٢

أسلمني الرقيب في صمت إلى حارسٍ وقَّع باستلامي على دفتر، وتبعته في ممرٍّ طويل تضيئه المصابيح الكهربائية، وتتصاعد من جنباته رائحةٌ غريبة هي مزيج من الفنيك والبول. مررنا بغرفٍ خالية اكتظت بالمكاتب الخشبية وأضاءتها شمس العصاري، ونزلنا سلمًا إلى الطابق الأرضي؛ فأبرز الحارس حلقةً من المفاتيح الضخمة فتح بأحدها بوابةً من القضبان الحديدية، انتهزت الفرصة لأطلب منه مساعدتي في الاتصال بأهلي.

قال: إيدك على خمساية.

قلت: أنا دالوقت ممعييش، لكن أهلي حيدولك.

لم يرد عليَّ، ودفعني أمامه في ردهةٍ صغيرة بها ثلاثة أبواب مصفحة، وفي طرفها فتحة بغير باب تضم مرحاضًا مكشوفًا، تكوَّم البراز حول حافته وتصاعدت منه رائحةٌ خانقة.

أبرز مفتاحًا آخر فتح به أحد الأبواب الثلاثة، ودفعني إلى الداخل ثم أغلق الباب ورائي دون أن يعبأ بالصيحات التي استقبلته، شققت طريقي بين بضعة أشخاص تجمعوا عند الباب وانهالوا عليه بالدق والصياح.

ألفيت نفسي في غرفةٍ كبيرة تلطخت جدرانها بالحبر وبقع الدماء وكتاباتٍ مختلفة، واكتست أرضها بالزفت وخليط من البصاق والبول. أشار لي رجلٌ ضخم الجثة يجلس القرفصاء على الأرض كي أنضم إليه، كان يرتدي جلبابًا قذرًا شُقَّ من منتصفه ليكشف عن صدره وعورته، شعرت بالخوف فتجاهلته ومضيت إلى ركنٍ بعيد عن الباب. جلست فوق مصطبة من الأسمنت أسفل نافذةٍ عالية من القضبان الحديدية المغطاة بشبكة من السلك.

اقترب مني رجلٌ أكبر مني في السن، ذو ملامح وادعة، يرتدي قميصًا عاديًّا وبنطلونًا، ويضع نظارةً طبية، ذات إطار من نوعٍ رخيص. جلس إلى جواري وأخرج سيجارتين من جيب قميصه، قدم إليَّ إحداهما، أخذتها رغم أنها كانت من طراز «كليوباترا»، عرَّفني بنفسه قائلًا إنه موظف في وزارة التربية والتعليم وأنه احتجز على سبيل الخطأ بسبب التشابه بين اسمه واسم أحد المتطرفين الهاربين. كشف عن باطن ذراعَيه أسفل الإبط وباطن ساقيه أسفل الركبة فرأيت كدمات زرقاء كبيرة وآثار تقيحات على حوافها.

قال: مصدقونيش إلا بعد ما أكلت الطريحة.

سألته: قصدك إيه؟

قال: مسمعتش عن الجهاز؟

هززت رأسي نفیًا.

قال: بكرة تدوقه.

تسارعت دقات قلبي وسألته بصوتٍ مرتجف: هم بيعذبوا كل واحد؟

– اللي ما يعترفش ياخد نصيبه، واللي يعترف كمان. أمال يتأكدوا ازاي إنه بيقول الحقيقة؟

ران علينا الصمت برهة وشعرت بقرصةٍ حادة في ساقي، عند حافة الجورب، حركت ساقي في حذر وجذبت ساق البنطلون في عناية ثم تطلعت إلى حافة الجورب، لكني لم أجد أثرًا للبرغوث الذي قرصني.

قال إن القاضي أمر بالإفراج عنه منذ ثلاثة أسابيع وإنه ينتظر التنفيذ في أية لحظة.

قلت: تلات أسابيع؟ المفروض تكون خرجت ما دام أفرج عنك.

قال: دخول الحمام حاجة والخروج منه حاجة تانية.

راح يعدد لي الإجراءات المصاحبة لقرار الإفراج: العودة إلى المحكمة في اليوم التالي للحصول على ورقة اسمها صحة إفراج تفيد مراجعة الأوراق، ثم الذهاب إلى مديرية الأمن في باب الخلق للحصول على ورقة تفيد أنه ليست عليك أحكامٌ سابقة، وبعد ذلك المباحث في لاظوغلي لكي تسجل أنه لا يوجد لديها مانع من إطلاق سراحه بشرط ألا يكون مطلوبًا في جهةٍ أخرى، ثم العودة إلى القسم للحصول على إمضاء رئيس المباحث الذي كان قد انصرف ولم يظهر إلا في اليوم التالي. وبعد أن وقَّع اصطحبه الباشكاتب إلى مكتبه وطلب منه بطاقة الهوية ثم بسط يده طالبًا الحلاوة.

– طبعًا عادي، المشكلة إني من ساعة ما القاضي أفرج عني وأنا بأوزَّع شمال ويمين. كل خطوة: مبروك، ألف مبروك؛ يعني اطلع بالسجاير والشاي والقهوة. خلصنا الورق وخلصت فلوسي. ولما الباشكاتب طلب الحلاوة كنت وصلت لآخري، لعنت أبوه وأبو الضباط والحكومة، تفتكر عملوا فيَّ إيه؟

– ضربوك؟

– يا ريت، الضرب كان أهون. لا يا سيدي. عملوا لي كعب داير.

– يعني إيه؟

– يعني ألفُّ محافظات مصر كلها عشان كل محافظة تشوف إذا كان عندها حاجة ضدي.

