٨
انتظرت طويلًا في دورة المياه إلى أن يخلو مرحاض، وظهر الدكتور ثابت محفوظ عند المدخل، كان يرتدي روبًا من الحرير المشجَّر وخفًّا جلديًّا فاخرًا، يحمل صابونته في يده ومنشفةً ملونة فوق كتفه، وأحدث دخوله نشاطًا غير عادي بين المساجين المتجمعين فأفسحوا له الطريق إلى المرحاض الأخير، وأسرع إليه أحد السجناء بدلو من المياه ليستعين به في حالة انقطاعها.
عدت إلى الزنزانة فألفيت أبو السباع ما زال نائمًا والباقين انتهوا من إفطارهم، ما عدا سعادة السفير ومجموعته الذين تحلقوا حول طبقٍ كبير توزعت في أنحائه الدوائر الصفراء للبيض المقلي. كان رمضان والشيخ مجدي يأكلان بتمهل ويلتقطان نتفًا صغيرة من البيض فوق لقماتٍ كبيرة من الخبز على عكس السفير الذي كان يلتقط قطعًا كبيرة من البيض ويمضغها بسرعة وهو يلهث دون أن يرفع عينيه عن محتويات الطبق إلى أن اختفت تمامًا. استدار إلى صندوق زجاجات المياه خلفه واستخرج منه علبة من البلاستيك رفع غطاءها والتقط منها قطعة من الجبن الرومي ألقى بها في فمه ثم أعاد العلبة مكانها دون أن يعبأ بزميلَيه.
طویت فرشتي وحملت بطانيتي إلى الفناء الخارجي، وفي الطريق التقيت بأفراد طابور الخدمات الذين يأتون كل صباح من عنبر الميري لرفع البول والمخلفات ومسح الزنازين وكنس الفناء. لمحت بينهم صبري وفوزي فتجاهلتهما، ولم تفتني نظرة الحسد التي ألقياها عليَّ.
خرجت إلى الفناء فشعرت كأني خرجت إلى الطريق العام، كان مزدحمًا بالرائحين والغادين من النزلاء في ملابس متنوعة الأشكال والألوان، منها جلاليب أو قمصان وبنطلونات نظيفة مكوية وأحذية لامعة، بانص أو كوتشي، ونظارات شمسية، ومنها ملابس مهدلة، أو فانلات على اللحم تغير لونها من عدم الغسيل، وصندل جلدي أو شبشب من البلاستيك، سار أصحابها برءوسٍ مدلَّاة، يتأملون الرمال كأنما يبحثون عن شيءٍ ضائع. وكان هناك أيضًا بعض السجناء في ملابسهم الخضراء المميزة، وكثير من الملتحين في ملابس ناصعة البياض تتألف من قمصانٍ طويلة حتى الركبة فوق سراويل، ولاحظت أنهم لا يختلطون بالآخرين.
فرشت البطانيتَين في الشمس وقرفصت إلى جوار الحائط. رأيت الدكتور رمزي منهمكًا في تمارينَ رياضيةٍ شاقة جعلت عضلاته تنفر والعرق يتصبب على جسده الذي عرَّاه حتى الوسط، وانضم إليه مستر تامر بعد قليل في بلوزةٍ بيضاء وشورتٍ ضيق، بألوان العلم الأمريكي، أظهر تفاصيل مؤخرته. ولحظت نظرات الاستياء توجه إليه من معسكر الملتحين. ثم ظهر السفير وقد غطى عينيه بنظارةٍ شمسية من طراز كارتييه، وارتدى قميصًا مشجرًا بنصف كم، وخلفه رمضان يحمل كمية من البطاطين ألقى بها فوق الرمل، انتظر السفير حتى بسط رمضان إحداها، فاقتعدها مستندًا بظهره إلى حائط العنبر، ممددًا ساقيه أمامه.
لحظت سجينًا آخر انتحى جانبًا ووضع أمامه صندوق مسح الأحذية المعهود. وتقدم إليه واحد وأعطاه بعض السجائر ووقف يمسح حذاءه. كان إلى جواره سجينٌ ثالث يرتدي فانلة حمراء أمامه دلو ماء وعلبة صابون «تايد». وأعطاه أحدهم ملابسه وعلبة سجائر فعكف على غسلها بنشاط.
