١٩

انكمشتُ فوق نمرتي وأنا أرتعش من البرد. كنت ألتفُّ بالبطانيتَين المخصصتَين لي بعد أن جعلت الوسادة من كيس حاجياتي وحذائي، كما كنت أرتدي البلوفر الصوفي الذي أحضرتْه لي أمي، وكلسونًا طويلًا من القطن، لكن برد ديسمبر خرم عظامي بسهولة، كنت في نقطة التقاء تيارَين من الهواء اللاسع؛ واحد يهبُّ من إحدى النافذتَين اللتين تتمتع بهما الزنزانة، والثاني يندفع من أسفل الباب المجاور لي ويصطدم مباشرة بجانبي الأيمن كله من الرأس إلى القدم. أنصت لأصوات شخير النائمين وتنفسهم وخصوصًا الذين كانوا في الركنَين البعيدَين عن تيارات الهواء وهما سالم والنوبتجي. كان إلى جواري عجوزٌ أهتم متهم بقتل شريكه في محل بقالة، وكان قد حصل على بطانية إضافية من الحراس مقابل سجائر ثم جاءته واحدة «ساراتوجا» ثقيلة من أهله، لكنه كان دائم التقلب والتنهد.

أثنيت رکبتي وکورت جسمي واقتربت قليلًا من العجوز لأتدفأ بالحرارة المنبعثة من جسمه، ودسست يدي بين فخذي محاولًا تجاهل البرد بالتفكير في شيءٍ آخر، استعدت صورة زوجة الدكتور ثابت محفوظ أثناء جلوسها في المحكمة واضعة ساقًا فوق ساق. وجدت نفسي عاجزًا عن تذكرها بوضوح وعاجزًا أيضًا عن التركيز من البرد، وشعرت بالأسف لأني لن أراها ثانية أثناء الزيارة أو في المحكمة؛ إذ خرج زوجها بكفالة كبيرة.

انتظرت في لهفة بزوغ النهار. وتابعت شقشقة الفجر من النافذة. وتمنيت أن يكون اليوم مشمسًا لأتخلص من برد الليل.

كان سالم أول من استيقظ وبدأ يعد الشاي وعندما رآني مفتوح العينين أضاف كوبًا آخر إلى الماء. انتظر حتى غلى الشاي فصبَّ لي كوبًا ارتشفته في لهفة.

قلت: يا ريت النبطشي يحطلنا كرتونة أو أي حاجة في الشباك اللي جنبي.

سمعني وهو منكمش أسفل أغطيته فاعتدل جالسًا وسعل بشدة، صوب بصقة تابعتها في قلق حتى استقرت في دلو البول بجواري.

قال: لو غطينا الشباك حنتخنق من النفس والزراط.

قلت: يعني الواحد يموت من البرد؟

توجه إلى الآخرين بالحديث: حد تاني عاوز قفل الشباك؟

أبدى الجميع اعتراضهم وتطلعتُ إلى جاري العجوز لكنه لم ينبس بحرف. قلت في نفسي إن لديه ساراتوجا، كما أني أصد عنه التيار القادم من تحت عقب الباب.

قال سالم للنوبتجي: انقله بعيدًا عن التيار.

قال النوبتجي: أوديه فين؟ ومین يیجي مطرحه؟

– طب شوفله بطانية. أنا لو مكنتش ظهري تعبني كنت اديتله واحدة.

تطلع النوبتجي إلىَّ ثم إلى سالم وأدركت فيما يفكر: الثمن ومن الذي سيدفعه. لكنه لم يعلق واكتفى بأن قال: إن شاء الرحمن.

تناول سالم إحدى بطاطينه الثلاث وكانت من بطاطين السجن الداكنة لكن في حالةٍ جيدة. قدمها لي قائلًا: خد دي لغاية ما يشاء الرحمن.

ابتسم النوبتجي في خبث فابتعدت عن يد سالم الممدودة قائلًا: لا، انت محتاجلها أكثر.

ألحف عليَّ سالم بقبول البطانية لكني أصررت على الرفض وغادرت الزنزانة إلى دورة المياه.

فوجئت عند مدخلها بحجاج الذي تعرفت عليه في عنبر الميري والذي اختطفته العصابات وهو صغير، كان يرتدي جلبابًا فضفاضًا بعض الشيء تبدو من تحته ملابس داخلية من الكستور؛ كلسون طويل حتى القدم وفانلة بكمَّين طويلَين وكان يحمل في يده فوطةً كبيرةً ملونة وصابونة «كامي».

صبَّحت عليه وأضفت في استغراب: بتعمل هنا إيه؟

احمرَّ وجهه وقال: الحاج رأفت نقلني.

– الحاج رأفت؟

– أيوه. كلِّم سيادة الضابط مرقص فهمي فنقلني.

– في زنزانة ستاشر؟

أطرق برأسه مؤمنًا، تذكرت فوطته الممزقة الجربانة وأدركت أنه يحمل فوطة الحاج رأفت وصابونته وأنه في طريقه كي يحجز مكانًا للحاج في الدورة. تبعته إلى الداخل، وصحَّ حدسي إذ وقف أمام أحد المراحيض الخالية مانعًا الآخرين من دخولها حتى يأتي صاحبه. تبولت في المجرى ولم أعبأ بالاغتسال؛ إذ كان اليوم موعد الحمام الأسبوعي. وعدت إلى الزنزانة فأفطرت مع سالم بقطعة من الجبن القريش أضاف إليها ملعقة من الطحينة البيضاء.

كنا قد تبادلنا العزايم عدة مرات ثم اقترح أن نتشارك في الطعام والشراب والسجائر فأصبحنا نتقاسم كل شيء. وكان هذا الترتيب ملائمًا لي إذ بدأت زيارات أمي تقلُّ واقتصر تموينها الضئيل من الطعام والسجاير على مرةٍ واحدة في الأسبوع.

جاء الدور على زنزانتنا بعد ساعة لنزول الحمام، ووقفنا عُراة في القاعة الصغيرة أسفل مياه الدش الساخنة. كان سالم قريبًا مني، وكانت أول مرة نستحم فيها سويًّا، ولحظت أن له كرشًا بارزًا وثديَين متهدلَين، وتأملني هو بإمعان ثم علق على شعر سيقاني الكثيف.

كان السُّنية في طابور بمفردهم فصعدنا إلى أعلى وانتظرنا عودتهم. وتلكأت قرب السلم بحثًا عن الشيخ عصام الذي لم أره منذ عاد من التأديب، نهرني الحارس وأمرني بدخول زنزانتي مهددًا بإغلاقها، وأسرَّ لي سالم أنه يريدني في أمر وطلب مني أن أتخلف عن نزول الطابور.

انتظر حتى نزل الجميع إلى الفناء ثم شرح لي أن زنزانة ١٦ ستحتفل الليلة بالإفراج عن أحد نزلائها وبالتالي يحتاجون إلى تموين من المخدرات. وقال إننا مدعوان — أنا وهو — لقضاء الليلة معهم.

