٦

أخذني الحارس مع عم فوزي إلى المطبخ لنحل محل مسجونَين خرجا إلى محكمة الاستئناف، كان هناك أربعة مساجين من الذين صدرت عليهم أحكامٌ متفاوتة، وحارس وأسطى بدين في جلباب بلدي، عهد إلينا الأسطى بتنظيف جدران المراجل وأواني الطهي الضخمة ودلاء التوزيع ثم تنظيف الأرض، وأثناء ذلك وضع أحدهم كمياتٍ كبيرة من نبات الرجلة في أحواض الغسيل ثم رفعها ونقلها إلى طاولة خشبية عريضة وما زال الطين يسيل منها. رأيته يقطعها بسرعة إلى أجزاء صغيرة يزيحها بالسكين إلى حافة الطاولة لتسقط في دلو، وتولى سجينٌ آخر رفع الدلو وأفرغ محتوياته في مرجلٍ كبير يتصاعد منه البخار فوق شعلةٍ قوية تغذيها أنبوبة غاز.

انصرفنا إلى تفريغ محتويات عدة أجولة من الفول الناشف في دلاء وُضعت تحت الماء. وعكف آخران على تفريغ جوالين من الأرز في إناءٍ كبير وضعاه تحت حنفية المياه، وبعد أن قاما بتقليبه عدة مرات أفرغا مياهه وأضافاه إلى مرجل الرجلة دون أن يعنيا بتنقيته من الشوائب.

أعد الأسطى برادًا من الشاي فوق نارٍ صغيرة، ووزع علينا أكوابه، ثم انتحى جانبًا هو والحارس وجلسا يشربان الشاي ويدخنان وهما يثرثران. ظهر سجينان بعد قليل يحملان عجلًا كبيرًا مذبوحًا تتساقط منه الدماء، فألقيا به فوق طاولةٍ خشبية وانصرفا، نهض الأسطى فاستبدل ملابسه بإحدى بدل السجن وشمر كمَّيه، ثم تناول سكينًا كبيرة وتقدم من الذبيحة بعد أن استدعاني وطلب مني أن أمسك بها.

خلص اللحم من عظام السيقان وانتزع الكبد والكلوتين والقلب ووضعهم جانبًا، ثم أضاف إليهم قطعًا من الفخذين والكتفين، وكون كومًا ثانيًا من اللحم الخالص، وسرعان ما تحول العجل إلى شبه هيكلٍ عظمي فقطعه إلى أجزاء صغيرة انتقى منها قطع الدهن والجلد وألقى بها في دلو حمله عم فوزي وألقى به في مرجل الرجلة.

وجَّه الأسطى اهتمامه بعد ذلك إلى الكوم الأول فانتقى أفضل أجزائه ووضعها في كيس بلاستيك وعهد إلى أحد المساجين بأن يحملها إلى نوبتجي سيادة المأمور، ثم ألقى بالباقي في حلة متوسطة الحجم وطلب مني أنا وفوزي أن نقشر له كميةً كبيرة من البصل، وسخر منا عندما انهمرت دموعنا.

مسحت دموعي ومخاط أنفي في كم سترتي وقلت له: أنا عمري ما قشرت بصل.

لوى شفته المتهدِّلة في احتقار: وعامل راجل؟

انتهينا من تقشير البصل فطلب منا أن نغسله جيدًا وانصرف إلى توزيع كوم اللحم الثاني في أكياس بلاستيكية مختلفة الأحجام. ألقينا البصل في أحد الأحواض ودعكناه جيدًا تحت الماء، ثم تعاونا أنا وفوزي في تقطيعه إلى أجزاء دقيقة وأضفنا إليه حفنة من الملح وأخرى من الفلفل الأسود وثالثة من البهار. ثم أسقطنا الخليط في حلة الكبد، وقلَّب الأسطى المحتويات بمغرفة كبيرة ثم وضع الحلة فوق شعلةٍ صغيرة.

