٣

توقفت عربة السجن أمام بوابةٍ ضخمة مقوسة من الخشب الثقيل، تعلوها لافتة تعلن عن رسالة المؤسسة بكلمتَين مقتضبتَين هما: «التأديب والإصلاح». لم يكن ثمة محاولة للتضليل؛ فالكلمتان عبَّرتا بدقة عن الغرض المستهدف وهو المحافظة على تدفق المنح الأمريكية الموجهة للغرض نفسه (التدفق لا التأديب والإصلاح)، بل ومضاعفتها إن أمكن، وهو الأمر الذي تكشَّف لأشرف عبد العزيز سليمان منذ لحظة العبور.

فالبوابة الضخمة كانت تحتوي في منتصفها على بابٍ صغير بحجم القامة الإنسانية تطلَّب المرور منه القفز فوق حاجزٍ خشبي بارتفاع قدم. عندئذٍ ألفى نفسه في فناءٍ مربع أقيم وسطه نصبٌ غامض تحيط به دائرة من الحجارة الملونة مزروعة بالنجيل والزهور. بعد هذه الافتتاحية المضللة سيق إلى قاعةٍ كبيرة ازدحمت بالوافدين الجدد، وبجيوش الذباب التي كانت تقوم بعمليات إقلاع وهبوط منتظمة فوق مرحاض في الركن، تناثرت الإفرازات حول فتحته.

تولى الجنود تفتيش الإيراد الجديد (الذي جمعته العربة من عدة أقسام فأربى على الثلاثين محبوسًا) تفتيشًا دقيقًا، فقلبوا أكياس الطعام فوق الأرض، وتحسسوا السيقان والآباط والأفخاذ وما بينها، لم يُبدِ شرف تأففًا من الأيدي التي جالت في جسده بحرِّية، مستفيدًا من درس التحسس الأول على يد جون، ولا اعترض على ما قام به الجنود من مصادرات: ماكينة الحلاقة لأن كل الأدوات المعدنية والأسلحة البيضاء ممنوعة (وهو إجراءٌ قديم من إجراءات الحماية يهدف إلى دعم المنتجات المحلية)، النقود (كي لا يشتري من الكانتين الذي يبيع للنزلاء ما يحتاجون إليه من أطعمة وسجائر)، الساعة (كي لا يخسرها في لعب الكوتشينة)، الخاتم (كي لا يسرقه منه أحد)، رباط الحذاء (كي لا يشنق به نفسه في النهاية)، وبالمقابل سُمح له باستبقاء كوتشي والمنشفة والصابون الحلو ولفافة طعام (عدا الشاي والسكر اللذين وضعا جانبًا من أجل عدم إعدامهما فيما بعدُ).

جلس الوافدون القرفصاء إلى جوار الحائط واضعين أكياسهم بين سيقانهم وهم يمسحون عرقهم وينشون الذباب، ومضى بعض الوقت قبل أن يبدأ المشهد التالي. ومهد له جنديان يحملان كرسيًّا وضعاه في مدخل القاعة (حتى تخفف تيارات الهواء من الروائح والحرارة) وبحيث يواجه الساحة الخارجية التي تتوسطها الزهور، وبعد قليل ظهر ضابطٌ شاب، رياضي الهيئة، وسيم الطلعة، على وجهه تعبير من الضجر الدائم، احتل الكرسي وجلس في استرخاء متجنبًا النظر إلى الضيوف، مثبتًا عينَيه على الزهور، أعطاه أحد الجنديَّين دفترًا. فتحه وقلَّب صفحاته ثم بدأ ينادي منه الأسماء بصوتٍ ملول، وجاء دور الحلاق في الملابس الخضراء التي تُميِّز المساجين، فمرَّ عليهم في عجلة كشفت عن خبرة مع البهائم في سوق القرية.

تابع شرف باهتمام عملية الحلاقة، ولاحظ منزعجًا أن الحلاق يطلق آلته بقوة في الرأس ويجردها من الشعر تجريدًا تامًّا في حركتَين سريعتَين، كما لاحظ أيضًا أنه يرقُّ أحيانًا فيأخذ من أحدهم علبة سجائر، عيني عينك تحت بصر الضابط، ويستبدل آلته بمقص يعالج به الشعر في رفق.

كان كعب الداير قد نصحه باستبدال المارلبورو بكليوباترا؛ لأن الملكة المصرية، فضلًا عن رخصها بالمقارنة مع الكاوبوي الأميركي، هي العملة السائدة في مؤسسة التربية. هكذا كان شرف مستعدًّا للتضحية بعلبة كاملة للحيلولة دون الاستئصال الوحشي للشعر الذي عانى كثيرًا في تربيته ومحاولة تطويعه للمودة المتقلبة. فأعطى الحلاق علبة سجائر عندما بلغه وهو يتوسل إليه: وحياتك تخف إيدك شوية.

استخدم الحلاق مقصه في رفق فتساقطت الخصلات الثمينة على الأرض، وكما يحدث في أمثال هذه الصفقات، لم يتجاوز ما فاز به شرف من شعر طبقة لا يزيد سمكها عن سنتيمتر واحد.

بعد الحلاقة جاء دور التصوير ثم القرفصة من جديد، لتبدأ نمرة الصول. كان هذا كهلًا ذا كرشٍ ضخم، يدعى لسبب غير مفهوم «عترة»، قام بتقسيمهم إلى مجموعات طبقًا للتهمة مستعينًا في ذلك بعصًا رفيعة في يده اتخذها من فرع شجرة. وعندما انتهت تلك العملية أعاد لخبطتهم من أجل تقسيم من نوعٍ آخر: اللي عاوز يدخل عنبر الميري شمال، واللي عاوز الملكي يمين.

توقف لحظة محسوبة ثم تعطف فشرح المقصود بالمصطلحين: الملكي يعني تاكل وتلبس زي ما انت عايز، والميري تلبس بدلة السجن وتاكل عيش وجبنة وتشتغل كل يوم عند بتوع الملكي.

لمزيد من الإيضاح حول الفرق بين القطاعَين الخاص والعام أضاف الصول أن الشغل المقصود هو تنظيف الزنازين وتفريغ دلاء البول والخراء.

انقسموا على الفور إلى مجموعتَين؛ واحدةٌ صغيرة تألَّفت فيما يبدو من القادرين — كان بينهم طالب الجامعة المدمن وصاحب التي شيرت — وأخرى أكبر من الرعاع تضم صاحب الأصبع السادس وزميله وعم فوزي الدائم البكاء، وشابًّا في قميصٍ مزركش ونظارةٍ طبيةٍ مذهبة وآخرين. وجاء وضع شرف في منزلة بين المنزلتين.

