٤

فتحوا علينا في الصباح الباكر، ليخرج بطشة وحده، ثم أغلقوا الباب وألفيتني عاجزًا عن التنفس؛ إذ كان جو الزنزانة خانقًا مكتومًا، وازداد الأمر سوءًا عندما أشعل البعض سجائرهم وأخذوا يسعلون ويبصقون.

فتح لنا بطشة بعد نصف ساعة لنذهب إلى المراحيض، واندفع القدامى إلى الخارج قافزين فوقي. دسست قدمي في حذائي، طاويًا مؤخرته، محولًا إياه بذلك إلى خف، ووضعت منشفتي حول رقبتي وحملت صابونتي في يدي واقتربت من دلو البول. كان ممتلئًا لحافته والرائحة المنبعثة منه قوية زاعقة. انحنيتُ فوقه وأمسكته من مقبضَيه لكن الصابونة التي في يدي عاقتني ألقيت بها في عبي ورفعت الدلو وغادرت الزنزانة.

مشيت بصعوبة منحنيًا إلى الأمام، محاذرًا أن تهتز محتوياته كي لا يصيبني الرذاذ. اتجهت إلى حيث وقف الحارس بجوار باب في منتصف العنبر يؤدي إلى ردهةٍ صغيرة، ثم جناحَين متقابلَين بكل واحد صف من مراحيض بلدية مكشوفة مزودة بستائر من الخيش لا تكفي لستر الجالس، وأمامها صف من الحنفيات ثبتت في الجدار المقابل فوق مجرًى أرضي. دلقت الدلو في المجرى وشطفته بمياه الحنفية عدة مرات، ووقفت أنتظر دوري في استخدام المرحاض. أوشكت الروائح المتصاعدة أن تصيبني بالغثيان، وعندما حان دوري أخيرًا لم أتمكن من التبرز، غسلت وجهي وأسناني وألقيت بالمنشفة حول عنقي، ثم حملت الدلو وعدت إلى الزنزانة.

وجدت بطشة يصرخ بعصبية أمام دلو المياه موجهًا السباب لشخصٍ مجهول، وتبينت أن أحد النزلاء أخطأ الهدف بالليل وتبول في دلو المياه. أمرني أن أحمل الدلو إلى الدورة وأنظفه بالصابون ثم أملأه بالمياه، وطلب من صبري أن يعاونني، منبهًا عليَّ بألا أنسى غسيل القروان المتخلف عن عشائنا.

انصعنا لأمره، ثم تناولنا إفطارنا المؤلف من الجبن القريش المتحجر ورغيف من الخبز المتجمد. ولاحظت أن صنقر أضاف قطرات من الزيت إلى نصيبه من الجبن وكسر بصلة في مصراع الباب، أما بطشة فلم يأكل معه.

وضعت علبة السجاير في عبي وطويت فرشتي حسب التعليمات وأخرجتها إلى الممر ووضعتها إلى جوار الحائط وفوقها القروانة، لمحت بطشة جالسًا إلى جوار الحارس فوق دكة مكتبٍ خشبيٍّ صغير مثل مكاتب التلاميذ وُضع في منتصف الطابق. كان يأكل معه في رصانة من طبقٍ كبير أحاطت به أعواد من الفجل والجرجير والبصل الأخضر.

نودي علينا بعد قليل، وجمعنا الحارس وهو يتجشأ في ردهة العنبر مع نزلاء الزنازين الأخرى، فأربى عددنا على المائة. وكان ثمة عدد من الشبان المتماثلي الهيئة، وفهمت أنهم من المجندين الهاربين من الجيش وحُكِم على كلٍّ منهم بسنتين، أمرنا بطشة أن نجلس القرفصاء، وأطل علينا نفر من نزلاء الطوابق العليا أخذوا يتفرجون علينا، أحصيت ثلاثة طوابق فوق الأرضي، تدور بها أسيجة حديدية، يعلوها سقف من القضبان المتشابكة. وعرفت من صلصة الذي قرفص إلى جواري أن أغلب سكان الطابق العلوي متهمون مثلي في جرائم قتل دفاعًا عن الشرف.

ألقى علينا الحارس كلمة عن أهمية المحافظة على النظام والعمل بالتعليمات واللوائح وتجنب إحراز الممنوعات. كنت أمامه مباشرة، فجعل يخبط على رأسي بخرزانةٍ رفيعة ليؤكد حديثه، ثم ترك الكلمة لبطشة الذي طلب ممن له دراية بيننا بالطهي أو الخبيز أو أشغال النجارة أن يرفع يده.

اختارني بطشة مع صبري وآخرين للنظافة، وأوضح الحارس أنها على عكس الأعمال الأخرى تكلفتها من نزلاء كل زنزانةٍ ملكية، فينال الواحد ثلاثة جنيهات.

همس صلصة: مش حنشوف منها حاجة، حيقسم مع بطشة.

تبعنا الحارس إلى الخارج حاملين بطاطيننا، فنشرناها في الشمس ومضينا إلى العنبر الآخر المخصص للملكية. فعهد بنا إلى حارسه الذي سلم كلًّا منا قطعةً كبيرة من خيش المسح ووزعنا على الطوابق المختلفة لرفع البول والمخلفات ومسح الزنازين.

بدا لي أن العنبر الملكي لا يختلف عن عنبرنا إلا في شيءٍ واحد هو الملابس. وفهمت أن هذا وضعٌ مؤقت طالما أن نزلاءه تحت التحقيق، فبمجرد الحكم عليهم سيرتدون ملابس السجن الخضراء.

