٩
إذا كان شرف موجودًا بجسده بين جدران الزنزانة الأربعة، فإن روحه كانت ترفرف في الخارج طول الوقت، ليلًا ونهارًا؛ فهو من سلالة شعبٍ عظيم فضَّل دائمًا أن يكون مستعبدًا كي لا يحرم من عشق الحرية والتطلع إليها.
حقًّا إن رحلات الليل كانت مختلفة عن رحلات النهار؛ بحكم تغير موقع الأرض من الشمس من ناحية، واختلاف موقعه هو من الأرض من ناحيةٍ أخرى. فالمعلوم أن الوضع الأفقي الليلي بتجلياته الرحمية والبطنية والظهرية يجلب صورًا مختلفة عن تلك التي يجلبها الوضع العمودي النهاري في تنوعاته من انتصاب وقرفصة وتربع وركوع. لم تكن لديه مشكلة بالنسبة للأول. وأمدَّته الزنزانة الملكية بوقود للثاني تمثل في إمكانية التخطيط للمستقبل وفقًا لأوبشنز متعددة لم تتوافر في زنزانة الميري.
فلم يكن هناك ما يغري في تسلق مواسير عمارة (بطشة أو صنقر)، الاعتداء على راكب مسالم (صلصة وبلحة)، الاستسلام للغضب (سامي عازر وعم فوزي)، قضاء الليل في ميدان العتبة (فلاح كفر الشيخ) حراسة الأبنية والمخازن (سامبو وصبري)، النزول إلى باطن الأرض (حسن بكبورت)، قيادة باصات لا تتوقف (عم جابر)، التمسك بجنسية خاسرة (الولد الفلسطيني)، أو حتى الدفاع عن الشرف (أشرف نفسه).
أما مع الملكيين فقد كانت هناك مثلًا فرصة للجمع بين رحلات الليل والنهار يقدمها الشيخ فتحي (بحكم قدرته على شفاء الأمراض من ناحية، وبراعته في إخراج الجان من أجساد السيدات من ناحية أخرى)، وقد أمدَّته بوقود لنشاطه الليلي إلى أن ضربته الشمس فتبين أنه لا يملك شيئًا من العدة الضرورية؛ فهو لا يحفظ من القرآن إلا ثلاث سورٍ قصيرة لزوم الصلاة: الفاتحة، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس. وكان الشيخ ضنينًا بعلمه، يرى في شرف ما رآه أغلب رفاق الزنزانة؛ عيِّل مشكوك في رجولته. كما أن هذا سريعًا ما اكتشف أن دروب العلم غويطة، وأن الأرواح أنواع كما طُرق إخراجها أيضًا.
فقد تعجب مرة من أمر السجين المنعزل ذي العوينات المقعرة الذي يدفن نفسه في الركن والمصحف، فاستفسر من جاره؛ الشاب الهادئ سامح (الذي يثور مع ذلك إذا لمس أحد حاجياته أو حتى صابونته) قائلًا: راجل غريب! هو أخرس؟
قال سامح: أبدًا. دا مهندس محترم في شركة الألومنيوم.
– وإيه اللي جابه؟
ليس لأنه متزوج من مهندسة محترمة مثله؛ زميلته في نفس الشركة، ولا لأنه مرةً واحدة أطلق لحيته ونقب زوجته ثم تركا العمل ولزما البيت، وإنما بسبب الأرواح الشريرة.
– عندهم بنت سنها اتناشر سنة، حبوا ينقبوها مرضيتش؛ قاموا حجزوها في البيت ومنعوها من الخروج والمدرسة. فضل حبسها مدة والبنت راسها وألف سيف انها متتنقَّبش، واحد صاحبه قال له إن عليها أرواح من نوع میخرجش إلا بالضرب، نزل ضرب فيها هو وأمها بخرطوم بلاستيك.
سأله شرف: وطلعت الأرواح؟
أجاب: لأ. روحها هي اللي طلعت.
لم يقلها بسخرية أو حزن وإنما بلهجةٍ تقريرية أثارت فضول شرف. وتكشف الشاب رغم واقعيته عن حالمٍ كبير بفضل شهادته الجامعية (بكالوريوس تجارة)، ووظيفته (أمين خزينة في عمر أفندي) (مما يفسر أيضًا احتياجه الدائم إلى تنظيف يديه)، أما الحلم فهو أسطول من سيارات نقل السائحين، يقترب ثمن الواحدة من رقم واحد وأمامه ستة أصفار، سجل الرقم على ورقة مذكرًا نفسه بأنه لا يملك صفرًا واحدًا. وتجلَّت له على الفور الإمكانيات التي تتفتح عندما يتغير موقع العلامة العشرية، فبوسعه أن يقترض خمسة آلاف من إحدى قريباته ويحصل على خمسة آلاف أخرى من جمعية يؤلفها مع زملائه في عمر أفندي ثم يدفع الآلاف العشرة لمعرض يبيع بالتقسيط ويحصل منه على سيارة فان تتسع ﻟ ١٦ راكبًا، ثم يسدد ثمن السيارة من سلفةٍ أخرى مؤجَّلة بالإضافة إلى عائد تشغيلها في نقل أطفال بعض معارفه إلى مدارسهم. وبعد ذلك يسدد السلفة المؤجلة ويؤجل قريبته إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا. وما إن ينتهي من سداد ثمن السيارة يكرر العملية، وينتقل إلى سيارات أكبر حجمًا، وهكذا إلى أن يتكون أسطول الأحلام.