هل انتهى الأمر؟ ليس بعدُ.

صاح الصول بأعلى صوته: اللي عاوز ملكي يقدم طلب على عرضحال دمغة.

بدأ القادرون كتابة الالتماسات التي وزعها عليهم أحد الحراس بثمنها: ثلاثة علب سجائر للواحد. ولمح الصول شرف واقفًا على حدة فصرخ فيه: إنت واقف كده ليه زي اللطع؟

اعترف اللطع بأنه لا يعرف موقف أهله من هذا الأوبشن، وأنه لا يستطيع أن يحسم الأمر قبل أن يأخذ رأيهم، طالما أنهم سيدفعون الثمن.

ضحك الصول وقال: شا الله يا أهلي، خش یا خويا ع الميري لغاية ما يبقوا يبعتولك.

انضم إليهم، ووقفوا ينتظرون حتى انتهت كتابة الالتماسات وقام الصول بمراجعتها، وإذا به يصرخ غاضبًا، وتنهمر الشتائم من فمه. لم يكن ثمة خطأ في محتوى الالتماسات، الخطأ كان في حصيلة ثمنها، وأثمرت ثورة الصول محاولة تصحيح متواضعة. وفي النهاية تم اقتياد الجميع إلى الحمام حيث تعرض شرف لأول تجربة من نوعها في حياته: أن يقف عاريًا بين العراة.

حاول بالطبع أن يحمي خصوصيته بكفَّيه. لكنه اضطر لاستخدامهما بعد قليل لدعك جسمه بصابونة سوداء متحجرة أسفل مياه الدش الساخنة. ودفعه الحياء (ومحدودية التجربة أيضًا) إلى أن يستدير مواجهًا الحائط، حاميًا بذلك خصوصيته، ومقدمًا للآخرين أعز ما يملك.

ارتدى الملكيون ملابسهم وانصرفوا إلى عنبرهم، بينما اقتيد أهل الميري إلى غرفة «الأمانات» حيث خلعوا ملابسهم ووضعت في أكياس بأرقامهم. كان أغلبها خِرقًا بالية لن تتحمل لبستَين أخريَين أو قذرة لدرجة لا يصلح معها تنظيف، وما كان أصحابها أنفسهم يعارضون لو شاء السجن إعدامها. لكن المؤسسة، فيما يبدو، كانت متعنتة في أمانتها. ولهذا السبب قدمت إليهم خرقًا بالية من مودة مختلفة عبارة عن رداء من الدمور السادة أبيض اللون يتألف من أربع قطع: قميص مثل الفانلة بلا أكمام، قميص مثل البلوزة بكمين طويلين وفتحة صغيرة عند الرقبة، بنطلون يُعقد بواسطة شريط من نفس القماش أشبه بالحبل، وطاقية مثل الكاب. لم يكن ثمة كيلوت؛ إذ قدرت المؤسسة أن المحبوسين (بالنظر إلى طبيعة الظروف التي جاءت بأغلبهم، وما ينتظرهم من تأديب وإصلاح) لن يكونوا بحاجة إليه.

لم يكن أشرف عبد العزيز، الخبير بالملابس وأنواعها، وتقلبات موداتها، جاهزًا لرداء لا يتناسب فقط مع حجم لابسه وإنما يتألف أيضًا من قطعٍ غير متناسقة، ولا تردد في الجهر برأيه.

قال للحارس منفعلًا وهو يتأمل البلوزة التي تستوعب نزيلين في آنٍ والبنطلون الذي غطى ركبتيه بالكاد: مش مقاسي.

على كثرة الغرائب التي مرت بالحارس في حياته السجنية، لم يسبق له أن استمع إلى وجهة نظر من هذا النوع، وكان رد فعله طبيعيًّا، هوى بيده على قفا الشاب وهو يقول: حاضر، حشوفلك مقاسك حالًا، شيل نمرتك وقدامي ع الزنزانة.

كانت الصفعة إشارة لبقية الحراس بأن عملية التأديب والإصلاح قد بدأت، فانهالت الصفعات تقود النزلاء الجدد إلى عنبرهم.

حمل كلٌّ منهم «نمرته» على كتفه: بطانيتَين رثَّتين وبُرش (سجادة من الليف الخشن المجدول كفيلة بتذكير النائم فوقها بما ارتكب من جرائم)، وحملوا أكياس الطعام والحاجيات الأخرى في أيديهم وخرجوا إلى الفناء حيث كان الضابط المغرم بالزهور قد نقل كرسيه (أو بالأحرى نُقل له) إلى ظل مبنًى صغير من طابقٍ واحد رُصَّت أواني الزهور حول مدخله، وبدأ العبور الثاني في هذا اليوم.

لم يكن اجتيازًا لعائقٍ واحد كما كان شأن الأول؛ فالفناء انتهى ببوابةٍ كبيرة من القضبان الحديدية، ثم فناءٌ آخر على صورة مربع يتوسطه مبنًى قديم من الحجارة السميكة المطلية بألوانٍ جيريةٍ كالحة، له بابٌ حديديٌّ ضخم انفرج عن رائحةٍ عفنةٍ طاغية ذكرت شرف بالملابس المتسخة إذا ما تسللت إليها الرطوبة أو المياه وتُركت عدة أيام في حاوية مغلقة، كما دأبت أمه على أن تفعل.

امتدت أمامهم ردهةٌ طويلة صُفَّت الزنازين على جانبَيها وتوسطها سلمٌ حديدي يؤدي إلى الأدوار العليا، وكان ثمة لافتةٌ خشبية تحمل كلمة «الإيراد»، كتبت بالطباشير في خطٍّ ركيك، بجوار عدد من الزنازين اتجه إليها الحارس، دسَّ مفتاحه الحديدي الكبير بعنف في قفل أول باب محدثًا صليلًا مدويًّا، ثم دفعه إلى الداخل، وتنحَّى جانبًا دون أن يتخلى عن المفتاح في قفله.

فاحت رائحة العطن مركزة هذه المرة، وتبدَّى عدد من أصحاب الأردية البيضاء يفترشون الأرض. نهض أحدهم وكان طويلًا نحيفًا بكرشٍ بارز يجعله يبدو كالمرأة الحامل في شهرها الخامس فتقدم للقاء الوافدين وهو يمد يده بعلبة مارلبورو لا إليهم وإنما إلى الحارس الذي لم يكتفِ بسيجارة وضعها في فمه وإنما التقط أخرى أودعها خلف أذنه، وأشار إلى أقرب خمسة من رعيته بالدخول. ثم انسحب في صمت مغلقًا الباب خلفه، منتقلًا إلى الزنزانة المجاورة.