كانت العادة ألا تحتفظ زنازين المخدرات بأي كميات منها تجنبًا لأي تفتيشٍ مفاجئ رغم أن السجن كله يعرف دائمًا بحملات التفتيش قبل موعدها بوقتٍ كاف. ولهذا تودع في مخابئ بزنازينَ أخرى، وكشف لي سالم أنه يتولى أمر أحد هذه المخابئ بزنزانتنا وأنه سيتولى فتحه أثناء الطابور ويحتاجني للقيام بدور الناضور.

واربنا الباب ووقفت في الخارج متظاهرًا بالتدخين، وأخذت أنقِّل عينيَّ بين السلم وأبواب الزنازين الأخرى، فلم نكن نخشى الحراس وحدهم وإنما أيضًا السجناء الآخرين.

ألقيت نظرة داخل الزنزانة فرأيت سالم قد طوى نمرته وجلس فوقها، ثم تناول علبة حلاوة طحينية فاقتطع منها بأصابعه كتلة في حجم البرتقالة وفتَّتها نتفًا صغيرة فوق غطاء العلبة. مزَّق صفحة من جريدة رقعًا صغيرة، ودَعَك كل رقعة في فتافيت الحلاوة ووزعها في شبه دائرة فوق أسفلت الأرضية ثم أشعل عودًا من الكبريت وقرَّبه من الورق وتركه يشتعل ببطء.

تابعت الحلاوة في أسًى إلى أن ذابت تمامًا ولانت الأرضية فدسَّ فيها سلكًا رفيعًا وحرَّكه في دائرة بحجم رغيف الخبز. كرر العملية عدة مرات إلى أن انفصلت الدائرة عن بقية الأرضية. رفعها ووضعها جانبًا ثم استخرج من الحفرة لفافةً سوداء من البلاستيك فضَّ محتوياتها فوق الأرض وتناول منها عدة لفائفَ صغيرة وضعها في صدره وأعاد اللفافة الأصلية مكانها وأضاف إليها لفافتَين أخريين أخرجهما من جيب جلبابه، أعاد دائرة الأسفلت مكانها ثم وزع رقع الورق المدهون بالحلاوة حول محيط الدائرة وأشعله، وانتظر حتى ذاب الأسفلت من جديد حول الدائرة فأخذ يخزه بحرف السلك، واظب على هذه العملية إلى أن سوَّى سطح الأرضية وأعاده إلى ما كان عليه واختفى الشق الدالُّ على الحفرة، ثم جمع الرماد المتخلف عن العملية ونثره فوق سطح الحفرة ومسحه بلطف. وكرر هذه العملية أيضًا إلى أن استعادت المنطقة لونها الأسود القديم.

ظهر مساعد الحاج رأفت بعد قليل فجمع لفائف المخدرات في صدره ومضى إلى المراحيض ليلبسها توقيًا لأي تفتيشٍ مفاجئ عند التمام، بعد أن شاع نبأ الاحتفال المزمع. فكرت أن أحلق ذقني بهذه المناسبة لكني لم أكن أملك ما أدفعه للحلاق. وقبل التمام حملنا نمرنا وانتقلنا إلى زنزانة ١٦.

أعطانا النوبتجي مكانَين متجاورَين في العمق بعيدًا عن الباب وتيارات الهواء. واقترح سالم أن نعدَّ فراشًا مشتركًا لنضمن الدفء. فبسطنا البرشَين متجاورَين وفوقهما بطاطينه الثلاث وأبقينا بطانيتي الاثنتين لنتغطى بهما معًا.

كان الحاج رأفت في مكانه المعهود بمركز الصدارة يتوسط الحائط الممتد بين ركني العمق وإلى يمينه حجاج، ولحظتُ أن الأخير يرتدي جلبابًا أبيض نظيفًا وأن خديه أملسان ويلمعان، وأدركت أنه حلق ذقنه بالفتلة، وجلس الحاج عرفة، المحتفَل به، إلى يساره، كان يرتدي بذلةً كاملة من صوف «ستيا» وكرافتة لم تعجبني ألوانها، وله عدة أسنانٍ ذهبية في مقدمة فمه. ورأيت إلى جواره تاجر المخدرات وابني أخيه اللذين كانا في زنزانة عبد الفتاح بالطابق الأرضي، بالإضافة إلى عم حسن نوبتجيها. سألوني عن أخبار عبد الفتاح وعما إذا كنت أتلقى منه خطابات أو أنباء، وأجبت بالنفي.

كان العشاء مخصوصًا ويتضمن دجاجًا محمرًا وصينية كنافة ضخمة وعدة سلطانيات مهلبية. وبعد الشاي صعد النوبتجي إلى شراعة الباب وصاح بأعلى صوته: المعلم عرفة مروح لأمه يا جدعان، عقبالنا جميعًا يا حبايب.

تصاعدت الصيحات من مختلف الطوابق. وبدأت كل زنزانة توجه تحياتها للمفرَج عنه، وفجأة سمعت صوت الدكتور رمزي يشترك في التحية ثم ينطلق في موال من مواويله اليومية: يا غلابة يا مساكين … الواحد فيكم سرق ألف أو ألفين، أو قتل واحد أو اثنين بينما هم يسرقون ويقتلون بالملايين ولا يدخلون سجون ولا يعرفون مشانق.

انطلقت التهليلات والشتائم من كل اتجاه، وصحنا جميعًا فيه أن يسكت. لكنه لم يعبأ وواصل: يا غلابة يا مساكين، أنتم تعيشون حياة الموتى بينما يبددون أموالكم وحقوقكم، سرقوكم ونهبوكم … خدعوكم وضحكوا عليكم من زمان … في الأول منُّوا عليكم بدعم تحصلون به على السكر والأرز والزيت والخبز بأسعارٍ رخيصة وكأنهم يعطونكم من جيوبهم متجاهلين أنه يأتي من جيوبكم ويذهب أغلبه لهم ومنه شيدوا ثرواتهم، فمن جيوبكم دفعت الحكومة دعمًا للأسمنت والأسمدة، وحديد التسليح ذهب لأصحاب العمارات والأبراج، والدقيق الفاخر والسكر ذهب لمصانع الحلويات والمياه الغازية (فتتكلف زجاجة السفن أب عشرين قرشًا وتباع بخمسين). أي إنكم اقتطعتم من خبزكم ودخولكم كي يحصل أصحاب العمارات والمخابز ومحلات الحلوى على المواد الخام بأقل من أسعارها الحقيقية، ثم ألفيتم أنفسكم عاجزين عن السكن في عماراتهم أو شراء منتجاتهم التي تذهب للقادرين من أمثالهم بأسعار في متناول أيديهم، نتيجة الدعم المزعوم. ومنُّوا عليكم بدعم الكهربا الذي يذهب أغلبه لسكان المدن والقادرين منهم على شراء المكيفات والأجهزة.

