميذ بأنه أصبح رجلًا، من مزق والده الكهل بالساطور ليمنعه من الزواج بفتاةٍ صغيرة، ومن قضى على أمه بطعنات سكين إرضاءً لزوجته، ومن دسَّ السم لزوجته إرضاءً لأمه، ومن خنق زوجته لأنها لا تنجب، ومن مزَّقها قطعًا صغيرة وزَّعها في أماكنَ متباعدة على طريقة «ست» و«إيزيس» لأنها أنجبت من وراء ظهره، ومن ذبحوا ابنة عمهم الجميلة لسوء سلوكها، ومن اغتصب ابنة خالته الطفلة حتى الموت.

كان هناك أستاذ الجامعة الذي قتل عمه من فرط حبه له، وصاحب ورشة السمكرة الذي نفخ طفلًا يعمل عنده وعلقه من قدميه في السقف حتى خرجت روحه؛ وذلك من أجل تهذيبه وإصلاحه، والطبيب الذي أجرى عملية ختان لطفلة في السادسة من عمرها من أجل مساعدتها على التمسك بالفضيلة فأصيبت بنزيف قضى عليها وأراحها من مشقة المجاهدة. وخريج معهد التدريب بالمطرية (دبلوم برادة) الذي عمل سائقًا على فان نقل لدى مطعم يملكه أحد المطربين فيشتري مستلزمات المطعم وينقل الزبالة ويتولى توصيل الطلبات للمنازل أي يعمل من الفجر للفجر مقابل ٢٥٠ جنيهًا في الشهر يرفعها البقشيش إلى ٣٠٠ يدفع منها ٦٠ للسكن والباقي ينفق منه على زوجة وطفلين، وعندما طالب بالتصحيح هدده المطرب بمسدس؛ وبالنتيجة حقد على صاحب المطعم وقتله. وكان هناك من أطلق النار في الهواء احتفالًا بنجاته من القتل فأصاب أحد المارة في مقتل. وكان هناك من لم يقتل أصلًا وإنما اتهمته زوجته الأولى بأنه اشترك مع الثانية في تقييدها ثم سكبوا الكيروسين عليها وأشعلوا فيها النار ثم اعترفت قبل الموت بأنها حرقت نفسها انتقامًا منه. وكان هناك سالم محمود سالم الذي يقتل بلا سبب.

لم يتعلم؛ لأن أهله لم يتمكنوا من العثور على مريلة من قماشٍ معين حددتها المدرسة شرطًا لملابسه ولقبوله؛ فتحوَّل إلى رعي الغنم ثم عمل في ورشة بلاط. ثم سحب المالك قراريط كان يزرعها الأب بالإيجار فبكى الأب وتمرَّغت الأسرة في طين الأرض ترفض الخروج منها إلى أن طُرد أفرادها بالقوة. ذهب سالم إلى المسجد ليصلي ركعتين ويطلب من الله أن يخرب بيت المالك، وبقي به حتى صلاة العشاء، استجاب الله لدعائه مع تعديل بسيط، فعندما عاد إلى منزله وجد في انتظاره مخبرًا صحبه إلى مركز الشرطة حيث اتُّهم بقتل صاحب الأرض.

كانت الجريمة مفبركة لأن السلاح كان على مكتب الضابط وأمامه شهود يؤكدون أنه هدده وبينهم إمام المسجد الذي أنكر رؤيته. صدر الحكم بثلاث سنوات في سجن أسيوط وعند الإفراج تم اعتقاله في سجن قنا باعتباره من الخطرين حيث أمضى ثلاث سنواتٍ أخرى. ثم أُفرج عنه بشرط البقاء تحت المراقبة. ولم تكد تنتهي مدة المراقبة حتى قُبض عليه مرةً أخرى بتهمة التهرب من التجنيد الذي حان موعده وهو في المعتقل فلم يتقدم له لحظتها، بالطبع شُحن إلى إدارة التجنيد على أنه من أفراد الأمن المركزي الهاربين، وتمسك هو بالتوصيف الجديد لحالته فما إن حصل على الكارنيه وتسلم العهدة حتى هرب فعلًا إلى الصعيد.