هونت عليه ودعوت له بالإفراج القريب، ثم طلبت منه أن يتصل بأهلي إذا خرج، وأعطيته رقم تليفون بوتيك على ناصية شارعنا، تعمل به أختي. وعدني بأن يفعل قائلًا: حاقولهم يجيبوا لك بيجامة وفوطة وصابونة وأكل طبعًا.

سألته مترددًا: هو مفيش أكل هنا؟

نظر إليَّ مستنكرًا ثم ضحك: أكل؟ إنت فاكرها لوكاندة؟ لك رغيف واحد حاف في اليوم والباقي عليك. إنت تغديت؟

قلت: ولا فطرت.

مد يده إلى كيسٍ كبير من البلاستيك بالقرب منه وأخرج لفافة قدَّمها لي.

– كل، جبنة ولانشون.

تطلعت إلى الساندوتش في تردد، ودفع هو به إلى يدي في حزم فأخذته، وعاد ينبش في الكيس البلاستيك حتى استخرج فلفلةً خضراء مسحها في ملابسه وقدمها إليَّ قائلًا: كل يا راجل.

الْتهمتُ الساندوتش وأنا أتطلع حولي إلى الآخرين، التقت عيناي بعينَي الرجل العاري الذي سلطهما عليَّ في تركيزٍ غريب. ودون أن أشعر وجدت نفسي أقترب من كعب الداير كأنما أحتمي به.

فرغت من الأكل فقدَّم لي سيجارة، وسألني عن سبب احتجازي. حكيت له قصتي وكيف أن الشرطة تتهمني بقتل الأجنبي بغرض السرقة، وقلت له إن جون كذب عليَّ؛ فقد عرفت من التحقيق أن هذا ليس اسمه الحقيقي وأنه من إنجلترا وليس من أستراليا. استمع إليَّ باهتمام دون أن يعلق بشيء.

تدافعت الدموع إلى عينيَّ وواجهته قائلًا: أنت مش مصدقني؟

بدا عليه الارتباك وقال: لا، مصدقك.

أضاف بعد لحظة: الواحد هنا يسمع حكايات يا ما.

لم أفهم ما يعنيه فسألته عن رأيه في مصيري؟ قال: محامي شاطر يطلعك براءة أو بحكم بسيط.

انفجرت فجأة عاصفة من الشتائم البذيئة من الركن البعيد عن الباب. رأيت اثنين يمسكان بخناق بعضهما البعض ويتبادلان الاتهام بالغش وقد تناثرت حولهما أوراق كوتشينة قديمة. كان الشر يبدو على وجهيهما، وبخاصة واحد منهما نحل شعر رأسه من الجانبين والمؤخرة، تاركًا جزيرةً صغيرة فوق جبهته مباشرة، ورأيت زميله يرفع يدًا برزت منها مطواةٌ صغيرة، ولمحت إصبعًا زائدًا يتدلى منها إلى جوار الخنصر.

اعتدلت في جلستي متوترًا فضحك كعب الداير قائلًا: متخفش، مش حيحصل حاجة. وبالفعل هدأ الاثنان بعد لحظة واستأنفا اللعب وكأن شيئًا لم يحدث.

اقترب منا شاب في سني، يرتدي نظارةً طبيةً سميكة، عقد ذراعَيه أمام صدره وأخذ يضغط بهما على جسمه الهزيل، وكان وجهه شديد الشحوب وحول عينيه حلقاتٌ سوداء.

تطلَّع إليَّ في صمت، ولحظت أن وجه كعب الداير قد تجهَّم. ظل الشاب في مكانه وجسمه يرتعش بين الفينة والأخرى وأصابعه تدعك ذراعيه، ورأيت العرق يتجمع على وجهه.

خاطبه كعب الداير في جفاء: مفيش معاه.

ظل الشاب واقفًا وهو يتطلع إليَّ كأنه لم يسمع.

قال له كعب الداير: إذا كنت عاوز تاكل عندي سندوتش زيادة.

استدار الشاب مبتعدًا دون كلمة. وتابعته بنظري في استغراب.

زايلت الجهامة وجه كعب الداير وحلَّ محلها تعبيرٌ حزين: مش راضي ياكل. شاي وقهوة على طول. طالب بالجامعة، ضبطوه بياخد حقنة ماكس تحت الكوبري. كانوا اتنين، هو اتحبس هنا، وزميله اتحبس فوق في مكتب مأمور القسم وبعدين أفرجوا عنه.

قلت: كوسة؟

قال: طبعًا. أصله ابن رئيس المحكمة العليا.

وأضاف ساخرًا: المسكين ده فاكر ان صاحبه حيتوسط للإفراج عنه. ما يعرفش انه هو اللي حيشيل القضية كلها.

تابعت الشاب وهو يتنقل من مجموعة إلى أخرى دون أن يتوقف عند أحد، ثم يدور بالقاعة وهو يدعك ذراعَيه في عصبية.

أومأتُ إلى رجلٍ وقور بلحيةٍ كثةٍ تتدلى على صدره وقلت: من الجماعات، مش كده؟

ضحك: أبدًا. ده سواق على نقل «سوزوکي». حرامي.

أبديت استغرابي.

قال: وحرامي خطر كمان. اتفق مع تاجر ينقل له كمية بيض، وفي الطريق هدده بموس وأخد منه البيض وخمسمائة جنيه.