قلت له: بقى الحلة دي حتكفي المساجين؟

أجابني هازئًا: إنت فاكرها عشانكو؟

تناول أحد الأكياس وأعطاها لحارس الفرن الذي حمل إليه كومًا من أرغفة الخبز الطازجة المعتنى بها والتي تختلف تمامًا عن كتل العجين التي توزع علينا تحت هذا الاسم. وبعد قليل جاء حارس المستشفى وأخرج من جيوبه كومًا من البيض المسلوق أعطاه للأسطى الذي أعطاه كيسًا من اللحم مقابله. وتلاه أمين المخازن الذي أحضر كيسًا من العجوة وآخر من الحلاوة الطحينية، وكان حارس المطبخ يتابع من مقعده باهتمام هذه العمليات.

تتابع مجيء حراس السجن المختلفين، وكان حراس العنابر والعاملون في المكاتب يقدمون للأسطى السجائر، بينما كان البعض لا يقدم شيئًا مثل حراس المغسلة وورشتي النجارة والسجاد، ولم يكن من الصعب عليَّ أن أتصور الخدمات التي سيقدمونها لأسطى المطبخ وحارسه مقابل ما يأخذونه من لحم. واكتشفت أنه جنَّب أيضًا قدرًا من الفول نظفه بعناية ثم وضعه في قدرة تدميس كبيرة أقامها فوق شعلةٍ خافتة.

أذن المؤذن لصلاة العصر فمضى الأسطى إلى المسجد وعند عودته عكف على التقاط قطع اللحم والعظم من حساء الرجلة ووضعها جانبًا، أزلت آثار الدماء من فوق الطاولة والأرض ثم مسحتهما جيدًا. وانضم إليَّ عم فوزي ووقفنا إلى جوار الأسطى وعيوننا على كوم اللحم المسلوق. ناداه الحارس فمضى إلى باب المطبخ واشتبك معه في الحديث هو وحارسٌ آخر، ثم طلب من عم فوزي أن يناوله أحد الأكياس، وبقيت بمفردي إلى جوار كوم اللحم.

تلفتُّ حولي في حذر، كان المساجين الأربعة منهمكين في تعبئة الدلاء بالحساء، مددت يدي في خفة والتقطت أقرب قطعة إليَّ ودسستها في صدري وحركتها حتى استقرت فوق دكة السروال.

عاد الأسطى ليستأنف تقسيم اللحم إلى أكوام متباينة الحجم، وأعطى لكلٍّ منا قطعة في رغيف خبز رششنا فوقها الملح والفلفل. تذكرت أمي عندما تطهو دجاجة وتخصني وحدي دونًا عن أختيَّ بالكبدة والقلب وبقية الأحشاء بعد أن ترشها بالملح والفلفل.

أتيت على الرغيف بسرعة، كانت أول مرة أذوق فيها اللحم منذ يوم المحكمة. وكنت ما أزال جائعًا. وانتظرت أن يعطينا الأسطى شيئًا لكنه لم يفعل. لم يفارق طاولة اللحم؛ ولهذا لم أتمكن من اختلاس قطعةٍ ثانية ولا من التهام القطعة التي خبأتها في ملابسي.

عدنا إلى العنبر قبل موعد التمام بقليل. كنت جوعان لكن نفسي عافت حساء الرجلة. ولم أتمكن من التهام قطعة اللحم؛ فلو أبرزتها سيدركون كيف حصلت عليها، ولا يُستبعد أن يبلغ بطشة عني. وقررت أن أنتظر حتى ينام الجميع لآكلها.

لاحظت أن بطشة في حالة انسجام. وكان يرميني بنظراتٍ غامضة بين الحين والآخر. وروى لنا وهو يستنشق مسحوقه الأبيض نكتة فحواها أن اثنين من إياهم رغبا في الشفاء فذهبا إلى الطبيب، وبعد شهر التقيا فوجد أحدهما الآخر يُقلِّم عودًا من القصب ويقشره ثم يقطعه قطعًا صغيرة متساوية في حجم الأصبع.

خبط صنقر على فخذيه منفجرًا في الضحك واستعد الآخرون لأن يحذوا حذوه لكن بطشة صرخ في معاونه: لسه يا بن القحبة، النكتة مخلصتش.

کفَّ صنقر عن الضحك وانتظر.

