٥

لم يتأخر دور شرف في مساعدة «النشرة» على إعالة نفسه وعياله؛ ففي إحدى الليالي سمع اسمه في قائمة المرحَّلين إلى المحكمة في الغد. وقضى الليلة ساهرًا، لا من التفكير في احتمال الإفراج وإنما في الإمدادات: من الصور الحية والسجائر؛ الصور لدعم نشاطه الليلي بعد أن استنزف إمكانيات فتاة الجولف، والسجائر لأغراضٍ متعددة: تسديد الديون (لسوزوكي) والضرائب (لبطشة) والإشهار (للنشرة) فضلًا عن الاستخدام المباشر (في التدخين) والخدمات الأخرى التي تضاعفت في الصباح: حلاقة للذقن كاملة من جميعه؛ أي تتضمن النتف بالفتلة والدعك بماء الورد من زجاجة «أكوا فيلفا أفتر شيف» مقابل علبة سجائر، مسح الكوتشي وإعادة ألوانه الطبيعية مقابل نصف علبة، حمام مخصوص في المرحاض لا تنقطع خلاله المياه مقابل علبة، كيٌّ في الموقع (أي في مبنى الإدارة، أمام غرفة الأمانات، حيث يسلم البذلة البيضاء ويتسلم قميصه وبنطلونه الملونين والمكرمشين) مقابل علبة للقميص وعلبتين للبنطلون.

حليقًا، نظيفًا، مكويًّا، تسلم الكارت الأصفر الذي حُرِّر له يوم دخوله. وبدأ العبور المضاد: جلس القرفصاء في طابور مزدوج مع الخارجين، ثم سار معهم إلى فناء الإدارة الخارجي حيث تمت إجراءات التتميم مرةً أخرى. وأخيرًا باب السجن الرئيسي، حيث تم تقييد المحبوسين، اثنين اثنين، وضُم إلى مجموعة من اثني عشر محبوسًا، بينهم بعض زملاء مركز الشرطة القدامى؛ مثل فوزي وبلحة وصلصة، وُضعوا في الزنازين المتحركة.

كانت الرحلة على العموم مخيبة لآمال شرف، فبسبب القيد لم يتح له الاقتراب من إحدى الكوَّات المطلة على الطريق ولم يرَ من صنف النساء غير بضع مارَّاتٍ محجبات، لكن حظه تغير في المحكمة. وبدأ التغير فور وضعه في القفص؛ فقد وجد نفسه في صحبة ثلاث نساء، مرة واحدة، مثَّلن التيارات الأساسية في الحركة النسائية.

كانت الأولى امرأةً ضامرة، من طراز أم قويق، في ملابسَ شعبيةٍ سوداء، انتحت ركنًا لزمته دون حركة وهي تتطلع أمامها ساهمة، تتأمل ما اقترفته يداها. وكانت الثانية سمراء، في مقتبل العمر، ذات شعر بين الأحمر والأصفر، ترتدي ثوبًا ملونًا يكشف نحرها وينتهى عند ركبتيها، وتشعل السيجارة من السيجارة من علبة وضعتها في فتحة صدرها، وتحصل على إمدادت مستمرة من الشاي والقهوة. أما الثالثة فسيدة وقور، سمينة، (من طراز الخنزيرة، الحيوان لا السيارة) في رداءٍ حريريٍّ سمني اللون غطَّى جسدها حتى أصابع القدمين، أحاطت وجهها بطرحة ثبتت من جانبَين بدبوَسين لامعَين ينتهيان بحبتَي لؤلؤ، وأخفت عينيها خلف نظارةٍ شمسية سوداء، مزخرفة الإطار.

جاءت وقفته إلى جوار شاب في مثل سنه، منكوش الشعر، يدخن في عصبية، يبدو عليه الذعر. ألصق وجهه بشبكة القفص ليقترب قدر الإمكان من أمٍّ باكية تردد دون توقف: يا عيني يا بني يا صالح! أفضى إلى شرف بأنه طالب بالمعهد الفني الصناعي، ثم تبادلا اللسانيات، كان قد تلقى خطابًا من مجهول يخبره أن شقيقته الصغرى وعمرها سبعة عشر عامًا على علاقة بشاب وحملت منه، واجهها بالخطاب، فأنكرت، تحداها أن تذهب معه إلى المستشفى للتأكد من صدق أقوالها فوافقت، اصطحبها دون علم والديهما بعد أن أخفى سكينًا في ملابسه، وفي الطريق وعد بمساعدتها وعدم إفشاء السر لأحد إذا قالت له الحقيقة. اطمأنت إليه البلهاء واعترفت بأنها كانت على علاقة بشاب وعدها بالزواج ثم غرَّر بها. وهنا لم يتمالك نفسه فأخرج السكين من ملابسه وإنهال عليها طعنًا في أجزاء متفرقة من جسدها، ثم أسلم نفسه للشرطة معترفًا بفعلته، فقدمته النيابة إلى المحاكمة بتهمة القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد.