ترامى إلى سمعي صوت السفير يحكي لرمضان عن ابنته: كان عندها سنتين ومتنامش إلا وصباعها في بقها، كنا وقتها في النمسا، الدكتورة الله يمسيها بالخير قعدت تلاغيها، سألتْها: اسمك إيه؟ قالتلها اسمها بالكامل ومسكتتش … أخويا اسمه يوسف وبابا اسمه قاسم وماما ليلى ومعانا كمان نبيلة، دي واحدة قريبتنا عايشة معانا. الدكتورة قعدت تقولها انت حلوة، وبعدين خليتها تبص في مراية وقالتلها: شوفي إنتي حلوة ازاي، وراحت مورياها صور أطفال شفايفهم وأسنانهم مشوهة، وسألتها: إيه رأيك، وحشين؟ قالت: قوي، قالت لها: تعرفي ليه؟ عشان بيحطوا صوابعهم في بقهم، وإنتي كمان حتبقي زيهم لو فضلت تعملي كده، البنت سألتها: طيب وأعمل إيه؟ قالتلها: بطلي حالًا، قالت: حاضر. الدكتورة إدتها شكولاتة، وإحنا مروحين كانت سرحانة بتفكر. بالليل رقدت أنا وأمها على الأرض جنب سريرها نراقبها، مسكت صباعها بإيدها التانية وراحت في النوم. بعد شوية لقيناها بتفك إيدها، وبعد شوية مدت إيدها ناحية بقها وقبل متلمسه انتبهت وبعدت إيدها وكملت نوم. من ساعتها محطتش إيدها في بقها تاني.
سمعت ضحكةً أنثوية بالقرب مني فالتفتُّ نحو مصدر الصوت، رأيت شابًّا في ملابس السجن جالسًا قرب الحائط مع عدد من السجناء وكان يحكي شيئًا وهو يشير بأصابعه أمام فمه كما تفعل نساء الأحياء الشعبية. ولحظت أن أصابعه ازدانت بالخواتم الذهبية.
ظهر أحد السجناء قادمًا من الإدارة يحمل في يده بضع أوراق ويسير بخطواتٍ سريعة تعكس أهميته. اتجه إلى عنبرنا وولجه، وقدرت أنه يحمل قوائم الأكل الخاص بسكان عنبر الملكي. نهضت مسرعًا على أمل واقتربت من باب العنبر حيث وقف السجين ونادى الأسماء ولم يكن اسمي من بينها.
عدت إلى مكاني بجوار الحائط بخطواتٍ متثاقلة. كنت قد شرحت للدكتور أني أنتظر طعامًا من أهلي فطمأنني قائلًا إن أغلب النزلاء لا يحضرون الطعام بصفةٍ يومية وإنما يرتبون مع بعضهم البعض بحيث يتناوبون ذلك ويتشاركون في الأكل، وأن بوسعي أن أتفق مع أهلي على إحضار الطعام مرتين فقط في الأسبوع ويتولى هو وأبو السباع بقية الأيام.
راقبت شابًّا لبنانيًّا ممتلئ الجسم عرَّى ساعديه وكتفَيه وشمر شورتًا ریاضیًّا أسود اللون عن فخذَين ممتلئتين غطَّاهما زغب أصفر. كان لبشرته تلك اللفحة التي يحدثها التعرض طويلًا لأشعة الشمس. ويبدو أنه كان معجبًا بها فلم يكف عن تأملها باستغراق وهو مستلق إلى جوار الحائط.
أصبحت الشمس عمودية وأذَّن الظهر فالْتجأتُ إلى المسجد، خلعت حذائي ووضعته في المدخل وعبرت الحاجز الخشبي. توضأت وانضممت إلى المصلين، عندما انتهيت دعوت الله أن يظهر براءتي. وبقيت جالسًا وقد استولى عليَّ شعور جارف بالكآبة والوحدة.
اقترب مني أحد المصلين وسألني وهو يتطلع ناحية المدخل: مش انت اللي كنت في زنزانة بطشة؟
أومأت بالإيجاب.
قال إنه يريدني في كلمة، وطلب أن ننتحي جانبًا بعيدًا عن المدخل، تبعته إلى ركن.