بعد ذلك تدفعون ضرائب وهي ضرائب غير عادلة؛ لأنها على الدخل وليست على الثروة، ولا تستطيعون التهرب؛ لأنها تخصم من المنبع على العكس منهم فهم يملكون حسابات في بنوك في الخارج ويملكون السلطة والنفوذ في الداخل ويستمتعون بالإعفاءات التي تقدر بأربعة مليارات جنيه في السنة. وأنتم تدخرون إجباريًّا في صندوق التأمينات، وتقترض الدولة من هذه التأمينات بفائدةٍ رمزية وأيضًا من صندوق توفير البريد وشهادات الاستثمار لتنفق على احتياجات المحظوظين من سيارات ومکیفات ودیشات.

وتقدم البنوك قروضًا ميسرة للإسكان والأمن الغذائي واستصلاح الأراضي وشراء الأراضي المستصلحة. وتتحمل الخزانة العامة؛ أي خزانتكم التي تمولونها بعملكم وتضحياتكم، الفرق بين سعر الفائدة في السوق والسعر المنخفض الذي يدفعه المقترض وهو عادة من الأغنياء.

فهل حلَّ هؤلاء مشاكلكم؟ لقد أقاموا العمارات الفاخرة الضخمة متعمدين أن يصبح الرصيف والشارع جاراجًا لسياراتهم، فأخذوا منكم الشارع الذي دفعتم ثمن رصفه، ولأنهم يأكلون جيدًا بالطبع فالمتوقع أن يكون ضغطهم عاليًا على شبكة الصرف الصحي، والنتيجة قرضٌ أجنبي من أجل إصلاح وتطوير الشبكة بتكلفة ثلاثة مليارات من الجنيهات اقتطع منها الوسطاء والخبراء الأجانب والوزراء شريحةً ضخمة. وتدفعون من قروشكم المحدودة كل هذا؛ ربح صاحب العمارة وقيمة القرض الناشئ عن آثارها و(مخلفاتها) وتتكرر القصة في شبكة المياه وشبكة المواصلات وشبكة التليفونات وبقية الشبكات.

والآن وبعد أن اغتنوا واكتفوا، يلغون الدعم بناءً على طلب الصندوق فيحرمونكم حتى من القليل الذي كان يصلكم؛ بدعوى تسديد الديون التي اقترضوها باسمكم، ضاحكين عليكم للمرة الثانية.

يقولون لكم إن صندوق النقد مبسوط وقرر إسقاط عدة مليارات من الديون، ولا تعرفون أن ذلك تم مقابل الخصخصة، فبعد أن فقد الدائنون الأجانب الأمل في الحصول على ديونهم وأصبحوا مستعدين للتنازل عن نصفها مقابل الحصول على النصف الثاني، يتيحون لهم الحصول عليها كاملة بشراء المصانع والشركات والبنوك التي قامت بأموالكم وتضحياتكم. يشترونها بتراب الفلوس ويحصلون معها على سوق لمنتجاتهم الأخرى وعمالة رخيصة فكأنهم استردوا ديونهم مضاعفة عدة مرات.

أغرقت صيحاتنا صوته حتى اضطر للصمت، ولم يلبث أن ارتفع صوتٌ آخر خُيِّل إليَّ أنه صوت الشيخ عصام. وبدا أن الليلة لن تنقضي على خير. لكن لم يكد ينطق بكلمتين حتى غطى عليه صوتٌ قوي سمعته يقول: أخي المسلم انظر ماذا فعل الله بأبرهة الأشرم حينما جاء بالفيلة، ألم يجعل كيدهم في تضليل؟ وأرسل عليهم طيرًا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول؟ وماذا فعل الله بفرعون حينما قال مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي؟ ماذا فعل الله تعالى؟ أغرقه الله ومن معه، قل يا أهل الكتاب إن الله حرم الخمر والزنا والميسر والربا فتعالوا إلى كلمة سواء فإن لم تأتوا فإن ربك لبالمرصاد.

استمعنا جميعًا في هدوء ولم يجرؤ أحد على التشويش عليه، وظهر حارس الليل عند الباب فناوله النوبتجي من الشراعة نصيبه من الطعام وعندما أعطانا الأمان قام مساعد الحاج رأفت وأقعى بجوار دلو البول وتعاون النوبتجي مع سجينٍ آخر فحجباه عن الأنظار ببطانية رفعاها في الهواء، ثم أنزلاها فظهرت في يده لفافة المخدرات. تولى النوبتجي صبَّ المياه فوق يديه فغسلهما هما واللفافة جيدًا بالصابون. وفك النوبتجي اللفافة فكشف عن كيسين، يضم أحدهما قطعة من الحشيش في حجم كف اليد، تشممها النوبتجي في إعجاب، ويضم الآخر أقراصًا بيضاء وأخرى خضراء فوسفورية.

تولى الحاج رأفت توزيع الأقراص يمينًا ويسارًا بينما انهمك مساعده في تقطيع الحشيش. واعتذر سالم عن تناول الأقراص، فقال له الحاج ضاحكًا وهو يبرز زجاجة باراكودايين: كودا صلايش فودرة.

كان يقصد أن الجمع بين أدوية السعال وأبو صليبة يعطي نفس تأثير البودرة. أصر سالم على الرفض وسألني إن كنت جربت هذا المزيج، فقلت: مرة. كان لي شلة أصحاب في المعادي، وقعدنا نسمع. مزيكة، شريط لفريق اسمه «بينك فلويد» بيقول حاجات عن الظلم واضطهاد الشباب والفقر. وكنا بنسمع كمان «محمد منير». قعدت مشعشع مدة وبعدين صدري طبق عليَّ وحسيت إني حاتخنق. ونمت بعدها تلات تيام.

قال بصوتٍ خافت: الحاجات دي مضرة جدًّا. تعرف إن كل اللي بياخدوا أدوية الكحة دي بيخلصوا، مبيعودش فيهم للنسوان ويجيلهم احتباس في البول.

سكت لحظة ثم أضاف: اوعى تاخد الحاجات دي … ولا حتى البانجو … ده يلحس الدماغ … خليك في المية والحشيش أحسن.

أبرز الحاج رأفت جوزة محلية الصنع تتألف من علبة عصير من الصفيح مثقوبة من الجانبين وعدة «حجارات» مصنوعة من لباب الخبز وبوصتَين قصيرتَين، ثبت كل بوصة في ثقب ثم وضع «الحجر» فوق إحدى البوصتَين وثبَّته بجزء من غلاف علبة سجاير. وقامت الحلاوة الطحينية بدور الوقود مرةً أخرى فوضع الورق المدهون بها في فتحة «الحجر» ثم أشعله وأضاف إليه الحشيش، ومرَّت الجوزة حتى وصلت إلى سالم فأخذ نفسًا عميقًا احتفظ به طويلًا في صدره ثم أطلقه وناولنيها، قلَّدته وتركت النفَس في صدري أطول مدةٍ ممكنة كما فعل وأطلقته فشعرتُ بالدوار ثم بدأتُ أسترخي، وكان النوبتجي قد أعدَّ دورًا ثانيًا من الشاي وقدمه إلينا قائلًا: شاي کوالیتی … عقبالنا جميعًا بإذن الله.