عهد الحارس إليَّ أنا وصبري بالطابق الثاني الذي يقطنه السُّنِّيَّة من أصحاب اللحى، وأفهمنا أنهم ينظفون زنازينهم بأنفسهم وأن مهمتنا تقتصر على تنظيف الطرقة الخارجية التي تمتد أمام الزنازين فضلًا عن المراحيض.

لم يسبق لي أن أمسكت في حياتي خيشة حتى أو مكنسة؛ فقد كانت أمي تنفرد بكل أعمال البيت بمعاونة أختَيَّ، ويبدو أن صبري كان مثلي؛ فقد وقفنا نتبادل النظرات في مدخل الدورة لا ندري ماذا نفعل، إلى أن جاء الحارس ونهرنا. خلعت حذائي وتقدمت حافيًا إلى المراحيض فأزحت ستارة أحدها، وطالعتني على الفور كومة من المخلفات يغطيها الذباب. تراجعت متأففًا وأنا أشعر بالغثيان وتذكرت يوم الترنش عندما تأتي سيارة الفضلات لتفريغ البئر الموجود في مدخل منزلنا.

تدافعت الدموع في عينيَّ، وتطلعت إلى صبري فوجدته قد فتح حنفية المياه في المرحاض المجاور ففعلت مثله، وفتحتها على آخرها حتى تجتاح المخلفات في طريقها، ثم واتتني فكرة فتناولت دلو المسح وملأته إلى منتصفه بالماء وألقيت بمحتوياته في المرحاض. كررت العملية حتى نظف تمامًا، فانتقلت إلى المرحاض المجاور.

استخدمنا الدلو بعد ذلك في تنظيف أرض الدورة، ومسحت مدخلها بالخيشة، ثم خرجنا إلى الطرقة فتولى صبري النصف الأيمن وتعهدت أنا بالأيسر. بللت قطعة خيش ومضيت حتى نهاية الطرقة فبسطتها فوق البلاط، ثم سحبتها إلى الخلف في اتجاه دورة المياه، كانت الزنازين مفتوحة ووقف أصحابها على عتباتها يتابعون ما أفعله. كان أغلبهم يرتدون الجلاليب البيضاء فوق سراويل طويلة من نفس اللون. اختلست النظر داخل إحدى الزنازين وأنا أجرُّ الخيشة فرأيتها مرتبةً ممتلئة بصناديق من الكرتون اصطفت فوقها أنواع المعلبات وعلب لبن «نيدو» الكبيرة وصناديق «كولمان». ولمحت في أخرى سخانًا كهربائيًّا فوق صفيحةٍ كبيرة.

لم أجد معنًى لإعادة ارتداء الحذاء فحملته في يدي، وحذا صبري حذوي، هبطنا حفاة إلى الطابق الأرضي فوجدنا القدامى قد سبقونا إلى الزنازين بحيث وقع تنظيف المراحيض من نصيبنا. وعندما انتهينا منها أمرنا الحارس بتنظيف الزخارف الحجرية البارزة التي تحيط بأبواب الزنازين، وكانت مدهونة حديثًا بلونٍ رماديٍّ كئيب.

اختلست النظر داخل الزنازين التي علقت بجوار بعضها لافتة «الإيراد»، كانت حاشدة هي الأخرى بصناديق المعلبات وحبال الملابس التي تدلت من السقف. أما أصحابها فكانوا يرتدون خليطًا منها، ولمحت أكثر من شخص يرتدي الروب دي شامبر الملون، وكان أحدهم يدخن غليونًا، وخُيل إليَّ أني رأيت صاحب التي شيرت الذي تعرفت عليه في مركز الشرطة وكان يرتدي هنا شورتًا رياضيًّا أبيض اللون.

جمعنا الحارس أنا وصبري في طرف الطرقة، بعد أن ضمَّ إلينا عم فوزي. أوقفنا صفًّا بالعرض ووجوهنا إلى الجدار، وأمرنا أن نبسط قطع الخيش أمامنا على البلاط بحيث تلاصقت وغطت كل شبر منه، وبحركة واحدة سحبنا الخيش إلى الخلف مكتسحين القاذورات التي تخلفت عن نظافة الزنازين، تراجعنا بظهورنا حتى بلغنا مدخل المراحيض، فكومناها أمامها، وغسلنا الخيش في الدلاء، وعدنا إلى نقطة البداية كررنا هذه العملية عدة مرات حتى لمع البلاط من نظافته، ثم انتقلنا إلى النصف الآخر، الذي يبدأ من باب العنبر، فأعدنا الكرة.

ظهر سجينٌ قديم في مدخل العنبر، ونادى من ميكروفون في يده النزلاء الذين جاءتهم زيارة، كنت على يقين من أن اسمي لن يكون بينهم؛ إذ لا يستحق النزيل زيارة إلا بعد أن يمضي شهر على حبسه، ومع ذلك أصغيت للأسماء، وتابعت أصحابها وهم يغادرون زنازينهم على عجل وقد اعتنوا بمظهرهم وبدا البِشر والتلهف على وجوههم.

انتهينا من عملنا فجمعنا الحارس وتمم علينا ثم أسلمنا لحارس عنبرنا. واقتادنا هذا إلى الفناء الخارجي المفروش بالرمل، فقمنا بجمع ما تبعثر في أنحائه من قصاصات ورق وأعقاب سجائر وضعناها في برميلٍ مخصص للقمامة. وحان موعد آذان الظهر، فسحبوا منا اثنين لتوزيع الطعام.

مرَّ بنا السجناء العائدون من الزيارة وهم يحملون أكياسًا متفاوتة الأحجام وصناديق «تيك أواي» من «كنتاكي فراي تشيكين» و«بروست فود». كانوا يبدون في لهفة للعودة إلى زنازينهم. وسمح لنا الحارس أن نحصل من موزعي الطعام العائدين إلى المطبخ على قروانة من سائل طيني لزج تسبح فيه حبات من الفول المسلوق.