وقف الخمسة في مدخل الزنزانة وحاجياتهم في أيديهم وعلى أكتافهم: شرف، الشاب ذو النظارة المذهبة، أبو إصبع (ولهذا يدعى بلحة)، زميله سعد صلصة، عم فوزي دائم البكاء. وكما يفعل الدجاج المذعور عندما يدخل العشة تدانوا من بعضهم البعض وأخذوا يتبادلون النظرات مع القاطنين، الذين لم تبدر منهم إشارة ترحيب بمن سيضيقون عليهم فسحة المكان.

خطا صاحب «المالبورو» إلى منتصف الزنزانة وقال في حزم: أنا بطشة نبطشي الزنزانة، كل واحد له بلاطتين ونصف عرض وسبع بلاطات طول، ولا سنتي زيادة.

إذا كان هذا البيان السيادي قد فُهم من قِبل المجربين أمثال بلحة وزميله، فإن الآخرين ظلوا يتطلعون في بلاهة إلى المتكلم الذي خصَّ بحديثه أقربهم إليه، صاحب النظارة المذهبة الإطار؛ صبري، الذي فقد قميصه المزركش وبدا ضئيلًا منكسرًا في رداء السجن غير المتناسق، فقرب منه رأسه وتأمله متحديًا: إيه، مش عاجبك؟

وقبل أن يتاح له إيضاح موقفه صفعه.

رفع المسكين يده إلى خده في استكانة بينما تطلع بطشة حوله منتصرًا. لم يكن قد صدر عنهم ما يبرر هذه المواجهة، لكنها كانت الطريقة الوحيدة المتاحة أمام شخص في أهمية النبطشي؛ أي المناوب بالتركية الممصرة، كي يعلن عن (ويؤكد) منصبه الذي يجعله بسبب سجله الحافل، حارسًا غير رسمي، أو ممثلًا شخصيًّا للحارس، وفي العمق؛ أي إن درجة تمثيله تمتد إلى من يقف خلف الحارس (أو أمامه حسب منظور الرؤية) ابتداء بالصول ثم الضابط وبعده وكيل السجن ثم مديره صعودًا حتى وزير الداخلية ورئيس الوزراء.

تشاغل الضيوف بمسح عرقهم الذي أسالته حرارة الجو والاستقبال، حتى انتهى القدامى من تحريك الفرشات (النِّمَر) ليفسحوا لهم مجالًا طبقًا للقانون العصامي الذي يقضي بأن يبدأ الجدد من القاع (وهو هنا الباب ودلو البول الموضوع إلى جواره)، وكان بلحة وصلصة على معرفة بالقانون فقفزا إلى الداخل تاركين زملاءهم حيارى في المدخل. ولأنه أصغر الجميع في السن، استقرَّ شرف في نهاية المطاف إلى جوار الدلو (مشرفًا على تشكيلة فريدة من النعال يصعب نسبة أيٍّ منها إلى ماركة معروفة).

أحصى شرف ستة من السكان القدامى، لم يكن من السهل تمييزهم لأول وهلة؛ فالملابس البيضاء متماثلة وكذلك الوجوه السمراء، لكنه تعرف بعد لحظة على سائق السوزوكي بلحيته الكثة ومسبحته (وكان يحتل أحد الركنين الاستراتيجيين)، وميَّز شابًّا ذا وجه شديد الشحوب، وآخر أسود البشرة ورابعًا بلحيةٍ مشذَّبة تدور بوجهه ولا تحتل سوى شريط ضيق من الوجنتين والذقن.

هل انتهت إجراءات الدخول؟ ليس بعدُ.

دار المفتاح مرةً أخرى في قفل الباب وظهر حارسٌ ضخم الجثة غريب المنظر؛ إذ تألف جسمه من عدة انبعاجات في اتجاهاتٍ مختلفة.

رحب به بطشة قائلًا: مساء الخير يا بو علي، ثم التفت إلى النزلاء الجدد وصاح: كل واحد يطلع علبة سجاير.

تجلَّت على الفور فائدة الصفعة التي نالها صاحب النظارة المذهبة؛ إذ سارع الجميع بتنفيذ أوامر النوبتجي الذي جمع العلب وقدمها للشاويش بَعْجَر. وانسحب هذا بعد أن أخذ العلب دون أن يفوه بكلمة تاركًا الباب مفتوحًا.

لم يتبرع بطشة بأي إيضاح لنوعية الرسوم المدفوعة، ولم يخطر لأي من النزلاء الجدد أن يستفسر عن الأمر، على أنهم سيعرفون فيما بعدُ أنها حلاوة المفتاح وهي إحدى رسوم الريسبشن التي يحصل عليها شاويش العنبر من كل وافدٍ جديد.

لكن الحلاوة — مثل الصفعة — كانت تهدف إلى توصيل رسالةٍ هامة. وكانت هذه الرسالة في منتصف الطريق إلى أدمغة الضيوف الذين تبادلوا نظراتٍ متفهمة، عندما نادى الحارس على بطشة فغادر الزنزانة وعاد في صحبة مسجونٍ قذر الهيئة حافي القدمين يجرُّ دلوًا معدنيًّا من النوع الذي جلس شرف إلى جواره، تتصاعد منه أبخرة الطعام لا البول، وتبرز منه يد مغرفة. تناول أحد النزلاء ثلاث «قروانات» (وهي أطباق غويطة من الألومنيوم) وهرع بها إلى صاحب الدلو الذي ملأها بسائلٍ أسود تعلوه طبقةٌ زيتية، وانتقل الدلو إلى الزنزانة التالية وحلَّ محله دلوٌ آخر من الحجارة البيضاء تشبه الجبن القريش وتغطيها الشوائب. ثم ظهر ثالث (سجين لا دلو) يجر بطانية كبيرة فوق الأرض احتوت على أكوام من أرغفة الخبز أعطى ثلاثة منها لكل نزيل.

انطلق صوتٌ بعيد يردد: تمام، أعقبه صوت اصطدام المفتاح في قفل زنزانة. وتكرر الصوتان وهما يقتربان، ثم ظهر الشاويش بعجر في صحبة بطشة. ودخل الأخير حاملًا زجاجة مياه مثلجة تحت إبطه ثم قام الشاويش بإحصاء العدد وهتف مرةً أخرى: تمام. وأغلق الباب بالمفتاح قبل أن ينتقل إلى الزنزانة التالية.