– متتصورش كنت عايش ازاي! كان لازم أكون في الشغل الساعة تسعة إلا ربع، وقبليها بساعة قدام مدرستین، وقبل كده بساعة تانية قدام بيوت التلامذة. مكنتش بنام وطول الوقت على أعصابي، حاطط منبهين جنبي عشان أضمن أصحى الساعة خمسة الصبح، ويا ويلي لو تلميذ منزلش لأنه عيي أو راحت عليه نومة أو لو اتحرقت بوجيهات السيارة أو انفجر الكاوتش أو البطارية عطلت، المهم قدرت أسدد شوية أقساط لغاية ما العربية طارت.
حادثة؟ تقريبًا؛ فقد صادرتها الشرطة بعد أن تبين أنها مسروقة من الأساس وضاعت عليه الآلاف العشرة وما تلاها من أقساط، وانضم إلى ثلاثين حالمًا آخر قدموا بلاغات ضد صاحب المعرض الذي كانت كل جريمته هي العبث، مثلهم، بالعلامة العشرية.
هل يستسلم لليأس؟ ويظل قابعًا خلف خزينة عمر أفندي حتى يبلغ سن التقاعد؟
أجاب شرف على الفور: طبعًا لا.
التجأ سامح مرةً أخرى إلى تحريك العلامة العشرية، واختار مكان عمله مجالًا للمحاولة؛ فالثمن المقيد بقسيمة البيع إذا كان مثلًا ٢٣ جنيهًا و١٢ من مائة يسجله على شريط ماكينة الخزينة جنيهين و٣١٢ من ألف، نجحت الطريقة نجاحًا باهرًا ولم يعبها سوى أمرين: الأول اضطراره لاقتسام الدخل مع زميل له. والثاني هو ما حدث في يومٍ موعود، فبدلًا من أن تتحرك العلامة العشرية، تحرك ضمير الزميل.
اكتشف شرف بالتدريج أن محاولة تحريك العلامة العشرية هي القاسم المشترك الأعظم بين زملائه في الزنزانة. لكن الحساب، بكل تجلياته من جمع وطرح وقسمة وضرب، كان أضعف نقاطه في المدرسة؛ ولهذا استبعده من مخططاته، وخاصة بعد أن علم ببعض مضاعفات الأرقام كما في حالة توكل الذي يحتل أهم نمرة في الزنزانة ولا تنتظره أي نمرة في الخارج. فعندما خرج من أول سجن على الحديدة، التجأ إلى أبيه الذي جمع ثروةً كبيرة من التسول وتقاعد بعد أن بلغ السبعين، طلب منه قرضًا بسيطًا ستة آلاف من الجنيهات، ليستأنف بها تجارة المخدرات لكن الأب البخيل رفض. عندئذٍ انهال عليه بالشاكوش حتى مات، وحفر له مقبرة داخل غرفته دفنه بها وقام بتبليط الغرفة، لكن الرائحة فضحته ورافقته حتى الزنزانة. وبسبب هذه الرائحة انجذب شرف إلى مستر تامر.
فبهدف مكافحتها جلب الأخير أسطوانةً معدنيةً أنيقة، نُقش عليها شعارٌ غامض: «حلٌّ خاص لمشكلةٍ عامة من جونسون»، ووعدٌ براق: «يقضي على رائحة الدخان فورًا وينشر رائحةً عطريةً هادئة تعطر الجو في الصباح.»
ضاعف هذا التصرف الشيك من جاذبية مستر تامر في نظره، إلى جانب ملابسه الكاجوال ورقَّته المنحدرة من ملوك ومماليك أحسن الخدم تربيتهم، وبيجامته الحريرية اﻟ «بيزيك ثينكينج» التي يصرُّ على ارتدائها قبل النوم، وهالة العطور التي تحيط به دومًا (من دهان الشعر «كازوريل»، إلى مضاد العرق، مرورًا بأفتر شيف «سبورت»)، والكلمات الإنجليزية التي تقفز إلى شفتَيه عن غير قصد، وأنواع الأطعمة التي تأتيه يوميًّا معجنات وفطائر، كرواسون وسابليهات، ألبان طازجة، شرائح أناناس لزوم الاستعمال مع «كلوجز» الذي اصطف خلفه بتجلياته المتنوعة («هوني سماكس»، «رايس كريسبيز»، «فروستيز»، «كورن فلاكس»، «كورن بويس»)، مربات وأجبان فرنسية كريهة الرائحة، قلوب النخل بالدريسنج، كشك الدجاج والتوست، دجاج مخلي بالزيتون، دجاج شركسية، دجاج بالكاري، سمك باللبن، سمك بالجمبري، جمبري بالشامبينيون، جمبري بالجمبري، ومن الحلويات ألماظية الشوكولاتة وطورطة «بلاك فورست» وتارت جلاسيه دون أن ننسى شاي الساعة الخامسة مع الكوكيز.