أعاده ذكر التوصيف القانوني إلى الحاضر فانهار باكيًا، واقتعد الأرض ليكون قريبًا من رأس أمه وتختلط دموعهما. وقفز مكانه شابٌّ آخر وسيم الملامح، ذو شعرٍ ناعم بالغ السواد، في نفس العمر، وربما نفس المصير، لكنه على عكس الاثنين الآخرَين بدا مستسلمًا لا مباليًا، يتطلع حوله كأنه يتفرج على فيلم. الفيلم الحقيقي بدأ من عدة سنوات، لا في حديقة الحيوان وإنما في الموسكي، كان في الصف الثاني الإعدادي، ويعيش وأربعة من الأشقاء والشقيقات ووالديهم في غرفتَين أسفل السلم بمنزلٍ قديم بمنطقةٍ جبليةٍ عشوائية. وبسبب صيام رمضان المرهق أرسله أبوه العليل الذي يتاجر في إبر الخياطة المثبتة في بطاقاتٍ صغيرة إلى تاجر بالموسكي. هناك تقابل مع حسن زرافة.

قدم زرافة نفسه على أنه صاحب محل بمصر القديمة يريد كميةً كبيرة من بطاقات الإبر، ودعاه لعقد الاتفاق في مقهى بالحسين (أهناك مكان أكثر ملاءمة في الشهر الكريم؟). كان السعر مغريًا، يتضمن عمولةً معقولة للصبي حجاج، مُهرت بدعوة للإفطار لاقتراب وقت المغرب، تلاها شرب الشاي والمثلجات على مقهى برمسيس، ومحاولةٍ فاشلة لإقناعه بتدخين السجائر التي سببت له سعالًا حادًّا، فكرس زرافة نفسه لتعليمه شرب الشيشة ولعب الورق حتى تجاوزت الساعة منتصف الليل فأبرز ورقته الأخيرة: لو روَّحت الوقت أبوك حيضربك، تعالى معايا أحسن. أنا متجوز وعندي أولاد في سنك تنام معاهم والصبح روَّح. وعندي كمان شيشة.

لم ينصرف حجاج في الصباح التالي ولا الذي بعده، ولم يرَ أسرته أو مدرسته منذ ذلك اليوم؛ فقد أخذه ابن الزرافة إلى عزبة إسطبل عنتر بمصر القديمة، وغرفة واحدة تضم حيوانًا آخر يدعى سيد غوريللا، وأكثر من ١٥ طفلًا لا يتعدى أصغرهم سن الثمانية، أثار منظرهم فزع الزبون الجديد فأراد الانصراف، لكن دخول الحمام ليس مثل الخروج منه كما سبق أن اكتشف الكعب الداير.

أبرز زرافة مطواة، فبكى حجاج وأخذ يصرخ، فضربه بعصًا كبيرة على رأسه لم يشعر بعدها بشيء. الأولاد الآخرون هم الذين أخبروه عندما أفاق بما حدث، لا شيء أكثر مما حدث لهم. فقد اعتدى زرافة على شرفه، وداوم على الاعتداء عليه طوال شهرٍ كامل، ظل خلالها حبيس الغرفة، إلى أن ظن أن ترويضه اكتمل فصحبه إلى العمل. بيع بطاقات إبر الخياطة في وسائل المواصلات كغطاء للعمل الحقيقي.

هل استسلم؟ لا، في أول يوم قرر الهرب داخل أتوبيس، فغافل زرافة ونزل من الباب الآخر. فوجئ أمامه بالحيوان الآخر الذي يشترك في السكن والحريم والمهنة، النتيجة علقة بخرطوم جلد وإنذار ناجع، لو كرر المحاولة سيشوه وجهه الوسيم بماء النار، ويخطف أحد أشقائه، أو يعتدي على والدته. ولتكن له عبرة في أحد عيال سيد غوريلا الذي حاول الهرب فقطع سيد رقبته وشرب من دمه.

هكذا مضت السنوات انتقل خلالها حجاج مع صاحبه من إسطبل عنتر إلى دار السلام ثم مدافن اليهود، كما انتقل من إبر الخياطة إلى الأمشاط والمناديل الورقية ثم البانجو، وهنا تنبهت له الشرطة اليقظة فعقدت من أجله الاجتماعات المكثفة على أعلى مستوى في لاظوغلي وباب الخلق، ورسمت خطةً محكمة للإيقاع به، فتنكر له خصيصًا عقيدٌ محترم اقترب منه أثناء وقوفه على ناصية شارعَين في مصر الجديدة وقدم له عشرة جنيهات، وعندما شرع حجاج في إخراج لفافة البانجو من جيبه أطبق عليه الكمين، وعثر معه على ثماني لفافاتٍ أخرى، اعترف بحيازتها بقصد الاتجار، فاستحق العقوبة المقررة وهي الإعدام.

ضم القفص أيضًا مجموعةً غريبة من عشرة رجال، أغلبهم ضامرو الأجسام، شاحبو الوجوه بطريقةٍ لافتة، يتنفسون بصعوبة ويصدر عنهم سعالٌ حادٌّ متكرر، اكتظت القاعة من أجلهم بجمهرة نساء في جلاليبَ سوداء وأطفال في جلاليب بلا لون، وعدد من المحامين والصحفيين. وكشفت اللسانيات أنهم من عمال حلوان الذين أضربوا عن العمل واعتصموا بمصنعهم؛ احتجاجًا على فصل عدد من زملائهم لأنهم طالبوا باحتساب أيام الجُمع ضمن المرتب؛ أسوة بالمستشارين وهم موظفون متقاعدون من أصدقاء رئيس مجلس الإدارة، عيَّنهم برواتبَ عالية لا يقلُّ الواحد منها عن الألف جنيه في الشهر، تكفي لحساب أيام الجُمع للعمال إلى يوم القيامة.