لم يرفع شرف عينَيه عن زجاجة المياه وآثار برودتها المنعكسة على جدرانها، ولعله لم يشعر بالعطش في حياته كما شعر به الآن، لكن السبيل كان ممتنعًا عليه، وتعيَّن عليه أن يقنع بزجاجةٍ بلاستيكيةٍ أخرى فوق دلو المياه، فمدَّ يده إليها ورفعها إلى شفتَيه، متجاهلًا دفئها، ولم يكد يجرع رشفتَين حتى فوجئ بيد بطشة تنتزعها بعنف وصوته يصرخ: إنت حتشرب المية كلها؟! … عندك الجردل اشرب منه.

كان يشير إلى دلو مماثل لدلو البول وضع في الناحية الأخرى من الباب يعلوه غطاء معدني استقر فوقه كوب معدني ذو أذن، نهض شرف وتناول الكوب وأزاح الغطاء وتطلَّع داخل الدلو. كان ممتلئًا بالمياه إلى قرب حافته. وانعكس الضوء على سطحها كاشفًا عن طبقةٍ زيتيةٍ خفيفة تمرح فيها الكائنات الدقيقة. في الظروف العادية ما كان شرف ليتنازل عن كوب المياه المثلج تحمله إليه أمه أو إحدى أختيه، لكن الله غالِب. غالَب اشمئزازه وغمس الكوب في المياه، وفي اللحظة التي بدأ يتجرع فيها الماء عادت الرسالة تشق طريقها إلى أدمغة الضيوف، واختار بطشة هذه اللحظة ليعلن أن ملء جرادل الماء وتفريغ جرادل البول يتم بالدور، وأن هذا الدور يبدأ من الغد بشرف. ساعد هذا الإعلان على وصول الرسالة بسرعة، فتقاربت رءوس الضيوف، ثم أخرج كلٌّ منهم علبة سجائر، وباتفاقٍ صامت عهدوا بها إلى محمد بلحة، بعد أن توسموا فيه (بسبب إصبعه السادس) أنه المؤهل مهنيًّا بينهم، ليقدمها باسمهم إلى السيد المناوب.

كان هذا قد ارتقى عرشه في الركن الاستراتيجي (الذي لا يصل إليه بصر المار في الطرقة إذا كان الباب مفتوحًا ولا المتلصص من خلف الباب إذا كان مغلقًا) الذي أتاح له أن يستولي على جدارين في آنٍ واحد رتب المساند الكافية لهما: أكياس ولفافات عديدة وبطاطين قديمة، بينما تألفت قاعدة العرش من طبقةٍ سميكة من عدة بطاطينَ جديدة ما زالت محتفظة بوبرها جلس فوقها بالطريقة المناسبة: الساق اليسرى مثنية ومستقرة في استرخاء على الأرض تحت اليمنى القائمة وفوقها الذراع اليمنى تحمل في نهايتها سيجارة بين ظفرَين متسخَين، الذراع اليسرى كانت في المكان المتوقع، في نقطة ملائمة تسمح لأصابعها أن تعبث بالتبادل بأصابع القدمين في ناحية والأجهزة الإخراجية في الناحية أخرى؛ نفس الوضع الذي اتخذه أسلافه من الولاة والسلاطين والخلفاء عندما كانوا يتلقون خراج الولايات والأقاليم والأمصار.

تلقى النوبتجي الهدية المتواضعة من ممثل الوافدين في غير مبالاة؛ إذ ناولها لوزيره — النحيف مثله لكن أقصر وله أنفٌ متورم وشفاهٌ متشققة وكتفان محنيتان — الذي أودعها في نشاط أحد الأكياس الغامضة المدسوسة في غياهب «نمرة» رئيسه.

شرع النزلاء يعدون نمرهم، فبسطوا الأبراش والبطاطين وطووها بطريقةٍ معينة فشل شرف في تقليدها. وهنا هبَّ إلى نجدته جاره صبري، الذي وسعت مدرسة الجندية مداركه، فطوى إحدى البطانيتين ثلاث طيات وفرشها فوق البرش، واقترح عليه أن يجعل الثانية وسادة إلى أن يتغير الطقس فيتغطى بها.

انقسم القدامى إلى مجموعتَين، بسطت كل واحدة أطعمتها أمامها، وتجمَّع الخمسة قرب المدخل، وجردل البول، حول القروانة ذات السائل الأسود، أخرج كلٌّ منهم ما لديه فتكونت مائدةٌ حافلة من البقايا: أنصاف وأرباع ساندوتشات الفول والجبن وأقراص الطعمية وأكياس الشيبسي. قامت جيوش الذباب بعملية إنزال ساحقة، على الطريقة الإسرائيلية، انضمت إليها قوات أرضية من صراصيرَ صغيرة الحجم داكنة اللون خرجت من خلف دلو البول الذي فاحت رائحته النفاذة، فلم يشعر شرف برغبة في الأكل. بلحة الذي عاد للتو من سفارته شاعرًا بأهميته، هو الذي أخذ على عاتقه قيادتهم فهشَّ الذباب بيد ومد الأخرى إلى «نصف فول» أمام شرف ورفعه إلى فمه قائلًا: بسم الله.

كانت المائدة متواضعة بالقياس لمائدة المجموعة التي تزعَّمها بطشة وضمت معاونه وسامبو، أو الأخرى التي ضمت الملتحيَين والشاب ذا الوجه الشاحب. ما كان يميز المائدتين (ويساوى بينهما) هي المختارات التي تألفتا منها: جزء من دجاجة، أربع قطع من محشي ورق العنب، قطعة من مكرونة الفرن، إصبعان من الكفتة وأشياء أخرى (منها ربع صينية كنافة أمام بطشة) تُمثل حصيلة اليوم من الأطعمة الوافدة إلى عنبر الملوك، وبهذا لم يعودوا في حاجة لقروانة السائل الأسود، وصار باستطاعة النوبتجي أن يبدي رضاءه عن الهدية التي تلقاها، فأشار لمعاونه أن يعطي القروانة للضيوف، قائلًا في نبرة لم تخلُ من تهكم: عاوزين يمك؟

تناولوا منه قروانة السائل ذي اللقب التركي، لكن أحدًا منهم لم يقربها. تظاهروا بالانهماك في الأكل بينما كانوا يرقبونه هو ومجموعته، وهي متابعة استمتع بها النوبتجي وحرص على استمرارها؛ ففي لحظة توقيت دقيقة، انتهى فيها الضيوف من ساندوتشاتهم وأخذوا يحدقون بمشاعرَ ملتبسة إلى محتويات القروانتين، مد يده إلى أحد أكياسه وهو يتطلع إليهم ليتأكد أن المشهد لن يفوتهم، واستخرج علبة من الطعام المحفوظ، أعطاها لمعاونه الذي عكف على مهمته في نشاط؛ وضع العلبة فوق أرض الزنزانة وأخذ يحكها في قوة حتى تآكلت حافتها ثم رفعها وقلبها وضغط على سطحها بيده فسقط داخله. تناول الغطاء بأصبعه ووضعه جانبًا ثم أفرغ محتويات العلبة في صحنٍ معدني واستقر اثنا عشر زوجًا من الأعين على السمكات الأربع التي رقدت في صلصتها.