كانت كل هذه الخيرات تأتي في صناديق تحمل اسم فندقٍ مشهور من فنادق الخمسة نجوم؛ سرعان ما تبين أن مستر تامر ليس غير مديره الإقليمي. وارتفع قدر مستر تامر أكثر عندما عرف شرف أنه يدير بالإضافة إلى الفندق، شبكة دعارة من ممثلات الإعلانات التليفزيونية. ثم هوى بسبب الألعاب المحلية.
لم تكن كوتشينة أو دومينو أو سيجة (سيتعلمها أشرف بعد ذلك على يد عبد الفتاح) ولا حتى شطرنج، وإنما «سكرابل»، أخرج رقعتها من أحد صناديقه ليلاعب من يستطيع تكوين كلمات بالإنجليزية انطلاقًا من أحد حروف كلمةٍ قاعدية يصفها بنفسه بحروف جاهزة.
كان مستر تامر ذا فراسة فاختار لمنازلته اثنين فقط لمس إجادتهما للإنجليزية هما الدكتور والسفير، ورفض أن يسمح لشرف بملاعبته رغم تأكيدات الشاب أنه يجيد اللغة «في الحقيقة».
لم تمضِ اللعبة في سلاسة. فلم يكن هناك قاموسٌ مشترك، وكان كل واحد يختار مفرداته من قاموسٍ خاص يجهله الآخران؛ فيثور الجدل، لكن اختلاف القواميس لم يكن السبب الوحيد في تخريب سكرابل. فعلى عكس مستر تامر الرقيق المهذب، كان سعادة السفير، في الفانلة التي كشفت عن شعر کتفیه وثدييه، والكلسون البلدي الفضفاض الذي يبلغ ركبتيه، وبصوته الجهوري؛ فخورًا بتاريخه الذي امتد من العسكرية إلى الخارجية ثم الفراخ والكبدة؛ فأتاح له مكانةً مرموقة ومعرفةً شاملة؛ مما جعل الاصطدام بالدكتور رمزي أمرًا محتومًا.
فالدكتور رمزي (رغم شروده المتواتر)، كان مغرمًا بإيضاح الأمور، والتعليق على القضايا المثارة، مستعينًا بكوم من الجرائد والمجلات العربية والأجنبية تصله بانتظام (المحلية عن طريق الكانتين، والأجنبية تحضرها سكرتيرةٌ مخلصة مع الطعام والملابس المغسولة) فضلًا عن الكتب التي يستعيرها من مكتبة السجن. كما كان عاجزًا عن السيطرة على انفعالاته، جاهزًا للانفجار عند أدنى معارضة، على عكس السفير البارد الأعصاب غير المستعد (بحكم تاريخه العسكري الحافل بالانتصارات) لقبول الهزيمة؛ لهذا أثارت نتيجة موقعة «إيزالو» حفيظته.
فقد شاء السفير أن يكافح الناموس الهائج بالقرص الساحر، وتصدى له الدكتور مؤكدًا أن القرص يؤدي للإصابة بالسرطان، وعلى الأقل تضخم الرئتين واحتقان الطحال.
قال له سعادة السفير في بروده القاتل: وانت إيش عرفك؟
لم يكن الدكتور رمزي طبيبًا وإنما صيدليًّا؛ ولهذا كانت مصداقيته أكبر (بسبب الجرائم التي لم يتمكن الصيادلة بعدُ من ارتكابها). ولم يكن السفير يتمتع بشعبية، كما أن توكل رأى ببعد نظره أن تشغيل الجهاز سيفتح بابًا لتبديد التيار الكهربائي الذي يتولى مسئوليته. لهذا كله انتصر الدكتور في معركة إيزالو، واستعوض السفير هزيمته في معارك سكرابل.
ففي إحدى المرات تشكلت على الرقعة عبارة «سيتي بنك» وبينما كان الدكتور رمزي يفكر في كلمة تنطلق من أحد حروفها، وجد سعادة السفير الفرصة لتعليق اقتصادي: فهذا البنك الذي سيبدأ نشاطه في مصر بطرح سندات قيمتها ٢٠٠ مليون جنيه هو دليل على صحة الاقتصاد المصري وعلى نجاحه في اجتذاب الخواجات. وما كان الدكتور رمزي ليترك تعليقًا كهذا يمر في بساطة فقال للسفير إنه يتذكر أن هذا البنك كان موجودًا من عشر سنوات واستفاد من الاعفاءات التي قررتها الدولة بهدف جذب الاستثمارات الأجنبية ثم أوقف نشاطه بعد انتهاء مدة الإعفاء وحوَّل أرباحه للخارج ومضى.
– طب وفيها إيه؟
ولا حاجة، سوى أن البنك، في رأي الدكتور، يعود الآن ليكرر ما فعله من قبلُ فيستفيد من الإعفاءات دون أن يجلب استثمارات ولا يحزنون، وإنما يستعين بقرض من جمهور المصريين على تمويل نشاطه في امتصاص استثماراتهم.
