الصائد
إني لأشقى النَّاس جميعًا، ما في ذلك من شَكٍّ، لقد كنتُ عند أهل بابل أعظم باعة الجبن الأبيض، ثم حلَّ بي الخراب، ولقد كانت زوجي أجمل امرأة أُتيحت لرجل وقد خانتني، وقد بقيت لي دار ضئيلة حقيرة، فرأيتها تُنهب وتُدمَّر، وأنا الآن لاجئ إلى كوخ صغير، لا أجد سبيلًا إلى الرزق إلَّا الصيد، ولكن لا أظفر بسمكة واحدة، أيتها الشبكة لن ألقيك في الماء بل سألقي نفسي فيه.
ثم ينهض ويسعى في هيئة الرجل الذي يُريد أن يلقي نفسه في الماء ليختم حياته.
قال زديج لنفسه: «ماذا؟ أفي الناس من يعدل شقاؤهم شقائي!» ثم كان نشاطه إلى إنقاذ هذا الرجل سريعًا كخاطره هذا، فيجري إليه فيمسكه ويسأله في لهجة يشيع فيها الرِّفق والحنان والتَّعزية، والناس يزعمون أنَّ الشقاء يخف على الإنسان إذا لم يكن وحيدًا، ولكن مصدر ذلك فيما يقول زرادوشت ليس هو الدَّهاء، وإنما هي الحاجة، فالإنسان يشعر حينئذ بأنه مجذوب إلى إنسان شقي كما يجذب النظير إلى نظيره، بحيث يصبح ابتهاج الرجل السعيد كأنه إهانة للبؤس، ولكن الشقيين إذا التقيان كانا أشبه بشجيرتين تعتمد كل واحدة منهما على صاحبتها؛ فتثبتان بذلك للعاصفة.
قال زديج للصياد: «لماذا تستسلم للشقاء؟» قال الصياد: «لأني لا أجد لي منه مخرجًا، لقد كنتُ أرفع الناس مكانة في قرية دير لباك قريبًا من بابل، وكنتُ أَصْنَعُ مستعينًا بامرأتي أجود ما في الدولة من الجبن الأبيض، وكانت الملكة أستارتيه والوزير المشهور زديج يحبان هذا الجبن أشد الحب، وقد قدمت إلى قصريهما ستمائة قطعة منه، وذهبت ذات يوم إلى المدينة لأقبض الثمن، فلما وصلت إلى بابل عرفت أن الملكة وزديج قد استخفيا؛ فأسرعت إلى قصر زديج ولم أكن عرفته قط، وإذا أنا أرى جند صاحب الخزانة ومعهم أمر ملكي ينهبون القصر ويدمِّرونه كأحسن ما يكون النهب والتدمير، فأسرعت إلى مطبخ الملكة وهنالك أنبأني بعض القائمين على طعامها أنها ماتت، وقال آخرون إنها في السجن، وزعم آخرون أنها لاذت بالفرار، ولكنهم جميعًا أكَّدوا لي أن ثمن الجبن لن يؤدى إليَّ، فذهبت ومعي امرأتي إلى الأمير أوركان وكان أحد عملائي وطلبتُ إليه أن يحمينا من هذه المحنة، فمنح حمايته لامرأتي ورفض أن يمنحني إياها، وكانت أنصع بياضًا من هذا الجبن الذي كان أصل شقائي، ولم يكن إشراق الأرجوان الذي تصدره مدينة صور أشد بهجة مما كان يشرب بياضها من الحمرة، وهذا هو الذي أغرى أوركان باحتجازها وطردي من قصره، فكتبت إلى امرأتي العزيزة رسالة من بلغ به الحزن حد اليأس، فقالت لمن أدى إليها الرسالة: «إني لا أعرف صاحبها! لقد سمعت الناس يتحدثون عنه، يُقال إنه يصنع جبنًا متقنًا فليحمل إليَّ بعض هذا الجبن وليؤدى إليه ثمنه.»
فلمَّا اشتد بي الشقاء أردت أن ألجأ إلى القضاء، ولم يكن بقي لي إلَّا ستة مثاقيل من ذهب، فلم يكن بدٌّ من أن أدفع اثنين منها إلى رجل القانون الذي استشرته، واثنين للنائب الذي تولى قضيتي، واثنين لأمين القاضي الأول، فلما فرغت من هذا كله لم تكن قضيتي قد ابتدئت، وكنت قد أنفقت من المال أكثر مما يُساوي جبني ومما تُساوي امرأتي، فعدت إلى قريتي وأنا أريد أن أبيع داري لأسترد امرأتي.
