٧

الخطوات القليلة المؤدية إلى عنبر الملكية التي قطعها أشرف برفقة حارسه حاملًا متاعه المؤلف من كيس ونمرة، كانت مصحوبة بموسيقى من النوع الذي رافق جنرالات إسرائيل وهم يجتاحون الأراضي العربية، أو الدكتور ثابت محفوظ عندما انتقل إلى قصره المشيد على ترعة المنصورية. مع الموسيقى مشاعر مختلطة لا بد عرفها كل من صعد من القاع بطريقةٍ مفاجئة، خاصة وأن الانتقال لم يكن سلسًا على الإطلاق؛ إذ شابته السلبيات في خطوط الإمداد.

فالطلب الذي قدمته الأم المتفانية وكان مصحوبًا بعامود أكل، تأجل النظر فيه بسبب قيام المأمور بمأمورية تستغرق عدة أيام، وأعيد إليها عامود الأكل وقيل لها أن تأتي بعد أسبوع. وفي اليوم التالي عاد المأمور من مأموريته بعد أن أنجزها بسرعة البرق؛ لينضم إلى زوجته الصغيرة، وكان ما زال تحت قوة الدفع التي أعادته فأنجز الأوراق المتراكمة. هكذا اقتيد أشرف إلى المكاتب في الصباح، حيث قرفص بجوار الحائط إلى أن انتهت الإجراءات الدفترية، وانتظر ساعتَين أخريَين إلى أن جاء أمين المخزن بعد صلاة العصر، فخلع ملابس السجن واستبدلها بالقميص والبنطلون المودَعين في أماناته. وهنا عبَر الفناء إلى العنبر الملكي دون لقمةٍ واحدة.

لم يكن ثمة شك في أنه حقق تقدمًا مهمًّا على الصعيد الاجتماعي. صحيح أنه لم يرتفع عن الطابق الأرضي، وأن رائحة الزنزانة الجديدة لم تكن أقل عفونة من تلك التي تركها وراءه، وأن مكانه تحدد إلى جوار دلو البول، لكن الديكورات كانت مختلفة؛ ابتداء من الجماهير التي راقبت الموكب والتي تبدَّت في ملابس متنوعة ليس بينها الزي الأبيض المعهود، إلى الزنزانة نفسها التي تدلت الحبال على جدرانها محملة بالسلال والأكياس وحلَّ فيها برميل كبير من البلاستيك محل دلو الماء، وسخان كهربائي صغير من الفخار محل الخرق المبللة بالزيت. كما كانت هناك صناديق من الكرتون إلى جوار الحائط استقرت فوقها علب النيدو، وعدة ترامس وزجاجات كولا في أحجام سوبر، وزجاجات مياه وصحف ومجلات وكتب، ذلك بالإضافة إلى نوبتجي في جلابية يدعى توكل، أربعيني صغير الحجم عصبي الحركات ذي ندبةٍ عميقة في جانب وجهه، وجفونٍ منتفخة وأنفٍ متورم في رأسٍ ملفوف بشالٍ أبيض حال لونه، لوَّح بمبسم سيجارة تزينه حلقة معدنية، لتدل على أنه مستورد (من خارج السجن) معينًا له مكانه إلى جوار دلو البول المعهود.

ولج الزنزانة شابٌّ أسمر طويل القامة شديد النحافة، يعلو رأسه شعرٌ كثيفٌ مجعد، ويهزُّ في يده حزمة من الجرجير لينفض عنها المياه، خاطبه النوبتجي باسم ماكس، وبدا وجهه مألوفًا رغم هزاله الغريب، وما لبث أن تعرف فيه على عدَّاءٍ شهير احتكر بطولة الجمهورية وعناوين الصحف عدة سنوات حتى آخر بطولة وخبر: قام بتقليد مفتاح الشقة الخاص بأحد أصدقائه وسرق جهاز فيديو.

بسط شرف نمرته إلى جوار الدلو في استسلام، فهل يتركه النوبتجي في سلام؟ كلا وألف كلا.