التحول التالي في حياته تم بنصيحة أحد معارف السجن الذي يتمتع بفراسةٍ شديدة. تفرس فيه طويلًا ثم قال له إنه يصلح لاحتراف النصب. كل ما يتعين عليه فعله هو أن يرتدي ملابس فاخرة ونظيفة ويتسلح بأعصابٍ باردة. أي دور ينتحل أهناك غير دور رجل المباحث؟ ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى صار خبيرًا بانتقاء المغفلين؛ ينادي الواحد منهم باحتقار ويسأله إذا كان يحمل بطاقة. سواء كانت الإجابة بالسلب (وهي غالبًا هكذا) أو بالإيجاب فإنها تعينه على دراسة الضحية وتجريده من نقوده، المرحلة الأخيرة يتظاهر فيها بأنه أشفق عليه ولهذا قرر أن يخلي سبيله ولا يصدق الضحية أذنَيه، فيطلق ساقَيه للريح.

أدار النجاح رأسه وانتشى، لا بالنقود السهلة وإنما بالسطوة، فتعطَّش للمزيد. تكررت عمليات النصب حتى ضُبط وحُكم عليه بالسجن لمدة عام لكنه فضَّل الهروب بعد دفع الكفالة. وفي القاهرة استأنف النشاط، في القاهرة أيضًا وقع التحول الأخير.

كان أول من لقي مجندًا في الجيش فوق كوبري مسطرد. سأله عن التصريح الذي غادر بمقتضاه المعسكر فارتبك، طلب منه أن يرفع يديه فاستسلم للتفتيش. كان معه أربعة عشر جنيهًا، أبلغه أنه مضطر لاقتياده إلى مركز الشرطة لأنه مطلوب في قضية، وأضاف أنه لا بد من تقييده قبل الدخول على ضابط المباحث. ولهذا لا بد من ربط يديه من الخلف. لم يعترض المجند، كان الوقت قبل الغروب بقليل. فاجأه بعد قليل وهما يسيران بين الحقول: إيه رأيك لو أسيبك تروح؟

– وتدیني فلوسي؟

أبدى سالم تعجبه مما اعتبره من قبيل البجاحة: شوف الواد، بدل ما تبوس إيدي.

ركب الواد رأسه: أنا معلييش قضية ومش حاسيب فلوسي.

أمره بالجلوس وهجم عليه من الخلف وربط كوفية كانت معه حول عنقه لكنه قاوم وحاول أن يقف فوضع ركبته فوق كتفه وجذب طرفي الكوفية حتى خرج لسانه ولفظ أنفاسه دون صرخةٍ واحدة ثم انكفأ على الأرض فتركه ومضى.

كانت تجربةً مذهلة، ظلت يداه ثابتتَين ولم يرمش له جفن. وعلى العكس؛ شعر أنه يحلق في الهواء كما لو كان قد دخَّن قرشًا كاملًا من الحشيش، وأخذ يستعيد لحظة الخنق في نشوة، بدت له مثل لحظة الخلق. فعندما تمكنت يداه من عنق الضحية كان بوسعه أن يفعل ما يشاء؛ أن يواصل الضغط أو أن يطلق سراحه، أن يأخذ روحه أو يمنحه الحياة، أدرك أيضًا أن القتل لا يختلف عن أي شيءٍ آخر فهو مثل المشي؛ بعد الخطوة الأولى يصبح سهلًا، يتعوده الواحد.

كانت الضحية التالية رجلًا في الأربعين قابله في محطة حلمية الزيتون.

ابتدره: معاك بطاقة؟

ارتبك الرجل لكنه أبرزها من محفظةٍ معبأة بالفلوس، ألقى نظرة على البطاقة رغم أنه لا يعرف القراءة أو الكتابة ووضعها في جيبه قائلًا: أهو إنت!