انتحيتُ جانبًا أنا وصبري وحجاج واقتعدنا الأرض، وما لبث صلصة وبلحة أن انضم إلينا. خطر لي أن أشرب السائل لكن منظره لم يشجعني. تطلعت إلى بلحة فرأيته يلتقط حبات الفول وينزع قشرتها ثم يقذف بها إلى فمه. قررت أن أفعل مثله، فتناولت حبة وأزلت قشرتها وعندئذٍ انفصلت فلقتاها وجدت قلبها مهترئًا ترقد داخله حشرةٌ سوداء غريبة؛ ألقيت بالفولة وحشرتها جانبًا في اشمئزاز وتناولت غيرها، لكني صادفت نفس الأمر وأوشكت الكمية أن تنتهي دون أن أعثر على حبةٍ سليمة، فعدلت سياستي بأن صرت أُلقي بالحشرة وألتهم الفولة.

راقبني بلحة في استهزاء ثم خاطبني قائلًا: إيه اللي بتعمله ده يا بابا؟ والتفت إلى صلصة وقال: الواد ده باين عليه ابن ناس، شفت بياكل الفول ازاي؟

دافعت عن نفسي قائلًا إنها أول مرة أدخل السجن.

قال صلصة: كان لازم تدخل أيام ما كان يوم عدس ويوم فول؛ يوم سوس ويوم زلط، ودالوقت العدس بيصدروه فمعدش غير السوس.

لمحت بطشة يسير بمفرده قادمًا من ناحية الإدارة متجهًا إلى باب عنبرنا، سألت: هو بطشة جاي في إيه؟

قال بلحة: نفوس. واخد مؤبد.

سأل فوزي: وايه اللي جابه هنا؟ مش مفروض يودوه الليمان؟

– كان فيه، لغاية ما مسكوه بيتاجر في البرشام. بقاله سنة ونص مستني يتحاكم.

سألت مدهوشًا: يقوموا يعملوه نبطشي؟

قال بلحة: يا بني انت كركي، هم بيختاروه عشان كده. المأمور عارف إنه بيتاجر في المخدرات يقوم يعمله نبطشي. يطنشوا على شوية الأقراص اللي بيوزعها عشان يضمنوا انهم يعرفوا كل حاجة بتحصل في العنبر.

سألت: قصدك إنه …

قال صلصة: طبعًا، مش عاوزة كلام، مكنوش يخلُّوه رايح جاي كده ومعاه المفاتيح.

تابعه بلحة في حسد: أهو ده اللي عايش زي الملك ميحسش بالحبسة أبدًا.

سألته: ازاي البرشام بيدخل لما هم بيفتشوا كل واحد. يمر ازاي على العساكر والضباط؟

– ما هم دول اللي بيدخلوه، العسكري من دول يحط الأقراص في بالونة ويلبسها من تحت لغاية ما يمر من بوابة السجن وياخد على كل عملية تلاتين جنيه. بعد كده التاجر يبيع القرص اللي باتنين جنيه برة بأربعة وخمسة.

صاح الحارس فينا كي نواصل العمل، انتشرنا من جديد في الفناء لتنقية رماله من الشوائب إلى أن أذن العصر وحان وقت الفسحة فقادنا الحارس إلى فناء عنبرنا.

وجدته مكتظًا بالنزلاء الذين شكَّل بعضهم طابورًا يطوف حول الفناء على مهل بينما جلس البعض الآخر القرفصاء إلى جوار الجدار وانهمكوا في لعب السيجة، وكان بينهم عدد ملحوظ من الأفارقة، وبسط أحدهم صحيفة على الأرض رص فوقها أنواعًا مختلفة من السلع مثل بكر الخيط والإبر والأمشاط والفنيك والبخور وماكينات «ناسيت» البلاستيكية للحلاقة، وسجائر «كنت» و«مارلبورو» و«سيلك كت»، بألوانها المختلفة، وأظرُف الجوابات والأقلام الجافة وعلب الفول والخضراوات الأخرى والأعصرة المحفوظة.

اشتريت ظرفَين وطابعَين وورقتَين وقلم «بيك» بنصف علبة كليوباترا. وانضممت إلى سوزوكي وجابر، سائق الأتوبيس، اللذين كانا يرقبان شابَّين شديدَي الشبه يثرثران مع الحارس بَعْجر، قال لي جابر إنهما شقيقان من بولاق الدكرور ساعدا أمهما في قتل شقيقتهما، فأوثقوها بالحبال في الحمام وسكبوا عليها جركن كيروسين وأشعلوا فيها النيران ثم أغلقوا عليها الباب حتى فارقت الحياة.

استبشعت الأمر وسألت: هي عملت إيه؟

قال جابر: هربت من البيت عشان تتجوز واحد غني من بتوع الخليج، الظاهر حد ضحك عليها، ولما كشفت الحقيقة رجعت. لكن الناس قعدوا يعايروا أمها.

تركتهما إلى حلقة أحاطت بشيخٍ مهيب المنظر تحيط بوجهه السمح لحيةٌ بيضاء كثيفة ويرتدي طاقية من الصوف المشغول خضراء اللون، سمعتهم يلقبونه بالشيخ عبد الله، وكان يتحدث في صوت رزين والجميع ينصتون إليه في احترام: يجب أن يسير كل شيء في حياة البني آدم على ترتيب حضرة النبي … في الأكل والشرب ودخول المسجد والخروج منه، في كل حاجة. ابن أحد الصحابة مات في دورة المياه فخاف أبوه إنه مش حيدخل الجنة، لكن الفتى جاله في المنام وطمأنه أنه دخل الجنة لأنه لما دخل الحمام دخله على ترتيب حضرة النبي.