خاطبني بصوتٍ منخفض: أنا عاوزك تكتبلي جواب.
أعطاني ورقة وقلمًا صغيرًا وطلب مني أن أكتب ما يمليه عليَّ. أسندت الورقة على ركبتي وكتبت:
«السيد اللواء مدير مصلحة السجون
تحية طيبة وبعد:
مقدمه لعدالة سيادتكم المسجون عبد الهادي فرج، وهو ترزي إفرنجي وأصبح الترزي الخاص لمأمور السجن والسادة الضباط وأصدقائهم من كبار تجار المخدرات وأصحاب الأعمال الكبرى مقابل باكو شاي أو السماح له بسرير دون أن يدفع ثمنه لبلطجية الأدوار أو الذين يتاجرون في الأسرَّة، وقد وصل ثمن السرير إلى ٢٠٠ جنيه وذلك لحساب مأمور السجن، كما أن الضباط يقومون بصرف حصص الخبز للمسجونين خلاف الواقع ويتم بيع الباقي لحسابهم.»
انتبهت فجأة إلى خطورة ما كتبته، وشعر هو برد فعلي فقال وهو يتناول مني الورقة: متخفش؛ محدش حيعرف إنك اللي كتبتها.
أعطاني علبة سجاير وأضاف وهو يتفحص ملابسي: لو عزت أي حاجة أنا تحت أمرك. سألته عن مكانه فقال إنه في الطابق العلوي المخصص للمخدرات وجرائم النفس.
غادرت المسجد وانتظرت حتى مرَّ من أمامي كهلان في القميص والبنطلون انهمكا في حديث بصوتٍ عالٍ عن احتمالات الإفراج، كان أحدهما يضع عدساتٍ داكنة فوق نظارته الطبية التي شبكها بسلسلة تدلَّت فوق صدره، وهو وضع طالما أثار أعجابي.
اتجهتُ إلى مساحة من الظل في الناحية الأخرى من الفناء قرفص فيها الشيخ فتحي، فقرفصت إلى جواره وأخذت أعبث بأصابعي في الرمل وأرسم مربعات ودوائر، كان الزحام قد خفَّ بسبب الشمس، ومدَّ ذو الفانلة الحمراء حبلًا من حائط العنبر إلى سور من السلك يفصلنا عن فناء العنبر الآخر، ونشر فوقه الملابس التي انتهى من غسلها.
لمحت ملتحيًا يطوف بالفناء ورأسه مدلاة يتأمل الأرض، وكان ينحني بين الحين والآخر ليلتقط قصاصات الورق فيتصفحها ويضعها في جيب سرواله كانت ملابسه بيضاء مثل زملائه، لكنها كانت أقل بهاء ويبدو عليها القِدم وضِعة الحال. استفسرت من الشيخ فتحي عن الأمر فقال لي إنه مكلف من زملائه السُّنية بجمع كل القصاصات التي تحمل اسم الله أو الرسول عليه الصلاة والسلام کي لا يدهسها أحد بدون وعي، وبعد ذلك تحرق. سألني عن قضيتي فرويت له قصتي، وسألته عن جريمة الدكتور فقال: أفتكر رشوة.
– وسعادة السفير؟
ضحك: ده بتاع الفراخ والكبدة.
تشجعت وسألته عن قضيته؟
قال: موضوع کیدي.
قلت: متهمينيك بإيه؟
قال: العلاج الروحاني.
– ودي تهمة؟
هزَّ كتفه ولم يعلق.
أضاف بعد لحظة: أنا أصلًا موظف، ويوم كنت راجع من الشغل وطلبت من مراتي تحضر الأكل. وقعدت أقرا في المصحف. وفجأة لقيت نفسي في عالم آخر غير عالمنا، بعديها قالت لي زوجتي وأهلي إني فضلت في الحالة دي ست ساعات.