كفر وتجديف بالطبع في نظر السفير؛ لأن مجلس إدارة البنك مكون من ناس محترمين هم رؤساء «بيبسي كولا»، و«بوينج» و«بيكتل» للمقاولات، التي كان يرأسها «شولتز» وزير الخارجية الأمريكية، فاكره؟ أما أكبر مساهم فهو أمير سعودي وهذا وحده أكبر دليل على سلامة البنك.
من وجهة نظر الدكتور رمزي كان هذا دليلًا دامغًا وإنما على العكس؛ فانفجر السفير موجهًا شتى الاتهامات للدكتور، وكاد الاثنان يتماسكان بالأيدي لولا توكل الذي تدخل مكررًا نداءاته بضبط النفس.
شيئًا فشيئًا كان اللون الأبيض يزحف إلى شعر سعادة السفير لا نتيجة زوال الصبغة وإنما بسبب معارك سكرابل، وفقد مستر تامر حماسه للعبة فقد السيطرة على تجلياتها، وكان هناك ضغط غير ملحوظ من الرأي العام الذي كان مستبعدًا من معاركها، هكذا تراجعت سكرابل لصالح لعبةٍ أخرى أكثر شعبية، تدعى «عروستي».
كانت بسيطة للغاية: يختار الواحد كلمة لا يفصح عنها للآخرين، ثم يقدم معلومات مبهمة عن مضمونها مبتدئًا بالتصنيفات الرئيسية لأنواع الموجودات: إنسان، حيوان، جماد. ويتبارى اللاعبون في التخمين متقدمين على طريق المعرفة.
سبق لأشرف أن جرب هذه اللعبة مع أخته وأمه وأولاد خالته في دمنهور، وكان الرصيد من الأغاني والأفلام المصرية أساسًا ومسلسلات التليفزيون وبرامجه ثم بضاعته الخاصة التي أفحمهم بها والمؤلَّفة من نينا ريتشي كريستيان ديور شانيل كارفن جيفنتشي لاروش لانفان تيد لابيدوس باکورابان،
كارتييه بوشرون دوبون إيف سان لوران بيير كاردان هرمس،
وستنجهاوس يونيون إير فيلكوساس ميركو كاريير،
سوني بوش سامسونج جنرال إلكتريك أريستون فيلييس،
شارب كريازي سيتيزين كلفينيتور ناشيونال،
يورك هوفر هيتاشي طومسون أكاي،
شيراتون هیلتون سوفيتل موفينبيك أوبروي هینان،
إنتركونتينتال سويس أوتيل سونستا،
فولكس فاجن سكودا فيليشيا،
فيات أونو بونتو دوجان ألفاروميو،
أوبل كورسا فيكترا بيجو،
هیونداي لادا داتشيا نيسان کیا بیتسا كيا سيفيا نوشا،
ميتسوبيشي لانسر سوزوکي ماروتي مازدا تويوتا كرولا ستارليت،
فالكون كریست نوتس لا ندنج دالاس بولد آند بيوتيفول،
لانس آبي ريتشارد جير ريدج.
لكن ملكيِّي السجن غير مثقفي دمنهور. وكما يحدث في التحولات الثورية، سرعان ما وقعت اللعبة التي استوعبت جميع الطبقات والاتجاهات في البداية، في قبضة مراكز القوى وأصبحت مجالًا للتنافس بين الأقطاب الثلاثة. فارتفعت إلى مستوياتٍ عالية بعيدة عن مدارك أمثال شرف. صحيح أنه سجل نقطتَين ساحقتَين؛ فهو الوحيد الذي عرف أن «كورونا» تؤكل وتُركب (الأولى شكولاتة والثانية طراز لتويوتا) وأن سيارة «دوجان» من فيات مثل مواطني الكويت نوعان؛ واحد بمحرك «تمبرا» بالباور والثاني بدون. لكن معلوماته كانت مليئة بثغراتٍ واسعة مثل الثقوب الكونية السوداء. فمن أين له أن يعرف فضيات «ريجالي»، جلود «بوزانو»، حقائب سيدات «أوريالي»، أو «جاكوزي» التي ثبتها السفير في حمامه، أو ملوك ملابس الرجال مثل «ماريان بيك»، «غولدستين»، «سرج غيور»، «تیدي كنوف» الذين يعرفهم مستر تامر معرفة شخصية، أو الشخصيات الأخرى التي لا يعرفها الدكتور رمزي شخصيًّا مثل «دورينمات» و«إبسن»، «مصطفى النحاس» و«عبد المنعم رياض»، «نور الهدى»، و«مارلین دیتریش»، ابن رشد و«باسكال» الفيلسوف لا المجوهراتي، فضلًا عن طراز «موستانج» في السيارات، وعاصمتي باراجواي وأوروجواي وبضع عشرات من الأمراض والأوبئة والأدوية؟ وفي النهاية تكفلَّت قضية الشرق الأوسط بنسف اللعبة نسفًا تامًّا.
والذي حدث أن سعادة السفير اختار كلمة وأعطى الإشارات الضرورية التي حددتها كاسم دولة في الشرق الأوسط، وأضاف مجموعة من الإشارات توجت بحاصل جمع الفَلَس والطين، فانفجرت ثائرة الدكتور رمزي.