تطلع الشيخ إلى مستمعيه مثبتًا عينَيه في كل واحد لحظة ثم استطرد: أنا عيلتي اهتدت جميعًا، وابني وعمره سنتين لا يشرب ولا يجلس لطعام إلا بالطريقة الإسلامية، وهم لا يفتحون التليفزيون، وكنت اشتريته بفلوس العراق، ومرضتش أبيعه عشان اللي يشتريه ميفتحوش ويرتكب معصية.

استمعتُ إليه في اهتمام وقد سحرني صوته، وشعرتُ بالسكينة، فاقتربتُ منه وقد تعلَّقتْ عيناي بوجهه السمح. مضى يتحدث عن الآيات المختلفة للحكمة الإلهية فقال: ربنا خلق لنا مفاصل في الكوع لولاها كنت تيجي تاكل يقوم دراعك ياكل وش اللي جنبك.

أعلن بعجر انتهاء الطابور فحملت بطاطيني ودخلت العنبر، وسمح لنا بالذهاب إلى دورة المياه للاغتسال. أخذت صابونتي ومنشفتي سعيدًا بأني سأتخلص من العرق والتراب اللذين التصقا بجسدي، وهنا ناداني بطشة وطلب مني وهو يتحسس خدي بيده أن أملأ مياهًا إضافية للشرب، سارعت بتنفيذ أمره وقد سرني أنه تخلى عن عدوانيته معي. ملأت أربع زجاجات «سبرايت» كبيرة من حنفية الدورة وحملتها إليه ثم عدت أدراجي.

انتظرت حتى جاء دوري في استعمال المرحاض الأخير المخصص للاستحمام. دخلت وأنزلت الستارة ثم خلعت ملابسي وعلقتها على مسمار في الحائط. تلفتُّ حولي بحثًا عن مصدر المياه فلم أجد غير الحنفية الواطئة القريبة من الأرض، قرفصت بجوارها وفتحتها ثم بللت الصابونة ودعكت جسمي.

انقطعت المياه فجأة وانتظرت عودتها وأنا مقرفص فوق فتحة المرحاض. سمعت بعد لحظات صوتًا يشكو من انقطاع المياه كعادتها كل يوم، نادى علينا بعجر من أجل التمام، وبعد قليل فوجئت به يرفع الستارة ويطل عليَّ والمفتاح الحديدي الثقيل في يده.

بادرني قائلًا: إنت بتعمل واحد وتلاتين وللا إيه يا مسجون؟!

شكوت له انقطاع المياه وأني لم أنتهِ بعدُ من الاستحمام فأشار لي بالخروج قائلًا: معلهش يا بيه. اخرج الوقت وإحنا نجيبلك المية لحد عندك في الزنزانة.

قلت محتجًّا: أخرج ازاي وأنا عريان كده؟

تطلَّع إليَّ ثم قال متفكهًا: البس هدومك.

– فوق الصابون؟

انحنى فوقي ومد يده فقبض على ذراعي بيد من حديد وجذبني إلى خارج المرحاض قائلًا: تعال زي ما انت.

جذبت ملابسي وارتديتها فوق الصابون الذي امتزج بعرقي وقذارتي وتبعته إلى الزنزانة.

وجدت وضعي قد تحسن قليلًا؛ إذ انضم إلينا زبونٌ جديد استقر مكاني إلى جوار دلو البول، فتقدمت أنا خطوة نحو عمق الزنزانة، ولاحظت أن سوزوكي فقد موقعه المتميز، بينما احتفظ بطشة بركنه.

تعرفت في النزيل الجديد على محمود سعيد، فلاح كفر الشيخ الذي قبض عليه البوليس لأنه كان نائمًا في الشارع. سألته عما جاء به، فقال إنهم أفرجوا عنه في الصباح الذي رحلونا فيه إلى السجن، فأسرع إلى المستشفى، وهناك نصحه الأطباء بنقل ابنه إلى مستشفى استثماري توجد به استعدادات أكثر، عمل بالنصيحة وذهب إلى المستشفى الذي طالبه بأن يدفع أولًا ألف جنيه. فأسرع بالعودة إلى قريته حيث رهن بيته وجاء بالنقود في نفس اليوم وأدخل ابنه المستشفى، وفي المساء قالت له إحدى الحكيمات البقية في حياتك يا عم محمود. لم يدرِ ما حدث بعد ذلك سوى أنه عاد مرة أخرى إلى القسم وأحيل إلى النيابة بتهمة التعدي على أطباء المستشفى وتحطيم واجهته الزجاجية.

ملأتُ كوزًا من البلاستيك من دلو المياه وانحنيتُ فوق دلو البول فصببت منه في يدي اليسرى وحاولت أن أغسل وجهي، وشعرت بسوزوكي إلى جانبي. تناول مني الكوز قائلًا: کده مينفعش، لازم حد يصبلك.

غسلت يدي ووجهي وأنا أتوقع زجرًا من بطشة، وصحَّ ما توقعته؛ إذ صاح: ضيعولنا المية بأه. الشوية دول عشان الشرب مش عشان مسح الطيز.

لم يأبه سوزوكي بالرد عليه، وشعرت أن الجو بينهما ليس طبيعيًّا.

بدأ توزيع اليمك، وكان عبارة عن حساء الرجلة وقطعة من اللحم، أو بالأصح قطعة من الجلد.

أبدى صبري تذمره فعقب بطشة — الذي لا يأكل أبدًا من اليمك — قائلًا في غير مبالاة: محدش بيشوف اللحمة هنا خالص.