خاطبه متفكهًا: مش انت الواد اللي سخمطه بطشة؟

أوشك الواد أن يومئ برأسه مومِّنًا ثم تذكر أن بطشة لم ينجز مهمته، وألفى نفسه مرة أخرى في منزلة بين المنزلتَين.

واصل النوبتجي: القروانة هنا بعلبة سجاير.

أعرب المسكين عن دهشته: مش السجن بيصرف لكل واحد قروانته؟ حسم النوبتجي الجدل: هو ده اللي ماشي هنا، أنا مبخدش لنفسي حاجة. شاويش العنبر هو اللي بيأجر القروان والبطاطين الزيادة.

تتابع وصول النزلاء، بعضهم قادم من فسحة بعد الظهر والبعض الآخر كان يقف في الخارج أو في زنزانة بالطابق الأعلى، والقليل منهم سبق أن لمحهم أثناء قيامه بتنظيف العنبر، وبرز بينهم النزيل الجديد/القديم محاطًا ببقية النزلاء يوزع عليهم السجاير، وما زال في ملابس الحرية الكاملة. وكان قصير القامة نحيفها يرتدي عويناتٍ طبية. ولم يلبث حامل المفتاح أن حضر وحصل من الاثنين على ضريبة الإيواء.

أحضر الخدم دلاء العشاء وإفطار اليوم التالي وتركوها وسط الطابق، بجوار مكتب الحارس، وأمام باب دورة المياه، فرغم أن عنبر الملكية يحصل على طعامه من خارج السجن فإن اللوائح تنصُّ على تقديم الطعام إلى سكانه ليتولوا بأنفسهم إلقاءه في دلاء البول، ولتسهيل هذه المهمة وُضعت الدلاء على مسافة خطوتين من المراحيض الرئيسية.

وسواء كان النوبتجي عليمًا بخلفية شرف بحكم منصبه، أو كان الأمر راجعًا لنظرته الثاقبة بحكم المنصب أيضًا، فإنه أدرك على الفور أنه أمام حديث نعمة لا يرتقي إلى مرتبة الملكيين الأصلاء، وبدافع من إحساسه بالمسئولية عن رعاياه قال له: روح هاتلك تعيين.

حمل شرف قروانته ومضى إلى البوفيه المفتوح. ملأ القروانة باليمك، وأشار له الحارس أن يأخذ قطعتين من الجبن القريش وثلاثة أرغفة، عاد إلى الزنزانة فاستقر فوق نمرته المطوية والقروانة بين ساقَيه بعد أن غطاها برغيف ليحميها من الذباب، وضع فوقه قطعتي الجبن وغطَّاهما بالرغيفَين الآخرين ليؤجل الكشف عن حقيقته الاجتماعية إلى آخر لحظة.

أجرى حارس الدور التمام وأغلق الباب، فأخلى الساحة للنوبتجي كي يؤكد حقوقه على الشبكة الكهربائية. فآخر دفعة من الشيوعيين — الذين تتيح لهم أفكارهم استشراف المستقبل — زودت المراحيض، على نفقتها، بسخاناتٍ كهربائية للمياه، أتيح استخدامها لجميع المساجين دون مقابل. وعندما أفرج عن أفراد الدفعة تركوها كما هي، لا عن أريحية وإنما لأنهم كانوا واثقين من عودتهم. وظلت السخانات في أماكنها إلى أن سمع توكل بانهيار الأيديولوجيات فأتلفها واحتكر تسخين المياه لمن يريد الاستحمام، مقابل سجائر بالطبع. ولم يعدم مصادر أخرى للجباية.

فك لفافة رأسه كاشفًا عن صلعة جرداء، واتجه إلى فرشته في الركن العميق (في مواجهة شرف) ثم صفق بيديه موجهًا الحديث لأهم الضيفين: سالمة يا سلامة، رحنا وجينا بالسلامة.

كان المعنيُّ قد استقر إلى جوار شرف مباشرة، وبسط نمرته في حركاتٍ متئدةٍ رزينة، ثم طوى بطانيتيه بعنايةٍ شديدة بحيث تطابقت حوافهما، ضحك برزانة وهو يرتب حاجياته ويستخرج منها المطلوب: ثلاث علب «كنت» قدمها إلى الزعيم. وتطلعت إليه الأنظار، مارة فوق شرف وتحته، شاملة النمرة وكيس حاجياته المتواضع والقروانة المنقبة.