تناهى إليَّ حديث بين الحاج رأفت والحاج عرفة. وكان الأخير يحاول تأكيد سلامة الخطوات التي يتخذها عند تعبئة البودرة: إحنا بنخلطه تمانية لواحد. أربعة مانيتا وأربعة كينين. وبعدين ننخلهم مرة واتنين وتلاتة، ست مرات لغاية ما ينضفوا تمام.

مال على سالم وهمس: بقی هم دول اللي بيدخلوا البلد مخدرات بألف مليون جنيه في السنة؟ زي ما قلت لك السمك الكبير ميجيش هنا أبدًا.

انطلق عم حسن يغني أغانيه الصعيدية ثم ردد آخر أغنية «خالد عجاج» التي أحبها:

«في ناس بتحب تاخد كل حاجة،
مع إنها مش محتاجة،
وناس بترضى بأي حاجة،
في عز ما هي محتاجة …»

فوجئت بسالم يردد بصوتٍ أجشَّ أغنية سميرة توفيق: أنا عاشق، وعندما وصل إلى المقطع الذي تقول فيه: «أنا عاشق يا صاحبي من زمان» التفت نحوي.

أعلن النوبتجي أن الأغنية التالية مهداة إلى الحاج عرفة فنهض وخطا وسط الزنزانة وتناول من عم حسن الشال الأبيض الذي يلفه فوق رأسه فأحاط به خاصرته وعقده على جانب، انطلق يرقص ونحن نصفِّق ثم انضم إليه النوبتجي. وقام الأخير بتقليد الراقصات فعری جانب جلبابه ببطء وهو ينثني فكشف عن ساقٍ ضامرة غطَّاها الشعر، تعالت صيحاتنا ورددت أصوات اسم حجاج فقام وحزموه ورقص بحرفنة وعرى ساقه حتى أعلى الفخذ وكانت ملساء بلا شعر، فهللنا له وصاح الحاج عرفة مقلدًا العالمات: أيوه يا أختي. وبلغ الهياج مداه.

تعلقت عيناي بصور يسرا ولیلی علوي وفیفي عبده ورضا عبد العال الملصقة على الجدران ثم نقلتهما بصعوبة إلى مجلس الحاج رأفت. تابعت أحد النزلاء يقترب منه حاملًا بطانية وبسطها ثم رفعها بحيث حجبت عنا حجاج. وعندما أبعدها بعد قليل انطلقت صيحات التهليل ورأيت حجاج یزم شفتَين مصبوغتَين بالروج الثقيل وهو يضحك.

ابتسم الحاج رأفت في زهو وتطلع حوله بعينيه الضيقتَين القاصرتَين وبدأ الرقص من جديد. أمسك الحاج عرفة بالغطاء المعدني لدلو المياه وأخذ يدق عليه بكف يده وقاد زفة بدأت من الباب حتى مجلس الحاج رأفت حيث يستدير الراقص ويثني جسده للخلف مقتربًا برأسه من الأرض إلى أن تصبح في حجر حجاج بينما يرعش جسده ويصيح الجميع: ادلع يا عريس وعروستك جاية.

دارت الجوزة حتى وصلتنا فأخذتُ منها نفسًا طويلًا دون أن أرفع عيني عن حجاج، وتمددت في جلستي مستمتعًا برائحة الدخان التي اختلطت بالرائحة المنبعثة من ملابس سالم والتي ذكرتني برائحة ملابس أبي. وسرح فكرى إلى عبد الفتاح ثم هدى.

حكى أحدهم نكتةً بائخة عن الصعايدة ومع ذلك انفجرنا ضاحكين، ثم ذكر ما دبروه لأحد الضباط الذي كان مغرمًا بتفتيش الزنازين ويثور إذا لم يجد شيئًا من الممنوعات؛ حصلوا على قليل من المواد الكاوية التي تستخدم في تنظيف المراحيض ووضعوها في كيس صغير أخفاه أحدهم في ملابسه، وابتهج الضابط عندما عثر على الكيس، وأراد أن يتأكد من طبيعة المسحوق الأبيض بداخله ففتحه وذاق محتوياته بطرف لسانه. ومن ساعتها حرَّم.

روى آخر ما فعلوه في الليمان أثناء مرور اللواء مدير المصلحة عندما أرادوا الاحتجاج على سوء المعاملة. انتظروا حتى دخل العنبر بصحبة مدير الليمان وضباطه بعد أن صاح الحراس بصوت كالرعد «انتباه» وساد سكونٌ مطبِق فدسُّوا قطةً صغيرة في جورب وأطلقوها في العنبر. وفوجئ اللواءات بكرةٍ داكنة تصدر عنها أصواتٌ غريبة تندفع نحوهم بسرعةٍ خارقة دون أن يتمكن الحراس من الإمساك بها، فاستولى عليهم الذعر وجروا مبتعدين، وطبعًا عُرفت الحقيقة في النهاية؛ وتعرض الليمان كله للتكدير.

استولى عليَّ النعاس مرةً واحدة واستيقظتُ فجأة شاعرًا بید تعبث بسروالي. ظننت أني أحلم ثم تبينتُ أن النور مطفأ والجميع نيام وسالم إلى جواري تحت غطاءٍ واحد. اعتدلت جالسًا فسحب يده على الفور واستدار معطيًا ظهره لي.

ظللت جالسًا أحدق في الظلام وقلبي يدق في عنف، أنصتُّ لصوت تنفس سالم وحاولت تحديد موقع الحاج رأفت وحجاج إلى أن بزغ الفجر فغفوت. واستيقظت من جديد عندما فتحت الزنازين فنهضت وأنا أتحاشي النظر إلى سالم، وشعرت أنه هو الآخر يتجنَّب مواجهتي، وخيل إليَّ أنه يشعر بالحرج فملأني هذا بنشوةٍ غريبة.

حمل كلٌّ منا نمرته وعدنا إلى زنزانتنا، تركته يتناول الإفطار وحده، وبعد أن شرب الشاي غادر الزنزانة، قمت إلى نمرته فوجدته قد ترك لي نصيبي من الجبن والخبز وقطعة من الحلاوة الطحينية، فضلًا عن سيجارةٍ كاملة بجوار الوسادة. أفطرت وأعددت كوبًا من الشاي ثم قسمت السيجارة إلى ثلاثة أجزاء وضعتها في علبةٍ صغيرة من الصفيح ودخنتُ إحداها. تكرر الأمر ذاته في الغداء فأعدَّ قروانة من الفول بعد أن انتقاه وقشَّره وخلَّصه من السوس، ثم أضاف إليه قليلًا من الزيت وبصلة وحبة طماطم ووضعه على السخان. وعندما استوى أكل نصفه وترك لي النصف الثاني. وفي العشاء اضطررت أن أنضم إليه فوق نمرته كعادتنا كي لا أثير التساؤلات.