تكونت مجموعات الأكل الثلاث مثل الأمس. وأصرَّ بطشة على استضافة محمود سعيد الذي كان يحمل لفافة بها عدة ساندوتشات. أما نحن فلم يكن لدينا غير قروانة اليمك فوضعناها وسطنا وأمسك كلٌّ منا برغيفه وبدأنا نغمس.

توقف صلصة فجأة عن الأكل وتطلع إليَّ في غضب. اتهمني بأني آكل مثل الخنازير، وقلد طريقتي في الأكل، فغمس لقمة ورفعها عموديًّا إلى فمه بعد أن مده إلى الأمام بحيث تساقطت نقاط الحساء من أصابعه وفمه في الإناء. وتطوَّع بلحة ليشرح لي طريقة الأكل الجماعي السليمة، فطوى اللقمة بين أصابعه وغمسها ثم رفعها بالقرب من حافة الإناء وأدارها في خفة حتى التقطها بفمه دون أن تسقط منها نقطةٌ واحدة.

أتينا على القروانة بسرعة ثم التجأنا إلى نمرنا. واكتشفت أنه لم يتبقَّ معي غير سيجارتين هما كل ما أملك. وكان أمامي أحد سبيلين: إما أن أستمتع بتدخينهما مرةً واحدة أو أقسمهما على عدد من المرات بحيث تكفياني حتى مساء الغد. وبينما أنا أتدبر الخيارين رأيت سامبو يضع سيجارة على الأرض ويعكف على تقطيعها بنصف مشرط إلى ثلاثة أجزاء متساوية ثم ثبت إحداها في مبسم خشبي صغير.

سألته عن المصدر الذي حصل منه على المبسم، فأجاب: اشتريته.

تدخل بطشة في الحديث بعد أن سمع حوارنا وسألني: عاوز واحد؟

أومأت برأسي.

قال: بعلبة سجاير.

تدافعت الدماء إلى وجهي فضحك مستهزئًا.

خاطبني سوزوكي من فرشته متجاهلًا بطشة: میهمکش يا أشرف. أنا حشوفلك واحد، ولو عُزت برشام أنا أجيبلك القرص بنص علبة.

تجهم وجه بطشة وتردد فجأة صوت صاحب النشرة المألوف: عنبر كله يسمع.

أردف بعد أن ساد الصمت: مساء الخير على الجدعان، أعرفكم أن المعلم الفص طالع بكرة من خمس سنين جدعنة، يا رب يروح ما يرجع، عقبال عندنا يا حبايب.

تصاعدت صيحات التهليل، وبدأت الزنازين توجه التحية إلى سعيد الحظ، ثم جاء دور نشرة الخارجين في الغد. سألت صلصة عن حكاية هذه النشرة فقال لي إن المذيع مسجونٌ قديم محکوم بست سنوات، ويحصل من الحراس قبل التمام على أسماء الذين سيتم ترحيلهم في الغد.

قلت: ويدُّوهالو ليه؟

قال: بيشتريها منهم بسجاير، ويذيعها كمان بسجاير. علبة من كل واحد يقول اسمه، وبالفلوس دي يصرف على نفسه وعيلته برة.

أخرجت الورقة والقلم من كيسي، وفجأة زعق صوتٌ جهوري: عنبر كله يسمع.

هتف بطشة مهللًا وهو يستنشق الأسبرين: أيوه يا شيخ عبد الله … ادينا.

مضى الصوت الجهوري في رزانة فقرأ البسملة معلنًا عن تقديم نشرة الأخبار الإسلامية التي استهلها بأخبار البوسنة والصومال قائلًا: إن الأمم المتحدة بقيادة الصليبي بطرس غالي لم تفعل شيئًا للمسلمين، ثم تلا تقريرًا خاصًّا عن أوضاع الأراضي المحتلة وصور الاضطهاد التي تنزلها إسرائيل بالشعب الفلسطيني، وقال إن اتهام إيران بدعم الإرهاب في مصر مزاعم أمريكية تمهد لضرب إيران بعد خطواتها السريعة في مجال الأسلحة الذرية. وانتقل بعد ذلك إلى الأخبار المحلية، فوصف مطاردة رجال الأمن للجماعة في الصعيد، وأعلن أن وزير الزراعة قرر إزالة محصول قصب السكر واستبداله بالبنجر بعد أن عجز الأمن عن ملاحقة أفراد الجماعة. ثم زفَّ إلى المسجونين نبأ اغتيال عقيد شرطة في أسيوط، فتصاعدت صيحات التكبير من بعض الزنازين، وتكرر التكبير عندما أكد أن أولياء أمور الطالبات في مدرسة إعدادية أعلنوا رفضهم لقرار وزير التعليم بنقل المدرِّسة التي فرضت الحجاب على الطالبات.

سألتُ صلصة: والشيخ عبد الله بيجيب النشرة دي منين؟

تدخَّل بطشة قائلًا: الشيخ ترتيب حضرة النبي؟ ده راجل عقر متغرکش دقنه، مربيها هنا. عنده تسع قضايا نصب آخرها ع السياح في الهرم، طلَّع لهم كارنيه إنه مخابرات وفتشهم ولطش فلوسهم، وكان شايل مسدس صوت. لما جه هنا لف على السُّنية اللي في عنبر الملكية. يبعتوا له أكله وشربه وسجايره والنشرة اللي بيقراها كل ليلة.

لحظت أن مجاهد، الشاب ذا الوجه الشاحب يتأمل جانبًا من ورقة جريدة في استغراق، ولمح صنقر اتجاه نظراتي فهتف: وريهم يا مجاهد الجرنال.