هتف به توكل: بقوا كام دالوقت يا ابو السباع؟

رفع أبو السباع رأسه وقال في وقار: تلاتة وخمسين في وش العدو. صفق البعض مهللين. وهتف نزيل يحتل النمرة المواجهة للباب مباشرة، وهو رجلٌ خمسيني، لا تكف أطرافه عن الحركة، أبيض شعر الرأس، يضع نظارةً طبية مذهبة الإطار، تطل من ورائها عينان تشويهما حمرة ويتجمع العماص في ركنيهما: يا كريم ابعت.

رد عليه أبو السباع معاتبًا: لا يا عزت بيه. كفاية كده.

سأله شرف في حيرة: ثلاثة وخمسين إيه؟

التفت إليه أبو السباع وتأمله من فوق عويناته ثم أجاب وهو يستأنف ترتيب محتويات كيسه: حتكون إيه يعني؟ قضية.

– في إيه؟

تبرع بالإجابة جار أبو السباع الذي سمع السؤال، وهو خمسيني أيضًاء مائل إلى السمرة، حريص على تصفيف شعر رأسه الخفيف، يرتدي شورتًا كاكيًّا، كثير الشرود والتمتمة لنفسه.

قال وهو يمر بيده فوق ما تبقى من شعر فوق رأسه ويبتسم: أبو السباع أكبر مزور في البلد.

أحنى أبو السباع رأسه في تواضع مصطنع: أشكرك يا دكتور، أنا مجرد بأدي خدمة قومية. البلد دي مش مأخرها غير البيروقراطية.

عقب الدكتور: الواحد فينا يا دوبك عنده قضية واحدة عمال يتخبط فيها، بتاعت إيه القضية الجديدة؟

قال أبو السباع في زهو وهو يسوي طرف نمرته الذي لا يحتاج إلى تسوية: دفاتر توفير البريد.

أذن للصلاة صوتٌ جهوري صادر من طابق الملتحين، فنهض الشيخ فتحي الذي احتل الركن الثاني. كان شابًّا بلحيةٍ مهيبة تصل إلى منتصف صدره، يرتدي جلبابًا حريريًّا سمني اللون تزينه زخرفةٌ ذهبية حول فتحة الصدر. تقدم من برميل الماء في وقار وتوضأ على مهل وهو يردد: الله أكبر، الله أكبر. حي على الصلاة. حي ع الفلاح. ثم اتخذ موقعه نحو القبلة واضعًا يديه على الجانب الأيسر من بطنه. واصطف خلفه الملاكان: الذي إلى يمينه (وهو شاب بدين تكاد عيناه الضيقتان تختفيان وسط بشرة وجهه المدهنة، يدعى رمضان)، والذي إلى يساره (وهو رجل متقدم في السن، ضخم الجثة، مهيب الهيئة، تكشف فانلته عن ثديين كبيرين بينهما كتلة من الشعر الأسود يمتد حتى يغطي كتفَيه وذراعَيه، له وجه ذئب، خاطبه الشيخ بسعادة السفير)، بالإضافة إلى عزت بيه.

قال توكل لأبو السباع مداعبًا: هو انت بطلت صلا وللا إيه؟

رد ضاحكًا: أصله منفعش.

واحد آخر لم يقلع عن الصلاة وإنما شاء أن يحتفظ باستقلاليته. كان جرمًا بلحيةٍ خفيفة، يضع نظارةً مقعرة العدستَين فتبدو عيناه واسعتَين غامضتَين، يلي الدكتور في ترتيب النِّمَر.

لم يكن قد تحدث مع أحد أو قام بأي حركة منذ دخل الزنزانة، إنما تربع في ركنه ودفن رأسه بين دفتي مصحفٍ كبير الحجم، انتظر حتى بدأ الآخرون الصلاة فقام إلى جردل المياه وتوضأ ثم عاد إلى فرشته ووقف فوقها متجهًا إلى القبلة، متوليًا إمامة نفسه.