دعك أعلى صدره بأصبعه الوسطى من اليمين إلى اليسار في بطء مستخرجًا فتلةً سوداء طويلة تأملها بإمعان قبل أن يلقي بها جانبًا ويستأنف الحكاية: لقاه بيقشر القصب ويعمله عيدان صغيرة فزعق فيه: الله، مش قلنا حنبطل؟ رد عليه الثاني: أصل أنا ما استريحتش على علاج الدكتور وعاوز أجرب العلاج بالأعشاب.

ارتجت الزنزانة من الضحك وتطلع إلينا بطشة في زهو.

تتابعت النكات وشارك الجميع ما عداي. كنت عاجزًا عن التركيز من الجوع، أفكر في قطعة اللحم وأنتظر الفرصة لالتهامها. وروى سوزوكي نكتة عن أبناء المنوفية أدركت أنها موجهة ضد بطشة الذي وُلد ونشأ في شبين الكوم: واحد منوفي دراعه مقطوع أبوه مات. الناس جم يعزوه، تفتكروا أخد العزا ازاي؟

تطلَّعنا إليه متسائلين، فقال وهو يرمق بطشة بركن عينه: خده على قفاه.

كانت نكتته التالية ضد سامبو: واحد أسود غطيس عنده عشر أولاد سود وفجأة مراته خلفت واحد أبيض، قعد مستغرب. وكان متأكد أنها متعرفش حد. استشار واحد صاحبه، صاحبه سأله: ازاي بينام معاها؟ قال له: زي الناس، قال له: يعني بقك على بقها؟ قال له: أيوه، فضل يسأله عن كل حتة في جسمه. الراجل زهق وزعق فيه: أنا مش عارف إنت عاوز توصل لإيه؟ التاني قال له: عاوز أعرف الحتة اللي خدت منها نور.

شاركنا سامبو الضحك، وقال مجاهد الذي لقبناه ﺑ «ضاعت القيم»: لو خرجت من هنا حازوَّر باسبور واطلع على بلد عربي.

كنا قد ألفنا تدخلاته المفاجئة التي لا تربطها علاقة ما بالحديث الجاري.

– معدش الوقت غير الأردن. العراق خلص والخليج میبخدش، ولیبیا مش مضمونة، مرة واحدة يروحوا مرحلينك من غير متاخد فلوسك.

روى صلصة قصص المصريين في العراق وفهلوتهم وتحايلهم على الرزق. فعندما يفشل الواحد منهم في إيجاد عمل يقف أمام إدارة الجوازات والبصمة حاملًا منشفة ودلوًا به مياه وصابون ليغسل أيدي الخارجين مقابل دينار للشخص، وأخيرًا زهقت منهم الحكومة فصارت المخابرات تتصيدهم وتشحنهم إلى القاهرة في توابيت.

التفت بلحة إلى مجاهد قائلًا: متروح إسرائيل؟ فيه ناس راحت وبتشتغل هناك حلو. بيدوا الواحد حقه على داير المليم!

قال ضاعت القيم: يا ريت!

تدخل سوزوكي في الحديث: اسمعوا دي … واحد عايز يتجوز واحدة خام متعرفش حاجة خالص، الناس دلُّوه على واحدة منقبة. اتجوزها. وفي أول ليلة مرضتش تخليه يقرب منها. يهديكي يرضيكي تقول له: عيب وحرام. الليلة الثانية نفس الحكاية. بعد أسبوع زهق. راح لشيخ الجامع وحكى له الحكاية. قال له: طب هاتها الجامع وقت الصلاة في الأودة اللي ورا. جابها. شيخ الجامع قال خطبة حولين ازاي المرة لازم تطيع جوزها وتسمع كلامه ومتتأخرش عن طلباته، وقال إن المجامعة لها مقام كبير جدًّا وثواب عظيم زي ميكون الواحد قتل يهودي، الاثنين رجعوا بيتهم. وبالليل الراجل قال لمراته يللا نقتل واحد یهودي، وافقته. عجبتها الحكاية فقالت له بعد شوية متيجي نقتل واحد تاني. التاني جاب ثالث لغاية ما الراجل فرهد. الولية دي كانت مكارة. بعد شوية قالت له: بقولك إيه … متيجي نحرر القدس بالمرة.