ناولني الشاب الورقة بشيء من الزهو فوجدتها بالية بعض الشيء، قرأت عنوانًا كبيرًا نصه: «ضاعت القيم وجاء الحقد ليحصد الخير»، وأسفله هذه السطور:

«استيقظت سيدة أحد القصور على نباح كلبها الكبير؛ فأسرعت تستطلع الأمر، فوجدت شابًّا متعبًا يفترش الأرض ومستغرقًا في النوم. فرقَّ قلبها لهذا المنظر المؤلم غير الإنساني، فهرولت إلى داخل القصر وأحضرت بطانية وبعض الطعام وعرضت عليه أن يعمل عندها لرعاية ابنها الصغير. وذات يوم وأثناء مراقبتها لابنها الصغير (٩ سنوات) وهو يلهو، رأت الشاب يطعنه وفرَّ هاربًا، أسرعت بنقل ابنها إلى المستشفى وأبلغت الشرطة، وبعد ٢٤ ساعة ألقي القبض على الجاني — مجاهد سليم — الذي اعترف بجريمته، وبررها بأن الحقد استولى عليه عندما اكتشف أن الكلب يأكل وجبة أسرةٍ كاملة وأن الدراجة البخارية التي يلهو بها الطفل حمادة بثمن خمسة أفدنة.»

استردَّ مني ورقته وطواها بعناية ثم وضعها في كيس من البلاستيك دسَّه تحت نمرته، وأخرج بطشة من جيبه ورقةً مطوية من صحيفة اليوم عرضها على سامبو وصنقر وهو يضحك، شاركه الاثنان الضحك معلقين على صورة في صدر الورقة، وأدركت أن معرفتهما بالقراءة محدودة، تداولت الأيدي الصحيفة حتى وصلت لعم فوزي فتأمل الصورة ثم ناولني إياها لأقرأ ما كتب أسفلها. طالعني وجه رجلٍ أنيق يرتدي ملابس الشرطة وتحته اسمه مسبوقًا برتبة لواء يبدو من علية القوم، وفوق الصورة عنوانٌ خاص بالقبض على أكبر تاجر مخدرات هارب من حكم بالسجن لمدة عشر سنوات، وعندما قرأت الخبر اكتشفت أن الصورة لم تكن لتاجر المخدرات وإنما للواء الشرطة الذي قبض عليه.

لم أكد أعلن اكتشافي هذا حتى انهالت عليَّ التعليقات بأني لا أفهم، وصاح بطشة فيَّ: وانت مين اللي علمك القراية؟

خفَّ صبري إلى تأييدي عندما قرأ النبأ، فتراجع بطشة وقال إن كثيرًا من ضباط الشرطة يجربون حظهم في مجالات مثل المخدرات أو سرقة المنازل لكنهم على العموم يتصفون بالخيبة. وقال بلحة إنه شخصيًّا يعرف ضابط شرطة مفصولًا سرق خزينة بها مجوهرات ونقود، وفوجئ بعودة صاحبة الشقة وهي شقيقة صديقه، فهرب إلى سطح العمارة، وأمسك به الأهالي واعترف بأنه سرق المفتاح من صديقه.

قلب صنقر شفته قائلًا: كان لازم يعمل حسابه.

تبينتُ بعد لحظات أن صنقر من لصوص المنازل، وأن بطشة بدأ حياته أيضًا بتخصصٍ مختلف في نفس المهنة؛ فكان يسرق عن طريق كسر الباب أو كسر ريشتَين من مصراع النافذة الخشبي، أما صنقر فيتسلق المواسير، كما أن بطشة لم يكن يسرق غير الأجهزة الكهربائية والمنقولات، أما صنقر فيقتصر اهتمامه على النقود السائلة والذهب؛ أي ما غلا ثمنه وخفَّ حمله.

شرح لنا صنقر في شيء من الزهو كيف يختار ضحاياه: الشقة المقفولة أنا مدخلهاش؛ لأن أصحابها مش حيسيبوا فيها مصاغ أو فلوس؛ يا إما بياخدوا كل حاجة معاهم وهم خارجين أو يحطوها في البنوك. أنا بحط عيني ع الشقة اللي ساكنة، اللي أصحابها بيخرجوا كل يوم الصبح لأشغالهم ويسيبوا المصاغ بتاعهم وراهم.

سأله جابر: ولو حد منهم رجع صدفة؟

– يبقى حظي وحش.

– بتشيل سلاح؟

تدخَّل صلصة وهو ينظر بطرف عينه إلى زميله بلحة: الحرامي الشاطر عمره ما يستخدم السلاح لأن ده يعرضه للسجن المؤبد أو الإعدام في حالة الوفاة، في حين أنه لما يتمسك في سرقة عادية أقصاها من ست شهور لتلات سنين أو بالكتير ستة.

علق صبري قائلًا: يعني أربعة و٨ شهور.

سألته عما يعنيه فشرح لي أن السجين الذي يحسِن السلوك تُحسب له السنة بتسعة شهور ويخرج بثلاثة أرباع المدة.

أبهجتني هذه المعلومة، وجعلت أحسب الأحكام المختلفة عندما تُطبق عليها هذه القاعدة. وأعطيت نفسي حكمًا من عشر سنوات ثم خفضته إلى سبعة ثم ثلاثة.

حصل صبري على الكوتشينة، وأقنع عم فوزي بأن يكفَّ عن البكاء ويلاعبه، وعرضا عليَّ أن أنضمَّ إليهما فاعتذرت، كما رفض فلاح كفر الشيخ وانفجر باكيًا ثم لزم الصمت محدقًا في الحائط.