هل تعبيرهم عن الرأي هو الذي جاء بهم؟ أبدًا، الأهل هم السبب، فقد؛ فقد تجمعوا أمام بوابة الشركة لكي يطمئنوا على أزواجهم وأبنائهم ويزوِّدوهم بالطعام، لكن الشرطة منعتهم وألقت بالزاد والزواد في الترعة، وبقنابل الدخان في المصنع، لم يجد الأهل وسيلة للتعبير عن رأيهم سوى الحجارة، وتصورت الشرطة أنها تواجه انتفاضة على الطريقة الفلسطينية، وردَّت بإطلاق الرصاص على الطريقة الإسرائيلية، فقتلت ثلاثة وجرحت سبعين ثم ألقت القبض على الباقين.

شكوى أخرى جانبية لا علاقة لها بالموضوع وإنما تفسر الشحوب والضمور والسعال، لديهم ولدى الأهل والشرطة معًا، فضلًا عن الاستعداد للمغامرة (بالإضراب والاعتصام): فمداخن المصانع تنفث في الهواء عشرين طنًّا من الأسمنت كل يوم.

أخته فاطمة وأمه اللتان لم تذهبا في حياتهما إلى حلوان، بدت عليهما نفس المظاهر عندما اقتربتا من القفص في وجل، وكلٌّ منهما تحمل في إحدى يديها كيسًا منتفخًا من البلاستيك. كانت الأم ترتدي جلبابًا داكن اللون وتغطي رأسها بطرحةٍ سوداء، وتنتعل صندل الخروج الأسود المعهود، وكانت الأخت ترتدي الفستان الوحيد الذي تذهب به إلى البوتيك وتلف شعرها في إشاربٍ ملون لتعطي الانطباع بأنها محجبة، أما الأب فظل جالسًا في نهاية القاعة، جزعًا مهدمًا يتمتم الصلوات والدعوات، محتفظًا بالمسافة التي حرص عليها دائمًا بينه وبين ابنه، وطالما أثارت ضيق الابن وتساؤله عن حقيقة عواطف الأب، لكنها الآن لقيت رضاه.

تلفَّت شرف حوله بحرج عندما رفعت أمه منديلًا تجفف به دموعها، وطلب منها في غضب أن تكفَّ عن البكاء، ثم سألها إن كانت قد وجدت محاميًا؟ فأجابت بالإيجاب، جففت دموعها، وعندئذٍ شرع في البكاء وهو يشرح لها ما يتعرض له من مهانة، وكيف أن إرسال الخطابات لا يُسمح به للسجين إلا بعد مرور أسبوعَين على تشريفه، وكيف حاول مع ذلك الكتابة إليها. المطلوب: الانتقال إلى عنبر الملكيين وما يستتبع ذلك من لوازم (ملابس وطعام ومزيد من السجائر).

تفجرت دموع الأم من جديد، وظلت تتطلع إليه وهي تبكي في صمت، فتشاغل عنها بالفرجة، واتجهت أنظاره مع الجميع إلى حشد من المحامين بأروابهم السوداء ولجوا القاعة في صحبة رجلٍ قصير القامة في ملابسَ أنيقة، تعرَّف شرف في الحال على بذلة من انتاج «إيف سان لوران»، وحذاء من طراز «بالي»، ونظارةٍ طبية ذات إطار من طراز «كارتييه» يحتل مساحةً كبيرة من الوجه، كان شعر الرجل مصففًا في عناية وشاربه محفوفًا على شكل خط فوق الشفتين، ويتحرك بطريقةٍ متخشبة، وهو يبتسم بصورةٍ مستمرة، كمن اعتاد الوقوف أمام كاميرات الميديا.

تعرَّف شرف أيضًا على شحوب من نوعٍ مختلف؛ فإلى جوار الرجل المتخشب سارت امرأةٌ أطول منه، ذات بشرةٍ بيضاء موردة، ترتدي بلوزةً سماوية اللون بكمَّين قصيرَين للغاية ينتهيان تحت الكتف مباشرة فيكشفان عن ذراعَين ريانتين، وأسفلها جوب فضفاض أزرق اللون، كانت تضع نظارةً شمسيةً داكنة، لم تتضح هويتها ولا معالم وجهها الذي أحاطت به هالة من الشعر الأسود الكثيف استقرت فوق كتفَيها، إلى أن خلعتها لتكشف عن عينين سوداوَين حزينتَين، تحيط بهما تجاعيدُ خفيفة، وفم صغير رقيق الشفتين. واعتبر أشرف نفسه سعيد الحظ عندما أحضر لها الحراس مقعدًا وضعوه إلى جانب النافذة المواجهة له ليخففوا عنها من الحرارة، فجلست محافظة على انتصاب قامتها واضعة ساقًا فوق الأخرى، كاشفة عن انسيابهما وامتلاء ربلتَيهما.

الدولة المتهمة بالتراخي والرخاوة أبدت درجةً عالية من سرعة الأداء بواسطة ممثلها الذي تصدَّر القاعة، فتتابعت القضايا في سرعة البرق، لدرجة أن عم فوزي لم يدرك أن قضيته نُظرت، إلا عندما سمع نبأ التأجيل في نهاية الجلسة. أما شرف فقد تمكن من التقاط اسمه وهتف: أفندم. رأى شخصًا يتقدم إلى المنصة ويخاطب كاتب الجلسة في عجلة فيسجل الأخير كلماته ثم يهمس للقاضي بشيءٍ ما. هزَّ القاضي رأسه موافقًا وهمس بدوره للكاتب، همس الكاتب للمحامي فعاد إلى مكانه بين الجالسين بينما نادى حاجب الجلسة على متهمٍ آخر.