كان قد أعد مائدةً مؤلفة من قطعة مكرونة بالفرن وصحن من الخبيزة أضفت إليها نصيبي من اليمك الذي لم يكن أحدنا يستسيغه. أكلنا في صمت ثم التجأت إلى نمرتي فأشعلت الثلث الأخير من السيجارة وتشاغلت بالإنصات إلى الأحاديث الدائرة والفرجة على بقية المساجين. وكان أحدهم منشغلًا برتق فانلة من الصوف فقررت أن أعهد إليه بفانلتي التي تمزقت عند الإبط، وعرض عليَّ فريق الكوتشينة أن ألعب معهم فاعتذرت، وتسليتُ بمتابعة الإذاعات التي بدأت كالعادة بأخبار السجن. لم أكن أتوقع زيارة من أحد في الغد، كما كان بيني وبين موعد جلسة المحكمة أسبوعان، ومع ذلك أنصتُّ في انتباه لأسماء الزيارات والترحيلات أملًا أن أسمع اسمي بينها.

انتهت النشرة وتلتها النشرة الإسلامية، وفي نهايتها طرح المذيع سؤالًا وإجابته، كان السؤال عما يفعل الخطيب إذا حدث ناقض لوضوئه وهو يخطب الجمعة. قال إن الخطيب في هذه الحالة له أن يستمر في الخطبة ثم يتوضأ بعد ذلك ليصلي بالناس، أو يقدِّم شخصًا آخر لإمامة الناس بدلًا منه حتى يتوضأ، وإما أن يقطع الخطبة ويُنيب غيره لاستكمالها، أو يذهب هو ليتوضأ ثم يعود ليخطب؛ فكل ذلك جائز.

جاء دور الدكتور رمزي الذي انطلق كعادته: يا غلابة يا مساكين أنتم لا تفهمون سعر الفائدة أو الخصم، لا تفهمون شيئًا في الاقتصاد، لهذا تتركونهم يقترضون ويقرضون ويغامرون بأموالكم ويستثمرون، وفي النهاية أنتم تدفعون، ضحك عليكم أصحاب الذقون واستولوا على مدخراتكم، ثم أودعتم الباقي في البنوك التي أغرتكم بربًا مرتفع، وبعد فترة خفضت السعر وتلاعبت به. أما أموالكم فقد أقرضوها بالملايين للأفاقين والمغامرين والنصابين وأبناء الحكام وأقاربهم، وأغلبهم لا يردون هذه القروض ويتهربون من سدادها بكافة الوسائل، وتساعدهم البنوك بأن تعتبرها في النهاية قروضًا معدومة أو ميتة. وتقرءون عن ذلك في الصحف وتسمعون أن فلانًا هرب بعدة ملايين، وفي الحالتين تهزُّون أكتافكم بغير مبالاة ولا تدرون أنكم ستدفعون كل الملايين المعدومة والهاربة في نهاية المطاف، كيف؟ أولًا هم يعطونكم ربًا بسيطًا على إيداعاتكم أقل بكثير من الذي يأخذونه عند إقراضها لغيركم؛ أي أقل مما يحق لكم. كما أنهم يحسبون ربا الإقراض بطريقة الربح المركَّب فيتزايد يوميًّا، هذا الفرق الكبير الذي يأتي من جيوبكم وشقائكم هو الذي يغطي القروض الميتة التي يحصل عليها أقارب الحكام وأصحاب الأموال.

استمر موال الدكتور رمزي بعض الوقت لكني انصرفتُ عنه إلى عدد من مجلة «الكواكب» وجدته بجواري، ثم تناولت صحيفة اليوم، طالعتني صورة لضابط شرطة شابٍّ وسيم قتله الإرهابيون في الصعيد بعد أن أطلقوا النار على الناس في السوق وأردوا بعضهم.

نمتُ في عمق لم يوقظني منه البرد. وفي الصباح اكتشفت أن سالم وضع فوقي إحدى بطاطينه فأعدتها له دون كلمة.

أفطر كلٌّ منا بمفرده وتوضأت ونزلت لصلاة الجمعة في فناء الطابق الأرضي. وتبعني سالم بعد قليل. كان الخطيب بادي التجهُّم، وبعد أن حمد الله وأثنى عليه انطلق يهاجم مذهب الشيعة. استفاض في شرح بعض المسائل الفقهية التي استعصت على فهمي، فانصرفت عنه إلى تأمل الجالسين وألفيتهم مثلي يتململون ثم بدءوا ينتبهون للخطيب، وسمعته يقول إن بعض كتب الشيعة تعتبر المرأة ناشزًا إذا رفضت الوطء في دبرها من الزوج، كما أن أحد أئمتهم أفتى بأن الزوجة إذا ماتت من الوطء في دبرها فلها نصف الدية، وهذا كله يعني إباحة الشيعة للشذوذ رغم علمهم أن الإيدز لم يأت إلا من وراء هذه الأفعال القذرة.

سرت همهمات بين السجناء وعلت الابتسامات وجوه بعضهم. مضى الخطيب فقال: إن الشيعة في موقفهم هذا يستندون زورًا وبهتانًا إلى القرآن الكريم وقوله تعالى: وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ * قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ صدق الله العظيم. وهنا قال الشيعة إن لوطًا قال لقومه إني أعرض عليكم بناتي وهو يعلم أنهم لا يريدون إلا الأدبار فكأنه وافق على وطء بناته في أدبارهن.

في ختام الخطبة رفعنا جميعًا أيدينا بالدعاء لله تعالى كي يصلح أحوال البلاد والأمة، ويغفر لنا ذنوبنا ويمنَّ علينا بالإفراج القريب. وصعدت بعد الصلاة إلى الزنزانة فألقيت نظرة داخلها، كان سالم قد سبقني وجلس يدخن فوق نمرته. ولم أرَ أثرًا لأي سجائر فوق نمرتي. مضيت في الطرقة إلى نهايتها فافترشت الأرض جاعلًا ظهري إلى الحائط الخلفي للعنبر وأخذت أستعرض المساجين الذين يمكن أن أقترض منهم وفكرت في توكل. كان قد عرض عليَّ أن أواصل تخزين لفائفه مقابل حصة من السجائر وقلت لسالم فمنعني وحذرني منه، متعهدًا بأن يتكفل بحاجتي من السجائر إلى أن يفرجها الله.

صعبت عليَّ نفسي فدمعت عیناي وفوجئت بسالم يقترب مني فانتابني الخوف. جلس إلى جواري وقال دون أن يلتفت نحوي: أنا مش عاوزك تفهمني غلط، اللي حصل كان غصب عني. اوعى تفتكر إن ده هو اللي أنا عاوزه منك. أنا أقدر أفك حاجتي بأسهل ما يمكن، انت عارف ده كويس، لكن مش حاقدر ألاقي أبدًا صاحب … اسمع … أنا لي في السجون أكتر من عشرين سنة. تفتكر إيه أكتر حاجة كنت محتاج لها؟

لم أجب فواصل: تفتكر أنا مكنتش محتاج لحد جنبي؟ حد يطبطب عليَّ وأطبطب عليه؟ حد يحضني وأحضنه؟ عارف يعني إيه إنك تقعد عشرين سنة من غير ما تلمس إنسان تاني؟ من غير ما حد يحبك؟ مش معنى كده إنك عاوز تعمل معاه حاجة. مش ضروري، فيه شيء اسمه الصداقة. إن يكون جنبك حد يعرف انت بتفكر في إيه وتقصد إيه لما تقول حاجة … واحد يفهمك ويقدرك ويعزك ويخاف عليك ويساعدك ويقف جنبك وقت العوزة.