تساءل المسكين في حيرة: أنا مين؟

– إنت اللي بندور عليه.

أمسك به من كتفه بالطريقة التي يقبض بها المخبرون على المتهمين ودفعه أمامه بعد أن أوهمه أنهما ذاهبان إلى مركز الشرطة، بعد أن وصلا إلى جسر المطرية كرَّر عليه قصة القيد الضروري قبل الدخول على ضابط المباحث؛ ربط يديه بكوفية (صار الآن يحمل ثلاثًا بصفة دائمة) ثم قال له إنه مشفق عليه من الجريمة المتهَم بها والتي سيواجهه بها الضابط، وعرض عليه أن يسلمه مائة جنيه مما معه مقابل إطلاق سراحه. لكنه رفض قائلًا إنه بريء.

لجأ سالم إلى الصراحة: افرض إن أنا مش مخبر ولا حاجة، إنما بتاع ليل وقلتلك: عمرك وللا فلوسك … تقول إيه؟

أجاب العبيط في صلف وغرور: لسه متولدش اللي ياخد مني فلوسي.

لم يملك سالم نفسه أمام هذا الغباء، كانا قد أشرفا على فناءٍ مهجور فطلب منه أن يجلس على الأرض ليستريحا قليلًا. وما إن جلس حتى لف الكوفية حول عنقه وقتله.

الذي بعده لم يكن معه مليمٌ واحد ومع ذلك (أو ربما بسبب ذلك) قتله. وبلغ عدد قتلاه ۱۳ دفعوه جميعًا لقتلهم. وعندما شرع يلفُّ الكوفية حول رقبة رقم ١٤ ظهر فجأة عابران أمسكا به. لم يعرف أحد بأمر القتلى السابقين وحُكم عليه بالأشغال الشاقة خمس عشرة سنة قضى ثلاثة أرباعها في الليمان. وقبل موعد خروجه بأيام قُبض عليه من جديد؛ لأنه طعن سجينًا أهانه ورفض أن يعتذر.

روى القصة لشرف، لم يكن أمامه خيار؛ فلو تركه بعد الإهانة تشجَّع غيره، سيطلب منه واحد أن يحضر له شيئًا من الكانتين أو أن يغسل له ملابسه أو أن ينحني أمامه ويفك سرواله. سيذيع الأمر؛ سالم محمود سالم لا يريد القتال لأنه في طريقه إلى الخارج. بعض السجناء لا بأس بهم لكن هناك أيضًا بينهم حيوانات. حثالة الأرض القذرة المعفنة الطريقة الوحيدة لردعهم هي أن تكون دائمًا مستعدًّا لتسييح دمائهم. والنتيجة: أولًا إلغاء العفو عن ربع المدة وعودته لاستكمالها، وثانيًا الحكم عليه بخمس عشرة سنةً أخرى قضى منها ثلاثًا في انتظار حكم النقض.

كان السفاح في حوالي الستين من عمره، طويل القامة، مهيب الطلعة، يوحي وجهه الأسمر القوي بالثقة والطمأنينة، يعتلي فمَه الشاربُ المنفوش المعهود، في حالة ارتخاء لا انتصاب، مسدلًا الستار على عدة فجوات بين الأسنان، يشغل الركن الذي يشغله النوباتجية عادة ويحسب له الجميع حسابًا، بما فيهم النوبتجي الذي كان على عكس ما يتوقع المرء تمامًا في زنزانة تضم قتَّالين القتلة؛ فبدلًا من أن يكون شيخ منصر كان رجلًا منكسرًا فاقد الهمة، دائم الشرود، قليل الحركة بسبب دوالي واضحة في قدمَيه ينتظر حكم النقض في جريمة لم يرتكبها.