شرح له صلصة هامسًا: الظاهر المحامي بتاعك مجاش وبعت واحد بداله.

سأله: وبعدين؟

قال: ولا قبلين. حتتأجل.

التجأ القاضي إلى غرفته بعد ساعة قضاها شرف في تأمل ساقَي رفيقة الرجل المتخشب. وبعد حوالي نصف ساعة خرج الحاجب ونادى على أم قويق فأخرجوها من القفص واقتادوها إلى الغرفة … عادت بعد عشر دقائق دون أن يبدو شيء على وجهها. ثم نودي على ثابت محفوظ، فتقدم الرجل المتخشب من الغرفة يتبعه مرافقوه من المحامين.

استغرق الإنترفيو مع القاضي قرابة الساعة، كان صلصة لا يكف خلالها عن الحركة في أرجاء القفص، ينصت للأحاديث الجارية بين المتهمين وأقاربهم ويستفسر عن القضايا المنظورة ويدلي بآرائه في الأحكام المتوقعة ويلحُّ على معارفه كي يحضروا له دواء توسيفان المضاد للسعال، آخِذًا نفسه بين الحين والآخر خلف مؤخرة المرأة ذات الشعر الملون. عن هذا الطريق عرف شرف أن الرجل المتخشب من كبار موظفي الحكومة ويرأس الهيئة التي تتولى توزيع الأسمنت على التجار، وأنه من الذين وُسِّع عليهم في الرزق؛ إذ وُجد معه عند القبض عليه مليونين وربع مليون جنيه نقدًا، ومع ذلك خرج من غرفة المداولة عابسًا. وفوجئ سكان القفص بانضمامه إليهم فأفسحوا له مكانًا وتراجعوا بعيدًا في احترام، وتقدمت رفيقته من القضبان التي تعلق بها بيديه الاثنتين (كاشفًا لعينَي شرف اليقظتين عن ساعة ذهبية من طراز «رولكس») ووقفت تتطلع إليه (بعد أن وضعت نظارتها المعتمة كي لا تكشف عن حقيقة مشاعرها) بينما انهمك في حديثٍ هامس مع محاميه.

كان قاتل أخته قد اقتيد إلى غرفة المداولة وخرج بعد دقائق، وقبل أن يبلغ القفص تصاعدت الزغاريد. وأحاط به أقاربه وجُلُّهم بالملابس الريفية، ونشط بينهم عامل البوفيه الذي أحضر صندوقًا كاملًا من الكوكاكولا وضعه قرب المنصة، قاد الحراس صالح إلى القفص، وما إن دخل حتى اتضحت التفاصيل: حكم القاضي عليه (أو له كما تبين) بسنة مع وقف التنفيذ.

أحدث النبأ تأثير السحر على القتلة، بما فيهم شرف، لما كشف عنه من احتفاءٍ بالغ بقيمة الشرف، فلم يعبئوا بتأجيل قضاياهم لمدة ٤٥ يومًا أخرى، وغادروا القفص إلى قاعة الانتظار في معنوياتٍ مرتفعة، فيما عدا الدكتور ثابت الذي كان واجمًا، ولم يخفف من وجومه عرض الإستربتيز الذي كان في انتظارهم عندما صعدوا إلى سيارة الشرطة، والذي قدمه راكب يرتدي ملابس السجن المقيَّفة، فقد وقف فجأة وفك رباط بنطلونه وتركه يهبط حتى قدمَيه وتبعه بالكيلوت كاشفًا عورته ثم أقعى القرفصاء، معطيًا مؤخرته لضيف الشرف، ومد يده إليها بلفافةٍ صغيرة من البلاستيك، وبحركةٍ سريعة دسها إلى آخرها في استه، ثم اعتدل واقفًا وأعاد ملابسه إلى وضعها دون أن يعبأ بنظرات الآخرين أو بنظرات الحارس الذي تابع كل ذلك من نافذة الباب الخلفي دون اكتراث.

لم تكن المؤخرة العارية الوحيدة التي قُدر لشرف أن يراها في يومه. فعندما بلغوا السجن وتم تفتيشهم للتأكد من أن الممنوعات التي أحضروها مخبأة في أماكنَ أمينة، احتجزوهم في قاعة الاستقبال دون ما إيضاح؛ كي لا يعبروا الفناء الذي حُجز لطقس العروسة. ومن كوةٍ صغيرة مسوَّرة رأى شرف مشهدًا سينمائيًّا: مائدة مغطاة بمفرش أحمر اللون يجلس خلفها ثلاثة ضباط مهيبو المنظر، أخفوا عيونهم بالنظارات السوداء المعهودة، وأمامهم هيكلٌ خشبي غريب عبارة عن قائم منفرج الساقين ينتهي من أعلى بذراعين تتوسطهما دائرةٌ مفرغة، إلى جوار الهيكل الصليبي وقف أحد السجناء بين اثنين من الحراس شارعًا في عرض ستربتيز، وسمع شرف سجينًا خلفه يقول: ده السوهاجي بتاع اللحمة.