انضمت عينٌ جديدة من خلف الباب، ظهرت في فتحةٍ دائريةٍ صغيرة بمنتصفه استقبلها النوبتجي بالهتاف: مساء الخير على غفر الليل. تراجعت العين وظهر مكانها فم ردد: مساء الورد. وعلى الفور قام بطشة وألقم الفم سيجارة. انسحب الفم بالسيجارة وانسدل الغطاء فوق العين السحرية ثم تكررت التحية المتبادلة عند الزنزانة التالية.

انتهى طقس الأكل، وأشعل المدخنون سجائرهم، وتولى المعاون «صنقر» إدارة الطقس التالي: خلع قميصه معريًا صدره وأفرغ محتويات قروانتين من السائل الأسود في دلو البول ثم وضعهما إلى جواره مقلوبتَين ومتباعدتَين قليلًا، واستخرج من مخلاةٍ كبيرة معلَّقة فوق رأس سيده برادًا صغيرًا من الألومنيوم وعلبةً معدنيةً صغيرة وبضعة شرائط من القماش، ومن خلف جردل البول قنينة زجاجية في حجم زجاجة الكولا، ومن جيبه علبة ثقاب، وضع كل هذه المعدات على الأرض إلى جوار دلو البول وقرفص أمام القروانتين، فتح العلبة المعدنية واستخرج منها لفافتين من الورق: أفرغ من الأولى في البراد قدر ملعقتين من الشاي ومن الثانية حفنة من السكر، ثم أعادهما إلى العلبة وملأ البراد من مياه الشرب ووضعه جانبًا. وجه اهتمامه إلى بقية المعدات فضبط وضع القروانتين وبلل القماش بمحتويات القنينة الزجاجية ودعكه بين كفيه ثم ألقى به بين القروانتين وأضرم فيه النار من عود ثقاب. وعندئذٍ تناول البراد فأقامه فوق النيران مستندًا إلى حافتَي القروانتين.

قام صنقر بهذه العمليات في دقةٍ تامة ومهارة عالية فاستحق المكافأة في صورة سيجارة قدمها إليه سيده وهو يتطلع إلى الجمهور قائلًا: ولَّع يا صنقر.

اهتزَّ صنقر في جلسته يمينًا ثم يسارًا كأنما يقف وراء النصبة في مقهًى حقیقي، وتناول السيجارة قائلًا: تسلم إيدك يا معلمي.

تبادلا التدخين عدة مرات قبل أن يتعطف النوبتجي ويقدمها إلى سامبو الذي كان منهمكًا في غسيل علبتين فارغتين من علب السالمون وكوب من البلاستيك له أذن جانبية، أفرغ فيها صنقر الشاي طبقًا للقواعد: كوب البلاستيك للرئاسة، علبة سالمون ينتهي الشاي قبل حافتها بأصبع لسامبو، وعلبة سالمون، مملوءة حتى الحافة بطبيعة الحال، لصنقر شخصيًّا.

انتقل البراد للمجموعة الثانية وتولى الشيخ سوزوكي إعداد الشاي. خلال ذلك قام بلحة بمفاوضاتٍ مكوكية بين بطشة والضيوف أسفرت عن تلقيمة من الشاي والسكر والوقود (بضع قطرات من محتويات القنينة الزجاجية المؤلفة من الطبقة الزيتية التي تعلو محتويات دلاء الطعام) مقابل سجائر جمعها من زملائه الأربعة، وتولى خبيرٌ آخر ذو تجربة هو سعد صلصة إعداد الشاي وتوزيعه.

هكذا وصلت علبة السالمون أخيرًا إلى فم شرف الذي تلقى في الدقائق الأخيرة الرذاذ الناجم عن عمليات الغسيل فوق جردل البول، فأراح رأسه على الجدار ومضى يرتشف محتوياتها في تلذذ، دون أن يعبأ بالطعم الكارف، من جراء دخان الوقود، وانصرف إلى متابعة المباريات.

كانت ثلاثًا: واحدة للأيدي والثانية للأنف والثالثة للسان. فبينما كان ورق «الكوتشينة» ينتقل في سرعةٍ خاطفة بين الأرض وأيدي سوزوكي والشاب ذي الوجه الشاحب، مشفوعًا بالسجائر التي اتخذاها عملة للمكسب والخسارة، تحلقت جماعة بطشة، في مقر قيادته، حول طبقٍ كبير من البلاستيك به أقراصٌ بيضاء مثل أقراص الأسبيرين تولى صنقر طحنها بملعقة ثم قسم الطحين إلى أكوامٍ صغيرة، وكان بطشة مستعدًّا بورقة لفَّها على شكل سيجارة وهو يتطلع إلى الضيوف ليتأكد من متابعتهم لما يفعل من أعاجيب، ثم دس أحد طرفي الورقة في كوم وأخذ يستنشق حتى أتى على نصيبه فناول الطبق لصنقر، واضطجع على وسائده تاركًا للمسحوق أن يفعل فعله ومفتتحًا المباراة الثالثة:

القرص الواحد بعلبة سجاير يا بلاش. يعمل دماغ حلوة، يخليك تنسى كل حاجة والوقت يعدي من غير ما تحس.

لمن خالجه بعض التردد أو شاء الاستزادة في المعلومات أضاف المعاون: في أقراص تانية تودي في داهية. أخدت منها مرة عشرة أقراص مرة واحدة وروَّحت. يقوم يحصل إيه؟

أدلى سامبو بالمداخلة المطلوبة: يعني حيحصل إيه يا خيّ. ما احنا عارفين اللي فيها.

واصل صنقر دون أن يهتم: الولية مراتي فتحتلي، رحت قالع ملط على طول.

هلل المستمعون وتوالت التعليقات إلى أن تبرع صنقر بالإيضاح: جريت على الدولاب. فتحته ودخلت جواه. ورحت قافل الباب عليَّ وقاعد.