واصل تعريفي بالباقين: سائق سفير أعطاه شيكًا بسبعة آلاف دولار لصرفه من البنك، فصرفه وترك السيارة وسافر إلى الأردن بحثًا عن عمل، وعندما فشل عاد فقُبض عليه في المطار، مدير فرع في مؤسسةٍ حكومية لتعبئة الأغذية وجدوا عنده كمياتٍ كبيرة من الشاي الذي انتهت مدة صلاحيته وأقرَّ بأنه تلقَّى تعليمات من رؤسائه بإعادة تعبئتها في عبواتٍ أخرى ببياناتٍ جديدة، جزار ذبح عجلًا مريضًا في المقابر، عاطل ينتظر الترحيل إلى الزقازيق حيث اغتصب فتاةً صغيرة هاربة من بيتها عمرها ١٥ سنة هو واثنان من أصدقائه، كهلٌ بدينٌ في ثيابٍ متسخة قبض عليه لأنه يبيع مكرونة في عربة مكشوفة.

سمعته يشكو لمغتصب الفتاة قائلًا: المكرونة بتجيلنا في براميل من غير غطا، وكل الناس شايفاها. يبقى أنا لما أبيعها عريانة أتمسك! ليه؟! عشان مدفعتش.

أضاف بعد أن هدأ: وفيها إيه يعني؟ حيحصل إيه؟ ده احنا شعب يهضم الزلط.

تصاعدت ضجة في الخارج، وتجمَّع المحتجزون عند الباب وأخذوا يدقون عليه، نهضت واقفًا وانضممت إليهم، نادى صوتٌ جهوري عدة أسماء ثم ظهر الصول عند الباب وفتحه ليخرج أحد المحتجزين ثم أغلقه من جديد في وجه الآخرين الذين تزاحموا حوله. وأمكنني أن ألمح طرفًا من البوابة الحديدية الخارجية وقد تجمع عندها عدد من السيدات في الملابس البلدية وأطفال في جلاليب.

تابعت النداء على الأسماء في ترقب أملًا في سماع اسمي، وتكرر فتح الباب وإغلاقه. وعاد البعض يحمل كيسًا من الطعام وبطانية، وظهر البعض الآخر خاوي الوفاض كسِيف البال، وفرش أحدهم بطانيةً سميكةً ملونة جاءته وجلس فوقها سعيدًا أسفل عبارة سُجلت على الجدار بحبرٍ جاف: «كله من النسوان».

انتهت الزيارة بعد ساعة، ودبَّ النشاط في المحتجزين، وتجمَّع بعضهم حول الطعام الذي جاءهم من أهلهم، وجلست أنا وحيدًا في الركن أتأملهم. واستأنف طالب الماكس جولاته بين الذين جاءتهم زيارات، ثم انكمش إلى جوار الحائط، وتكوَّر وهو يرتعش. وبعد قليلٍ قام أحدهم ومضى إلى النافذة ونادى على جندي في الخارج ثم لفَّ ورقةً مالية على شكل سيجارة مدها له من ثقب بالشبكة وأتى بكوب من البلاستيك وضعه أسفل الثقب فامتد منه خرطوم رفيع من البلاستيك انسال منه الشاي.

سال لعابي لمنظر الشاي والتفتُّ إلى صديقي أملًا أن يشتري لنفسه كوبًا ويعزمني على واحد، أو على الأقل تنوبني رشفتان من كوبه، وجدته قد التفَّ ببطانية واستسلم للنوم. وترددت أصواتٌ غاضبة في الخارج ميَّزت بينها صوت امرأةٍ بلدية تصيح: وإيه يعني لما اضربه؟ دا جوزي وانا حرة فيه. محدش له دعوة.

تباعد صوتها بعد قليل وسمعت صوت إغلاق باب الحجز المجاور لنا والخاص بالنساء.

فُتح بابنا بعد لحظات وانضم إلينا كهل في ملابسَ بلديةٍ فاخرة لم يكن يبدو عليه الانزعاج؛ كأنما ألف المكان. ولم يلبث الحارس أن فتح الباب وناوله لحافًا سميكًا وبطانيةً جديدة وعدة لفائف من الطعام تصاعدت منها رائحة الكباب، وكان يدعوه بالحاج. بسط الرجل فرشته ثم فض لفافة الطعام ووجَّه الحديث إلى الجميع دون أن ينظر إلى واحد بالذات: تفضلوا معايا. ترددت بضع كلمات الشكر ولم يستجب أحد إلى الدعوة، ويبدو أنها لم تكن جادة فلم يكررها، وانقضَّ على طعامه في شهية وحماس.

غالبت نفسي كي لا أنظر إلى قطع اللحم والكفتة المغطاة بالبقدونس، وإلى أرغفة الخبز التي كان يقضم منها لقماتٍ كبيرة، وإلى أنواع السلاطات التي أحاطت بالطبق، وجهت انتباهي إلى كهلٍ في جلبابٍ رخيص يبكي في صمت. واجتذبني حديث رجلٍ هادئ، أصلع الرأس، كان يحكي لجاره عن زوجته. فهمت أنها ادعت عليه بأنه سرقها لأنه قال للقاضي إنها ما زالت بكرًا وإنه لم يدخل بها حتى الآن، فاعتبرت ذلك طعنًا في شرفها.

سمعتُ نداءً على اسمي وظهر الصول في فرجة الباب، أشار إليَّ فتبعته إلى الخارج، صعدنا السلم من جديد إلى أعلى. وفي هذه المرة تجاوزنا الطابق الأول وواصلنا الصعود إلى الثاني.