كان يشير إلى ما وقع منذ أيام في طابق النفوس (جرائم القتل) عندما احتجَّ أحد المساجين على قطعة الجلد التي وجدها في اليمك وقذف بها في وجه الصول معلنًا، للعجب، تمسكه بحقوقه التي تنصُّ عليها لائحة مصلحة السجون؛ وهي قطعتان من اللحم الأحمر (لا الجلد) في الأسبوع (لا في اليوم).

تفرَّج شرف على عقوبة التمرد التي تنص عليها لائحة مصلحة السجون: تقدم شخص في ملابس مدنية فأعطى حقيبته لحارس بعد أن أخذ منها مقياس الضغط، فثبته إلى ذراع المتمرد وقاس ضغطه، ثم كشف على صدره وظهره بالسماعة، وتناول حقيبته ومضى إلى المأمور فتحدث معه قليلًا، ثم جلس إلى جوار علي بلبل. وأشار المأمور بيده للحراس فأشاروا بدورهم للسجين الذي ارتمى فوق الصليب الخشبي بحيث استقرت رأسه وسط الدائرة وذراعاه فوق الذراعَين الخشبيَّين، وتجلت مؤخرته للناظرين في عريها التام، وبعد أن ربطوه إلى العروسة الخشبية بسيور جلدية تبادل حارسان ضربه لمدة ربع ساعة بشومة طولها نصف متر، تنتهي في أحد طرفيها بعدة قطع من الجلد لا جلدةٍ واحدة.

صعدوا أخيرًا إلى زنازينهم وهم لا يكتمون إعجابهم بصلابة المجلود الذي لم يفه بآهةٍ واحدة، نجمان آخران نازعاه بطولة اللسانيات: أم شرف (بفضل المحشي والملوخية والدجاج المحمر والباذنجان المخلل والبقلاوة والعنب والكانتالوب، التي وزعها على الزنزانة، بأريحية بررها لنفسه بأنها تتلف لو بقيت للغد) وصلصة (بفضل جعبته التي ضمت إلى جانب زجاجة «التوسيفان» دواء السعال ذي المنافع الجمة، التي تقاسمها مع بلحة؛ ما جمعه من معلومات عن نجوم القفص).

فأم قويق قطعت زوجها بالسكين إلى أجزاء صغيرة، وكان المرحوم سباكًا ذهب إلى الخليج وتركها تقوم بتربية الأولاد، وبعد غيبة عدة سنوات عاد ليستمتع بنتائج كدحه، فطردها هي والأولاد الثلاثة وتزوج من فتاةٍ صغيرة، والمرأة المحجبة الوقور صاحبة عمارة تتميز بالوعي الاجتماعي؛ إذ عنيت بالمساهمة في حل مشكلة الإسكان، فضاعفت طوابق عمارتها العشرين دون أن تعبأ بقواعد البناء الغبية؛ مما أدى إلى سقوطها في أول هزة للزلزال. أما السمراء الملونة فمؤخرتها طرية أكثر مما يجب لأن (طبقًا لصلصة) المؤخرة الممتازة هي الصلبة المتماسكة، وهي خبرة أكدها الزعيم بعد أن أخذ نصيبه من التوسيفان.

استمع الجميع إلى حديث المؤخرات بعيون لامعة، فيما عدا واحدًا انخرط بالبكاء. لم يكن عم فوزي وإنما كهلٌ أبيض شعر الرأس، امتلأ وجهه بالحفر والأخاديد، انضم إليهم بالأمس فاحتل مكان فلاح كفر الشيخ (الذي خرج بكفالة)، إلى جوار دلو البول، دون أن يتأفف. وظهر السبب بعد قليل؛ فالمهنة هي الصرف الصحي بالتحديد، والاسم بالنتيجة: حسن بكبورت.

هددت دموعه بتغيير جو السهرة، فهب المجربون إلى العمل. هتف به صنقر: صلِّ على النبي، وناوله صبري كوب ماء ونصف ليمونة، وأشعل له سوزوكي سيجارة كاملة. وكان عليهم أن يدفعوا الثمن.

تحولت دموع عم حسن إلى نهنهات سمحت له بالتقاط أنفاس السيجارة والتعبير عن نفسه: فهو يمارس مهنة الخراء منذ ٢٤ سنة، ومع ذلك لم يتجاوز مرتبه ۹۲ جنيهًا.

– عندي سبعة في المدارس، ده حتى ما يكفيهومش عيش. طب ويعملوا إيه الوقت؟

على العكس مما تبادر إلى أذهانهم، فإن عم حسن لم يدخل السجن بسبب محاولة تصحيح الوضع، وإنما لأن صبيًّا مجهولًا سقط في بالوعة منزوعة الغطاء ومات.

– هو أنا اللي شلت الغطا؟ ميروحوا يدوَّروا على اللي شالها.

استخلص الحكمة: إحنا محكوم علينا بأكل الخرا من ساعة متولدنا، ولو محدش وقع في البلاعة إحنا اللي نموت فيها. الحكومة مبتديناش معدات كفاية أو ملابس وقاية، والنتيجة زي ما انت شايف: السكر والضغط والهرش.

شفع حديثه بالهرش أمام الجميع. على العكس منه لم يكن شرف يجرؤ على الهرش علانية، رغم أنه كان يتوق إلى ذلك بسبب ما في جعبته. وحال القيظ بينه وبين ما فعله مرة في الفجر، عندما استغل انخفاض درجة الحرارة، فبسط بطانية فوقه بحيث غطت وجهه وكل جسمه وثبتها خلف مؤخرة رأسه ثم رفع ركبتيه إلى أعلى وجذب الطرف الآخر من البطانية أسفل قدميه فصارت مشدودة كالوتر وتوفرت أسفلها مساحة واسعة للتنفس والهرش دون أن يلحظ أحد.