ضحكت وأنا أتثاءب، ولم يلبث النعاس أن استولى عليَّ. استيقظت خلال الليل لأتبول ورأيت بطشة يتبادل حديثًا هامسًا مع صنقر وسامبو. استأنفت النوم بعد لحظات ثم انتبهت فجأة على تأوهات وحشرجات بالقرب مني، رأيت الشاب الفلسطيني الذي انضم لنا أخيرًا، واحتل مكان حسن بكبورت، يحرك رأسه يمينًا ويسارًا وقد تجمَّع الزبَد على شفتيه، هززته حتى استيقظ ونهض جالسًا وهو يلهث.

زحفت إلى جردل الماء وملأت له الكوب المعدني فتناول منه رشفتين ثم استأنفنا النوم. واستيقظت مرة أخرى لأرى مشهدًا غريبًا: بطشة واقفًا في منتصف الحجرة، رافعًا ذراعه إلى أعلى وقد أطبقت يده على المصباح الكهربائي. كنت أشبه بالمخدَّر ولم يجلب هذا المشهد أي معنًى لمخي فاستأنفت النوم، وإذا بي أستيقظ فجأة مفزوعًا لأجد شخصًا جاثمًا فوقي وملمس حاد في عنقي، بينما غرقت الغرفة في ظلام حالك. جاءتني رائحة فم عفنة وسمعت صوت بطشة يهمس في أذني: إذا فتحت بقك بكلمة حادبحك. وضغط بشيء حاد على عنقي شعرت أنه حافة مشرط، وامتدت يده إلى ملابسي.

خطر لي أنه يسعى وراء قطعة اللحم التي خبأتها في صدري ففتحت فمي لأعرض استعدادي للتنازل عنها دون قتال، لكني فوجئت به يحاول نزع سروالي، تجمد عقلي من الرعب، وتابعت محاولاته كأني أتفرج على مشهدٍ بعيد عني، وفجأة سطع النور مرة واحدة فطالعني وجه بطشة القبيح فوقي ويده المستقرة على عنقي بنصف الموسى. ابتعدت يده في تردد واعتدل واقفًا فرأيت سوزوكي واقفًا أسفل المصباح الكهربائي يديره بيده المرفوعة إلى أعلى، تدفق سيل من السباب من فم بطشة واندفع نحوه وهو يرفع المشرط في الهواء، لكنه تعثَّر في أحد النائمين الذي هب صارخًا لاعنًا.

استيقظ آخرون وتصاعدت صيحات تطلب الهدوء، لم يعبأ بطشة وهجم من جديد على سوزوكي، لكن بلحة وآخرين حالوا بينهما وأمسكوا بطشة بقوة. ولم يلبث هذا أن أذعن وجلس فوق فرشة بلحة والشتائم والتهديدات تتدفق من فمه.

تقدم سوزوكي من فرشتي وسألني: الكلب دا عورك وللا حاجة؟

تحسست عنقي بأصابعي وقلت: ملحقش.

قال: الحمد لله اني شفته بيفك اللمبة فقلت ناوي على شر.

قلت: إنت أنقذت حیاتی وشرفي كمان، الصبح حبلغ الإدارة.

قال: إوعى. دي حاجات متتقالش. مش حيحصل كويس. اسمع يا شرف. السجن ميحبش اللي يروح يشتكي، لا الإدارة ولا المساجين.

وافقته ووعدته بأن ألزم الصمت. وتجاهلني بطشة تمامًا في الصباح كما تجنب الحديث إلى سوزوكي.

انضم إلينا حجاج في طابور النظافة ووجدته قد سمع بما حدث. سألني عن التفاصيل وقال لي إن لبطشة سوابق كثيرة من هذا النوع. سألته عما إذا كان من الأفضل أن أشتكي للإدارة، فنصحني بألا أفعل وأن أعتبر الموضوع منتهيًا.