اقترضت نصف الموس من صنقر وقطعت به سيجارة ثلاث قطع، وألقى لي سوزوكي بمبسمه كي أضع به الثلث الأول، شكرته وقدمته إليه ليشعله ويأخذ لنفسه نفسًا لكنه رفض، أشعلت لنفسي وعدت إلى الورقة والقلم، وأنا أبحث عن شيء صلب أستند إليه، لمحت عم فوزي يعبث بغطاء بلاستيك لعلبة حلاوة، فأخذته منه ومسحته في بنطلوني ثم ثنيت ركبتيَّ إلى أعلى ووضعت الغطاء فوقهما وأسندت الورقة إليه.

لم يسبق لي أن كتبتُ إلى أمي؛ ولهذا واجهتني صعوبةٌ شديدة في صياغة الكلمات. لم أعرف كيف أخاطبها. كتبت أولًا: ماما، ثم غيرتها إلى أمي، وأضفت بعد تفكير: العزيزة، وعدت فشطبتها واستبدلتها بالغالية. في البداية وصفت لها الزنزانة وزملائي بها، ونزلت دموعي وأنا أصف لها الأكل وكيف نظفت المراحيض، فمسحتها ثم واصلت الكتابة:

«أمي الغالية

أنتِ وحشتيني جدًّا يا أمي أنتِ وعايدة وأبي والجميع. لا بد أن تتأكدي من براءتي، فأنا لم أسرق ولم أقتل، أنا كنت أدافع عن شرفي، أنا ضحية الأقدار المريرة، لكن ربنا هو الذي يرى كل شيء ويعلم كل شيء، وأنا متأكد أنه لن يخذلني.

أمي الحبيبة،

أرجوك ألا تتأخري في الرد عليَّ. ليس لي الآن زيارة، لكنك تستطيعين القدوم إلى السجن وتقديم طلب بنقلي إلى الملكية بشرط أن تكوني مستعدة لإحضار طعام لي كل يوم أو يومين، وكمان تأخذي الغسيل مرة في الأسبوع، وعشان كده لازم تشتريلي غيار أو اتنين. ولا تنسي شبشب زنوبة من النوع التايواني المستورد لأنه يتحمل، أرجوك يا أمي، فلن أستطيع احتمال الحياة هنا في هذا العنبر وسط المجرمين والمراحيض، ولا تنسي السجاير، قد ما تقدري؛ مش عشان أشربها، لا؛ أصل كل حاجة هنا بسجاير. وكمان «أوبتاليدون» عشان الصداع. وعلى فكرة من حق أي سجين أن يودِع له أهله رصيدًا من النقود في صندوق الكانتين عن طريق الإدارة، يسحب منه لشراء أي كمية من السجاير والحلاوة الطحينية. ابنك البريء المظلوم.»

قرأتُ الخطاب عدة مرات، وأضفت إليه حاشية أطلب فيها منها أن تتصل بصديقي سيد وتحضره معها إلى جلسة المحاكمة.

أشعلت الثلث الثاني من السيجارة وكتبت لهدى:

«حبيبتي الغالية

لقد تحددت ساعة اللقاء منذ الأزل، وكانت محور وجودي وسببه. إني أتحدث عن شيء أجمل من أن يوصف بأي وصف. استردي ثقتك فيَّ، سأخرج قريبًا؛ فأنا بريء، وعند خروجي قريبًا سأسافر إلى الأردن أو ليبيا لإعداد كل شيء لارتباطنا، كل شيء من كبير وصغير، وسأعود قريبًا لكي أتقدم إليك رسميًّا كي نذوق السعادة المطلقة … انتظري شهرًا أو شهرين بالكثير وسترين مني عملًا جادًّا؛ خاصة أن الشقة في طريقها أن تكون جاهزة تمليك وهنا في مصر.

حبيبة قلبي،

لا أريد أن أكون متطفلًا عليكِ، ولكنني أدرك جيدًا أننا خلقنا لبعض ولا سعادة لأحدنا بعيدًا عن الآخر، ومع ذلك فأنتِ حرة، لكن فكري جيدًا ولا تخشي شيئًا إطلاقًا. فكري بقلبك وعقلك.»

توقفت وأشعلت ثلث السيجارة الأخير، وفكرت قليلًا ثم استأنفت الكتابة:

«حبيبتي الغالية

إن الحياة كون واستحالة ومأساة، وجانب الكون يكون بارتباطنا، وعدم ذلك لا يُبقي لكلينا سوى الاستحالة والمأساة، أنتِ لي وملكي، وهيهات أن يظن أي إنسان غير هذا … إنها الحقيقة والقدر، إنه كتابٌ مكتوب. اهربي من نفسك، اسمعي كلامهم، استسلمي لهم، صدقيهم، وأسلميه نفسك، تزوجيه … لكن أنت لي، وأقسم لك إنك لي. مردك لي ومردنا إلى الله. روح قلبي وسر وجودي، لا تقلقي ولا تحزني، افعلي ما ترينه، واعلمي أنني لا ولن أسبب لك أي إشكال إطلاقًا، وعلى العكس، أتحمل لأجلك ولأجل حبنا.»

انتهيت من الكتابة، وأغلقت الرسالتَين، ثم كتبت عنوان بيتي على الأولى، وعنوان البوتيك القريب من منزلنا على الثانية، وأضفت جملة تحتها خط: «يُسلم ليد الآنسة هدى فريد.»

