(١) الإيمانُ يتكلَّمُ لغةً واحدة
الإيمانُ يكرِّس الروحَ والقلب ويتوحَّد بهما، حتى يبلُغ توحُّدُ القلب والروح بالإيمان مرتبةً لا يخضعان معها لمعادلاتِ الذهن ومشاكساتِه مهما كانت. الإيمانُ حالةٌ ديناميكيةٌ حيَّة، تتغذَّى وتنمو وتتطوَّر وتتجذَّر. إنه جذوةٌ متوهِّجة، كأنها طاقةٌ مشعَّة، يُضيء الإيمانُ الروحَ لحظةَ تحقُّقِها به، مثلما تُضيء الكهرباءُ المصباحَ المُظلِم لحظةَ وَصْلِه بها، وهذا معنى كونه حالةً نتذوَّقها كما نتذوَّق الطعامَ الشهيَّ والشرابَ العذب. كلُّ ما يتذوَّقه الإنسانُ ضربٌ من التجربة، التجربةُ تَفْشَلُ لغةُ الإنسانِ في التعبير عن حقيقتها وكلِّ حالاتها وأطوارها.
يُفيضُ الإيمانُ على صاحبه طاقةً مُلهِمة؛ إذ لا يجد نفسَه في غربة إلا ويهمس إليه صوتُ الله، فتستفيق روحُه بعد غَفْوتها، وتمتلئ بعد خوائها، وترتوي بعد ظمئها، ويتجدَّد وصالُها بمن أودعَها عنده. في كلِّ غيابٍ للإنسان عن ذاته يرى حضورَ الله هو الحضور، واحتجابَ الله هو الاحتجاب.
الإيمانُ مُستقرُّه القلب، ومأواه الروح. إنه ليس صورةً نُدرِكها، الصورةُ يختزنها الذهنُ. الإيمانُ، خلافًا للفَهم والمعرفة، لا يتحقَّق بالنيابة، في عملية الفَهم يمكِن أن يتلقَّى الإنسانُ معارفَه من شخصٍ آخر، أو يقلِّد غيرَه في آرائه. الإيمانُ تجربةٌ تعكس تَسَاميَ الروح في سفر النور من الخلق إلى الحق. إنه ضوءٌ ينبعث داخل الإنسان، إنَّه صيرورةٌ تتحقَّق فيها الروحُ وتتكامل، ونمطُ وجودٍ يرتوي به الظمأُ الأنطولوجي للمقدَّس، إنه مما تضيق في التعبير عنه العبارةُ، ولا تُشير إليه إلا الإشارة.
يحقِّق الإيمانُ الإنسانَ في طورٍ وجودي جديد؛ فحيث يُسافِر الإنسانُ للحقِّ تتكرَّس قدرتُه، وتترسَّخ إرادتُه، وتتعذَّر هزيمتُه؛ لأنه يتحقَّق بالحق فلا يشعرُ بهشاشةِ وخَواء وجوده. بذلك يجعل الإيمانُ الاشياءَ المستحيلةَ ممكِنة، والشاقَّةَ سهلة، والمُرَّةَ حُلْوة.
الإيمانُ وحُبُّ الله كلاهما كيمياء للروح، كلاهما ينبثقان من جوهرٍ واحد. يُولَدان معًا، ويرتضعان معًا، ويتكرَّسان معًا، ويتوحَّدان معًا؛ فحيث ينمو الإيمانُ ينمو الحُبُّ، وحيث يذبُل الإيمانُ يذبل الحُبُّ. إنهما في صيرورة وتفاعُل وفوَران، يتحوَّل الإيمانُ إلى حُبٍّ، كما يتحوَّل الحُبُّ إلى إيمان. الإيمانُ عُصارةُ الحُبِّ، والحُبُّ عُصارةُ الإيمان، كلا الحالتَين تستقيان من الشلَّال ذاته، يصبح كلٌّ منهما صورةً لحقيقة واحدة متعدِّدةَ الوجوه. حين يصير الإيمانُ حُبًّا والحُبُّ إيمانًا تشهَد حياةُ الإنسان أنوارَ الأبد. الإيمانُ فرَحُ الروح في زمنٍ قلَّما تفرَح فيه الروحُ؛ إذ يتهدَّدُ العالَمَ تديُّنٌ كئيبٌ يغمُر الروحَ بالأسى. ما أجملَ التعبيرَ الواردَ في مناجاة المحُبِّين للإمام السَّجَّاد «ع»: «إلهي مَنْ ذَا الَّذي ذاقَ حَلاوَةَ مَحُبَّتِكَ فَرامَ مِنْكَ بَدَلًا، وَمَنْ ذَا الَّذي أنِسَ بِقُرْبِكَ فَابْتَغى عَنْكَ حِوَلًا.»