تصورت فعلًا أن الموضوع انتهى عند هذا الحد، لكني فوجئت بعد يومين أثناء تنظيف الفناء الخارجي بأحد الحراس يندفع جريًا إلى داخل العنبر. اقتربت من بابه فرأيت سيادة الضابط علي بلبل واقفًا في الفناء وهو يصيح بصوته الجهوري متوعدًا ومنذرًا كل من يخرق النظام. وسمعته يقول إنه لا تخفى عنه خافية وأنه قادر على الرؤية من كل أجزاء جسمه، بما في ذلك خرم ظهره.

عرفت ما حدث عندما ولجت الزنزانة قرب التمام؛ فتح بطشة رأس سوزوكي، وقال لي عم فوزي إن الشجار دبَّ بين الاثنين قبل صلاة الظهر مباشرة، وأنه شاهد سوزوكي واقفًا ممسكًا بوجهه وبطشة يضربه بماسورة حديدية في بطنه وصدره، فقلت له إنه يجب أن يذكر هذا للإدارة.

فتح علينا الحارس بعد ساعة وسأل إذا كان أحد منا قد شهد ما حدث، فقلت له: عم فوزي. طلب منه أن يتبعه فتردد. وعندئذٍ شجعته قائلًا إن الواجب يدعوه للذهاب والإدلاء بشهادته.

أذعن عم فوزي وغادر الزنزانة خلف الحارس. وبعد ساعةٍ أخرى ظهر حارسٌ جديد أجرى التمام للعنبر فيما عدا زنزانتنا. سألناه عن الحارس الأول فقال إنه في التحقيق، وفوجئت به يعود بعد قليل ويسأل عني قائلًا إني مطلوب عند سيادة المأمور.

دسست قدمَيَّ في الكوتشي وتبعته إلى صالة العنبر. بدا لي منظره غريبًا والأبواب مغلقة تتصاعد من خلفها الهمهمات، أغلق الحارس باب العنبر وخرجنا إلى الفناء الخارجي، كان الضوء يأتيه من المصابيح الكهربائية المعلقة فوق مداخل العنابر والمباني الإدارية وأبراج الحراسة. سرنا في صمت وسط هدوءٍ شامل لا يقطعه غير صوت احتكاك أقدامنا بالرمل، ولم يكن هناك مخلوق سوى ثلاثة حراس أمام مكتب سيادة المأمور. وصلت إلينا أصواتهم واضحة في هدأة الليل، اتجهنا إليه وصعدنا أربع درجات، كان الباب مفتوحًا إلى نهايته لكن ساترًا خشبيًّا أخفى من بالداخل.

وقفنا في مدخل الغرفة، ومد الحارس ذراعه اليمنى وطرق مصراع الباب الذي استند إلى الحائط في رفق، أتانا صوت حازم: ادخل.

أمسك الحارس بذراعي وولجنا الغرفة سويًّا، طالعتني صورة رئيس الجمهورية، وأسفلها جلس خلف مكتبٍ خشبيٍّ كبير، رجلٌ قصيرٌ أشيب يرتدي قميصًا حريريًّا أسود اللون لعله من طراز «سلفيانو» ويمسك بغليون سميك في يده اليمنى، ولم أتمكن من تحديد طراز الساعة التي كانت تدور بمعصمه. وفي زاوية المكتب جلس أحد المساجين الذين يعملون في مكاتب الإدارة في احترام أمام مجموعة من الأوراق وهو يمسك بقلم «رينولدز» جاف استقر طرفه على ورقة بيضاء.

أدى الحارس التحية العسكرية وقال: النزيل أشرف سليمان يا باشا.

وجه إليَّ الباشا نظرةً فاحصة ثم سألني: إيه اللي حصل يا أشرف؟

أجبت: مفيش يا سعادة الباشا، بطشة ضرب سوزوکي.

– إنت شفته بيضربه؟

– لا يا افندم، أنا كنت في الشغل.

– أمال عرفت ازاي؟

– المساجين قالوا.

– تعرف سوزوكي من إمتى؟

– أنا تعرفت عليه هنا في الزنزانة.

– تفتكر ضربه ليه؟

– معرفش.

أضفت بعد لحظة: بطشة أخلاقه وحشة ودايمًا يتخانق.