انتهت الصلاة فبدءوا يحتشدون للأكل. لم يكن ماكس قد بسط نمرته، على عكس جارَيه، فتكوَّن مربعٌ خالٍ من الأسفلت العاري بين النمر الثلاث، صُف فيه طبق سلاطة، وسلطانية ملوخية، وطبق أرز، وآخر بيضاوي كبير الحجم من البطاطس والدجاج ونبات غريب أخضر اللون يشبه القرنبيط على شكل كراتٍ صغيرة. أضاف جار ماكس طبقًا ورقيًّا من أرغفة الكايزر، وكان شابًّا طويل القامة، أبيض البشرة، في الثلاثين أو يزيد، يرتدي شورتًا أبيض كشف عن ساقين ممتلئتَين يغطيهما شعرٌ قصيرٌ ملفوف، وجورب أبيض وكوتشي. بعد نظرةٍ واحدة لمحتويات الطبق البيضاوي أعرب النوبتجي عن رضائه: الله ينور عليك يا مستر تامر! اسمه إيه ده؟

قال مستر تامر برقَّة أبناء الذوات: بروكلي بالمايونيز والفراخ.

هتف توكل: يا عيني، واستدار متربعًا على حافة نمرته، وفعل مستر تامر المثل فتواجها عبر البروكلي. مدَّ توكل يده إلى إناءٍ زجاجي كبير وضعه بجوار رأسه فاستخرج منه بضع حبات من الفلفل المخلل أضافها إلى المائدة وأعطى الإشارة: بسم الله. اتفضلوا يا جماعة.

كان الشيخ فتحي قد كوَّن مجموعة طعام من الملاكَين اللذين صلَّيا خلفه. واحتفظ الملتحي ذو النضارة المقعرة بموقفه المستقل فأكل بمفرده من محتويات عامودٍ معدني، من طراز قديم للغاية، يحمل ثلاثة أوانٍ صغيرة، وتكونت مجموعة من عزت بيه وجارَيه من ناحية اليسار، (أحدهما قصير القامة أبيض شعر الرأس، والثاني في مقتبل الشباب، ذو بشرةٍ سمراء داكنة، تبدو عليه السماحة، مذكرة باسمه: سامح).

قرب شرف قروانة اليمك متحاشيًا النظر إلى محتوياتها. وطوى أبو السباع فرشته إلى الخلف ليخلي مكانًا للمائدة، وصفَّ لفافاته المغلفة ﺑ «الفويل» فوقها، تصاعدت رائحة الطعام الساخن عندما شرع في نزع الورق المفضض كاشفًا عن صينية مكرونة بالفرن احمرَّ سطحها والْتمع، وكشفت اللفافة الثانية عن صينية مسقعة، والثالثة عن بطةٍ ضخمةٍ محمرة.

مد أبو السباع يده فتناول قروانة اليمك من أمام شرف وصبها في جردل البول ثم جذبه من ذراعه ليستدير بحيث يشغل أحد أضلاع مربع المائدة مواجهًا الدكتور على الضلع المقابل وهو يقول: الخير كتير زي ما انت شايف، مش حنقدر ناكل كل ده، ولو سبناه لبكرة يحمض.

ولهذا خاطب الجميع قائلًا: اتفضلوا معانا. لم تكن عزومة مراكبية إذ مد يده وأمسك بالبطة وفصل أحد أوراكها ورفع يده بالورك إلى أعلى، مشهدًا الكافة، ثم انحنى ووضعه أمام النوبتجي الذي أبدى تمنعًا مصطنعًا.

فصل أبو السباع الورك الثاني في اللحظة المناسبة؛ إذ جاء حارس الليل على الرائحة.