انطلقنا في ممرٍّ تحفُّ بجانبَيه الغرف المغلقة، حتى وصلنا إلى باب بحواره لافتة تعلن عن: «ضابط المباحث»، يقف أمامها رجل في قميص وبنطلون، أشار لنا بالانتظار، وطرق الباب ودخل ثم عاد بعد دقائق وأومأ لنا بالدخول.

كان ثمة ساتر خشبي في المدخل دُرنا حوله لتطالعني غرفةٌ كبيرة وصورة رئيس الجمهورية فوق شابٍّ مديد القامة وسيم الملامح يبدو عليه أنه من أولاد الناس، كان يتحدث في سماعة تليفون بصوت هامس بينما يده الأخرى تنفض رماد سيجارة «كِنت» في منفضة معدنية على مكتبه. وكان يرتدي قميصًا اسبور مخططًا من طراز «سونيتي»، لم يعجبني ذوقه، وتنبعث منه رائحة عطر «كارتييه»، وإلى الجانب الضيق من المكتب جلس في احترامٍ رجلٌ آخر في قميصٍ عادي بنصف كم يتشاغل بالتقليب في بعض الأوراق.

أدَّى الصول التحية العسكرية، وظل واقفًا في انتباه إلى أن أنهى الضابط حديثه التليفوني وأشار له بالانصراف دون أن يرفع إليه عينَيه. خرج الصول بينما ظل الضابط يتطلع إلى يده التي تنفض السيجارة وقد بدت عليه علامات التفكير العميق.

شعرت بشخصٍ خلفي يضع كفه على قفاي ويتحسسه برقَّة. ارتعش جسدي من اللمسة التي لم أعهد مثلها من قبلُ وبدت لي اليد دافئة توحي بالاطمئنان، ثم سمعت صوتًا يقول في أذني: تكلم أحسن لك.

التفتُّ برأسي لأرد على من خاطبني فهوت يد على صدغي، ترنَّحتُ من وقع الصفعة وكدت أقع على الأرض لكن مخبرًا آخر تلقفني بين ذراعَيه، ونهرني الضابط قائلًا: بص لي وجاوب بسرعة.

قلت: حاضر.

هوت يد المخبر الثاني على صدغي فأعادتني إلى حضن الأول: قول أفندم يا ولد.

رددت بسرعة: حاضر يا افندم.

قال: تعترف ولَّا أعلقك؟

قلت في توسل: والله العظيم يا سعادة البيه أنا قلت كل حاجة زي ما حصلت.

تلقيت لكمةً صاعقة في وجهي فأضفت على الفور: متآخذنيش يا سعادة الباشا، مش قصدي، وحياة المصحف زي ما قلت أول مرة، هو اللي اداني السلسلة من نفسه، ولما حب يعتدي على شرفي دافعت عن نفسي، لكن ما قصدتش أقتله أبدًا، هاتلي مصحف أحلف عليه.

ظل يتطلع إليَّ دون أن يتكلم فشككت أنه مسيحي.

قلت: والإنجيل يا سعادة الباشا زي ما قلت.

بدا عليه الغضب وقال: قلَّعوه.

شدوا بنطلوني إلى أسفل بينما تولى أحدهم ربط يدي بكلبشات معدنية خلف ظهري.

خاطبني الضابط متهكمًا: عارف إحنا حنعمل فيك إيه؟

انتابني الرعب وجذبت یدي فازدادت الكلبشات ضيقًا حول رسغي وجذب أحدهم كيلوتي إلى أسفل فتضاعف رعبي، ربط به قدميَّ ثم أحضر طرحةً نسائية وربط بها عيني، وأخيرًا رفعوني وعلقوني في النافذة بحيث ألمس الأرض بأطراف الأصابع.

جربت أن أنقل ثقل جسدي بالتناوب بين اليدين والقدمين لأخفف الألم بينما انهالوا عليَّ بالكرباج والشتائم.

هتفت: ارحموني. أنا مستعد أقول أي حاجة، بس كفاية كده. ومش حاقول على اللي إنتو عملتوه فيَّ، أنا عارف انه غصب عنكم. كفاية بأه. حرام عليكم.

شعرت بإعياءٍ شديد وسمعت من يسبُّني طاعنا في رجولتي، فلم أملك نفسي وصحت به: أنا أرجل منك، وهنا سمعت الضابط يقول لواحد منهم: هات الجهاز.

ربطني المخبر بسلك في كتفي وبدأ يضع شيئًا تحت رجلي. وسمعت صوتًا يقول: الفيشة بايظة.

قال الضابط بصوتٍ نافد الصبر: حطه في التانية يا حمار.

مرَّت لحظاتٌ بطيئة وفجأة اخترق ساقي قضيب من النار فصرخت. وتكرر الأمر مع الساق الثانية. أخذت أئن وشعرت فجأة بأني أقفز من مكاني وأطير في الهواء، ثم غبت عن الوعي.

أفقتُ لأجد نفسي راقدًا على الأرض غارقًا في المياه وعاريًا تمامًا، وقدميَّ مربوطتين بالكيلوت، والكلبشات في يديَّ خلف ظهري كما هي، والغمامة تغطي عيني.

أدركت من الأصوات المحيطة بي أن الضابط والمخبرين ما زالوا موجودين، فخاطبتهم قائلًا: حرام عليكم. وبدأت أبكي.

سمعت الضابط يقول: اختار اسم واحدة نندهلك بيه.

قلت: ليه؟ ما أنا لي اسم!

قال: إيه رأيك في اسم شريفة؟ وللا فتحية؟

قلت: اعمل معروف.

قال: اسمع الكلام أحسن ننده لأختك ونقلعها.

قلت له: كله إلا ده. أنا مستعد أعمل أي حاجة، أبوس رجلك.