انفجرت عاصفة من الضحك والتهليل ضاعفها بطشة عندما روى كيف تهيأ للمعلم حنكوشة أن السلم أمامه فألقى بنفسه من الطابق الرابع ونزل حتت في فناء العنبر. والظاهر أن مصير المعلم حنكوشة كان محملًا بإغراء لا يقاوم بالنسبة لبلحة وصلصة إذ أخذا يزحفان حتى بلغا الرئاسة، وحصلا على استنشاقة، أجريا بعدها مفاوضاتٍ هامسة بشأن استمرار التموين ثم عادا إلى قاعدتهما ليستمتعا بالنتائج: دورٌ جديد من الشاي ونزاعٌ غامض ما لبث أن فضح سرهما؛ فبعد أن حمَّل صلصة زميله مسئولية التهمة التي يواجهانها تكشفت التفاصيل: صعدا إلى إحدى سيارات الركاب القادمة من الأقاليم وأشهرا المطاوي وجمعا تحت تهديدها ما يحمله الركاب من نقود وساعات. وعندما أراد أحد الأغبياء، واد تلميذ، المقاومة وجه إليه بلحة عدة طعنات أودت بحياته.

أرهف بقية الضيوف أسماعهم وهم يتبادلون النظرات، وشعر صلصة بالأمر فلزم الصمت فجأة وهو ينقل البصر بين شرف وجاره المصفوع، في حدة أثارت قلقهما، ودفعت شرف إلى تشغيل لسانه فسأله عن السبب في اسمه.

تجهَّم وجهه، وتبرَّع بلحة بالإجابة: أصله من صغره غاوي يسرق علب الصلصة.

انفجر ضاحكًا وهو يتطلع إلى مستمعيه منتظرًا مشاركتهم وهي ما انتووه، وبالفعل فتحوا أفواههم، لكن النظرة الباردة في عيني صلصة كتمت الضحك فيها وتركتها فاغرة في بلاهة. وتدارك بلحة الأمر فسأل أشرف عما أتى به. استمعوا إلى قصته في اهتمام أسفر عن تنشيط لملكاتهم القانونية: أكد صبري فرصة أشرف في النجاة؛ لأن القانون يبرئ الشخص الذي يقتل دفاعًا عن النفس، فما بالك بالدفاع عن الشرف؟ وهزَّ صلصة رأسه متشككًا وقال بلهجة العليم: لو ماكانش اعترف كان نفد.

روى بلحة حادثةً مشابهة، تعرَّض فيها صديق له لاعتداء راح ضحيته لكن القاتل فاز بالبراءة لأن محاميه أثبت أن القتيل كان مسلحًا وبادر بالهجوم. وسرد سعد صلصة عدة وقائع نال فيها المعتدي البراءة أو حكمًا مخففًا لأن القاضي لم يجد دليلًا على نيةٍ مدبرة.

قال صبري: الأسبوع اللي فات واحد دبح مراته عشان لقاها نايمة مع واحد. تفتكروا خد إيه؟

هتفوا جميعًا في صوت واحد: إيه؟

تطلع إليهم منتصرًا: براءة.

انتعشت آمال شرف فقال متكلفًا الضحك وهو يتلمس كلامه في صدًى عيونهم: المهم الواحد ميخدش إعدام.

– يا راجل تف من بقك. أقصاها، سبع سنين.

جاء التعليق العنيف من سامبو، الذي قرر أن يأخذ حقه، فأوضح أن الدفاع عن الشرف له أوجهٌ مختلفة، هو واحد منها: المهنة نقاش والحكاية بدأت بعلاقة مع زوجة خفير في التبين، ما إن يغادر الخفير منزله ليقوم بالحراسة في مدينة ١٥ مايو حتى يتسلل سامبو داخلًا ليقوم بالواجب، إلى أن وقع المحظور. ففي إحدى الليالي قرر الخفير أن يقوم بالواجب بدلًا من الحراسة، وعندما وصل النقاش فوجئ بوجود الزوج الذي قرر، بالطبع، أن يدافع عن شرفه. وكان من الممكن أن تكون النتيجة كلاسيكية لولا تدخُّل الزوجة التي عالجت زوجها بضربة على رأسه بالهون أتاح للعشيق أن ينهال عليه طعنًا بسكين المطبخ حتى أجهز عليه.

تبارى المتخصصون في التكييف القانوني للحادث قطعه صوتٌ جهوري في الخارج صاح في لهجة آمرة: عنبر كله يسمع.

صاح بطشة بدوره: اسكت انت وهو خلُّونا نسمع النشرة.

كرر الصوت الجهوري: عنبر كله يسمع … بعد مساء الخير على المساجين على حرس الليل … النشرة يحييكم ويقدم الوصف التفصيلي للخارجين بكرة.

وصمت لحظة ثم صاح فجأة: ردوا ورايا … يا رب الخارجين بكرة يروحوا ما يرجعوا، آمين.

رددت كل الزنازين الدعاء خلفه. وبدت يا رب وآمين خارجة من أعماق القلوب النقية التائبة. ثم ساد الصمت وأنصت الجميع للأسماء والجهة المستدعى إليها أصحابها، تليت باللهجة التي يستخدمها الراديو عند إذاعة أسماء الناجحين في الثانوية العامة، وبعد أكثر من خمسة عشر اسمًا قال المذيع في أدبٍ جم: أشكركم لحسن الاستماع وعقبال ما تروحوا جميعًا.

ساد الزنزانة الوجوم الذي يتلو إذاعة نتائج الثانوية العامة، وتذكر البعض ربهم فاصطفوا لصلاة العشاء خلف صاحب اللحية المشذبة، وأشعل المدخنون سجائر جديدة، وأسند شرف ظهره إلى الجدار ثانيًا ساقَيه بحيث تصبح ركبتاه في مستوى ذقنه. كان الحر لا يطاق والذباب لحوحًا بطيء الحركة لا يحفل بمحاولة إبعاده أو قتله، فراودته الرغبة في أن يخلع سترته السجنية ويعري صدره وذراعيه كما فعل صنقر أمام النار. لكن نظرةً غامضة، ليست الأولى، من سوزوکي، مصحوبة بابتسامةٍ ودية، جعلته يحجم عن ذلك. واكتفى بأن يتطلع في حسد إلى ورقة الكرتون التي كان بطشة يروِّح بها عن وجهه متنازلًا عنها لأحد الجالسين حوله بين الحين والآخر فيما خاله شرف أريحية، إلى أن تبين حقيقة الموقف عندما لاحظ أن من يأخذ الكرتونة يستخدمها في التهوية، لا عن نفسه، وإنما عن بطشة.