لم يكن السبب سياسيًّا أو أيديولوجيًّا وإنما تقنيًّا بحتًا: فلسطين ليست بعدُ دولةً رغم كل الاتفاقيات التي عُقدت بشأنها. فنَّد السفير هذا الزعم من واقع نصوص مدريد وأوسلو، عارجًا على دوره في حرب أكتوبر مقاتلًا في قيادة اللواء الثالث، وفي مباحثات السلام سفيرًا في كامب ديفيد، متفرعًا إلى نتائج الصلح مع إسرائيل (الأموال ستتكدس لدينا ويتم حل مشاكلنا) الأمر الذي عارضه الدكتور مستشهدًا بنتائج الخبرة الإسرائيلية في الزراعة؛ خيار بطعم البلاستيك، وفراولة بطعم اللفت، وتفاح بطعم قشر البطيخ، وخوخ مفعوله أقوى من الحقنة الشرجية، وبيض بلا طعم، ونحل بلا عسل.
التفرعات تطرقت إلى محطاتٍ متوقعة: جمال عبد الناصر، الاتحاد السوفييتي، وأخرى غير متوقعة.
ففي غمرة انفعاله تخلى السفير عن نقطة البداية في عروستي معلنًا أن فلسطين هي أرض اليهود طبقًا للقرآن: عاشوا فيها من قديم ثم تشتتوا وآن لهم أن يعودوا.
– يبقى لهم حق في مصر كمان … مش عاشوا فيها؟
– مصر حاجة تانية.
– ازاي؟
لا إجابة وإنما تفريعة جديدة: التقدم العلمي والتكنولوجي.
عدد الدكتور (مستشهدًا بمجلة أمريكية إلى جواره) المساعدات التي حصلت عليها إسرائيل من الغرب والتي تفوق مائة مرة ما حصل عليه جميع سكان العالم الثالث مجتمعين، وقال ملوِّحًا بالمجلة: أمريكا نفسها تقدم ألف دولار سنويًّا لكل فرد إسرائيلي. ووجد السفير في هذه الأدلة تأكيدًا لوجهة نظره: شاطرين.
كان شرف من الجيل الذي شكله سعادة السفير ورفاقه باسم «جيل السلام» و«مصر أولًا» واشتهر بالاسم الكودي «جيل أكتوبر». وكانت للدكتور رمزي آراء غير حداثية من قبيل معارضته لشامبو الشعر على أساس أنه مجرد صابون تضاف إليه مواد تضر بجلد الرأس، هكذا وجد شرف نفسه ميالًا إلى وجهة نظر السفير ومنحازًا إليه بكل عواطفه وبفكره الاستراتيجي، خاصة وأنه وجده يحوز مجموعة «ستينج» الكاملة؛ النظارة وجرابها وسلسلتها، فشرع يتقرب إليه منافسًا في ذلك رمضان بلدية. لكن طموحات شرف تحطمت على صخرةٍ صغيرة للغاية لا من الحجر الرملي أو الجيري وإنما من الحلاوة الطحينية.
رغم المساحة الكبيرة التي احتلَّها قاسم بيه في كل من الزنزانة والمجتمع إلا أنه كان تقليديًّا محافظًا متمسكًا بالتراث. الملوخية والبامية والقلقاس والخبيزة والأرز المفلفل العادي والفول المدمس والبصارة والكنافة والبقلاوة والبسبوسة (يتخللها أحيانًا البودنج بالمكسرات من ذكريات أيام السفارة) مرددًا بمناسبة وغير مناسبة: «إحنا شعب يهضم الزلط»، كما ألِف أن يفعل زميله بائع المكرونة. لكن متعته الرئيسية، للعجب، كانت الحلاوة الطحينية، بالفستق بطبيعة الحال.
وتصادف أن هذا النوع المتخلف من الحلوى كان عشق شرف من الصغر، وأجمل ذكريات طفولته هي المصحوبة بساندوتش منها (من الخبز الفينو) وأروعها هي المرات المعدودة التي وسدت فيها فوق طبقة من الزبد. وقد تداعت هذه الذكريات في كل مرة يلتهم فيها السفير قطعة منها.
وتصادف أيضًا أن النمل هاجم نمرة سعادة السفير ونجح في التسلل إلى علبة الحلاوة. التجأ إلى علبة «بيروسول» رش منها حول نمرته فذكر له الدكتور رمزي أن المبيد لا يحل المشكلة وأن النظافة التامة هي التي تمنع توالد الحشرات. لم يحفل السفير بالرد عليه وإنما قال في سخرية: «وإيه كمان يا دكتور؟» قال الدكتور إن البيروسول بالذات يؤثر على العصب البصري ويمكن أن يؤدي إلى تصلب الشرايين وارتفاع ضغط الدم وتضخم الكبد، كما أنه يضرُّ بالقدرة الجنسية.