قبل أن أغلق فمي شممت رائحةً نتنة تقترب مني وبجسمٍ غريب يستقر بين فكي، لم ألبث أن أدركت أنه قدم الضابط المكسو بجورب نتن.

لم أتمكن من تحريك فمي لكي أقبل قدمه. وسمعته يقول: اخترت اسم يا واد؟

لم أتمكن من الإجابة. ثم سمعت لطمة وصوت أختي تصرخ: يا لهوي.

صرخت: أنا معترف بكل حاجة. أنا كنت عاوز أسرقه ولما قاومني ضربته.

وفقدت الوعي.

لم أدرِ بنفسي إلا وأنا جالس على الأرض وسط صمتٍ مطبق وما زلت مغمى العينين، مقيد اليدين.

مضت عدة ساعات كنت خلالها مشلول التفكير والإرادة، ثم سمعت وقع أقدام تقترب وصوت بابٍ قريب يُفتَح. امتدت يدٌ إلى غمامة عينيَّ فأزالتها. وألفيت نفسي أمام رقيب من جنود القسم طلب مني الوقوف وفكَّ قيدي.

أسلمني الرقيب في صمت إلى صول وقَّع باستلامي على دفتر. تحاملت على نفسي وتبعته في صعوبة إلى الطابق الأرضي حيث يقع الحجز.

كنا في الفجر والجميع نيام فوق المصاطب أو على الأرض، حيث انفرد البعض ببطانية فرشها تحت جسده، واشترك آخرون في بطانيةٍ واحدة استلقى فوقها اثنان أو ثلاثة. أما الذين لم يكن لديهم شيء فقد تمددوا على الأسفلت مباشرة وتوسدوا أحذيتهم.

وجدت مكانًا إلى جوار كعب الداير فرقدت فوق الأرض العارية وأنا أتحرك في حذر؛ لأن كل عضلة وعظمة في جسمي كانت تؤلمني. خلعتُ حذائي ووضعته تحت رأسي. شممت رائحة عرقي النفاذة، وتقلبت عدة مرات بحثًا عن جانبٍ مريح دون فائدة. اصطدت بضع بقَّات ظهرت على ملابسي فدعكتها في الأرض وأنا أكتم نفسي كي لا أشم رائحة دمائها. استعدت صورة فتاة سيارة الجولف وتخيلتها ترتدي بلوزةً بفتحة واسعة تكشف عن منبت ثدييها وأني أطاردها في سيارة كابورليه بمقعدَين وأسابقها حتى أجبرها على التوقف، عندئذٍ تفتح باب سيارتها وتستدير لتغادرها فتنكشف ساقاها. استمنيت على هذه الصورة من فوق ملابسي وأنا أتطلع حولي في حذر. ثم استدرت على جانبي وأغلقت عينيَّ، ورحت في نومٍ عميق لم تزعجه الحشرات.

في الصباح قاسمني كعب الداير إفطاره من الطعمية والجبنة البيضاء، واستمتعت بجزء من بصلة قذف بها إلينا أحد المحبوسين في قضية مخدرات. رويت له ما حدث وكيف أني سمعت صوت أختي. علَّق قائلًا إنها قد تكون تمثيلية من المباحث للضغط عليَّ.

اكتشفت أن طالب الماكس تبول على نفسه بالليل وأن هناك نزلاء جددًا انضموا إلينا. كان أحدهم فلاحًا من كفر الشيخ جعل يضرب كفًّا بكفٍّ وهو يردد: حسبي الله ونعم الوكيل! حسبي الله ونعم الوكيل! وعندما رآني أنظر إليه وجَّه إليَّ الحديث: الواد ابني بيعمل عملية مخ في أبو الريش، إديته دم وطلعت أبات بره على الرصيف. يقوم البوليس يمسكني في الفجر، يرضي ربنا الكلام ده؟!

كان الباقون جماعة واحدة من ثمانية أشخاص من مختلف الأعمار والأشكال، ملابسهم ممزقة وعليها آثار دماء، بعضهم يرتدي ملابس كاملة رغم الحر، والبعض الآخر جلاليب بيضاء، ومع ذلك تبدو عليهم مظاهر النعمة كما تجلَّى لي من الأقدام النظيفة الناعمة في الصنادل الجلدية.

عرفت من كعب الداير أنهم كانوا يستمعون إلى درسٍ ديني من الشيخ عمر عبد الكافي في المسجد، وعندما انتهى الدرس بدأ يجمع التبرعات لمسلمي البوسنة قائلًا إنه يفعل ذلك بتكليف من وزير الأوقاف وشيخ الأزهر. اعترض هؤلاء على جمع التبرعات قائلين إنهم تأكدوا من الوزارة والأزهر من عدم صحة هذا الزعم، فاعتدى أنصاره عليهم، وعندما أبلغ مدير المسجد الشرطة جاءت على الفور وبدلًا من إلقاء القبض على أعوان عبد الكافي ألقت القبض على الضحايا.

عرف كعب الداير أيضًا، قصة الحاج صاحب الكباب؛ فهو تاجر أسماك مستوردة وجدوا في ثلاجته كمية من سمك الماكريل منتهية الصلاحية، وكان ينويى تعديل تواريخ إنتاجها وطرحها في الأسواق.

أتاح لنا الحارس الذهاب للمرحاض المكشوف حتى انتهينا جميعًا من استخدامه على مرأى من بعضنا البعض. وعندما أعادنا إلى الحجز بدأ النداء على أسمائنا.