قاطعته: مكنتش واعي بحاجة خالص؟
قال: أبدًا كنت في حالة هدوء غريب وسكينة. وبعدين جاني هاتف طلب مني التسول في الشوارع. مرضيتش. قاموا شكِّلوا محكمة روحانية من خمسة أعضاء شفتهم زي ما أنا شايفك كده. المحكمة بعد مدة في المداولة والمشاورة أصدرت ضدي حكم بالسجن المؤبد. ثم ظهرت لي الملكة سالي رئيسة المملكة الطبية الروحانية واتفقت معي إنها تسكن جسمي، والناس فوجئتْ بصوتها يخرج مني مؤكدًا أنها الملكة سالي، وأنها من قوم صالحين من الجن يعالجون كل الأمراض، ما عدا الشلل والعمى، في دقيقتين.
قلت مندهشًا: وهي مين سالي دي … إنس ولا جان؟
ضحك: جن طبعًا. ملكة كبيرة عندهم، وتحت إيدها اتنين مليار جن سخرتهم لعلاج العيانين من بني الإنسان.
كان الدكتور رمزي قد انضم إلينا وهو يمسح عرقه واستمع إلى العبارات الأخيرة وعلى شفتَيه ابتسامةٌ ساخرة، سأله: والجن بتعمل معاهم إيه؟
قال: أنا بقدر أشم ريحة الجن في أي حتة وأحرقه في الحال، الوزرا نفسهم اعترفوا بقدرتي، أيوه أنا عارف انك مش مصدقني. آخر حالة خففتها قبل ما يتقبض عليَّ كانت واحدة ست مرات وزير مات من سنتين، حطيت إيدي على إيدها وبدأ العلاج. ساعتها مبدراش بنفسي. الست جالها تشنج وخرج منها صوت راجل يقول: أنا الشيخ عبد الله وقد تلبستُ جسد هذه السيدة لأني أحببتها بعد وفاة زوجها وأريد أن أتزوجها. قلت له أنت مسلم فلماذا تتلبس أختًا لك في الإسلام. اخرج من جسدها وإلا أحرقتك بآيات الله.
توقف لحظة ووجه إليَّ الحديث متجاهلًا الدكتور رمزي: الجن لازم الواحد يكون حازم معاه ويوريه إنه أقوى منه؛ يعني يفرض إرادته عليه. أصريت إنه يخرج من جسمها وحدِّدتله المكان اللي يخرج منه وهو قدمها اليسرى. وفعلا مافاتش خمس دقايق إلا ورجعت الست لحالتها العادية والناس هللت وكبرت. سألتها إنتي حاسة بإيه؟ قالت زي ما أكون اتولدت أول مرة.
سأله الدكتور: وهي كانت بتشتكي من إيه؟
– بعد موت جوزها على طول بدأت تشعر بحاجات غريبة، أول ما الساعة تبقى اتناشر بالليل تلاقي حاجة تشدها تخليها تقف قدام المراية وتحط مكياج وبعدين تمدد على السرير. وبعد شوية تحس بالسرير بيتهز وحدّ بيضغط عليها. قلتلها المسألة واضحة؛ الشيطان كان عاوز يجامعها.
قال الدكتور: وأنا صغير كان ساكن جنبنا واحد زيك كده. بقَّال اسمه بولس، الناس كانت تجيله عشان تطلع الجن اللي لبسها. كان يحط العيان في أودة ضلمة وهو شايل الصليب ويطلب منه انه يقوله على الحتت اللي بيتنقل فيها الجن في جسمه عشان يحاصره في مكان ويطلعه.
لوى الشيخ فتحي شفته في استياء ثم لزم الصمت، ونادانا الحارس لنصعد فنهضنا متثاقلين ودخلنا العنبر. وأمام زنزانتي استوقفني شابٌّ صعيدي أسمر البشرة يرتدي جلبابًا نظيفًا تبدو من فتحة صدره صديرية موشَّاة بالقصب.
مد إليَّ يده قائلًا: خدامك عبد الفتاح.
صافحته وعندئذٍ طلب مني أن أكتب له خطابًا.
أبديت موافقتي فعرض أن نذهب إلى زنزانته، رافقته إليها وكانت في نهاية الطابق. ولم تكن تختلف عن زنزانتنا سوى في غلبة أبناء الصعيد على نزلائها.
بسط نمرته وجلسنا فوقها. أخرج سيجارة ومبسمًا خشبيًّا، وقطع السيجارة نصفين ثبَّت أحدهما في المبسم وقدَّمه لي. أشعلت السيجارة وجذبت نفسَين عميقَين أصاباني بالدوار ثم ناولته المبسم.