كانت الحجة الأخيرة هي التي أقنعت السفير. فكفَّ عن الرش في صمت، وتنافس شرف ورمضان على إخراج نمرته إلى الفناء وصناديقه إلى الطرقة، واستدعى واحدًا من الخدم لمسح الزنزانة جيدًا ورشها بالجاز. اختفى النمل يومًا واحدًا ثم ظهر من جديد، فتفتق ذهن السفير عن حل من التراث. وضع علبة الحلاوة في قروانة مليئة بالماء ووضع القروانة في منطقة البلل؛ أي عند المدخل، إلى جوار الدلوين والأحذية ورأس شرف.
كان الإغراء أكثر مما يحتمل الشاب المسكين، فانتظر إلى أن نام الجميع، ومد يده إلى العلبة فرفعها من المياه في خفة وأزال غطاءها، وجانبًا من محتوياتها.
لم يكن البيروسول قد أثر بعدُ على نظر السفير فاكتشف العدوان في الصباح التالي مباشرة، ووقف وسط الزنزانة ممسكًا بالعلبة في يده وهو يزأر: مين الكلب اللي أكل من الحلاوة دي؟
لم يفه أحد بكلمة، وتحاشت الأنظار الاتجاه إلى توكل وربيبه ماكس (وهما مرشحان للاتهام بسبب موقعهما الاجتماعي والدلوي) وتركزت على شرف (أضعف الحلقات).
كرر السفير: حد قام بالليل وأكل منها؟
بدافع الكيد للسفير أو إشفاقًا على الشاب المسكين تدخل الدكتور: محدش. أنا معرفتش أنام طول الليل ومشفتش حد قرب منها.
وجه إليه السفير نظرات الاتهام ثم نقل البصر، بين شرف وقروانة الماء والعلبة مستعيدًا القواعد الرئيسية للتحصينات الدفاعية كما درسها في كلية أركان الحرب، ثم رفع العلبة إلى فمه وبصق فيها. ووسط ذهول الموجودين انطلق يوزع بصقاته على أركانها قائلًا وهو يبتسم في خبث، مخاطبًا شرف: کده محدش حيقرب منها غيري.
دفعت الحادثة شرف في اتجاه الدكتور الذي لم تكن تفصله عنه غير نمرةٍ واحدة. وكان الدكتور بعد انهيار سكرابل قد انصرف إلى مجلاته وكتبه، ولم يبخل على شرف بالمعرفة فأقرضه ما شاء منها؛ الأمر الذي أصابه بالإحباط.
فالمجلات كانت خالية تمامًا من «الصور». ذلك أن الملتحين ألحقوا بإدارة السجن نوباتجيًّا من بينهم، من المعجبين بالرقيبة على المصنفات الفنية: لا بجمالها وإنما بمهنتها، فمارسها على ما يصل السجن من مجلات، مستخدمًا قيعان البطاريات القلمية في مسح صور النساء والرجال أيضًا، تجنبًا لكل صور الانحراف، أما الكتب فكانت نوعين: اقتصادية وعلمية فوق مدارك أشرف، أو روايات مسرحية لا طاقة له على قراءتها.
أبدى شرف تعجبه من اهتمامات الدكتور، فاعترف هذا بأنه كان عضوًا في جماعة المسرح بالمدرسة وأضاف: المسرح حلو.
وافقه شرف قائلًا إنه يحب المسرحيات التي يشهدها في التليفزيون ويتولى بطولتها «فؤاد المهندس» و«عادل إمام» و«محمد صبحي» و«أحمد بدير»؛ لكنه يفضل أفلام «فان دام» و«شوارزينجر»، لم يعلق الدكتور وإنما استعار له من مكتبة السجن مسرحية توفيق الحكيم «رصاصة في القلب» التي أعجبت شرف (فلم يكن قد نسي هدى بعدُ)، أو تظاهر بأنها أعجبته كي يحظى بتقدير صديقه الجديد، حتى إنه اقترح عليه محاولة تمثيلها.
التمعت عينا الدكتور وقال وهو يتحسس شعر رأسه بأصابعَ طويلةٍ رشيقة ليتأكد من وجود كل شعرة متبقية في مكانها: يا ريت. أنا قلت للمأمور نألف فرقة مسرحية من المساجين، مرضاش.
أن يتبادل سجين الحديث مع الباشا المأمور نبأٌ مثير. الأكثر إثارة تفاصيل الحديث الذي تناول موضوعاتٍ عديدة؛ طلب الباشا خلاله من الدكتور أن يصف له بعض الأدوية المنشطة.
استفسر الشاب الغر: منشطة لإيه؟
ضحك الدكتور: تفتكر لإيه؟
تأخر شرف في الإدراك لأنه شخصيًّا لم يكن يحتاج إلى تنشيط. ولهذا السبب انتهز الفرصة ليستفسر عن الموضوع الذي يؤرقه. وأتحفه الدكتور بعرضٍ علميٍّ رصين: ليست هناك أضرار، وعلى العكس؛ أي عضو في الجسم لا يُستخدم يتعرض للضمور، لكن المشكلة في وتيرة هذا الاستخدام.