لحظت البعض يتداولون شيئًا في سرية. وسألني أحدهم: معاك حمام؟

تطلعت إليه في بلاهة: حمام إيه يا عم؟ إحنا في إيه ولا إيه؟

كان صديقي يستمع فضحك وقال لي: الراجل يقصد برشام.

كنت أعرف القرص الأبيض الذي يحمل على أحد وجهيه صليبًا، وهو في الأصل دواء أجنبي للشلل لا تصرفه الصيدلية إلا بروشتة، وهو غالٍ جدًّا؛ فالقرص الواحد يشتريه صديقي زلطة الميكانيكي بثمانية جنيهات، وهو يأخذ في العادة قرصَين كل ثلاث ساعات وبعدهما كوب شاي. وجربت تعاطيه مرةً واحدة شعرت بعدها بانبساط وجرأة رهيبَين. ولم أكرر هذه المرة لأنه مكلِّف للغاية ولا يبقى أثره لليوم التالي، على عكس الأنواع الأخرى، وكنت أعرف أنه يسمى أحيانًا من باب التدليل «صلايش» لكني لم أسمع من قبلُ باسم «حمام»، وشرح لي كعب الداير أن المجرِّبين يأخذونه قبل العرض على ضابط المباحث ليساعدهم على تحمل التعذيب.

لم يرد اسم كعب الداير بين الأسماء فبدا عليه الابتهاج وقال: معنى كده أنا باقي هنا، يمكن أطلع على طول.

قلت له: وحياتك ما تنساش في أقرب فرصة، حد يزورني ويجيب معه أكل وفوطة وبيجامة وغيار داخلي. سكتُّ قليلًا ثم أضفت: وصابونة ضروري وماكينة حلاقة وأمواس وسجاير، وأضفت بعد تفكير: مش ضروري مارلبورو، يجيبوا كليوباترا، أرخص.

كانت أمي تعرف أني لا أدخن غير المارلبورو التي يقترب ثمنها من الأربعة جنيهات، وكانت تتحايل دائمًا لتمدني بالنقود الضرورية؛ لأن مصروفي لم يكن يسمح لي بشرائها، بل إن أبي لم يكن يعرف أني أدخن، وإن كنت قد لاحظت أنه بدأ يشك في الآونة الأخيرة، فضربني وطردني من البيت حتى اضطررت للمبيت في الشارع.

غادرنا الحجز من جديد وألفيت نفسي أمام الزنزانة المجاورة فوضعت عيني على الفتحة الدائرية في بابها، رأيت عدة نساء بينهن واحدةً شقراء الشعر ترتدي جوبة وشبشب زنوبة، أمسكت بسيجارة بين أصابعها وجلست في الوضع الذي تفضله أمي: ثانية ساقها اليمني أسفل فخذها الأيسر، الذي أقامته عموديًّا على الأيمن واستندت إليه بمرفقها. وكانت تختلف عن أمي في السيجارة التي تمسك بها بين أصابعها والكيلوت الأحمر اللون الذي ظهر بين ساقيها. وتربَّعت أخرى سمينة في ملابس بلدية سوداء على الأرض، وانطلقت تحكى وهي تشرح بيديها يمنة ويسرة في سطوة وعنجهية، وقدرت أنها المرأة التي ضربت زوجها.

اصطففنا طابورًا في الردهة الخارجية امتد حتى الطابق الأعلى. كنت في مقدمة الطابور وفي مواجهتي مباشرة قاعة استقبال كبيرة يجلس في طرفها ضابط بثلاث نجوم منهمكًا في الكتابة، لحظت أنه يتصبب عرقًا ويبذل مجهودًا بالغًا فيما يفعل. وكان هناك عدد من الضباط الشبان أغلبهم بنجمةٍ واحدة أو اثنتين يروحون ويجيئون بين المكتب وقائم خشبي مرتفع في الجانب الآخر من القاعة صُفَّت فوقه مجموعة من الدفاتر. تابعتهم في إعجاب وحسد. كانت النعمة تبدو عليهم من بياض ووسامة وشياكة: الكاب الأبيض تحت الإبط، القميص الأبيض الناصع بنصف كم، البنطلون الأبيض الضيق الذي يكشف تفاصيل الفخذين والأليتين، المسدس المثبت في جانب داخل حافظته، ومشية فيها زهو واعتداد. ولفت نظري واحد منهم ذو وجهٍ بیضاوي وشفاهٍ حمراء مكتنزة حلق شعره على طريقة كابوريا.

سمعته يهتف: يا عوض. ثم يكرر: يا عوض يا وسخ. يا عوض يا زفت. ولبَّى النداء شابٌ ريفي مكتئب الوجه كان منهمكًا في إغراق الطرقة بالمياه تمهيدًا لمسحها. أنَّبه الضابط على قذارة المكتب، أمره بمسحه، وصفعه على قفاه، وتناوب بقية الضباط صفعه على قفاه وهم يضحكون.

انتهى عوض من تنظيف المكتب فعاد إلى الطرقة وشرع يجرف المياه بالمساحة الكاوتشوك حتى كوَّمها قرب الدرج. تركها ومضى إلى قاعة الاستقبال فأغرقها بالمياه ثم أزالها بالمساحة فتجمعت أمامها قاذورات مختلفة كوَّمها في الجزء الذي نظفه من الطرقة، وتركها، واختفى.

أمرنا الحارس بأن نجلس القرفصاء. وصاح آخر في قمة السلم: الشحاتين والنشالين والحرامية الناحية دي، بعدهم بتوع المخدرات والتسعيرة، وهنا بتوع التزوير والدعارة.