أقبل شرف على الطعام بشهيةٍ بالغة لأنه لم يذق شيئًا منذ الصباح. وربما كان هذا هو السبب فيما وقع من تطورات تحتمل تفسيراتٍ أخرى: التلوث (ويمكن استبعاده طالما أن أحدًا غيره لم يشتكِ)، الحساسية المرهفة (بعد شهرين ونصف من تناول السوس والحجر الجيري بصورة مستمرة)، ضياع القيم (ذلك الداء المستشري)، التعبير عن الرأي (بالالتفاف حول قوانين الطوارئ)، المهم أن أمعاءه تحركت فجأة في مغصٍ حاد ولم يتمكن من المقاومة فأسرع إلى دلو البول وفكَّ سرواله وأنزله ثم أنزل الكيلوت واستدار مواجهًا الآكلين (بالرغم منه لا عن تعمد) ثم استقر فوق فتحته ومن موقعه الجديد المرتفع أمكنه أن يطل بصورةٍ أفضل على الموائد المنصوبة ويعقد المقارنات الضرورية.

تنوعت ردود الفعل لسلوكه من زمجرةٍ صادرة من سعادة السفير (الذي كان يأكل من صندوق تيك أواي ضخم انفرد به تمامًا رغم انضمامه الشكلي للكومونة) إلى نظرةٍ غامضة من المعتزل (لعلها نظرة تشفِّي) إلى تكشيرة استنكار من مستر تامر (بحكم موقعه القريب) إلى إيماءة متفهمة من أبو السباع وابتسامة تفكُّه من الزعيم، الوحيد الذي لم يلحظ ما حدث هو الدكتور الذي أفاق من شروده عندما رأى الكيس الأسود.

فعندما أراد أبو السباع وضع ما تبقى من البطة في كيس بلاستيكي أسود اللون اعترض الدكتور: ما قلنا الشنط دي بتجيب بلاوي.

استفسر شرف عن الأمر من عليائه فأوضح الدكتور: بيعملوها من الزبالة وأكياس المبيدات الفاضية. الأكل يتلوث أول ما يلمس الكيس وخصوصًا الأسود ده اللي بيحطوله فحم عشان يخبوا ريحته الزنخة.

اعترض جار عزت بيه قائلًا بصوتٍ أخنف: محنا بنسخن الأكل يا دكتور.

لم يهتز الدكتور: ولو. لا الحرارة ولا التبريد يموتوا الميكروبات، عشان كده الدول المتقدمة رجعت للأكياس الورق.

تدخل عزت بيه بدوي: يا دکتور رمزي. سيبك من الكلام ده. إحنا بناكل منها من زمان ومجرلناش حاجة.

رد الدكتور غاضبًا من الجهل: إنت فاكر السرطان بييجي للواحد في يوم ولا يومين؟

أتيحت له فرصتان أخريان للتعبير: الأولى عندما لمح شرف يتطلع في لوعة إلى «كوتشي» مستر تامر، فقال له: عارف سعره كام؟

كان شرف يحفظ كل الأسعار فوجدها فرصة لاستعراض معلوماته، وصبر عليه الدكتور حتى انتهى فاستعرض معلوماته هو: في أي حتة في الدنيا مش حيقلّ عن تمانين دولار، تعرف إنتاجه بيتكلف كام؟ بيتعمل في مصنع في إندونيسيا بيشغل نسوان بس، الواحدة منهم بتاخد على كل جوز ١٢ سنت. حوالي تُمن دولار.

لم يفهم شرف المقصود: يعني إيه؟

تطلع إليه الدكتور برهة ثم قال: ولا حاجة.

حانت الفرصة الثانية للدكتور عندما قضم توكل خوخة كبيرة الحجم فتفتت نواتها بين أسنانه؛ صاح به: بس. إرميها.

تطلع إليه النوبتجي في ذهول. أوضح الدكتور: دي فيها مبيدات كتيرة.

مرَّ توكل بلحظاتٍ صعبة كان ينقل فيها البصر من وجه الدكتور الغاضب إلى الخوخة الشهية المفشوخة بين أصابعه. وأخيرًا حسم أمره ونظفها من بقايا النواة ثم التهمها مرةً واحدة وهو يقول: قول يا باسط. خليها على الله.