لم يكن سالم يشارك في اللسانيات إلا نادرًا، أو هكذا بدا في الأيام الأولى التي واجهه فيها شرف من مكانه في مدخل الزنزانة. لكن مجيء الأخير شجَّعه على ممارستها فدعاه في أول ليلة للعشاء وشرب الشاي (وهي دعوة رحب بها شرف الذي عاد للاعتماد على اليمك ليغطي به الثغرات المتسعة باستمرار في الغطاء العائلي) واستمع منه إلى قصته بالتفصيل، تولت الجغرافيا الباقي؛ إذ كان موقع شرف إلى جوار دلو البول يجعله في مواجهة السفاح القابع في الركن البعيد عن الباب وفي المجال الدائم لرؤيته، وهو أمر أثار خوف شرف في البداية (خصوصًا بعد أن سمع بقصة الكوفيات الثلاث) إلى أن ألفه بالتدريج حتى صار ينزعج إذا أخطأ السفاح وصوَّب عينيه نحو هدفٍ آخر. أبدى السفاح أيضًا لمساتٍ إنسانيةً رقيقة؛ فإذا رآه متعبًا سأله: أجيب لك أسبرينة؟ (حقيقية لا كودية)، وإذا لاحظ أنه يفتقر إلى السجاير أشركه في أنصاف سجائره، وإذا وجده مكتئبًا فاجأه بكوب ليمونادة أو بسيل من النصائح تؤلف رؤية كاملة في الحياة:
  • معاك فلوس الناس الحلوة تحترمك. ممعكش يدوسوك بالجزم.

  • لو كنت متعلم وأقدر أدافع عن نفسي أو أقدر أأجر محامي كبير كنت فلتّ.

  • المال الحلال معدش سهل زي زمان، مكسب الوقت كله حرام.

  • كل اللي انت شايفهم دول سمك صغير، السمك الكبير ميجيش هنا أبدا.

  • النساء ناقصات عقل ودین ولا يمكن عمل صداقة معهن إنما الصداقة فقط مع الرجل.

إلى جانب هذه الأفكار الحداثية كانت هناك ومضاتٌ كلاسيكية بعضها كفيل بتنظيم علاقة الإنسان بالسلطة (اتعلمت من صغري إني مصدقش الحكومة. مش راح أكون أبدًا شخص محترم في المجتمع. عشان أبقى كده لازم يا إما أبقى مرشد أو جبان أو جردل خرا يمشي زي الأعمى ورا أي واحد حمار يختاروه للحكومة) والبعض الآخر كفيل بحل قضايا معقدة مثل الصراع العربي الإسرائيلي (لو حد دخل بيتي عشان ياخد مني حاجة مش حاروح للبوليس، إذا مكنتش أقدر أدافع عن نفسي واسترد حقي يبقى الراجل ده من حقه ياخد اللي عاوزه لأني مستحقهوش) وإن عبر أحيانًا؛ عن فلسفة الدولة الإسرائيلية ذاتها (الحق معي لأني أملك القوة).

ويبدو أن السفاح كان واثقًا من مصير شرف إذ أخذ يعدُّه لحياة الليمان: لا تفتح فمك إلا عند الضرورة القصوى، تجنب الاحتكاك بالآخرين، احذر من مصادقة أحد مهما كان طيبًا (باستثناء السفاح نفسه بالطبع)، لا تتنازل طوعًا عن أي شيء (إذا تنازلت عن شبر واحد حيحاولوا ياخدوا منك اتنين)، أضعف لحظة هي أثناء التبول (خلى بالك وانت بتطرطر) في السجن ليس هناك من يحل لك مشاكلك، إذا ذهبت إلى الإدارة ستوصم بأنك مرشد وهذا قد يقضي عليك. إذن فأنت مضطر لأن تعالج مشاكلك بنفسك. من سيطلب منك إنزال بنطلونك لن يكتفى بذلك ولهذا يجب أن تكون مستعدًّا للقتال والدفاع عن نفسك أو تستسلم.

لكن أهم شيء هو ألا تجعل السجن يهزمك بأن تهزمه أنت. كيف؟ باستخدام مخك.