توزع الجميع طبقًا للأمر، واحترت أين أقف. وأخيرًا تراجعت إلى نهاية الطابور. اقترب منا حارسٌ آخر وأخذ يضع القيود الحديدية في أيدينا؛ كل ذراعٍ يمنى في ذراعٍ يسرى. وجاء نصيبي مع رجلٍ طويل القامة يرتدي بلوزةً رخيصة وبنطلونًا من قماشٍ رديء ويحمل في يده كيسًا بلاستيكيًّا تبدو منه زجاجة كوكاكولا كبيرة الحجم.

نادى أحد الحراس: حق البنزين يا حضرات. وبدأ كل واحد يدس يده في جيبه متأففًا ويخرج مبلغًا من المال يدفعه للحارس، وتحسست جيبي رغم أني لا أحمل نقودًا.

جمع الحراس النقود وقادونا إلى الخارج فدُسنا في القاذورات التي خلفها عوض وأعدنا توزيعها في الطرقة، اتجهنا إلى سيارة نقل مغلقة الجوانب لها فتحاتٌ صغيرة مسوَّرة بالسلك، دفعَنا الجنود بغلظة من بابها الخلفي، كان سلمه يعلو عن الأرض بنصف متر على الأقل، فوجد أغلبنا صعوبة في القفز إليه بسبب القيود الحديدية في أيدينا. وعندما اكتمل عددنا أغلقوا الباب علينا بالرتاج واحتل حارسان مقعدَين متقابلَين خارج الصندوق.

كان الزحام كثيفًا داخل العربة وأوشكتُ أن أختنق من روائح العرق والأفواه التي استمتع أغلبها مثلي بأكل البصل. علق أحد الواقفين: مش احنا دفعنا عشان يحطونا في عربيتين؟

قلت له: لا: إحنا دفعنا عشان البنزين.

ضحك وقال: إنت يا بني على نياتك خالص.

جاهدتُ حتى اقتربتُ من إحدى الفتحات المسوَّرة من أجل نسمة هواء، بدا لي الشارع غريبًا كأني أراه لأول مرة، وتنبهت لأشياء لم أعرها اهتمامًا من قبلُ: حركة الناس والسيارات وأشكال النساء وخطواتهن المرتبكة ولحظت أن الناس تمشي كالمنومة وأن سيارتنا لم تُثر اهتمام أحد.

مررنا بثلاث محطات للبنزين، دون أن نتوقف عند إحداها.

ترجلنا أمام مديرية الأمن حيث اتجه أغلبنا إليها، بينما تابعت السير على الأقدام مع حوالي العشرة في طابور يقوده الصول ويحفُّ به اثنان من الحراس حتى مبنى المحكمة المجاور.

ولجنا ردهةً غاصَّة بالناس، وشقَّ لنا الصول طريقًا إلى حجرةٍ كبيرة بها أرائك خشبية، وبمجرد أن دخل آخر واحد فينا خاطبنا قائلًا: الشاي يا حضرات.

أخرج البعض جنيهاتهم فجمعها الصول، وكنت بين قلة لم تدفع بينهم زميلي في القيد والكهل الباكي الذي يدعى فوزي، ونزع الأول سدادة زجاجة الكوكاكولا وأصرَّ أن نشرب منها فروينا عطشنا رغم أنها لم تكن باردة. عرفت أنه عامل بشركة شحن وتفريغ تهدم منزله في الزلزال وأقام بمساكن الإيواء حيث حصل هو وزوجته وأطفاله الثلاثة على حجرةٍ صغيرة في شقة من حجرتين ودورة مياه واحدة تسببت في مشاجراتٍ دائمة، مع الأسرة التي احتلت الغرفة الأخرى، وخصوصًا في الصباح عندما يستعد أطفال الأسرتَين للذهاب إلى المدرسة. وفي يوم دخل جاره الحمام صباحًا وظل أكثر من ساعة بينما كان الأطفال الصغار يصرخون خوفًا من التأخر على الامتحان، وعندما خرج دبَّت بينهما مشاجرة وتضاربا.

لمحت من فتحة في الباب كهلًا في بدلةٍ زرقاء من الكتان بكُمَّين قصيرَين، يقتعد الأرض ويضع أمامه لفافة من ورق الصحف تضم عدة أقراص من الطعمية وعلبة مخللات ورغيفَين من الخبز، اقترب منه كهلٌ آخر في ملابس الصولات فخطف لقمة من الخبز والتقط بها قرصًا من الطعمية. وجرى ريقي وأنا أتابعهما يلتهمان الطعمية.

انفتح الباب بعد ساعة، وتسلَّمَنا حارسٌ جديد قادنا إلى باب آخر، ألفينا أنفسنا بعده في القفص الحديدي بقاعة المحاكمة، وقفنا خلف شبكة من السلك تمتلئ حافتها السفلى القريبة من الأرض بالثقوب التي تسمح بمرور الأيدي. وتطلعت إلينا أنظار الجالسين فوق الدكك الخشبية، وقف إلى جواري طالبٌ آخر بكلية الطب عثر على بطاقة اشتراك مجانية في المواصلات ملقى في الشارع فوضع صورته عليه ليركب الأوتوبيسات مجانًا إلى أن شك فيه المحصل فأمسك به وسلمه إلى الشرطة التي أحالته إلى النيابة بتهمة التزوير في أوراقٍ رسمية. وتلاه شابان يرتدي أحدهما قميصًا مشجرًا فوق بنطلون متسخ ويمسك في يده بعلبة مارلبورو. والآخر شديد السمرة قذر للغاية يرتدي بوتًا يتابع ما يجري حوله بلا مبالاة وهو يمضغ لبانة. وفهمت أنهما من لصوص السيارات.