قلت فجأة: أنا أبويا عمره ما حضنني.

أشعل نصف سيجارة في مبسمه وقدمه إليَّ فتناولته، واستأنف حديثه: ناحية الغريزة دي حاجة طبيعية. السجن هو اللي مش طبيعي. العالم اللي هنا كله منحرف، تفتكر أنا معرفش الفرق بين الراجل والست؟ الراجل مش ممكن يحل محل الست أبدًا. حتى ولو نام على ضهره. بس بص حواليك. إنت شايف ستات كتيرة هنا؟ طب الواحد يعمل إيه. أوقات أبقى حاسس إني حاجَّنن، ومهما حاولت مفكرش مفيش فايدة. مفيش يوم يفوت من غير ما حاجة تفكرك. صورة في مجلة. غنوة. حركة، فيه ناس تعمل انها مش مهتمة بالموضوع ده، خايفين من اللي ممكن يحصل، خايفين يتسخمطوا. مفيش حد هنا يحب يبقى شاذ. الشواذ دايمًا محتقرين والناس بتستضعفهم ومتعملش لهم حساب. طب الواحد يعمل إيه؟

جذبت نفَسًا من نصف السيجارة حبسته في صدري ثم ناولته الميسم وأطلقت الدخان من فمي دون أن أعلق. كان يدهشني دائمًا بقدرته على أن يتحدث مثل المتعلمين.

مضى يحكى لي عن مسجون من أصدقائه قُبض عليه أول مرة وهو في سن الثامنة عشرة، وفي مركز الشرطة اعتدى عليه ثلاثة من الأشقياء بالقوة. وبعد ست سنين قُبض عليه مرةً ثانية، وفي مركز الشرطة وجد معه صبيًّا في السابعة عشرة من عمره، فاغتصبه بعد أن ضربه. وقال لسالم إنه كره نفسه ساعتها؛ لأنه تذكر ما حدث له شخصيًّا وكيف كان شعوره وهو عاجز عن المقاومة بينما مغتصبوه يتتابعون فوقه، ثم اعترف بأنه استمتع باغتصاب الصبي، لا بالعملية الجسدية وإنما لأنه، على حد تعبيره، «كان فوق مش تحت».

لمحت نزيلا من فرق النظافة الميري يحمل في يده لفافةً مغلفة بورق الفويل المفضَّض ويطلُّ في الزنازين كمن يبحث عن أحد. أشار سالم للنزيل وهو ينهض قائلًا: الأكل وصل.

تناول اللفافة من النزيل وتبادل معه بعض كلمات ثم ولج الزنزانة وهو ينادي عليَّ. ذهبت إليه فأراني صينية مستطيلة من الكرتون استقرت فوقها ثلاث سمكات مشوية مغطاة بالبقدونس وكمية من البطاطس الفريت.

قال: إيه رأيك ناكل الوقت البطاطس بالعيش ونسيب السمك للعشا.

أعددنا سندوتشات البطاطس وجلسنا نأكلها، وتجرأت فسألته عن مصدر الأكل فضحك وقال: الجماعة بتوع القرى السياحية عملت لهم خدمة.

– وخبيزة إمبارح؟

– هم برضه. شوف بعتولي إيه كمان.

أراني ماكينة حلاقة «جيليت» من النوع الجديد الحساس، ولوحة شفرات من النوع ذي الحدين اللذين يعلو أحدهما الآخر والتي تثبت في الماكينة بضغطة خفيفة على نتوء بها. تناولت لوحة الشفرات وقلبتها في يدي. كانت بلا هوية ولا تحمل اسم ماركةٍ معينة ثم اكتشفت في طرفها عبارة بخط دقيق: MADE IN ISRAEL.

شعرت أنه لا يريد أن يذكر نوع الخدمة التي أداها لهم فلم أسأله عنها. توليت إعداد الشاي وجلسنا نشربه في الطرقة. سألته بعد لحظة إذا كان قد تزوج فقال: مرة. اللي زيي مالوش في الجواز. السجن بيخرب الواحد. أنا أول ما دخلت السجن كنت دايمًا أشوف نفسي في الحلم بره. الوقت عندي حلم بيتكرر كتير، باشوف نفسي في العنبر وفيه هوجة وأدخل زنزانة فيها إدكو عمال يعيط. أمسكه من شعره وأهزه قدام المساجين وأقوله يفك بنطلونه فيترجاني إني مقتلوش عشان عياله، وبعد ما ينزل بنطلونه أخليه يطاطي وأسخمطه. وبعدين ألاقي نفسي ماسك سكينة وعمال أغزها في ضهره. حاجة فظيعة. مش كده؟ في الأول كنت باحلم بنسوان عريانة لها بزاز كبيرة، شوف وصلت لإيه؟ يا ترى بعد خمس سنين مثلًا حاحلم بإيه؟ وللا لما أخرج. لكن حاروح فين؟ لو كنت حاخرج بكرة تفتكر حاتغير؟ طب وحاعيش ازاي؟ حاقف في كشك سجاير؟ ولو عییت مين حيعالجني؟ لو كنت لوا شرطة ولا ممثل أو مهرج وحصل لي حاجة في القلب حيسفروني على طول أتعالج برة على حساب الدولة. لا. أنا مشيت في سكة من زمان وخلاص. بس عمري ما فكرت إني حاقضي حياتي في السجن.

قلت: انت اللي جبته لنفسك.

قال: معاك حق.

صمت لحظات في وجوم ثم قال: تعرف إني كتير أحسد اللي أنا قتلتهم؟ تعرف ليه؟ لأن محدش حیجري وراهم ولا حيهربوا ومش حيقتلوا حد. كل واحد فيهم كان له اللي حزن عليه. أنا بس اللي حزنت على نفسي من بدري لأن مليش حد يحزن عليَّ؛ أبويا مات مشلول وأمي عميت ومعدتش باسأل عليها، مش عاوز ابعتلها حاجة حرام، وأنا مبكسبش من حلال.

نادى علينا الحارس لطابور العصر. ولازمتني ثرثرة سالم طول الوقت. حكى لي طويلًا عن طفولته. ولم يتوقف إلا عندما بدأت نشرات المساء. استمعنا إلى واحد يتحدث عن ضرورة الصبر مستشهدًا بمحنة النبي أيوب، ورتل بصوتٍ رخيم: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ … وقال إن الضر يقرب المؤمن من الله، فعندما يشكو أوجاعه إلى الله ويتضرع إليه ينال ثوابًا عظيمًا. والله يبتلي البر والفاجر بالبأساء والضراء لحكمة قدرها؛ فالأول يزداد من الله قربًا حين يستنجد به، بينما الفاجر يزداد بُعدًا عن الله حين لا يتضرع إليه ولا يستغيث به.