جاءه الدعم على الفور من الصوت الجهوري الذي تلا الأذان: عنبر كله يسمع، بسم الله الرحمن الرحيم. الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، والأرزاق على الله، وحيث الفقر لا يأتي إلا لغياب الإيمان. أيها المسلمون، نقدم إليكم نشرتنا لأخبار المساء.

لم يكن فيها جديد سوى القليل من الإضافات النوعية (دعوة للتبرع من أجل غرضَين ساميَين؛ مساندة المسلمين اليوغوسلاف وترميم دورة المياه).

وبالمثل كانت الألعاب التي بدأت بمجرد انتهاء الآكلين من التهام طعامهم وشرف من التخلص منه. فبعد الشاي، دار أبو السباع بعلبة سجائر «كنت» على الجميع ثم أخرج زجاجة دواء قدمها إلى توكل الذي قفز واقفًا وهو يهتف: كودافین!

قال أبو السباع بأربعة وتلاتين جنيه وحياتك … من أجزاخانة في عين شمس … تصور … سعرها الأصلي ميزيدش عن تلاتة جنيه. إنما تلاقيها فين!

صاح توكل: دي ليلتنا فل … يللا يا ماكس. دمغنا.

دب النشاط في ماكس فاستخرج من أحد الأكياس المعلقة فوق رأسه علبةً صغيرة من الصفيح، فتحها وأخذ منها قرصين وهو يردد على وزن «الليلة الكبيرة»: دمغنا … دمغنا.

قال توكل في عظمة: تفضل عندنا يا أبو السباع.

نهض أبو السباع وأخذ علبة سجائره وانتقل إلى نمرة توكل الذي أفسح له مكانًا بجواره بحيث استند بظهره إلى الحائط.

تصاعدت ضجة من مجموعة عزت بيه التي كانت تلعب الورق، وصاح عزت بيه في جاره القصير: هو كل حاجة عندك دوبل؟ تاخد ورقتين ليه؟

قال هذا بصوته الأخنف: مخدتش حاجة.

مدَّ عزت بيه يده وبسط الأوراق التي أمام جاره وتناول منها واحدة: يا راجل يا ضلالي … إنت فاكرنا هنا زي الغلابة اللي ضحكت عليهم وبعتلهم شقق عمارتك مرتين؟

قال صاحب العمارة وهو يتطلع ببرود إلى الورقة التي في يد عزت بيه: عمارتي وأنا حر فيها.

لم يواصل عزت بيه جدلًا عقيمًا ووجَّه اهتمامه إلى الحديث الدائر بين رمضان وسعادة السفير حول قانونية التسجيلات التليفونية التي تقوم بها الشرطة. كان الأخير يقول: التسجيلات دايمًا ضعيفة لو كانت هي الدليل الوحيد.

علق رمضان بلهفة: يعني المحكمة متخدش بيها؟

تدخل الدكتور الذي كان قد شرع يلعب الشطرنج مع الشاب الهادئ سامح فوق رقعةٍ صغيرة وبقطعٍ دقيقة الحجم من البلاستيك صنعت في الصين: لازم كل شريط يكون فيه رقم التليفون اللي بيسجل والتاريخ. أراد رمضان الاستزادة: متأكد؟

قال الدكتور: أيوه. أنا كمان عليَّ تسجيلات. هم مسجلين لك حاجة؟

أطرق رمضان برأسه ثم قال: أيوه. مقابلة مع مدير مدرسة عاوز تصريح تعلية.

سأله صاحب العمارة: طلبت منه كام؟

أسرع رمضان ينفي: مطلبتش منه حاجة. الرسوم وبس.

– طب وإيه المشكلة؟

أطرق الداهية الحريص بعينيه وقال: التسجيل اللي قدمته النيابة بيقول إني طلبت منه حداشر ألف.

انتزع الرقم صاحب العمارة من طموحاته الكوتشينية وصاح: يا مفتري، حداشر ألف عشان يعلي دور؟

دافع المفتري عن نفسه: ده كان عاوز يطلع ست ادوار. ومدينة نصر ممنوع فيها أكتر من أربعة.