– تصور أنك بتشوف كل يوم فيلم لفان دام بتاعك أو جيمس بوند وتعيش في عالم السوبرمان؟ ازاي تكون علاقتك بالواقع؟ (لم يفهم شرف المقصود) الأهم من كده الإحساس اللي بتسيبه جواك، إن فيه حاجة نقصاك لأنك بتحضن صورة في الهواء، مفيش أجمل ولا ألذ من حضن الجسم الحي.
لم تكن تجربة شرف في الحياة تتيح له فهم الجانب الحسي فضلًا عن الفلسفي من حديث الدكتور، الذي لم ينتبه للأمر؛ وانتقل بسرعة إلى حديث الذكريات قبل أن يفقد مستمعه: لما بلغت عملت المناولة، رحت الكنيسة مع أبويا يوم حد. وبعد الوعظ القسيس قرا أجزاء من الإنجيل. وبعدين صلى على القربان. القربان ده حتة عيش ناشفة، كسرها فوق فوطة بيضة وقرب الفوطة من بقي فتناولت الكسر.
كانت هذه هي الفاتحة. فبعد شهور استمنى الدكتور لأول مرة، انتابه الرعب وذهب للاعتراف. طلب منه القسيس أن يقرأ «السلام عليك يا مريم» عشرين مرة ويصوم يومين، وأن يمتنع عن العادة الخبيثة. وعده بذلك وانصرف مشيعًا بالمطلوب: «اذهب مغفورة لك خطاياك.» بعد يومين ضعف. ذهب إليه مرةً أخرى. وتكرر المشهد. يعترف ويتوب فينال الغفران ويعود إلى البيت مصممًا على الامتناع، وفي مساء نفس اليوم يضعف فيذهب إلى القسيس في اليوم التالي، وهكذا، وبعد عدة مرات خطر له أنه طالما يحصل على الغفران دائمًا فلا بأس أن يذهب إليه مرةً واحدة في الأسبوع، ثم جعلها مرة في الشهر. وأخيرًا انقطع عن الذهاب نهائيًّا.
لم يكن شرف هو الوحيد الذي لجأ إلى الدكتور في شئون الجسد؛ فقد حرص كل واحد منهم على أن ينفرد بالدكتور ويقود الحديث بمهارة إلى بيت القصيد، مع تنويعات. فإذا كان شرف يشكو من كثرة القذف فإن رمضان شكا من سرعته، وسامح عمر أفندي شكا من بطئه، وأبو السباع من انعدامه. وأسرَّ عزت بيه، وهو يمسح العماص من طرفَي عينَيه، لا بحقيقة التهمة الموجهة إليه وهي اختلاس أموال جمعية إسكان، وإنما بأن زوجته تتهرب دائمًا من ممارسة الواجب الشرعي، وأدار مستر تامر معه حديثًا علنيًّا بالإنجليزية حول الأفروديسيات المساعدة، انضم إليه السفير بأسئلةٍ محددة عن الرويال جيلي والجينيسنج والمخدرات (فاضحًا نفسه دون أن يدري) ثم تظاهر بالموافقة مع الدكتور على أنه لا يمكن إحياء العظام وهي رميم (مؤكدًا بذلك ما فضحه). اثنان لم يحفلا باستشارة الدكتور لأن مشاكلهما كانت محلولة بفضل الأرواح، هما بالطبع المهندس والشيخ فتحي. اثنان آخران التجآ للدكتور وإنما في مشكلة من نوعٍ آخر.
كان ماكس دائم الشرود مثل الدكتور، لكن شروده على العكس من الأخير، كان مصحوبًا بالتدخين المتواصل وبابتسامةٍ سعيدة. وفي أحد الأيام قامت مباحث مصلحة السجون بحملة تفتيشية واسعة بحثًا عن الممنوعات. في اليوم التالي تغير ماكس وأصبح شديد العصبية وأخذ العرق يتفصد من جبينه وامتنع تقريبًا عن الأكل مكتفيًا بالشاي والقهوة. وأعلن توكل لمن سأل أنه يعرف ما يحتاج إليه ماكس، لكن العين بصيرة واليد قصيرة، وأخيرًا لجأ للدكتور.
قال توكل إن الدكتور يملك مساعدة ماكس ومساعدة نفسه في آنٍ واحد، كيف؟
الولد سيجن إن لم يحصل على حاجته.
– طب وأنا أقدر أعمل له إيه؟
– مش حضرتك برضه أجزجي؟ إحنا عاوزين الأوزان وبس.
فالتركيبة والمواد متوافرة؛ ماء يود، فوسفور أحمر، إفدرين، كحول، جليسرين، إكرار فيلافين، بيكربونات صوديوم لكن النِّسَب لا يعرفها غير المعلمين الكبار ولا يكشفون عنها لأحد إلا مقابل مبالغَ ضخمة تصل إلى ربع مليون جنيه.