تنهد سالم وقال: الحاجة اللي مش قادر أفهمهما إنه بعد كل التقدم اللي حصل والاختراعات والصواريخ اللي بتلف في السما وكل ده ملقوش لحد النهارده حل للمجرمين اللي زيي غير السجن؟ هم عاوزين مني إيه؟ يعاقبوني؟ طب ده يفيدهم بإيه؟ يقولك السجن تهذيب وإصلاح. انت شايف فيه تهذيب وإصلاح؟

أشرت إليه أن يصغي معي للدكتور رمزي الذي صاح فينا: يا غلابة يا مساكين. لو أنا سألت الواحد منكم، كم دفع هذا الشهر من الربا؟ سيجيب قائلًا: الربا يدفعه من يقترض من البنوك أما أنا فمن يقرضني؟ وإذا سألت واحدًا آخر: كم دفعت من ضرائب هذا الشهر؟ سيجيب بأنه رجلٌ فقير ولا مال عنده؛ وبالتالي فلا يدفع ضرائب. ولم يدرك المسكينان أن الرغيف الذي يشتريانه يضم في ثمنه نسبةً مخيفة من الربا ومن الضرائب، الرغيف يمر قبل وصوله إليكم بخمس مراحل: مرحلة الزراعة أو الاستيراد، مرحلة تخزين القمح، مرحلة الطحن، الفرن، بيع التجزئة. كل مرحلة يجرى تأمينها عن طريق القروض الربوية التي تضاف إلى تكلفة كل مرحلة، وتضاف الضريبة بنفس الطريقة. فإذا كان رغيف الخبز ثمنه عشرة قروش، وإذا حسبنا نسبة الربا في ثمن الجرار والمبيدات والبذور والسماد أو تكلفة الاستيراد والنقل ومخازن الحبوب والأفران لوجدناها الثلث، أما الضرائب التي تُدفع من ثمن التراكتور إلى آخره فهي أيضًا في حدود الثلث؛ أي إنه لو كان هناك نظامٌ غير ربوي ونظامٌ ضریبيٌّ عادل فإن بإمكان الواحد أن يشتري ثلاثة أرغفة بدلًا من الرغيف الواحد؛ وتصبح قدرته ثلاثة أمثالها.

لم أفهم ما يعنيه الدكتور رمزي بالضبط ولهذا بحثت عنه في طابور الصباح لأستفسر منه وأيضًا كي أهرب من ثرثرة سالم. وجدته جالسًا إلى جوار الحائط وقد مدَّد ساقَيه وعرَّاهما ليعرِّضهما للشمس، وأحاط به سامح ورمضان. جلست إلى جوارهم وانضمَّ إلينا مستر تامر بعد قليل، وكان يمسك بمجلةٍ فرنسيةٍ سميكة تحمل فوق غلافها صورة مايكل جاكسون في ملابسه الذهبية اللامعة التي تلتصق بجسمه.

وضع مستر تامر المجلة جانبًا وأنصت للنقاش فتناولتُها وتصفَّحتُها بسرعة. كانت بها إعلاناتٌ كثيرة عن المودات الجديدة لملابس الرجال، وأعجبني معطف ترواكار من الصوف له ياقةٌ قصيرةٌ منفصلة تثبت فوق الصدر بزرارٍ كبير، ومعطفٌ آخر من النايلون ببطانة كاروهات من الصوف وياقةٍ عالية من الفرو وجيبَين مائلَين عند الصدر وزرايرَ ذهبية عند الرسغَين من إنتاج بيربيريز الإنجليزي. كما أعجبتني مجموعة من كرافتات سيروتي الفرنسية. وفهمت من إعلان عن عطر «أوبيوم» النسائي أنهم بدءوا ينتجونه للرجال أيضًا، وكانت هناك عدة صور للموديلات الجديدة من سيارات فراري وألفا روميو ومرسيدس تشبه السيارات التي تظهر في أفلام الفضاء وخصوصًا واحدة بلا عجلة قيادة، وتوقفت طويلًا أمام صورة امرأةٍ شقراءَ جميلة ارتدت بلوزة شفافة محزقة أبرزت حلمتَي ثديَيها بوضوحٍ تام.

لمح مستر تامر المجلة في يدي فأخذها مني، وجَّهت انتباهي لحديث الدكتور رمزي: … بعد سنة البنك يديك فلوسك بزيادة، صح؟ معنى كده إنك أخدت مكسب من غير مقابل. أخدت فلوس من غير ما تعمل حاجة. من غير ما تنتج حاجة، صح؟ جت منين الفلوس دي؟ يا إما من اللي تطبعه الحكومة من غير رصید؛ یعني من غير ما يسنده إنتاج، وده يضرك؛ لأن الفلوس لما تكتر في السوق قيمتها تقل. مسألة عرض وطلب. أو يكون البنك أخد من حقوق غيرك وادَّاك. يعني الكل يخسر عشان انت تستفيد، أو تخسر أنت عشان يستفيد غيرك … عشان كده بقول ان اللي بياكل الربا بياخده من عرق الفقير … تعرف البنك الأهلي حقَّق السنة اللي فاتت أرباح قد إيه؟ مليار جنيه. جم منين دول؟

سكت لحظة يفكر ثم استطرد: لو أخدنا واحد مرتبه ۳۰۰ جنيه في الشهر مثلًا، حتلاقيه في الحقيقة بياخد خمسين جنيه بس. ازاي؟ أولًا بيدفع تأمينات. قول عشرة في المية، طبعًا صاحب العمل بيدفع قدامه عشرين في المية، لكنه بيحمِّل المبلغ ده على سعر السلعة؛ والنتيجة إن الفقير بيدفعها تاني لما ييجي يشتري. بعد كده بيدفع خمسة وعشرين في المية ضرائب دخل، والباقي هو الراتب الصافي، يعني كأنه بياخد تلتين حقه، ومن التلتين دول يدفع ضرائب تانية غير مباشرة عبارة عن تلت تمن السلع التي بیشتریها، یعني يفضلُّه من مرتبه تلت واحد. التلت ده نفسه ربعه بيضيع في التضخم والانخفاض المستمر في قيمة العملة نتيجة إن الدولة بتطبع فلوس من غير رصيد. یعني عمليًّا بيتفضل له سدس المرتب الأصلي، یعني متسخمط تمام.

لمحت حجاج جالسًا إلى جوار الحائط فانتقلت إلى جواره. فوجئت به يبكي. سألته عما به فلم يرد وواصل البكاء. ربتُّ على ظهره ثم على شعر رأسه الناعم. مسح دموعه بكم جلبابه والتفت نحوي قائلًا: مفيش، بافتكر حمادة.