بدا الجميع عازفين عن استئناف المباريات، وهي اللحظة التي يعرفها حارس الليل بالتجربة؛ ولهذا اختارها ليظهر مرتين، في الأولى أعلن عن نفسه بواسطة راديو ترازستور صغير وضعه بين القضبان التي تتألف منها شراعة الباب، وأداره على أغنية لأم كلثوم انتزعت صيحات الإعجاب والتهليل، بالإضافة إلى سيجارة من كل مستمع. وفي الثانية أغلق الراديو عندما أوشكت الأغنية على الانتهاء وسحبه منتقلًا إلى زنزانةٍ أخرى.

شرف كان من الذين ضاقوا بالأغنية رغم أنه ساهم في تكلفتها، فمن يسمع أم كلثوم اليوم؟ كان يفضل بالطبع أغاني الشباب: من أول «ما تخافيش أنا مش ناسيكي» حتى «تعبتيني قوي يا عمتي». وعندما اكتشف أن جاره المكتئب منذ صفعة الرئاسة يشاركه الرؤية، وجَّه إليه السؤال التقليدي ليحصل على إحابةٍ تقليدية: العمل في مصانع إيديال، في المخازن بالطبع. فماذا غيرها يمكن أن يأتي بالواحد إلى هنا؟

المجيء إلى هنا كان بسبب الترموستات؛ ففي أثناء الجرد السنوي اكتشف المسئولون نقصًا في العهدة.

أبدى شرف إدراكًا للمشكلة من واقع تجربته. فعلًا، تلاجتنا عطلانة بسبب الترموستات وكل ما أروح أسأل عندكم يقولوا مفيش.

لم يقل شرف إنه وجدها في حوانيت القطاع الخاص، بثلاثة أضعاف ثمنها الأصلي عند إيديال؛ فقد خالجه إحساسٌ مبهم بأن هذه الإضافة قد تكون محرجة.

ومن ناحيته قطع صبري الطريق عليه بسؤال حاسم: زانوسي؟

أجاب شرف بمسكنة: لا، إيديال.

بعد التحديد الصارم للمواقع عرج صبري على جذر المشكلة: كان فيه مشروع لمصنع ترموستات وبعدما بنوه وصرفوا عليه ثلاثة ملايين جنيه رئيس مجلس الإدارة اتغير والرئيس الجديد ألغى المشروع.

– ليه؟

لم يقل صبري إن الرئيس القديم يملك شركة مقاولات بناء والرئيس الجديد يملك وكالة لاستيراد قطع الغيار بينما هو لا يملك غير الستر؛ إذ تذكر في هذه اللحظة النصيحة التراثية المجربة بشأن اللسان وآذان الجدران.

سؤالٌ آخر جال بذهن شرف ولم يجسر على التفوُّه به: إذا كان هذا هو الحال فلماذا لم ينضم صبري إلى عنبر الملوك؟

اجتذبت وحدة الجذور لسان صاحب اللحية المشذبة؛ فهو سائق أتوبيس تعطلت فرامل سيارته فصعد على رصيف المحطة وأسقط تحت عجلاته خمسة أشخاص مات منهم ثلاثة. أولاد الحرام هم السبب؛ فهو يسوق منذ عشرين سنة ولم يرتكب حادثةً واحدة، لم يكن لديه رئيسان: قديم وجديد وإنما رئيسٌ واحد يجمع بين ملكات الاثنين، وجاراج هائل مثل الغابة لا يعرف أحد الداخل إليه ولا الخارج منه.

لم تنجح التجربة في هزِّ إيمان السائق المسكين، فمصيره على أية حال لا يختلف عن مصير زميل له هاله ما يرتكبه المديرون الكبار من انحرافات؛ فأبرق إلى رئيس الجمهورية طالبًا إنقاذ أموال الشعب وممتلكاته، فتم تحويل الخطاب إلى رئيس الوزراء الذي حوَّله إلى وزير النقل الذي حوَّله إلى رئيس الشركة الذي حوَّل العامل الغيور إلى التحقيق ثم الفصل ثم السجن.

بدأت الحكايات تنحو إلى التكرار فهبط حماس اللسانيين، وانصرف بعضهم إلى لعب القمار بينما أخذ الباقون يستعدون للنوم. هنا حانت فرصة شرف للتعرف على جانبٍ آخر من شخصيات زملائه.

فقد شرعوا يغادرون أماكنهم واحدًا بعد الآخر، مقتربين من حيث جلس، وما إن يصبح الواحد منهم فوق رأسه تمامًا، حتى يفك رباط سرواله ثم يخفضه قليلًا لأن السروال ليست له فتحة من الأمام ويخرج قضيبه ويحكم توجيهه فوق دلو البول. وبعد أن يتبول يهز القضيب في يده ليتخلص من آخر نقطة، ويعيده إلى سرواله بعد أن يلقي نظرة على شرف تعكس إحساسًا بالزهو أو ضآلة الشأن حسب الحال.

اختنق هواء الزنزانة ببخار البول ودخان السجائر، ونشط الناموس، ودبت الحدة إلى تعليقات لاعبي القمار وأوشكوا أن يتماسكوا بالأيدي، بينما غفا آخرون وهم جلوس. تمدد شرف فوق بطانيته ورأسه عند الحائط فأوشكت قدماه أن تحتكا بقدمَي بطشة الراقد في مواجهته، وإلى جواره، بعد صبري، بدأ عم فوزي، بمجرد إطفاء النور، يندب حظه ويبكي، تمهيدًا لجولة أخيرة في مباريات اللسان.

لم يكن في حاجة إلى تشجيع أو حث؛ فهو بائع جوال، صناعته النداء على البضاعة طول النهار، ويعود منهكًا في نهايته إلى غرفةٍ ضيقة يسكنها مع زوجته وأولادهما بالإضافة إلى أخته وولديها. في اليوم المشئوم اشتدت الحرارة والرطوبة وعاد من جولته في السوق ليجد المياه مقطوعة. أراد أن يغفو قليلًا فأيقظه شجار الأطفال وقام وهو يتصبب عرقًا شاعرًا بصداع، نجحت زوجته في الحصول على قليل من المياه من حنفية عمومية في حيٍّ مجاور فأشعلت موقد الكيروسين في ركن الغرفة المخصص للطهي وعهدت لابنة أخته أن تعد له الشاي ففعلت، وعندما غلى الشاي طلبت البنت من أخيها البالغ من العمر عشرة أعوام أن يصبه له فأسقط بضع قطرات على قدمه. هنا فاض به الكيل — كما يقول الأدباء — فمد يده وتناول موقد الكيروسين المشتعل وقذف به الفتاة. الباقي قامت به النيران التي أمسكت بها وأحرقتها. عند هذه النقطة كان قد استنفد مئونة اليوم من الدموع فلزم الصمت.