راود نفسه على الصبر حتى ينعس الآخرون. وكان هو أول من راح في سبات استيقظ منه فجأة قرب الفجر على أصوات هرش حادة.

كان ينام بين صبري وسامي عازر، وهو عامل مصبغة في الأربعين، سبق عم حسن إلى الالتحاق بالزنزانة، فصار الآن يفصل بينه وبين شرف، دون أن يحرك الأخير رأسه استطاع أن يتبين صبري راقدًا على ظهره، وذراعيه إلى جانبيه، غارقًا في نوم عميق، وكما كان سامي عازر بالنهار منطويًا على نفسه، عازفًا عن الكلام، دافنًا رأسه في كتابٍ صغير يخرجه من كيسه ويفتحه على صفحة بعينها لا تتغير، رقد الآن منطويًا على نفسه، في وضع الجنين، دافنًا رأسه بين ذراعَيه.

استمر صوت الحك المتواصل، فرفع شرف رأسه ببطء وتطلع حوله، كان الجميع نيامًا والسيمفونية المعهودة تتردد بقيادة بطشة، وبين المقاطع كانت هناك لحظات توقف تسمح بالتقاط موسيقى من نوعٍ آخر. وبفضل شعاع من الضوء نفذ من كوة الزنزانة، قادمًا من مصابيح السور الخارجي، ميز يد عم حسن وهي تتحرك بعنف بين فخذيه. ألقى نظرةً أخرى حوله أكدت له أن الآخرين غارقون في النوم. عندئذٍ قرَّر أن يستغل الغطاء الصوتي المتاح، ففك سرواله في حذر وهو يعد بسرعة ملفًا مكثفًا من صور اليوم، تتصدره ساقا رفيقة الدكتور ثابت.

لم يستغرق منه الأمر كثيرًا، على عكس عم حسن الذي بدا أنه يواجه صعوباتٍ جمة؛ مما مكن بطشة من اكتشاف ما يجري.

كان النوبتجي بحكم تجربته الطويلة قادرًا على التمييز بين أنواع الهرش. هكذا أرغم عم حسن في الصباح على أن يتعرى، فكشف عن عورةٍ حمراء ملتهبة، وآثار دماء بين الفخذَين. وعلى الفور أسرع بطشة إلى الحارس الذي جاء برفقة تومرجي العيادة، وهو حارسٌ متنكر في بالطو فقد لونه الأبيض من زمان، أمرهم جميعًا أن يحملوا نمرهم وحاجياتهم (فيما عدا المأكولات والسجاير) ويتبعوه إلى العيادة.

كعادة الرؤساء لم يتبرع بطشة بتفسير ما يجري، ورفض الإجابة على أسئلة رعاياه، صنقر هو الذي أفضى ببعض المعلومات: عم حسن بكبورت مصاب بالجرب الذي تنتقل عدواه بسرعةٍ خاطفة؛ ولهذا لا مفر من عزله في المستشفى.

أسفر صنقر أيضًا عن مشاعر القيادة: أنا خايف يكون عدانا، أصل العلاج صعب، لازم العيان يستحمى بالليف الخشن والمية السخنة، ويدهن مرهم يشتريه على حسابه.

كانت العيادة في الطابق الأرضي من مبنًى مستقل يتألف من طابقَين، خصص الأعلى للمستشفى. وكان الممر المؤدي إلى غرفة الطبيب مزدحمًا بطابور من مسجونين ينتظرون الفحص، بالإضافة إلى أجسادٍ ذابلةٍ ملقاة على الأرض، تتصاعد منها رائحةٌ عفنة، وتتناثر حولها قطع الشاش الملوثة بالدم.

لم يكن السبب هو كثرة الزبائن وإنما خطأ في المصطلح. ذلك أن المستشفى الواقع في الطابق الأعلى لم يكن مخصصًا للمرضى وإنما للمعافين: مجموعة من أصحاب اللحى الذين حاولوا اغتيال وزير الداخلية يتعافون من أثر اعترافاتهم. حوتٌ كبير، متزوج حديثًا، ينتظر المحاكمة ويهرش طول الوقت ليرى زوجته في زيارة خاصة (كي تهرش له). واحد فقط استثناء من القاعدة، اتهم بسرقة سيارة، وعندما رفض الاعتراف حقنه ضابط الشرطة في ساقه بمزيج من محتويات المرحاض، فأصيبت بالغرغرينا.

عندما يئس الجميع من مجيء الطبيب في يومه، التجأ التومرجي للضابط علي بلبل، الذي التجأ إلى وكيل السجن، الذي تلفن للمأمور في منزله (حيث كان ملتجئًا إلى زوجته الصغيرة). وفي تصرفٍ فريد نادرًا ما تعهده البيروقراطية، أمر المأمور بالإجراء الضروري إلى أن يأتي الطبيب في الغد.

قاد الحراس المجموعة (تاركين عم حسن في المستشفى لا المنتجع) إلى الحمام العمومي (الذي يترددون عليه مرة في الأسبوع من أجل المكاشفة الجماعية). تركوا حاجياتهم في الشمس وخلعوا ملابسهم كلها ووضعت في كوم واحد على جانب، واندفعوا جريًا تحت الدش الساخن وهم يهللون كالأطفال، فيما عدا واحدًا.