أكد توكل أن اقتراحه ذو طابع استثماري: الميه النضيفة غالية. الحقنة ﺑ ٦٠ جنيه والوسخة الحقنة ﺑ ٣٠ جنيه، ده برة السجن فما بالك جوة؟ إذا كان على الغلابة كيفهم برضه موجود. العشرة سنتي بخمستاشر جنيه، وفيه سنتي واحد باتنين، نعمللنا مطرح. مسمعتش عن المطرح؟
تولى ماكس الشرح وعلى وجهه نظرةٌ حالمة: الواحد يروح مع مجموعة من خمسة لتسعة ويمر عليهم واحد بالوسكاية؛ قزازة فيها تلات أربع لتر ورخيصة جدًّا، تمنها ميت جنيه أو مية وخمسين. كل واحد يتحقن سنتي سنتي على المهل لغاية ما تنتهي الوسكاية بعد ست ساعات.
ثم انتهز الفرصة ليوضح أنه لم يسرق إلا بسبب المخدر؛ ولهذا فهو على ثقة من الإفراج؛ لأنه من نجوم المجتمع ويجب أن يعامَل مثل ممثلي السينما الذين يُفرَج عنهم في قضايا المخدرات.
أبدى الدكتور تفهمه للإيضاح الاجتماعي واعتذاره عن السؤال الاقتصادي متحجِّجًا بقسَم أبقراط الذي لم يسمع به توكل ولا ماكس بالطبع، اعتقدا أنه يسخر منهما أو ينوي العمل لحسابه، فأسرَّاها في نفسيهما وانضما إلى السفير في حلفٍ مُعادٍ بعد حادثة الهامبورجر.
ففي إحدى المرات أرسلت أم شرف إلى حبة عينها ساندوتشات الهامبورجر التي يعشقها، ووجدها الدكتور فرصة لمحاضرة عن أضرار اللحوم غير المطهية جيدًا: طفيل اسمه التكسوبلازما يُحدث تشوهات في العصب البصري وخلايا المخ، ويعرض المرء لأمراض الكبد والطحال.
وسواء عن قصد أو غير قصد، ندد الدكتور بصوت لم يحرص على خفضه، بأولاد الحرام الذين يستوردون اللحوم الملوثة.
كانت الإشارة الأخيرة كفيلة بإثارة سعادة السفير. لكن فمه كان ممتلئًا ساعتها. فانتظر إلى أن حانت فرصة الرد عندما تحدد يوم الاحتفال بعيد ميلاد الدكتور جريًا على عادة الزنزانة في الاحتفال بأعياد ميلاد نزلائها.
ففي اليوم المحدد، ظهر رمضان عند التمام ومعه مسجلة وشريط. حصل على المسجلة من الدكتور ثابت وعلى الشريط من الطابق الثاني.
بعد العشاء بدأ الحفل وافتتحه ماكس بإدارة المسجلة والشريط. وانطلق صوت الشيخ عمر عبد الكافي في فضاء الزنزانة:
«واحد بيقول إحنا جيراننا وزمايلنا في الشغل مسيحيين … نصاری … بتيجي لهم أعياد، نروح نهنيهم؟ … كل سنة وانت طيب يا بطرس … كل سنة وانت طيب يا إسحاق … يا وليم … آه … ينفع الكلام ده؟ الإسلام يقولك ما ينفعش … ليه؟ لأن انت لما … هو عنده عيد مثلًا … عيد القيامة، عندهم عيد اسمه عيد القيامة اللي قام فيه السيد المسيح … زي ما بيقولوا يعني، فإذن إنت لما تروح تقول له في عيد القيامة كل سنة وانت طيب، أقرِّيت من نفسك إن إيه؟ إن فيه حاجة اسمها قيامة المسيح … صح وللا لأ؟ يبقى هذا إقرار ضمني من جواك إن فيه للمسيح قيامة … وإنه مات وصحي … وإنه بُعث لكي يحكم العالم لأنه ابن الرب أو لأنه ابن الله، والكلام ده كله حرام … ما ينفعش إنك تروح للمسیحي وتقول له كل سنة وانت طيب … لكن لو شفته في السكة قوله ازيك. يقولك يا سيدي أنا زعلان منك … ليه؟ زعلان مني ليه يا بطرس؟ يقولك ما جِتش تعيِّد عليَّ ليه؟ الله … هو انتو كان عندكم عيد؟ آه امبارح كان عيد القيامة … يا راجل … ﻫ … توهه … المهم متقولُّوش كل سنة وانت طيب … العب معاه … المهم ماتقولش إن عنده عيد.»
ساد الوجوم الزنزانة. ورفع مهندس الأرواح الشريرة رأسه من القرآن وقد التمعت عيناه وارتسمت على شفتَيه ابتسامة لأول مرة، وعلت وجه السفير، الذي كان يحتسي الشاي من مجٍّ خزفيٍّ مزركش، ابتسامة صفراء انتقل لونها إلى وجه الدكتور رمزي.
لم يكن الدكتور رمزي مسيحًا ولا كان يأمل في أي قيامة، لكن الرسالة وصلته فلم يحتفل بعيد ميلاده في تلك الليلة ولا في الليالي التالية، وكفَّ عن عرض أفكاره وتعليقاته إلى حين، منصرفًا إلى تدوينها في أوراقه، وانغمس في مجلاته وكتبه وعزف عن الاستماع لشرف أو الحديث إليه، فدفع به، عن غير قصد بالطبع، إلى أحضان عبد الفتاح.