– هو سوزوکي كان بيبيع برشام؟

– معرفش يا باشا.

سكتُّ لحظة ثم سألني بطريقة مفاجئة: إنت بتنام جنب سوزوکي؟

– لا يا باشا، بعيد عنه.

تدخل الحارس وشرح لسيادة المأمور ترتيب النمر في الزنزانة.

استأنف سؤالي: ألم يتحرش بك المسجون بطشة؟

ترددت ثم قلت: حصل. ورويت له محاولة الاعتداء عليَّ.

تصفح المأمور بضع أوراق أمامه ثم أخذ يملي الكاتب السجين: وبسؤال المسجون تحت التحقيق أشرف عبد العزيز سليمان، سن واحد وعشرين سنة، وتهمته القتل، قرر أنه لم يشهد الواقعة، وأنه تعرف على المسجونَين في الزنزانة، ولا يعرف سبب العدوان، وعلَّله بأن المسجون سالم عويضة وشهرته بطشة سيئ الأخلاق ودائم الاحتكاك بالمساجين.

أشار إلينا المأمور بالانصراف، فسحبني الحارس من ذراعي إلى الخارج وعدنا إلى العنبر. ألفيت عم فوزي قد سبقني، وتجمع حوله المساجين وهو يحكي لهم ما جرى في التحقيق. فهمت أن بطشة ادعى أن سوزوکي استفزه وحاول الاعتداء عليه بمشرط حلاقة وماسورة، ثم اعترف تحت الضرب بأنه هو البادئ بالعدوان وأنه أحضر ماسورة كان قد وضعها منذ أسبوع تحت بلاطة مكسورة في الصالة وضرب بها سوزوکي.

سألته عنه فقال إنه رآه وضمادة تحيط برأسه، لكنه يعتقد أن إصابته ليست خطيرة.

– طب ليه مجاش معاك؟

قال إنهم أخذوه إلى المستشفى.

– وبطشة؟

– في التأديب.

ظلت نمرتا سوزوكي وبطشة خاليتَين، وإن كنت لحظت أن الأعين تستقر عليهما بين الحين والآخر. كنا جميعًا نفكر فيما سيطرأ من تغيير على ترتيب النمر في حالة عدم عودة الاثنين.

روى ذوو الخبرة الأحداث المماثلة التي شهدوها أو كانوا طرفًا فيها، وقلت لصبري: أنا مش فاهم إيه اللي بين الاثنين، زي ميكون طار بایت!

هزَّ رأسه بهيئة العليم وهمس: التجارة.

تطلعت إليه متسائلًا: تجارة إيه؟

قال وهو يرمق صنقر بركن عينه: البرشام.

انتقل الحديث إلى سيادة المأمور. وذكر صبري أنه تعرَّف في الفسحة على سجين يعمل في حديقة منزله الواقع في أرض السجن، وأن هناك مساجين آخرين يعملون في حظيرة مواشٍ يملكها بها خرفان وبط ودجاج، وأن المفروض أن يتقاضى الواحد منهم ثلاثة جنيهات من المأمور نفسه طبقًا للوائح لكنهم لا يحصلون على شيء. وقال إن زوجة سيادة المأمور، حسب كلام السجين، فتاة صغيرة ترتدي البنطلونات المحزَّقة وتقضي الوقت كله في تسريح شعرها، ولا يوجد لديها أطفال، وتعامل المساجين بقسوة.

أضاف: الظاهر إنها مراته التانية وبيموت فيها.

حكى بلحة قصة زوجة ضابطٍ كبير، كانت زوجته تتصيد المجندين الذين أخذهم للعمل عنده في المنزل، كانت تنادي الواحد منهم وهي في قميص النوم وتطلب منه إصلاح حنفية الحمام، وتقف خلفه وهو مُنحنٍ فوق الحنفية فيحتكُّ جسمه بها عندما يتحرك، ثم توجه إليه حديثًا موحيًا فتسأله مثلًا إذا كان لا بد من استبدال الماسورة بواحدةٍ جديدة، وكيف يمكن إدخالها في الحوض … إلخ. وحكى آخر قصة ضابط وجد زوجته في حضن جندي مراسلة فقتلهما.