لاحظت أن يديه كبيرتين وأظافره واسعة ومفلطحة. وعندما تربع أمامي رأيت نفس الظاهرة في قدميه. وكانت له عينان عسليتان واسعتان وشعرٌ أسود ناعم.
قال: أنا شفتك بتكتب جواب لواحد في المسجد.
أملاني رسالةً طويلة امتلأت بالسلامات للأهل والأقارب وكل من يسأل عنه وتضمنت أنه في أحسن حال ولا يشكو من شيء ولا يحتاج إلى شيء وأن موعد ترحيله لم يتحدد بعدُ.
سألته: ترحيلك لفين؟
قال إنه أصلًا من سوهاج لكن قبض عليه في القاهرة، ولا بد أن يرسلوه إلى بلدته لتتم محاكمته هناك، وإنه ينتظر هذا الترحيل منذ أربعة شهور.
تعجبت من أن لهجته لا تدل على أميته، فأوضح لي أنه قادر على فك الخط لكن خطه رديء للغاية، كما أنه ترك المدرسة خلال المرحلة الابتدائية وأوشك أن ينسى الأبجدية كلية.
اقترب منا أحد نزلاء الزنزانة الصعايدة وصافحني مرحِّبًا، ثم قدَّم إليَّ سيجارة فقسمها عبد الفتاح وقدم لي نصفًا لأشعله ثم حكى لي قصته؛ في قريته مسجدٌ عتيق يقوم على خدمته عمه الذي يستيقظ في الفجر ليصلي بالناس ثم يتجه إلى حقله ولا يعود منه إلا لصلاة الظهر. وفي أحد الأيام عاد من القاهرة أحد أبناء القرية بعد أن أتم دراسته بكلية الآداب وكانت هيئته غريبة؛ أطلق لحيته وشاربه وارتدى جلبابًا قصيرًا وسروالًا طويلًا، وأخذ يتحدث عن ضرورة تطبيق الأحكام الشرعية وإقامة المجتمع الإسلامي الصحيح على شكل الخلافة، ويأمر بطقوسٍ خاصة في الصلاة، وينهى عن إقامة المآتم والأفراح وبناء المقابر. حتى الآن لا بأس. لكنه بدأ يعتلي منبر المسجد قبل وصول الشيخ فيدعو للجهاد ضد الحكام ابتداء من الخفراء، إلى تحريم التعامل مع النصارى ومع الجمعية الزراعية، ويهاجم خروج الفتيات للدراسة، وينادي بالامتناع عن أكل الخيار والباذنجان.
أبديت دهشتي لمسألة الخيار والباذنجان وسألته عن السبب؛ فاحمر وجهه وتحاشى النظر إليَّ وهو يقول: لأنها بتجيب أفكار وحشة.
استأنف عبد الفتاح قصته وكيف أخذ الجانبان يتبادلان الاتهامات؛ الشيخ يتهم الشاب بالتطرف في فهم الشريعة، بينما الشاب يعتبره متواطئًا مع الحكام. وبالتدريج اكتسب الشاب أنصارًا من الشبان والعاطلين الذين أُغلقت أبواب الهجرة في وجوههم بعد حرب الخليج. وخلع عليه الأنصار لقب الأمير. وفي أحد الأيام عقد مجلس شوری قرر اعتبار الشيخ مرتدًّا لأنه يتقاضى راتبًا من الدولة؛ أي أموالًا حرامًا هي حصيلة الربا، ولأنه ينكر فضيلة الجهاد وهي أحد أركان الإسلام. وعلى هذا الأساس أباحوا دمه.
– قتلوه؟
– ربنا نجده، لبدوا له في الدرة وهجموا عليه بعد المغرب ونزلوا فيه ضرب بالعصي والجنازير. وكان حيخلص منهم لولا جماعة كانوا فايتين.
لزم الشيخ الفراش شهرًا دون أن يجرؤ على إبلاغ السلطات حتى لا يُتهم بالاستعانة بالشرطة أعداء الله، وخلال ذلك كانوا قد أفتوا بعدم جواز الصلاة في المسجد لأنه مسجد ضرار أقيم لأغراض الدنيا، واصطدموا بعبد الفتاح ومجموعة من أصدقائه، وأصيب أحدهم بضربة طائشة من عبد الفتاح توفي على أثرها.