لا يُولَد السلامُ بين الأديان في فضاء الاعتقاد، بل يُولَد السلامُ بين الأديان في فضاء الإيمان. الإيمانُ يتكلَّمُ لغةً واحدة، المؤمنون في كلِّ الأديان يستَوْحون إيمانَهم من منبعٍ مشترَك هو الحق، وإن تجلَّى لكلٍّ منهم في صورة، تتنوَّع صورُ الحق بتنوُّعِ دياناتِهم، وبصمةِ ذواتهم وبيئاتهم، غير أنهم يعيشون التجاربَ الروحيةَ المُلهِمةَ للطمأنينة والسكينة والسلام. الإيمانُ حقيقةٌ يتجلَّى فيها جوهرُ الأديان، وأرضيةٌ تتوحَّد في فضائها، ومنبعٌ مُلهِم للحياة الدينية فيها. لا يتخلَّص الإنسانُ من نزاعات الأديان وحروبها إلا في فضاء الإيمان.
إن كانت نصوصُ الدين مقدَّسةً غيرَ أن تفسيرَها وتأويلَها وفهمَها يتجلى فيه الأفقُ التاريخي الذي يتَموضَع فيه الكائنُ البشري، لا يُمكِن أن يكون ذلك الفهمُ عابرًا للإطار المعرفي الذي يعيش فيه ذلك الكائنُ. إن تطبيقَ المناهج العلمية في دراسة الأديان وفِرقها ومذاهبها ضرورةٌ يفرضها التعرُّفُ على كيفيةِ ولادتها وصيرورتها عبْر التاريخ، والآثارِ المتنوعة لها في الحياة البشرية. الأديانُ تُولَد في عصر مؤسِّسيها، لكنها تظلُّ تتخلَّق وتنمو في صيرورة لا تتصرَّم عبْر الزمان والمكان، في سياقات نسيجِ المتطلَّبات المتنوِّعة لحياة الإنسان فردًا وجماعةً، والعلاقاتِ العضوية بين السلطة والمعرفة، كما يشرحها ميشيل فوكو.
ما لم يتسع حقلُ دراسةِ الأديان ومقارنتِها لدى الباحثين في الدراسات الدينية، لا يمكن تصويبُ سوء الفهم والأحكام السلبية السابقة، وحذفُ الكثير من الأخطاء المتراكمة في فهم أتباع ديانةٍ لمقولات ومعتقدات أتباع ديانةٍ أخرى؛ إذ تتوالد من سوءِ الفهم والأحكامِ السلبية السابقة دائمًا أحكامٌ إقصائية حيالَ الآخَر المختلف.
تنشأ الأحكامُ السلبيةُ والقاسيةُ على الأديان، والمواقفُ المتشددةُ من معتقداتها وقِيَمها، وتسفيهُ رصيدها الروحي والأخلاقي، ومقاطعةُ أتباعها، من عدم الاطِّلاع عليها، وعدم التفحُّص الدقيق لمضمون قِيَمها ومعتقداتها، والعيش في الفضاء الاجتماعي لمواطن حضورها، واكتشافِ جوهر القيم الإنسانية المشتركة فيها. يندرُ أن تجد أحدًا من أتباع الأديان والمذاهب طالعَ الكتبَ المقدَّسة والميراثَ القيمي للأديان خارج دينه أو مذهبه، أو حاول أن يتفحَّصَ لاهوتَ ديانةٍ أخرى، ويتعرفَ على مواقفها من الإنسان والعالَم، ويسعى بموضوعية لامتحان ما قدَّمَته للإنسانية من عطاء، وما تورَّطَت فيه من نزاعات وعنف ضد المختلِف في المعتقَد عبْر مسيرتها التاريخية. لو أنفق الإنسانُ سنواتٍ طويلةً من حياته يحاول التعرُّف على الأديان، عبْر مطالعة نصوصها الخاصة وتجربتها الحية، لا أظن أنه يتمكَّن من الإلمام بتفاصيل ما كان يسعى إليه. ولا أظن تتسع حياةُ الإنسان، ولو أنفق العمر كلَّه، لمعرفة كلِّ الأديان والمذاهب في الأرض — منذ فجر التاريخ إلى اليوم — معرفةً علمية دقيقة.