وجَّه صاحب العمارة الحديث للبكوين اللذين على يمينه: يا سعادة البيه أنا مش فاهم المنع ليه؟ قال وعندنا مشكلة إسكان! طب سيبونا نبني ونعلي. يا سعادة البيه البلد عاوزة مدارس، أنا موجه في وزارة التربية وعارف بتكلم على إيه.

عارضه رمضان مثبتًا أنه لا يوجد منع: مدينة نصر كلها أدوار مخالفة. فيها أبراج خمستاشر دور. وأضاف مدافعًا عن المظلومين: يعملوا إيه إذا كان سعر المتر بقى تلات آلاف جنيه، لازم يعوضوا فلوسهم.

تذكر الشاب سامح الذي تابع الأرقام باهتمامٍ شديد، أنه قرأ في الصحف قصة مهندس بلدية رفض رشوة مقدارها ١٥ ألف جنيه تُعادل مرتبه في خمس سنوات وهو ٢٥٠ جنيه بعد خدمة ٢٢ سنة، والأغرب من هذا أن سيارته من طراز سيات وموديل قديم وتحتاج عمرة.

بدت علامات عدم الفهم على الوجوه فخفَّ الشاب لمحاولة الإيضاح: قال للجرايد إن أبوه رباه على القيم وإنه اشترك في حرب أكتوبر.

رمضان المعادي للرومانسيات كان له رأيٌ آخر: لازم كان عاوز أكتر.

كان سعادة السفير قد ابتلع حبتين من دواء الضغط وأشعل سيجارًا وتمدد على فرشته واضعًا ساقًا فوق ساق، مستندًا برأسه إلى صندوق من زجاجات المياه «بركة» تعلوه صورةٌ عاليةٌ ملونة، ثم تناول صحيفة وأخذ يتصفحها. وإذا به يهتف: والله جدع! ومضى يقرأ مقالًا يندد بصحيفة معارضة تنتقد امتلاك عدد من الأثرياء للمرسيدس الشبح التي يصل ثمن الواحدة منها إلى ١٫٣ مليون جنيه.

قرأ: «إن مثل هذا الانتقاد يؤدي إلى تغذية التناقض الطبقي في المجتمع وإثارة الأحقاد بين القادرين وغير القادرين، ويعيد مناخ عهد سابق من مصادرة الثروات والتأميم.»

توقف لحظة ليلتقط أنفاسه ثم واصل القراءة بتأنٍّ: اسمعوا دي … «إن البحث والتنقيب عن كل صاحب ثورة يمثل تهديدًا لمناخ الأمان الذي وفَّرته الدولة في عهد مبارك لكل راغب في الاستثمار.»

عقب الدكتور الذي لم يمنعه الانشغال بنقل الفيل الصغير عن الاستماع إلى تعليقات أخيه الكبير: طب اقرا الخبر اللي في الصفحة اللي بعديها … عن حجم التهرب من الضرايب … ألفين مليون جنيه في ست شهور منها ٤٣ مليون جنيه للسيارات الفاخرة بس.

أنزل السفير ساقه واعتدل جالسًا: والضرايب لزمتها إيه؟ يقولوا عاوزين إصلاح اقتصادي ويعملوا زي أوروبا وأمريكا لكن تبص تلاقيهم نازلين فينا ضرايب.

رد الدكتور: ما هي أوروبا وأمريكا فيها ضرايب برضه … إنت فاكرها سايبة.

قال السفير منفعلًا: مخربْش البلد إلا الناس اللي بيتكلموا زيك.

صاح توكل: صلوا ع النبي يا جماعة … النهارده عندنا عيد.

انصاع الاثنان فانصرف الدكتور إلى أفياله الصغيرة، والسفير إلى صحيفته دون أن يستسلم لليأس؛ فقد هتف بعد لحظات: أسمع كلامك أصدقك، أشوف أمورك أتعجب.

استفسر رمضان: ليه … في إيه؟

– يقولك إحنا بنشجع الاستثمار ويروحوا مطلَّعين قانون ضد الغش التجاري.

– طب وفيها إيه؟

ما هو لو طبقوه بصحيح كل الشركات حتقفل.