رويت له قصتي بالمثل وأجمعنا على أننا — نحن الاثنان — ضحيتان بريئتان وأكد لي أنني لا بد سأحصل على البراءة قائلًا في حزم: كله إلا الشرف.
حكيت له عن معاناتي في عنبر الميري وما جرى لي مع بطشة وقصة الميدان. ضحك وقال: حظك كان كويس إنك وقعت في إيد علي بلبل. ده راجل طيب وغلبان. متأخر في الترقية وعنده سبع عيال مش ملاحق على أكلهم.
حل موعد التمام فودعته وأصرَّ على إعطائي علبة سجائر مقابل كتابة الخطاب، تمنعت في البداية ثم اكتفيت بنصفها، ومضيت إلى زنزانتي وأنا أفكر فيما وقع لي من أحداث وما كسبت من سجائر وما جرى بيني وبين عبد الفتاح من حديث، شعرت فجأة بصداعٍ عنيف لازمني طول المساء وصدَّ نفسي عن الطعام، فأعطاني الدكتور رمزي قرص أسبيرين ونمت.
استيقظت في الفجر شاعرًا بالبرد رغم حرارة الجو، فبسطت فوقي بطانية وأحطت جسمي بها في عناية، لكن إحساسي بالبرد استمر، وبدأت تنتابني رعشاتٌ خفيفة، فقمت واقفًا ونزعت البطانية الأخرى من تحتي وبسطتها فوق زميلتها، دون جدوى، ظللت أرتعش من البرد حتى أقبل الصباح. وما إن فتحت الزنزانة حتى تدافع الجميع إلى دورة المياه فأخذت أئن بصوتٍ عالٍ، لم ينتبه إليَّ أحد فرفعت صوتي بالأنين وأنا أتطلع حولي لأرى إذا كان أحد قد سمعني، كانت الزنزانة خالية، فانتظرت حتى عاد الدكتور رمزي وعاودت التأوُّه بصوتٍ أعلى.
خفَّ إلى جواري ووضع يده على جبيني ثم أعطاني حبتين أسبيرين تناولتهما مع رشفة ماء، لم تتحسن حالتي إذ انتشرت الآلام المبرحة في عظام ساقيَّ وذراعيَّ والتهب حلقي، ولم أقدر على ابتلاع أي طعام، كما استمرت حرارتي في الارتفاع؛ فأعطاني قرص «باراسيتامول». وعندما لم تهبط الحرارة صب في قروانة ماء مثلجًا يحتفظ به في ترموس. تناول من حقيبته منديلًا نظيفًا فبلَّله بالمياه المثلجة ووضعه على جبهتي إلى أن فقد برودته. كرر هذه العملية إلى فرغت المياه الباردة في ترموسه فاقترض ترموس قاسم بيه.
ظهر عبد الفتاح على باب الزنزانة قائلًا إنه عرف بمرضي فأحضر لي ثلاث ليمونات عصرهم لي في كوب به قليل من الماء، وأصرَّ على أن أجرعه. وظل إلى جانبي مضحِّيًا بطابور العصر، حتى بدأت الحرارة في الهبوط واستسلمت لنومٍ متقطع تخللته الأحلام والتخيلات. كنت أتخيل لنفسي مصائر متنوعة: طالبًا في كلية الطب ثم طبيبًا متخصصًا في أمراض النساء، أو طالبًا في الجامعة الأمريكية ثم سفيرًا في السويد. وقضيت وقتًا طويلًا في محاولة إنفاق عدة آلاف من الدولارات عثرت عليها صدفة: حسبت الإقامة في الشيراتون عدة ليال وسيارة بي إم دابليو ثم شقة في المهندسين أو على النيل، وعندما لم تنتهِ النقود صرفت عدة آلاف على الملابس وأكسسواراتها وفي النوادي الليلية، وأخيرًا ضقت بالأمر عندما لم أتمكن من تخيل أوجهٍ جديدة للإنفاق، ففكرت في هدى وكيف أن غيابي سيكشف لها حقيقة مشاعرها، وعند خروجي سترسل لي موعدًا للقاء في كازينو على النيل وتعترف لي بحبها.