إن دراسةَ الأديان ومقارنتَها هي المعيارُ الحقيقي لاختبار وفاءِ الأديان بوعودها، ومصداقيةِ ادِّعاءات أتباعها. ولا يتحقَّق ذلك إلا بالعودة إلى نصوصِها المقدَّسة، ومدوناتِها الخاصة الموازية لهذه النصوص، والتعرُّفِ على أنماطِ حضورها في حياة الأفراد والمجتمعات التي تعتنقها، ومدى تأثيرِها الإيجابي في تنمية الحياة الروحية والأخلاقية، والتفتيشِ عن أثرها السلبي، وفضحِ ما تعمل على إخفائه أو تتعمَّد حذفَه من تراثها وتاريخها الخاص. دراسةُ الأديان الوَحْيانية مثلًا لا تصحُّ إلَّا بالعودة إلى نصوصِها المقدَّسة وتراثها الخاص، وطبيعةِ تأثيرها في حياة الفرد والمجتمع الذي يعتنقها، وكيفياتِ حضورها في التاريخ البشري، وما تركَتْه من آثارٍ مختلفة في البناء والهدم.
ما لم يكن الدينُ تجربةً وجوديةً تتحقَّق وتتسامى بها الذات روحيًّا وأخلاقيَّا وجماليًّا، يظلَّ يخضع للاستغلال من أجل توظيفه في مختلف مصالح البشر المتضادَّة. كي تتعايش الأديان وتأتلف ينبغي العمل على تكريس المشترك الإنساني الروحي والأخلاقي والجمالي للأديان، وتوظيف الرصيد الإيماني والرمزي الحي لها من أجل صناعة السلام في العالَم، والكفِّ عن نبش ذاكرة حروبها المريرة والانتهاكات الشنيعة في مسيرتها، وما يختبئ في أرشيفاتها من تعصُّباتٍ وكراهياتٍ وصراعاتٍ دينية مريرة.
من الضروري الارتقاءُ بالحوار بين الأديان، والانتقالُ من الكلام المكرَّر؛ كلام العلاقات العامة والمجامَلَات، إلى اعتمادِ المناهلِ الروحية والقيم الأخلاقية المُختزَنة في جوهرها، والبناءِ عليها بوصفها منطلقاتٍ للبحث في دراسة الأديان والحوار بين أتباعها.
في ضوء ذلك ينبغي رفضُ مواقف كلِّ من يستخفُّ بمعتقدات أيِّ دينٍ آخر أو يسفِّهها، وأن تتعاقدَ كلُّ الأديان على رفض التكفير، وإن كان التكفيرُ يمتلك حُججَه وأدلتَه داخل منطق الديانة وتراثها، مهما كانت تلك الحُجج والأدلة مقنعةً لأتباع الديانة. وأن ينطلق الكلُّ من واقع الحياة البشرية، وليس من الرغبات والأماني والأحلام والأوهام، هذا الواقع الذي يُدلِّل على أن الناسَ لا يمكِن أن يجتمعوا على قناعةٍ واحدة، أو اعتقادٍ مشترك، أو ديانةٍ واحدة.
يُتقِن النفَّري ومحيي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي وأمثالهم من العرفاء التحدُّثَ بلغة الإيمان. لغةُ الإيمان مضيئةٌ، لغةُ الإيمان عابرةٌ للغات المعتقَدات والفِرَق والمذاهب. الإيمانُ يتكلمُ لغةً واحدة يتجلى فيها الجوهرُ المشترك للأديان، والمعتقَداتُ والفِرقُ والمذاهبُ تتكلم لغاتٍ مختلفة وأحيانًا متضادَّة.