– ازاي؟

– أهو بقولك … مصانع اللبان والشوكولاتة والحلويات والألبان، الآيس كريم والشيبسي والحلاوة الطحينية والسمن والزيوت وجمعيات المستثمرين والأطعمة المحفوظة والثروة الحيوانية … لو اطَّبَّق على كل دول مش حيستنوا لتاني يوم.

إشكاليةٌ معقدة لم يعبأ السفير بإيضاحها لأن اهتمامه انتقل إلى موضوعٍ آخر؛ خبر في صفحة أنباء المجمع قرأه مستنكرًا لا بدافع الاعتراض وإنما من باب الحسد.

«وكانت العروس تلبس تاجًا مرصعًا بالزمرد، كما كان فستانها مرصعًا باللؤلؤ والجواهر، وحُملت على هودجٍ مطليٍّ بماء الذهب. وكانت التورتة تتحرك بالريموت كنترول. ويقول العارفون إن ضفاف النيل لم تشهد شيئًا مماثلًا من قبلُ إذ تكلف الفرح مليون جنيه، وضم العشاء كل ما لذَّ وطاب بما في ذلك الفواكه المستوردة من الخارج، وأحيته فرقة حضرت خصوصًا من البرازيل قوامها ٢٥ راقصًا وراقصة، ووزعت عشرات الألوف من الجنيهات كبقشيشات على خدم الفندق وسُيَّاس الجاراج والسائقين.»

لم يثر النبأ دهشةً كبيرة بين الغالبية وإن أثار الرغبة في المعرفة: من هو؟ وتنوعت الإجابات وإن أجمع الكل على أنه، أيًّا كانت شخصيته، سبق ولهف. عندما وصلوا إلى هذا الاستنتاج رفع توكل زجاجة الكودافين إلى فمه، معلنًا عن فقرةٍ جديدة في السهرة بقوله: في صحة أبو السباع.

قال أبو السباع بصوتٍ مبحوح من تأثير الدواء: الحلو ميكملش؛ لو واحدة بانجو كمان كنا عملنا دماغ هايلة.

ألقى عزت بيه بأوراق الكوتشينة جانبًا وزحف إلى حافة فرشته. ناوله ماكس دلوًا صغيرًا من البلاستيك وضعه مائلًا في حجره، وتناول علبتَين فارغتَين من العلب المحفوظة فأعطى واحدة لرمضان والأخرى لسامح. ثم زودهما بشوكتَين معدنيتَين، ونقر عزت بيه على قعر الجردل بأصابعه عدة مرات ثم تنحنح وانطلق.

كانت مناحة امتدت من أم كلثوم متمردة «متصبَّرنيش ماخلاص أنا فاض بي ومليت»، ثم مستسلمة «على بلد المحبوب ودِّيني، زاد وجدي والبعد كاويني»، إلى عبد الوهاب متسائلًا «يا وابور قولي رایح على فين»، وعبد الحليم حافظ متفلسفًا «مشاني زماني سواح»، ومن شادية متدلِّلة «سلامات سلامات يا غايب عني»، وليلى مراد متألمة «من بعيد يا حبيبي بسلِّم»، إلى أسمهان مستنجدة «يا حبيبي تعالى الحقني شوف اللي جرالي».

أثار الشكل (صوت مشروخ أنهتكه السجاير) والمضمون (مناخ عهدٍ سابق) استنكار سعادة السفير: بكره يرجَّعوا الراديوهات ونترحم.

أوضح أبو السباع لشرف: كان هناك راديوهات ومسجلات في كل زنزانة تقريبًا، قطاع خاص وليس ملكية دولة، وأربع تليفزيونات في كل عنبر، لكن الإخوة الملتحين اشتكوا من وصول الصوت إليهم لأنهم لا يرغبون في سماع الأغاني. وأعلنوا أن التليفزيون ينشر الفسق. وخضع لهم المأمور فبعث بضابط ومعه عدة صناديق من الكرتون جمع فيها كافة الأجهزة الصوتية، وهو إجراء لم يستفد منه سوى أمثال عزت بيه الذي عاد الآن إلى اللحن الأساسي: الشاطر اللي سبق ولهف، وأكل النبق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