عندما هجعنا أخذتُ معي زوجة المأمور، وتصورتُني أمسح لها بلاط مسكنها وهي تروح وتجيء أمامي ببنطلون محزَّق وبلوزة تكشف عن صدرها. ثم أبدلت لها ملابسها وجعلتها في قميص النوم، وخارجة فجأة من مخدعها، فتتعثر في طرف السجادة وتقع على الأرض، وأهبُّ لنجدتها فأرفعها بين ساعديَّ، أدخل بها غرفتها وأمددها على الفراش وأُدلِّك لها كاحلها الذي الْتوى ثم أزيح الرداء عن ساقيها وأتحسسهما حتى فخذيها.

تذكرت سالي وكيف تعرفت بها عن طريق شلة المعادي إذ كانت تقف معهم، وكيف كنا ندبر لها كل ليلة مكانًا تبيت فيه؛ لأنها هربت من منزل أهلها وليس معها بطاقة أو نقود أو حتى حقيبة ملابس، وكيف نامت مرة في بلكونة عمرو حتى الصباح، ومرةً أخرى في سيارة هشام، وذهبنا مرة إلى منزلٍ عجيب عبارة عن فيلا فاخرة من طابقَين يعيش فيها شقيقان، كلٌّ منهما في طابق؛ لأن الأب والأم يعملان في الخليج. كانت البنت مرهقة فتمددت على كنبة وراحت في النوم، لكن الأخوين رفضا فكرة بياتها عندهما فأخذناها إلى شقةٍ أخرى اشتراها والد عمرو له، وكانت على البلاط فاقترضنا من الأخوين بطاطين ومخدات وانطلقنا بالسيارة. وفي الطريق قرر عمرو وهشام الانصراف، فبقيت مع الفتاة، فرشت البطاطين على الأرض فاستلقت فورًا وراحت في النوم. واحترت فيما أفعل فنمت إلى جوارها والتصقت بها فلم تستيقظ. كان الحر شديدًا ففككتُ أزرار بلوزتها ومددت يدي وتحسست ثدييها فلم تتحرك، أيقظتها قائلًا إن هناك فئران فقالت: مش مهم أنا متعودة عليهم، ورجعت نامت. وظللنا هكذا حتى الصباح.

يبدو أني رحت في النوم وسط ذكرياتي؛ إذ وجدت سالي تحتضنني، ثم ألفيتني أحدق في وجه هدى ويدي تتحسس صدرها العاري وتهبط على بطنها، وفوجئت بأن جسدها ينتهي عند السرة وأنها بلا حوض وساقين، وأن شخصًا ما يصرخ في رعب من المنظر. استيقظت على صوت حشرجةٍ مرعبة قريبة مني. ورأيت عم جابر منحنيًا على الفلسطيني يهزه بعنف ليفيق.

أفاق الفلسطيني، وساعده عم جابر على الجلوس، وناوله سامبو کوز میاه، وجلس عم جابر قبالته وأخذ رأسه في صدره وجعل يربت عليها وهو يقرأ سورة «يس». وبعد قليل لحظت أن حالة من الاسترخاء استولت على الفلسطيني وعاوده النعاس فمددناه فوق نمرته.

لم نخرج إلى الخدمة في الغد، وظلت زنزانتنا مغلقة إلى قبل الظهر، ونحن ندق الباب وننادي على الحارس كي نذهب إلى دورة المياه. وكان وجهًا جديدًا لم نره من قبلُ، يدعى صبحي، له بشرةٌ صفراء وصوتٌ مبحوح، وسمعناه يمر في الطرقة وينادي أمام كل زنزانة: اسحب، الفجل. كان يمطُّ الكلمات كما يفعل الباعة عندما ينادون على بضائعهم، ثم ظهرت في فتحة شراعتنا بضعة عيدان من الفجل اصفرَّت أوراقها، وكرر ندائه: اسحب الفجل، فسحبناها من يده.