وكانت داري تُقَوَّم بستين مثقالًا من الذَّهب، ولكن الناس كانوا يرونني فقيرًا حريصًا على البيع، فساومني أول من عرضت عليه الدار ثلاثين مثقالًا، وعرض عليَّ الثاني عشرين والثالث عشرة، وكنتُ مُستعدًّا لإمضاء البيع لكثرة ما كان يشغلني عن التبصر في أمري، ولكن أمير أركانيا أقبل مُغيرًا على بابل ودمَّر في طريقه كل شيء، ونُهبت داري أول الأَمر، ثم أُشعلت فيها النهار.
فلمَّا فقدت مالي وامرأتي وداري؛ أويت إلى هذه الأرض حيث تراني، وحاولت أن أعيش من صناعة الصيد، ولكن السمك يسخر مني كما يسخر مني الناس، فلا آخذ منه شيئًا، وقد كاد الجوع أن يهلكني، ولولا أنت أيها المعزي الكريم لأغرقت نفسي في هذا النهر.»
لم يَسُق الصياد قصته هذه على نسق واحد، فقد كان زديج يقاطعه من وقت إلى وقت متأثرًا محزونًا قائلًا: «ماذا؟ ألا تعلم شيئًا عن مصير الملكة؟» كان الصياد يجيبه: «لا يا سيدي! ولكني أعلم أنَّ الملكة وزديج لم يؤديا إليَّ ثمن الجبن، وأنَّ امرأتي قد أُخِذت مني، وأني قد صرت إلى اليأس.» قال: «أنا أزعم لك أنك لن تفقد مالك كله، فقد سمعت الناس يتحدثون عن زديج هذا وهو رجل شريف، وأنَّه إذا عاد إلى بابل كما يأمل أن يعود إليها لَمُؤَدٍ إليك أكثر مما لك عنده، أمَّا امرأتك التي ليست على هذا الحظ من الوفاء فإني أنصح لك أن تتخذ مكانها زوجًا أخرى، صدِّقني وعد إلى بابل، وسأبلغها قبل أن تصل أنت إليها، فأنا فارس وأنت راجل، فإذا بلغت المدينة فاذهب إلى كادور المشهور وقل له إنك لقيت صاحبه في بعض الطريق، وانتظرني عنده حتى ألقاك، امْضِ فعسى ألَّا تكون شقيًّا دائمًا.»
ثم مضى زديج قائلًا: «أيها القوي العظيم أوروزماد، إنك لتسخرني لتعزية هذا الرجل، فمن عسى أن تسخِّر لتعزيتي؟» قال ذلك ودفع إلى الصياد نصف المال الذي احتمله من بلاد العرب كلها، وجعل الصياد الدهش السعيد يقبِّل رجليه ويقول: «إنك أنت ملك منقذ.»
وكان زديج مع ذلك يطلب الأنباء ويذرف الدموع، قال الصياد: «ماذا يا سيدي! أيمكن أن تكون شقيًّا إلى هذا الحد، وأنت الذي يبذل المعروف؟» قال زديج: «إني لأشقى منك مائة مرة.» قال الصياد: «ولكن كيف يمكن أن يكون من يعطي أشد شقاءً مما يأخذ؟» قال زديج: «لأن معظم شقائك يأتي من الحاجة، أمَّا شقائي فمصدره القلب.» قال الصياد: «أيمكن أن يكون أوركان قد اغتصب منك زوجك؟» فأثارت هذه الكلمة في نفس زديج ذكرى مغامراته كلها، وجعل يعدد ما ألم به من المصائب، مبتدئًا بكلبة الملكة ومنتهيًا بوصوله إلى قصر أربوجاد، ثم قال للصياد: «إن أوركان خليق أن يُعاقب، ولكن العادة جرت بأنَّ أمثاله هم أحسن الناس حظًّا، ومهما يكن من شيء فامضِ إلى قصر السيد كادور، وانتظرني هناك.» ثم افترقا، ومضى الصياد يثني على حظِّه، وعاد زديج يلعن حظَّه لعنًا.