مضت ساعة ظلت فيها منصة القاضي خالية. كانت القاعة تمتلئ فجأة بالجالسين ثم تخلو منهم بعد قليل لتمتلئ بهم من جديد على الفور، وهكذا دواليك. ولم يظهر أحد من أهلي، وبعد ساعة أخرى دبَّ النشاط في القاعة، وانشقت الأرض عن حاجب فتح بابًا خلف المنصة وهو يصيح فينا: محكمة.

انفرج الباب عن ثلاثة رجال تقدموا من المنصة فاحتل اثنان منهما مقعدَين خلفها، أحدهما ضئيل الحجم بادي الخجل والانطواء، ألقى علينا نظرةً عابرة من خلف عويناتٍ داكنة ثم ثبت عينيه في سطح المكتب، والثاني شابٌّ متأنق يرتدي ربطة عنق ماركة «تيد لابيدوس». أما الثالث فقد دار حول المنصة وجلس إلى جانبها وبسط عدة ملفات أمامه، وبعد أن دوَّن عدة سطور في أحدها بقلم «بيك» تناول أولها وقدَّمه للقاضي الذي تمتم بشيء فزعق الحاجب الذي وقف تحت المنصة مناديًا بأحد الأسماء.

تتابعت القضايا، ونودي على كثيرين بينهم أبو إصبع وزميله وسائق النقل السوزوكي، وعم فوزي، والحاج آكل الكباب. ثم رُفعت الجلسة بعد ساعة دون أن يتم استدعائي أنا أو الطالب أو رفيقي في القيد، واختفى القاضي وزميله خلف الباب الذي جاءا منه. وبعد نصف ساعة سمعت اسمي وقادني الحارس بعد أن فك قيدي إلى غرفة المداولة.

جرى كل شيء بعد ذلك بسرعةٍ مذهلة، وبينما كنت أحاول أن أحدد نوع العطر الذي ينبعث من زميل القاضي سألني هذا عما إذا كان لديَّ محامٍ؟ أجبت بالنفي، وقبل أن أفكر في إعلان براءتي أعلن القاضي بصوتٍ مرتفع: قررت المحكمة استمرار حبس المتهم ٤٥ يومًا وإيداعه السجن.

أعادني الحارس إلى القفص، وجاء الدور على الطالب الذي خرج من غرفة المداولة منهارًا. بعد ذلك أعلن الحاجب القرارات فنال الحاج إفراجًا بكفالة. تصاعدت الزغاريد من أهله وتكاتف عليه عدد من الحاضرين وأخذ يوزع النقود بلا حساب وسرعان ما اختلطت الزغاريد بالصويت عندما تُليت بقية الأحكام.

خرج بنا الحارس إلى الردهة الخارجية، وألفيت أمي فجأة أمامي، بدا عليها كأنها شاخت وتقدمت في السن عدة سنوات. كانت ترتدي ملابس سوداء وتلفُّ رأسها بطرحةٍ سوداء. احتضنتني في صمت وهي تبكي. وتخلصت منها في غضب شاعرًا بالخجل من أنظار الآخرين. تطلعت حولي بحثًا عن أختي وأبي فلم أجد لهما أثرًا.

غاص قلبي بين قدميَّ وسألتها: فين عايدة؟ هي بخير؟

ردت بصوتها الباكي: بخير يا بني.

لم أشأ أن أستوضحها السبب في عدم حضورها، أو أستفسر منها عما إذا كانت قد تعرضت لشيء على يد ضابط المباحث، ولم تتبرع هي بأي إيضاح، فسألتها عن أختي الثانية وأبي.

– فاطمة في الشغل وأبوك تعبان شوية، راقد من ساعة ما سمع الخبر.

سألتها كيف عرفتِ بمكاني؟ فقالت إن أحد الحراس زارها وأخبرها.

– إدیتیلو کام؟

قالت: حكم دماغه على عشرة جنيه.

– وهدى أخبارها إيه؟

– يا بني انت في إيه وللا إيه؟

كررت السؤال وشعرت أنها تتهرب من الإجابة.

– قولي لي، عايز أعرف.

– يا بني ما قلت لك. مش لك.

– حصل حاجة؟

– الظاهر اتخطبت رسمي.

جذبني الحارس من ساعدي لننصرف، وسألتني أمي عما أحتاج إليه، فطلبت منها نقودًا. أعطتني خمسة جنيهات. أرادت أن تعطيني كيسًا كبيرًا من البلاستيك لكن الحارس اعترضها وأبعد يدها في عنف قائلًا: ممنوع يا ست.

استعطفته أنا وأمي، ومدت إليه يدها بورقة من فئة الخمسة جنيهات فثار، استبدلتها بعشرة جنيهات فسمح لي بأخذ الكيس، وجدته يحتوي على خبز وفاكهة وأطعمةٍ ملفوفة في أوراق الصحف. تبينت بينها علبة تونة «شايس» وصابونة «زست» وعلبة شاي «ليبتون» وفانلتين «جيل» ملونتين ولبان «شيكلتس»، وفرشاة أسنان «سبيك» وأنبوبة معجون أسنان «كولجيت» وماكينة حلاقة «جيليت» ومعجون حلاقة «بالموليف» وجوارب تايلاندية ومنشفة للوجه.

طلبت منها أن تتصل بصديقي سيد وتخبره بمكاني وأن تجد لي محاميًا شاطرًا. وتركت نفسي للحارس شاعرًا بالارتياح لأني تخلصت منها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