سألته وأنا أتأمل شفتَيه: حمادة مين؟

ذكر لي أنه صبي في سنِّه يتيم الأب تشاجر مع أمه بسبب الفلوس، والتقطه زرافة فصار يخرج معه ويسرحان في القطارات. وفي يوم قرر حمادة الهرب فقفز من القطار وسقط على الأرض بجوار القضبان، قفز حجاج وراءه وأسرع إليه فوجد رأسه تنزف، نادى عليه فلم يرد فقطع قميصه وربط له رأسه واستنجد بالمارة الذين تبينوا موته وعندما سألوه عنه أنكر معرفته به وتسلل هاربا.

– رجعت لزرافة وأنا بعيط. كنت خايف منهم جدًّا ومرعوب، وبعدها سخنت وقعدت أرتعش ومرضيتش آكل. أصل حمادة كان صاحبي الوحيد وكنت باحبه قوي، زرافة أخدني وأنا تعبان كده وقعد يشحت بي في الشارع على إني ابنه وعيان وممعاهوش ثمن العلاج، فضلت ع الحال ده أربع أيام لغاية ما خفِّيت بس كل ما افتكر حمادة أروح معيَّط.

صفَّر الحارس معلنًا انتهاء الطابور فقمنا متثاقلين وارتقينا السلم على مهل. وتوقفت أستريح عند الطابق الثاني، وحانت مني التفاتة إلى الفناء فلمحتُ نزيلًا جديدًا يدخل من بوابة العنبر حاملًا نمرته، تعرفتُ فيه على موظف التربية والتعليم الذي لقيته في حجز القسم، لم أتذكر اسمه فناديته: كعب الداير.

رفع وجهه إليَّ ولوَّح بيده، لم أعرف إذا كان تذكرني.

سألته: إيه اللي جابك؟

ضحك وصاح: أنا لسة راجع من لفة المحافظات. إن شاء الله أخرج قريب.

قاده الحارس إلى زنزانة الإيراد وواصلتُ الصعود، وعندما بلغت قمة الدرج شعرت فجأة بألمٍ حاد في جانبي جعلني أنحنى ممسكًا به، تكرر الألم فخطوتُ بصعوبة نحو الزنزانة، وهرع سالم إلى جواري وعاونني على الوصول إلى نمرتي، فتمددتُ فوقها وأنا أئنُّ.

تجمَّع النزلاء حولي واستمرَّ أنيني فتعددت الآراء والاقتراحات بشأني؛ فمن قائل إني تعرضت لضربة برد، ومن أفتى بأنه المصران الغليظ، ومن أكد أنه المصران الأعور. أعدَّ لي سالم كوبًا من عصير الليمون، وعندما وجد أن الألم مستمر قال: لازم نودِّيه العيادة.

قال النوبتجي: العيادة مقفولة، الظاهر محدش جه منهم النهارده.

تذكرت الطبيب المزيف في زنزانة عبد الفتاح فطلبت من سالم البحث عنه. أحضره بعد قليل ففحصني وقال إني أشكو من برد في الكلى أو حصوة. ونصحني بأن أشرب السوائل باستمرار وأتدفأ جيدًا.

شربت كوبًا من الشاي وأعطاني سالم فانلةً صوفية لففتُها حول خصري وبسط فوقي بطانتين من بطاطينه، وأحضر لي النوبتجي أسبرينة وقرص نوفالجين، لكن المغص لم يتوقف بل ازداد حدة، فطلبت من سالم أن يذهب إلى الدكتور رمزي ويطلب منه مسكنًا. وجاء الدكتور رمزي بنفسه فأعطاني حقنة. وبعد ربع ساعة أخذ الألم في الانحسار حتى اختفى تمامًا.

أصرَّ سالم على نقلي إلى جواره بعيدًا عن تيارات الهواء ولم يعترض أحد. وأعدَّ لي كوبًا من الحلبة الساخنة. وكان جاري من الناحية الأخرى سائق ميكروباص اصطدم بمقطورة نقل على الطريق الزراعي فقتل سبعة من ركابه. كان له رأس ضخم بالنسبة لجسمه القصير، ورحَّب بي قائلًا: خدها إيزي، وكان دائم الترديد لهذه العبارة بمناسبة وغير مناسبة.

روى لي كيف قرَّر أن يصبح سائقًا وهو طفل لأنه أُعجب بما يتمتَّع به سائق مأمور المركز من هيبة ونفوذ. وعلق قائلًا: أنا دايمًا خيبان، جماعة قرايبي هاجروا أستراليا وقالوا لي أروح معاهم. مرضيتش. یعني مش كنت سمعت كلامهم أحسن؟ مكنش حصللي اللي حصل واترميت الرمية المهببة دي.

قلت له: خدها إيزي.

ضحك وقال: واخدها. بس وحياتك مش خسارة؟ كان زماني الوقت مع قرايبي. بلاد بتحترم البني آدم، العيل يتولد بمعاش. الرعاية الصحية شاملة ودقيقة وأمينة ومجاني. الساعة خمسة اللي يفضل من العيش يحطوه في أكياس ويوزعوه على البيوت مجانًا، التفاح اللي مجروحة قشرته يوزعوه على الناس مجانًا. النتيجة مفيش لا سرقة ولا جريمة ولا مخدرات … المصريين هناك عايشين ملوك. الولية قريبتي كانت عاوزة تيجي مصر زيارة؛ بنتها الصغيرة قالت لها يا ماما خلينا هنا أحسن ما نروح لبلد الشحاتين.

حكى لنا عما يصادفه في عمله من مواقف وشخصيات ونعستُ خلال حديثه. رحت في نومٍ عميق مستمتعًا بالدفء، وفي الصباح أصرَّ سالم أن أعرض نفسي على طبيب السجن. قلت إن جسمي قذر ولا بد أن أغيِّر ملابسي الداخلية وأستحمَّ أولًا بينما مياه الدورة باردة، قال إنه سيتكفل بتسخينها وأعطاني فانلةً نظيفة، ثم أخرج من كيسه ماكينة الحلاقة ذات الشفرة المزدوجة ومرآةً صغيرةً مكسورة واقترح أن أحلق ذقنى. أسندت المرآة إلى قروانةٍ مقلوبة ودعكتُ ذقني بصابونة بالموليف ثم بالفرشاة وحلقتُ ثم نظفتُ الماكينة والمشرط وأعدتهما إليه فقال: خليهم. بالمرة تشيل الشعر الزيادة اللي في جسمك.

حملت الفانلة النظيفة وفوطتي والصابونة البالموليف، وسبقني إلى الدورة فأعدَّ لي دلوًا كبيرًا ممتلئًا بالمياه الساخنة أخذته معي إلى المرحاض الأخير، أنزلت الستارة وخلعت ملابسي وألقيت بها فوق الحافة الخشبية. دهنت ساقيَّ بالصابون ودعكته جيدًا بالفرشاة إلى أن تكونت رغوةٌ كبيرة فرفعت ساقي إلى أعلى وتناولت الماكينة فقربتها من أعلى فخذي وبدأت في إزالة الشعر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