استخدم سالم محمود سالم مخه من أجل الترويح عن نفسه بإنتاج خمرٍ محلية (خبز وبرتقال وماء وسكر تترك في علبة بلاستيك أربعة أيام) ومقاومة متاعب المعدة والأمعاء بصناعة الزبادي (قطعة صغيرة من لبابة الخبز في حجم الليمونة مع أروانة لبن وتوضع في مكانٍ دافئ لمدة يومَين) وفي الاستعداد للاختفاء بأدواتٍ بسيطة (أي سلك من الصلب الرفيع من علبة نظارة مثلًا كفيل بنشر القضبان) وللدفاع عن النفس بالتسلح (تلف فرشاة أسنان جيدًا بكيس بلاستيك ثم تسخنها بعيدان الكبريت إلى أن تتصلب ثم تدعكها في أرضية الزنزانة عدة ساعات يصبح لديك بعدها سكين من البلاستيك). هذا هو الدرس الأول.

الدرس الثاني كان كفيلًا بإثارة غضب الرئيس الراحل أنور السادات لأنه يتلخص في تغذية الحقد؛ فالحقد الصافي الخالص يمكن الإنسان من الصبر والتحمل والصمود لسنوات. إنه يعطى السجين عطشًا للانتقام ورغبة في البقاء ولو لدافعٍ واحد هو أنه يحرم ساجنيه من متعة الظن بأنهم قد هزموه.

انتقلت عدوى توجيه النصائح إلى الدكتور رمزي فانهال بها على الغلابة المساكين: لا تثقوا في أحد. لا تصدقوا الصحفيين والكتاب الكبار، لا تثقوا في طبيب أو محامي أو بائع مهما بسملوا وحوقلوا فهم يسعون جميعًا وراء لحمكم الحي. لا تثقوا بالحكام؛ كذبوا عليكم ووعدوكم بالرخاء والعدالة والسعادة. ولم تحصدوا غير الفقر والمعاناة والكآبة، ضحكوا عليكم وقالوا لكم إن الاشتراكية مساواة في الفقر وإنها تحرم الإنسان من أعز غرائزه وهي التملك والتميز. صدقتموهم فماذا كانت النتيجة؟ هم وحدهم الذين تملكوا وتميزوا … لا تثقوا في إعلانات الصحف. كلما كبر الإعلان وارتفع ثمنه كلما كانت الهبرة ضخمة. التهنئة أو التعزية الموجهة إلى وزير أو مسئول لها ثمنها الذي سيأتي من جيوبكم، لا تثقوا في التليفزيون. لا تثقوا في أنباء السي إن إن مهما تظاهرت بالحياد والموضوعية. فكِّروا بعقولكم، اسألوا أنفسكم دائمًا: من المستفيد؟ كم المكسب؟ تذكروا دائمًا أن السلعة التي يعلن عنها في التليفزيون بمئات الألوف من الجنيهات لا بد أن يكون مكسبها بالملايين، اسألوا أنفسكم كيف؟ من أين تأتي هذه الملايين وأين تذهب؟ اسألوا أنفسكم ما معنى أن المسئولين عن التليفزيون يعملون هم وأولادهم في نفس الوقت لدى تليفزيونات منافسة يملكها السعوديون الذين يسيطرون على كافة وسائل الإعلام العربية؟ اسألوا أنفسكم، ماذا يريد هؤلاء منكم؟ كونوا دائمًا على حذر، عندما يذكر أحد المتحدثين في التليفزيون أنه يحب مصر، تحسسوا جيوبكم. انتبهوا وافتحوا عقولكم جيدًا.