لمحت الصحيفة ملقاة جانبًا فتناولتها وقلبت صفحاتها بحثًا عن إعلانات السيارات، فاستوقفني واحد بعنوان «دليلك في اختيار سكن العمر». كان يحدد المعايير التي يجب أن يختار بها المرء مسكنه، وأولها أن تكون فيلا وفي موقع مرتفع عن سطح البحر وجاف وبعيد عن التلوث، وأن تسمح مساحتها الفعلية بالتنفس والاستمتاع، وألا تقل مساحة الخضرة عن ٧٠ في المائة منها، أما المساحة التي تمنح الخصوصية فيجب ألا تقل عن ثلاثة أمتار من كل جانب، وأن تكون الفيلا مجهزة بحمام سباحة وتكييفٍ مركزي.

لحظت أن الجميع ناموا فيما عدا بطشة الذي كان يتأملني من نمرته وهو يدخن. ورأيته يعتدل جالسًا ثم يزحف نحوي، خاطبني هامسًا: عارف إنك ملكش جوابات إلا بعد ما تطلع من الإيراد؟

قلت: طب والعمل؟

قال: قدامك طريقة واحدة عشان تبعت جواب.

سألته في لهفة: إيه هي؟

تطلَّع حوله إلى أن اطمأن إلى أن الجميع نيام.

قال: تنزل بنفسك تحطها في صندوق البوستة اللي في الميدان.

سألت في دهشة: برا السجن؟

– طبعًا يا كركي. الصبح تقول للشاويش. بس اوعى تقول للتانيين أحسن يعملوا زيك. السجن مبينزلش أكثر من واحد في المرة.

لم أكذب خبرًا وتوجهت إلى الحارس في الصباح بمجرد انتهائي من الدورة — وكان وجهًا جديدًا لم يظهر قبل اليوم — وطلبت منه أن يسمح لي بالنزول إلى الميدان لوضع الخطاب في صندوق البريد، تأملني لحظة ثم ظهرت ابتسامة على شفتَيه سرعان ما ملأت وجهه فنادى بطشة وقال له: خد مكاني لغاية لما أودي المسجون ده لسيادة الضابط علي بلبل.

كان الضابط جالسًا في الفناء وأمامه مائدةٌ صغيرة عليها كوم من أرغفة الخبز وطبق صغير به أقراص الطعمية، وألفيته شديد السمرة، ضخم الجثة طولًا وعرضًا، لا تتناسب سنه المتقدمة مع رتبته الصغيرة التي لم تزد عن نجمتين، يحمل وجهه تعبيرًا غاضبًا.

صاح في صوت جهوري لا يقل عرضًا عن جسده عندما رآنا نقترب منه: إيه؟ في إيه؟

أدى الحارس التحية العسكرية وقال: النزيل عاوز ينزل الميدان.

قال الضابط بصوت أقل حدة وإن بدا متوترًا مهددًا: ينزل فين؟

قال الحارس مجاهدًا ليغالب ابتسامة: الميدان يا باشا. عاوز يحط الجواب بنفسه في صندوق البوستة.

أطلق الضابط العنان لحنجرته صائحًا: ميدان إيه يا سي عبد الحفيظ؟ إنت بتهزر؟

قال الحارس: لا يا افندم. هو قال كده. وسعادتك قلت: التعليمات إن أي مسجون يطلب حاجة نجيبه لسعادتك.

توعده الضابط قائلًا: طيب يا عبد الحفيظ. وتحول إليَّ لأول مرة وقال بصوت أقرب إلى الهمس: عاوز تنزل الميدان؟ الميدان مرة واحدة؟

شعرت أن هناك شيئًا في الأمر فقلت بحذر: بطشة قال لي كده يا سعادة البيه.

قال بنفس الصوت الهامس المتوعد: بطشة اللي قال لك؟

دوَّى صوته فجأة بأعلى درجاته فقفزت من البغتة: روح عنبرك يا عبد الحفيظ وسیبلي الواد ده.

أدى الحارس التحية وانصرف، وأشار لي الضابط أن أقف إلى جوار الحائط ففعلت. انصرف إلى طعامه دون أن يفقد وجهه تعبيره الغاضب، ولحظت أنه يتناول رغيف الخبز فيطويه مرتين ويدس في ثناياه قرصًا من الطعمية ثم يقضم منه قضماتٍ كبيرة تقضي على الرغيف في ثوانٍ.

أحضر له أحد المساجين كوبًا من الشاي، وما لبث أن أتى على الخبز والطعمية فتطلع إلى الإناء الفارغ برهة ثم تناول كوب الشاي، وأخذ يرتشف منه بصوتٍ مسموع، وبدا كأنه نسيني تمامًا، ثم نهض من مقعده ودخل مكتبه الذي تؤدي إليه درجتان حجريتان. ولاحظت أن قدميه بالغتا الضخامة وأن حذاءه بالٍ كما أنه يعرج قليلًا.

رأيت طابور الخدمات يغادر العنبر. ومضت ساعة ثم أخرى كنت أنقل خلالهما ثقل جسمي بين ساقي بالتناوب وسمعت فجأة صوت الضابط يصرخ مناديًا من يسمى بالدهشوري. أقبل على الفور حارس متقدم في السن جلل الشعر الأبيض رأسه يمسك بخيرزانة رفيعة في يده، كان هو نفسه بالغ النحافة يشبه عصا تحمل عنقًا رفيعة بتفاحة آدم بارزة. دخل المكتب وغاب بضع لحظات، ثم خرج واقترب مني وهو يضرب بعصاه كف يده اليسرى: قدامي ع العنبر.

مشيت أمامه بينما أضاف: بقى حضرتك كنت عاوز تنزل الميدان؟

قلت: بطشة اللي قال لي.

هوت صفعة على قفاي فترنَّحتُ وكدت أقع، لكني تماسكت واستطعت أن أتحمل الصفعة الثانية.

وكنا قد وصلنا إلى باب المنبر فلمحت بطشة واقفًا يتطلع نحونا وهو يضحك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