أثارت الحكاية شفقة شرف كما حركت مشاعره العائلية وأحاسيسه الجمالية؛ إذ ألفى نفسه يتأمل مسكنه بعينٍ فاحصة زادتها الأيام الأخيرة عمقًا في الرؤية، وظهر تأثير اللسانيات التي نشطت طوال الساعات الأخيرة وحفلت بشتى ألوان الفعل، فلم يضيع وقتًا في المقارنات، ولم يستسلم للنظريات الإصلاحية إنما اختار القطيعة التامة منطلقًا من شقةٍ جديدة في منزلٍ حديث بحيٍّ راقٍ، اختاره في البداية ذا واجهة من الزجاج والألوميتال ثم اكتفى ببنايةٍ عادية لها مدخلٌ عادي يتألف من بوابةٍ حديدية وبواب وعدة درجات من الرخام تؤدي إلى سلمٍ عريض وشقة في الطابق الثاني أو الثالث، لها بابٌ خشبيٌّ متين يفتح على أنتريه به ثلاثة فوتيهات أو أربعة من الجلد الأسود، بالإضافة إلى أريكة ومائدةٍ معدنية يعلوها لوح من الزجاج الفيميه، ويؤدي إلى صالة بها مائدةٌ مستديرة للطعام، فوقها مفرشٌ مزركش، وحولها أربعة مقاعد، وخلفها بوفيه.

عندما وصل إلى هذا الحد لم يعد بالإمكان اعتراض طريقه، فرش الشقة كلها بالموكيت الأحمر وجهزها من جميعه: مكنسة «ناشيونال» وجهاز تكييف سبليت «باور»، وزود المطبخ الواسع بثلاجة «جنرال إليكتريك» ببابين، وحوض «ستانليستيل» وغسالة أطباق «بوش» و«ميكروويف» وبوتاجاز «ماجيك شيف» بخمس شعلات وکیتشن ماشین «مولينيكس»، وشفاط «توشيبا» لطرد الروائح الناتجة. أما الحمام فكسا أرضه وجدرانه بسيراميك ملون ووحدة «ليسيكو» كاملة من حوض وبانيو وكومبينيشن، وسخان «جونكر» وغسالة «وستنجهاوس» فول أوتوماتيك. أهم الأجهزة كانت في الأنتريه؛ خلف بارتيشن، فوق طاولةٍ صغيرةٍ مخصوصة من سطحين: تليفزيون شارب ٢٦ بوصة بالريموت، ديش ضخم فوق السطح (وبالتالي تليفون محمول. «نوكيا» لتسهيل الاتصال بين فوق وتحت)، فيديو «سوني» متعدد الأنظمة، وستريو «أكاي» كبير علقت سماعتاه في ركنَين متقابلَين قرب السقف.

هكذا تم الإعداد للمشهد الرئيسي الذي ضمه هو وأصدقاءه، سيد وزلطة وجمال، يتناولون البيرة ويدخنون «جوانت» الماريجوانا بينما يستمعون إلى أغنيات «ساندرا» و«مادونا». ولم يلبث أن كشف عن هدفه الحقيقي عندما طردهم ووضع هدى مكانهم. لكنه لم يدرِ ماذا يفعل بها فاستبدلها بفتاة الجولف، وكان على وشك أن يضع يده داخل صدرها عندما تبين فجأة ما لم يحسب حسابه. وتم ذلك مع أول قرصة.

فعندما اطمأن البق للظلام خرج من مكامنه وانطلق يعربد، معيدًا شرف لا إلى الزنزانة وحدها وإنما إلى حافة المعادي أيضًا حيث تظهر آثار المقاومة في خطوط دموية على الجدران. هكذا انتبه إلى أنه لم يحسب حساب شركائه في الجدران الأربعة التي قسمتها كنبة بلدية إلى جناحين: واحد له مع أبيه والثاني لأختيه مع أمهما، لم يكن بوسعه أن يخصص لكلٍّ منهم حجرة، بسبب الإمكانيات، وإنما لأن الهدف الأساسي كان يتمثل في الانفراد بمسكنٍ خاص من أجل أن يصبح سيد مصيره. بدا التخلص من عايدة سهلًا بإعادتها إلى زوجها الذي تطلقت منه لأن أمه (التي تُؤويهما) تسيء معاملتها، ثم ألحق بها أمه هو وزوج الأخت الأخرى وأوجد عملًا لأبيه خارج البلاد.

أوضحت له قرصةٌ حادة، من برغوث هذه المرة، هشاشة الحلول التي لجأ إليها (لأن طلاق عايدة بائن لا عودة فيه، وأخته الأخرى سيئة الحظ، وأمه لن تقبل الحياة في منزل غريمتها، كما أن أحدًا لن يقبل استيراد الأب الذي أوشك عمره الافتراضي على النهاية) فقرر أن يترك للعناية الإلهية مهمة التخلص منهم. لكنه لم يسلم من شعور بالذنب نتيجة هذا المنحى في التفكير، فانصرف عن الأمر برمَّته.

كان تدبر الأوبشنز التي أتيحت له قد أرهقه، فراح مرةً واحدة في نومٍ عميق، استيقظ منه مفزوعًا على ساق صبري فوق فخذه. هدأ روعه قليلًا عندما استمع إلى شخير جاره المتواصل فأزاح الساق وابتعد عن صاحبها قدر الإمكان حتى التصق بدلو البول تمامًا، وغرق في رائحة متعددة الأبعاد كوَّنتها الأحذية المحيطة برأسه ونتائج تخمر كل من الأطعمة في البطون والإفرازات في الدلو، استسلم لغفوٍ متقطع تسلَّى خلاله بالإنصات إلى النشرة الأخيرة ذات البناء الأوبرالي المؤلَّف من شخير (تمسك بطشة بقيادته وهو نائم)، يتردد بين العويل والحشرجة (حسب نوع الصور المصاحبة)، تعترضه إيقاعات من زرطاتٍ متباينة الشدة (حسب نوع الطعام الذي أنتجها)، ممتزجة بنداءات حراس السور الخارجيين، في أبراجهم المشيدة، معلنين عن وجودهم كل ساعة بصوتٍ جهوري (يغالبون به خوفهم): واحد تمام، اتنين تمام، تلاتة تمام، … حتى ستة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