كما احتوت نصائح السفاح لشرف على جانبٍ عملي، كذلك كان الأمر في نصائح الدكتور: لا تنساقوا لنصائحهم وتوجيهاتهم. اعملوا بعكس ما يطلبون منكم. لا تشربوا مياههم الملونة الضارة. اعتمدوا على تراث الآباء والأجداد. بدلًا من الكولا اشربوا العرقسوس والقصب والينسون والحلبة والكركديه، كلها مشروباتٌ صحية ومفيدة. لا تأكلوا الهامبورجر لأنه قد يسممكم. لا تستعملوا المعلبات الغالية التي يأخذون منكم عشرات أضعاف ثمنها الحقيقي، أنتم لا تحتاجون إلى كل هذه الرشاشات التي تملأ شاشة التليفزيون ورفوف السوبر ماركتات. ملعقةٌ كبيرة من تنوة القهوة تنظف أية آنية تلتصق بها مخلفات الطهي. احذروا مساحيق الغسيل التي تتنافس في زيادة الفعالية بإضافة مواد َّكيماويةٍ سرطانية، بوسائلَ بسيطة ورخيصة يمكنكم أن تصنعوا الصابون بأنفسكم. لا تتناولوا أدوية السعال التي أغرقوكم بها، قليل من مغلي لبان الدكر يقضي على أقوى كحة، وفِّروا نقودكم وصحتكم واحكموا عليهم بالإفلاس. لا تتركوهم يضحكون عليكم.

أثارت نداءات الدكتور استغراب السفاح وفضوله. وازداد الاثنان عندما روى له شرف ذكريات زنزانتهما المشتركة. شرف أيضًا كان يشعر بالاستغراب والفضول؛ لا لسلوك الدكتور وإنما لسلوك السفاح نفسه.

كان الطعام يأتيه يوميًّا والسجائر لا تفرغ من عنده ولا تخلو الأكياس المعلَّقة من حبل فوق رأسه من كل ما يحتاج إليه السجين الذي ينعم بمصدرٍ مالي ثابت. ومع ذلك لم يكن يتعامل مع الكانتين ولا يتلقَّى زيارات ولا حوالاتٍ ماليةً مثل الآخرين.

ألقى السفاح ضوءًا كافيًا على مصادره المعيشية مصادفة عندما روى في زهو قصة صداقته مع النجم السينمائي «فؤاد وصفي». تعرَّف به يوم وصوله إلى اللومان بتهمة الاتجار في المخدرات. كان رقيقًا وادعًا ضئيل الجسم، وكرَّمته إدارة السجن (التي اشتهرت بتقدير الفن والفنانين) بإعطائه زنزانةً مستقلةً مفتوحة طول اليوم. وبعد أيامٍ قليلة اقتحم بلطجيان زنزانته وأوقعاه أرضًا ووضعا سكينًا في عنقه ثم شرعا ينزعان سرواله، وكان يمكن أن يحدث ما لا يحمد عقباه لولا الظهور المفاجئ للسفاح وتخلُّصه من الشقيين على طريقة «فريد شوقي». هكذا اقتنع الممثل الوسيم بأهمية صداقة السفاح (فضلا عن حاجته إليه لتزويده باحتياجات مزاجه) ورتب له إيرادًا يوميًّا من الطعام والسجائر، ما لم يدركه الممثل هو أن الاعتداء الذي تعرض له كان من تدبیر صديقه وحاميه.

بالإضافة إلى عيني السفاح كانت عيونٌ أخرى تلاحق شرف أثناء صعوده ونزوله وتنزلق فوق أماكن من جسده ساعد الأكل المنتظم المتنوع وندرة الحركة على تسمينها. وكانت هناك ابتساماتٌ هازئة في العيون وتلميحاتٌ بذيئة واحتكاكاتٌ عفوية، ووضع السفاح حدًّا لكل ذلك.

ففي في أحد الأيام، تلقى شرف من أمه في الزيارة (التي أصبحت تخلو من السجائر بسبب تفاقم حالة الأب الصحية) علبتي كليوباترا. استخدم واحدة واحتفظ بالثانية في كيسه. وعند عودته من طابور المساء اكتشف اختفاءها. فتش عنها جيدًا بمساعدة السفاح لكنهما لم يجدا لها أثرًا. انتظرا حتى انتهى التمام واستقر كل نزيل فوق نمرته فخاطب السفاح الجميع: في علبة سجاير ضايعة من شرف. حد شافها يا جدعان؟

تبادل الجدعان النظرات دون أن يفتح أحد فمه، وتطلع البعض ناحية النوبتجي الذي تشاغل بترتيب نمرته.