زعق الحارس في سامي عازر الذي ظل واقفًا بكامل ملابسه في مدخل الحمام: اقلع يا مسجون.

لم يتحرك سامي وإنما ظل واقفًا وكيسه في يده، فتولى بطشة الأمر.

تقدم منه وهو يقول: معلهش يا حضرة الصول، أصله مينكشفش على رجالة.

ولسامي قال مهدهدًا: اقلع يا سامي. متخفش، محدش حيعملك حاجة. حط الكيس في الشمس واقلع.

تشبث سامي بكيسه وتلفَّت حوله بنظراتٍ مجنونة كأنما يبحث عن منفذ.

همس له بطشة: إن مقلعتش حيفتكروك عيان ويودوك الحجر الصحي. إنت كنت نايم جنبه.

انصاع سامي ففتح الكيس وتناول كتابه، احتفظ به في يده اليسرى ثم أغلق الكيس وخطا إلى الخارج فوضعه إلى جانب بقية الأكياس.

قال له صنقر مهدهدًا: دا اللي انت خايف عليه؟ متخفش. خده معاك تحت الدش.

صاح الحارس: وبعدين بقى؟ هات ده.

وتقدم منه مادًّا يده ليختطف الكتاب. أبعد سامي يده بعيدًا فسقط منه. وانفرجت صفحاته عن صورةٍ صغيرةٍ ملونة تدحرجت على الأرض.

انحنى الحارس قبل أن يتمكن سامي من منعه والتقط الكتاب والصورة، تعرَّف في الكتاب على الإنجيل الذي يعرفه لا بحكم دينه وإنما بحكم عمله. ولهذا لم يفُه بكلمة كي لا يجرح المشاعر المقدسة. لكن الصورة كان لها شأنٌ آخر.

قال وهو يرفعها أمام عينيه: الله! دي زي القمر أهيه، أمال مش عاوز تقلع ليه؟

قال سامي بصوتٍ واهن: اديني الصورة.

قال الحارس: خليها معاي شوية حاديهالك لما تخلص حمام.

استسلم سامي وخلع ملابسه ودخل تحت الدش الساخن، وبعد خمس دقائق نفخ الحارس في صفارته معلنًا انتهاء الحمام. استعاد سامي كتابه وصورته، وتسلم الجميع ملابس ونمرًا جديدة، وعادوا إلى زنزانتهم ليبدأ تنفيذ الشق الثاني من إجراء المأمور؛ وهو الحبس. فلم يغادروها إلا قبل توزيع العشاء بقليل، ولمدة عشر دقائق ذهبوا خلالها إلى دورة المياه، التي أخليت تمامًا من أجلهم كي لا يختلطوا بأحد.

على العشاء كان الموقف واحتمالاته (مدة الحبس) ونتائجه المباشرة (تخفيف الزحام) هو الموضوع السائد والذي كشف لأشرف حقائق جديدة عن عالم ما وراء الأسوار؛ فالمال الذي ظن أنه تحرر من سطوته بمجرد عبور العتبة الأولى، يشتري هنا كل شيء تقريبًا: بخمسة جنيهات يترك الحارس باب الزنزانة مفتوحًا طول النهار، بخمسين يحولك طبيب السجن إلى مستشفى خارجي لتقضي عطلة نهاية الأسبوع أو الموسم. بمائة يتم تهريب أي ممنوعات ابتداء من الويسكي حتى الحشيش. بعدة آلاف تنال عفوًا صحيًّا أو يقرر الطبيب أنك مجنون لتُحال إلى مستشفى الأمراض العقلية، كخطوة أولى للانتقال نهائيًّا إلى مجتمع العقلاء.

كسر بطشة الدائرة اللسانية بأن أومأ إلى سامي قائلًا: فرجنا بأه على الصورة.

رد هذا وهو يغمس لقمة في طبقه: ما تستهلش.

قال صنقر: برضه نشوفها.

مد يده إلى كيس سامي ونظر الأخير إلى يده لكنه لم ينبس بحرف ولم يعترض.

قال بطشة: دور في الكتاب.

أخرج صنقر الكتاب المقدس وفر صفحاته حتى عثر على الصورة فأخرجها وعرضها للضوء ثم قدمها لرئيسه الذي صفر بشفتَيه: يا بن الهرمة، حتة مرة.

تخاطف الجميع الصورة، فطالعهم سامي بوجهٍ متجهم تعلوه نظارةٌ طبيةٌ قاتمة، وقامةٍ قصيرة بالغة النحافة يعلوها قميص أبيض شُمِّرت أكمامه، وسيجارة في اليد. لم تكن صورته هي التي أثارتهم وإنما الحسناء الممتلئة التي وقفت إلى جواره في ثوب زفافٍ أبيض ذي فتحةٍ عريضة تكشف عن منبت ثدييها.

تابع سامي انتقال زوجته من شخص لآخر دون أن يبدو على وجهه أي تعبير.

سأله سوزوكي: إنت متجوز من إمتى؟

أجاب: من حداشر سنة.

السؤال التالي جاء من سامبو بحكم تخصصه: إنت قتلتها، صحيح؟

لزم سامي الصمت وهو يحدق في الأرض ثم قال: الشيطان شاطر.

– لازم مشيها كان وحش.

بُهت سامي ورفع رأسه مواجهًا سامبو. وتوقع الجميع معركة، لكن سامي كان يفكر. هزَّ رأسه وقال: كانت بتخرج كتير بعد ما أروح الشغل؛ أصل إحنا مجبناش ولاد.