كرر عم جابر رقْي الفلسطيني. وكان هذا في سني تقريبًا ومتدينًا للغاية حريصًا على أداء الصلوات الخمس خلف جابر، سألته عما إذا كان تعرض لكابوس بالليل فرمقني في حذر ولم يجب. وبعد قليل نجح جابر في إقناعه بأن يحكي لنا قصته.

قال إن مباحث أمن الدولة اعتقلته وخيَّرته بين سحب جواز سفره وبين التجسس على الجماعات الإسلامية التي كان يعرف بعض أفرادها. وعندما رفض التجسس ألقوا به في السجن، وبعد أربعين يومًا اقتادوه إلى مكتب المأمور حيث أجروا له محاكمةً سريعة وفوجئ بالحكم يصدر بإعدامه شنقًا. نقلوه إلى زنزانةٍ انفراديةٍ ضيقة امتلأت بالمواسير والخوابير الحديدية بحيث يضطر للجلوس والرقاد فوقها. وفي الصباح دخلوا عليه وألبسوه طاقية حتى الرقبة غطت عينَيه وقيَّدوا يديه إلى الخلف، ثم أخذوه إلى غرفة وأوقفوه فوق مستوى مرتفع عن الأرض ووضعوا أنشوطة في عنقه. وفي هذه اللحظة جاء من يستدعي الضابط فأمر بتأجيل الشنق إلى أن يعود بعد دقائق.

أبدى بلحة استنكاره: هو الشنق لعبة؟ مقالش إيه السبب؟

– قال إن عنده محضر مفتوح. ووقفت أستنى متغمي وأنا بترعش. بعد شوية لقيتهم بيفكوا الرباط وقالوا لي إن الضابط استُدعي إلى منطقةٍ أخرى ولا يمكن إتمام الإعدام في غير وجوده. كل ده محدش مد إيده عليَّ ولا حتى قلم. بعد الظهر ادوني سجاير وقعدوا المخبرين يتكلموا معايا بكل ود، وبعدين قالوا إن الضابط مش راجع والتنفيذ اتأجل لبكره، وودوني الزنزانة.

تكرر هذا السيناريو خمس مرات: في الصباح ينادون عليه ويغطون رأسه حتى الرقبة ويقيدون يديه إلى الخلف، ثم يأخذونه إلى غرفة الإعدام حيث يعتلي درجةً خشبية ويضعون أنشوطة حول عنقه وبعد فترة يحدث ما يعطل التنفيذ؛ إذ يتم استدعاء الضابط لأمرٍ ما، فينزعون غطاء رأسه وقيوده وينتظرون عودة الضابط، ثم يتأجل التنفيذ إلى اليوم التالي، وهكذا. وفي آخر يوم وضعوه في سيارة وقالوا سننقلك إلى سجنٍ آخر، وسمع أحدهم يقول إنهم سيغيرون طريقة الإعدام، وتصور أنهم سيطلقونه في الصحراء ثم يقتلونه، لكنه وجد نفسه معنا.

أجهش بالبكاء فربت جابر على ظهره. ولحظت أن بلحة وصنقر وصلصة يتطلعون إليه في شيء من العداء. اعتقدت أنهم لم يصدقوا قصته. أما أنا فكنت أميل إلى تصديقها بعد ما حدث لي مع المباحث.

ارتفعت درجة الحرارة حتى صار العرق يتصبب من وجوهنا، ورشَّ البعض المياه فوق نمرهم لتبريدها. وفتحوا لنا أخيرًا عند الظهر لنذهب إلى المراحيض. لم نلبث أن علمنا بنتائج التحقيق: أسفر عن مجازاة رقيب الدور بالحجز في الثكنة ثلاثة أيام؛ لعدم قيامه بواجبه في الحيلولة دون وقوع الاعتداء، وجوزي الضابط علي بلبل بالإنذار لعدم قيامه بتفتيش عنبرنا بنفسه وبدقة؛ الأمر الذي ترتب عليه وجود ممنوعات مثل المشرط ومفصلة الباب، ونال سوزوكي عشرة أيام في الحجز الانفرادي، أما بطشة فقد جوزي بثماني عشرة جلدة والحبس الانفرادي في التأديب لمدة أسبوعين والحرمان من الزيارة والفسح لمدة شهر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