خاطبه السفاح قائلًا: إيه رأيك يا نبطشي؟

استدار النوبتجي نحوهما قائلًا: مش يمكن تكون وقعت منه في الطابور؟

قال شرف: دي كانت هنا في الكيس بتاعي.

قال النوبتجي: ع العموم محدش هنا بيمد إيده على حاجة حد.

ثم أضاف مخاطبا الموجودين: إذا كان حد أخدها بالغلط يرجعها وإحنا نسامحه.

قال السفاح بصوتٍ مرتفع: اللي حيمد إيده تاني على حاجة شرف أني حاقطعها له.

وضع هذا الإعلان كل الأمور في نصابها وأحدث صدًى واسعًا كالذي أحدثه في الماضي إعلان الحماية البريطانية على مصر لدى الطامعين الآخرين مثل فرنسا وإيطاليا وألمانيا فضلًا عن الباب العالي في استنبول. وظهرت النتائج على الفور إذ طفت علبة السجاير في الصباح. وتوقفت الابتسامات الهازئة والتلميحات البذيئة والمضايقات التي كان شرف يتعرض لها من أصابع الباشا.

لم تكن نوعًا من الحلوى وإنما لعبة. ففي طابور بعد الظهر كانت الألعاب تنقسم إلى كرة القدم و«صلَّح المعدلة». ولما كان شرف لا يلعب الأولى بسبب عيب (خِلقي لا خُلقي) في باطن إحدى قدمَيه فإنه كان يلعب الثانية التي طورتها أجيال من السجناء. فبدلًا من أن يقف الواحد واضعًا يده اليسرى مبسوطة الكف على كتفه اليمنى ويتبارى اللاعبون في ضربها بكفوفهم ويتعين عليه أن يحزر شخصية الضارب من ضغط كفه. صار اللاعبون يستخدمون أصابعهم بدلا من كفوفهم، يغزونها في أي مكان من جسم الضحية. وكان الاختيار لدور الأخير يتم بالقرعة على طريقة ملك وكتابة، ولسبب غير مفهوم يقع دائمًا من نصيب شرف.

تتابعت ردود أفعال إعلان الحماية حتى بلغت أوجها بظهور اسحب الفجل في مدخل الزنزانة بوجهه الشاحب المعبر عن فقر الدم، حاملًا لفافةً مستطيلة في كيسٍ أسود، قادمًا في سفارة. استقبله سالم في ترحاب وأصرَّ أن يتناولا معًا طعام الغداء الذي أعده شرف من علبة بولوبيف كاملة تم إنضاجها فوق السخان الكهربائي بعد إضافة بصلتَين وحبة طماطم. تباسط اسحب الفجل فتحدث بصوته المبحوح عن متاعبه التي تتمثل في الإنفاق على بيتين (الأصلي مع الزوجة والأولاد في الصعيد، والثاني مع حارسَين أعزبَين قرب السجن) وعن أبيه الذي كان سجانًا مثله وأُميًّا. كان ذلك أيام القيود الحديدية التي تكبل المحكومين بالأشغال الشاقة (حلقة في كل قدم تربطهما سلسلة وزنها أربعة كيلوجرامات متصلة من الوسط بحلقة أخرى معلقة في حزام جلدي ولا يخلع السجين هذه القيود أبدًا في نومه أو يقظته أو حتى عند الاستحمام، تصوَّر!) وعلمه المسجونون الشيوعيون (في واحد من أخطائهم التاريخية) الكتابة والقراءة فأصرَّ على تعليم ابنه جدول الضرب، فأتقن هذا الاثنين؛ الضرب والحساب. بعد الشاي والسجاير انزوى اسحب الفجل مع السفاح جانبًا وقدم إليه اللفافة السوداء وكشف عن سفارته بصوت خافت.