أدرك بعد لحظة انتفاء العلاقة السببية بين كثرة الخروج وعدم الإنجاب فسارع بالتصحيح: يوم الحادثة كنت قايم من النوم فقعدت تعايرني إني مبصرفش عليها كويس ومبدوَّرش على شغلانة أحسن أو أسافر، وإني مبخلفش، قمنا اتخانقنا، مسكت في رقبتها، ومدريتش بنفسي إلا وأنا في الشغل. لما روَّحت المغرب لقيتها ميتة، فبلغت البوليس.

مدَّ يده إلى إبطه وأخذ يهرش، فتبادل الآخرون النظرات، هدأت هواجسهم عندما أبعد يده. وجاء دور شرف الذي شعر بقرصة في جنبه، تجاهل الرغبة في حك مكان القرصة كي لا يلفت الاهتمام. وانتظر وهو يجز على أسنانه ويتطلع إلى الآخرين. كانت نشأته على حافة المعادي قد وسعت مداركه، فأصبح قادرًا على التمييز بين أحوال القرص وتجلياته (من قبيل القرصة الكاذبة التي يشعر فيها المرء بأعراض القرصة دون أن تحدث). هكذا اطمأن عندما انتقلت القرصة إلى كاحله؛ فهو مكان مفضل لدى البراغيث.

استمر الحبس طيلة اليوم التالي دون أن يظهر الطبيب، وحُرم سامي من زيارة القسيس الذي يأتي كل أسبوع في سيارة مرسيدس للاطمئنان على أرواح رعاياه. وارتفعت درجة حرارة الغرفة فتخفف النزلاء من ملابسهم حتى أوشكوا على التعري، فيما عدا شرف الذي خجل من الكشف عن الدهون المحيطة بثدييه. ودب الشجار بين سامبو وصنقر، وبين صلصة وبلحة، وبين عم فوزي وجابر، وأوشك سوزوكي أن يمسك في رقبة بطشة عندما لم يجد صابونته، وبدا بطشة نفسه مهتاجًا لا يستقر في مكان لأنه لم يعرف الحبس منذ دخل السجن، كان يهرع إلى الباب بين الفينة والأخرى فيقفز في الهواء ويمسك بقضبان الشراعة بأطراف أصابعه ثم يرفع جسده إلى أعلى ثانيًا ساقيه ويستدير بحيث يتكور في الفتحة مستندًا بساقيه إلى الحائط، ويبدأ النداء على الزنازين الأخرى والحراس متسائلًا عن الأخبار.

هكذا وصلهم نبأ الشجار الذي نشب في عنبر الملكية بين واحد من السُّنية وسجين مسيحي؛ بسبب تعليق أبداه الأول على ارتداء الثاني للشورت. وسرت إشاعة بأن السُّنية قرروا قتل جميع المسيحيين، فتجمَّع هؤلاء في فناء العنبر وهم في حالة فزع ورفضوا دخول الزنازين.

شحب وجه سامي عندما سمع بالأنباء فقال له: بطشة وهو يبتسم بخبث: إنت حتلاقيها منين ولا منين يا سامي!

تدخل جابر فجأة: متخفش يا سامي، طول ما انت معانا محدش يقدر يقرب منك.

لم يهدأ بال سامي إذ أخذ يرتعش. وعرض عليه سوزوكي نصف سيجارة ثم قال: أهو انت لازمك برشامة، تخليك فل، ولا يهمك، دواك عندي.

فتحداه بطشة: لأ عندي أنا يا سوزوكي.

رغم الصليب الصغير المدقوق في باطن رسغ اليد اليمنى لعم فوزي، فإنه لم يعر الأمر اهتمامًا؛ إذ كان منصرفًا بكل كيانه إلى الألعاب: قطع شطرنج من لباب الخبز، وعرائس من القماش على صورة ابنة أخته يجمع لها كل ما تقع عليه يده من فضلات من خرق وقش وورق صحف وعلب كرتون.

انتهت الأزمة الطائفية قبل التمام؛ إذ نفى أمير السُّنية للمأمور إشاعة المذبحة، فعاد المسيحيون إلى زنازينهم، وهدأ روع سامي قليلًا. ومع ذلك نشط سوق البرشام بعد العشاء وهبطت المنافسة بين بطشة وسوزوكي بالأسعار.

عند ظهر اليوم الثالث أخذوهم إلى الطبيب الذي فحص أصابعهم ثم ألقى نظرةً عجلى على عوراتهم وأصدر حكمه بالبراءة.

في طريق العودة إلى الزنزانة تداولت القيادة في الأمر وقال صنقر مستوحيًا تجاربه: أنا خايف نكون اتعدينا بصحيح!

صاح بطشة الذي راوده نفس الشك: أما ابن قحبة صحيح! الراجل قالك مفيش حد اتعدى.

قال صنقر: ولو كان كداب؟

خبط بطشة كفًّا بكف: سبحان الله! ويكدب، ليه؟

قال صنقر: عشان سمعة السجن.

تدبر بطشة الأمر طويلًا بحثًا عن ثغرة في تحليل معاونه حتى وجدها أخيرًا في شخص عامل الصرف الصحي: ويعمل ايه في البكبورت؟ حيقول كمان، إنه مش عيان؟

– لا. يقول إن عنده هرش عادي.

نوع من أنواع الهرش العديدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