عدت بعد ذلك إلى مغامرةٍ مفضلة لديَّ تبدأ في مترو الأنفاق عندما يصل إلى محطة المعادي. تخيلت نفسي واقفًا إلى جوار الباب وكانت هناك فتاةٌ جميلة للغاية ذات جسمٍ مثير وصدرٍ نافر تستعد للنزول، وعندما توقف المترو فقدت توازنها فسقطت في حضني وشعرت بثدييها على صدري. احمرَّ وجهها وتبادلنا الاعتذارات وغادرنا القطار معًا فتعرفت بها، ودعوتها إلى شقتي حيث قدمت لها الكباب والكفتة والتفاح والبرقوق وحكت لي حكايتها. كانت يتيمة اختُطفت من أهلها في الصغر واستقرت عند أسرة مبسوطة تولت تعليمها. دمعت عيناها فاحتويتها بين ذراعيَّ، وأخذت أربت عليها، فقبَّلتني، وانتهزت الفرصة فتحسست صدرها وفخذيها، وصرنا نلتقي كل يوم في شقتي، وعملت معها كل شيء دون أن أمس بكارتها. وفي نفس الوقت بدأت أبحث عن أهلها. وقادتني الصدف إلى أبيها فإذا به أميرٌ سعودي. هنا فضضت بكارتها وأخذتها إليه فكافأني بتزويجي منها وجعلني وكيلًا لأعماله في مصر.
تحسنت صحتي بعد يومين لازمني فيهما عبد الفتاح، ونودي عليَّ في اليوم الرابع للزيارة. أقرضني ماكينة حلاقته وشفرة «ناسيت» جديدة فأزلت شعر ذقني. وصحبني إلى دورة المياه حيث استحممت، وعندما عدنا إلى الزنزانة لم يكن بها أحد إذ خرج الجميع إلى الطابور، ناولني قميصي مكويًّا واكتشفت أنه قام بكيه بنفسه، قلت له وأنا أرتديى القميص: أنا مش عارف كنت حاعمل إيه من غيرك؟
احمرَّ وجهه وتشاغل بتسوية فتحة القميص، تطلعت إليه في حنان ثم ضممته إلى صدري.
صحبني الحارس مع عددٍ آخر من النزلاء إلى قاعة الزيارة. ومررنا بصالةٍ كبيرةٍ ملحقة بمكاتب الضباط، مخصصة للزيارات الخاصة، ظهرت من بابها دككٌ خشبية وبطاطين مفروشة على الأرض وازدحمت بالأهالي، مضينا إلى صالةٍ أخرى واسعة تعترضها في المنتصف شبكتان متوازيتان من السلك يفصل بينهما حوالي متر يقف فيه الحراس، وقفنا خلف الشبكة وقد بلغ عددنا حوالي ستين سجينًا، ولمحتُ أمي بين الأهالي الذين تزاحموا على الشبكة الأخرى، كانت الضجة هائلة إذ كان الجميع يتكلمون في وقتٍ واحد وبأعلى أصواتهم ليتمكن ذووهم من سماعهم.
صحت بها بأعلى صوتي: فين الأكل؟
قالت شيئًا وهي تهزُّ رأسها، أشرت بيدي إلى فمي وحركت أسناني في مضغٍ وهمي، فصاحت بشيء لم أسمعه وأخيرًا فهمت أنها أحضرت الطعام وسلمته للإدارة.
حاولت أن أشرح لها الاتفاق الذي وصلت إليه مع الدكتور رمزي بشأن إحضار الطعام مرتين فقط في الأسبوع لكنها لم تسمع صوتي كما لم تفهم إشارات أصابعي.
صحت بها: المرة الجاية اطلبي زيارة خاصة عشان نعرف نكَّلم مع بعض.
لم تسمع وتطلعت إليَّ مستفهمة، ويئست أخيرًا من المحاولة فانصرفت إلى تأمل الزوار الآخرين إلى أن انتهت الزيارة.
أعطوني كيس الطعام وصندوق السجائر اللذين تركتهما أمي. كان الصندوق مفتوحًا وناقصًا علبتين. ومع ذلك حملته سعيدًا إلى العنبر لأهدي عبد الفتاح علبةً كاملة منه.