لم يسمع شرف الحديث لكنه رأى السفاح يفضُّ اللفافة التي احتوت على خرطوشة كاملة من كليوباترا، أطرق السفاح بعض الوقت ثم أعاد كليوباترا إلى لفافتها واللفافة إلى حاملها قائلًا في صوت بارد: قوله يفتح الله.

شعر شرف شعورًا مُبهمًا أن الأمر يتعلق به وصدق شعوره عندما روى له السفاح القصة: فالجاسوس الإسرائيلي ضاق بغراميات الورق وحنَّ إلى الواقع؛ فوقع اختياره على شرف الذي صُدم للنبأ؛ لا لأنه أصبح موضوعًا للتفاوض بين قوى خارجية ولا لطبيعة الخدمة المطلوبة، وإنما للثمن البخس الذي وضعه في مستوى سجين مثل عزيزة يتقاضى صندوقًا مماثلًا مقابل جولةٍ سريعة بالنهار، وعدة أضعاف إذا تعلق الأمر بليلة كاملة.

ليست هناك أسرار في السجن؛ ولهذا لم تمضِ ساعات حتى عرف الجميع بموقف السفاح الرافض، وتسببت عيون شرف في زيارة ثانية من اسحب الفجل في اليوم التالي، هذه المرة في سفارة من عشم الله.

جاء عشم الله من قرية في كفر الشيخ حيث كون عصابة للثأر من أسرة اشترك أبناؤها في اغتصاب أخته البكماء، وليضمن الحماية قرر أن يؤجر عصابته لمن يدفع من أصحاب النفوذ. لكنه كان مغرمًا باللسانيات التي أدت إلى وقوعه والحكم عليه بخمسة عشر عامًا، وخلال وجوده في السجن ورطته اللسانيات مرةً أخرى؛ فقد حكى لأصدقائه كيف استأجرته سيدة بمبلغ عشرين ألف جنيه لقتل مزارع استولى منها على قطعة أرض، فقام بالمهمة على أفضل وجه، ولم تستدل الشرطة على القاتل، وحفظت النيابة التحقيق، وقُيدت الجريمة ضد مجهول، بعد الإفراج عنه أمرت النيابة بإعادة التحقيق في القضية وإعادة حبسه.

ما دفع عشم الله للمزايدة على الجاسوس الإسرائيلي البخيل لم يكن معارضة منه للتطبيع وإنما ضعفه المزمن أمام العيون؛ فقد كانت هي القاسم المشترك بين أول وآخر عملية له. في الأولى هاجم مزرعة وأطلق الرصاص على ما بها من أبقار. بعد ذلك لم يتمكن من نسيان نظرة عيونها إليه أثناء احتضارها. وفي آخر عملية تعرفت عليه فلاحة عندما اغتصبها فحاول أن يخنقها لكن عينيها ظلتا مفتوحتين فارتجفت يداه ولم يتمكن من انتزاع روحها. أمال رأسها إلى الخلف وطعنها في رقبتها بقرن الغزال لكنها لم تغلق عينيها وظلت تنظر إليه. استخدم يديه الاثنتين في دفع المطواة بلا جدوى؛ فالتقط طوبة وأمسك المطواة بيده اليسرى ومضى يدقها بالطوبة ثم جذب المطواة ناحية اليسار ومرة أخرى ناحية اليمين إلى أن أتم مهمته.

لم يعرف أحد ما إذا كانت عينا شرف قد ذكرته بعيون البقر أو بعيني الفلاحة العنيدة؛ فقد ضاعت فرصة معرفة ذلك. حقًّا إن اسحب الفجل قد حمل معه خرطوشتين من كليوباترا مما أرضى كبرياء شرف (رغم أنه ما كان سيرضى بصفقة تنال من شرفه)، لكن الرد الذي حصل عليه من جهة الاختصاص — سالم — كان واحًدا: يفتح الله.

وعندما تطلع إليه شرف متعجبًا قال في اقتضاب: أنا مش وسخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