(١) الإيمانُ يتكلَّمُ لغةً واحدة

وجودُ الإنسان مرآةُ وجود الله. الإيمانُ نورٌ يكشفُ للإنسان حقيقةَ وجودِه، ثمرةُ الإيمان تُعرف بإثرائه لسكينة الروح، وطمأنينة القلب: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ.١ الإيمانُ حالةٌ للروح تعيشها، وتجربةٌ للحقيقة تتذوَّقها. يسكنُ الإيمانُ الروحَ مثلما تسكُنه، ويرتوي بالروح مثلما ترتوي به. الإيمانُ عودةُ الروح إلى أصلها الإلهي، أودع اللهُ في كلِّ إنسان روحًا منه، إلا أن هذه الوديعةَ تحتجب متى احتجَب الإنسانُ عن الله؛ فاللهُ لا ينسَى الإنسانَ إلا عندما ينساه الإنسانُ: نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ.٢ لا يستردُّ هذه الوديعةَ إلا الإيمان، الإيمانُ عودةُ الروح إلى أصلها الإلهي، الإيمانُ إيقاظٌ لصوت الله في الضمير، وانبعاثٌ لما ينتمي إلى الله في الإنسان. الروحُ تنتمي إلى الله؛ إنها وديعتُه التي استُؤمن الإنسانُ عليها، كما يؤكِّد القرآنُ الكريم ذلك، فإذا ذكرَ اللهُ الروحَ في القرآن قرنَها به، ذلك ما تُشير إليه هذه الآية وغيرُها: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ.٣

الإيمانُ يكرِّس الروحَ والقلب ويتوحَّد بهما، حتى يبلُغ توحُّدُ القلب والروح بالإيمان مرتبةً لا يخضعان معها لمعادلاتِ الذهن ومشاكساتِه مهما كانت. الإيمانُ حالةٌ ديناميكيةٌ حيَّة، تتغذَّى وتنمو وتتطوَّر وتتجذَّر. إنه جذوةٌ متوهِّجة، كأنها طاقةٌ مشعَّة، يُضيء الإيمانُ الروحَ لحظةَ تحقُّقِها به، مثلما تُضيء الكهرباءُ المصباحَ المُظلِم لحظةَ وَصْلِه بها، وهذا معنى كونه حالةً نتذوَّقها كما نتذوَّق الطعامَ الشهيَّ والشرابَ العذب. كلُّ ما يتذوَّقه الإنسانُ ضربٌ من التجربة، التجربةُ تَفْشَلُ لغةُ الإنسانِ في التعبير عن حقيقتها وكلِّ حالاتها وأطوارها.

يُفيضُ الإيمانُ على صاحبه طاقةً مُلهِمة؛ إذ لا يجد نفسَه في غربة إلا ويهمس إليه صوتُ الله، فتستفيق روحُه بعد غَفْوتها، وتمتلئ بعد خوائها، وترتوي بعد ظمئها، ويتجدَّد وصالُها بمن أودعَها عنده. في كلِّ غيابٍ للإنسان عن ذاته يرى حضورَ الله هو الحضور، واحتجابَ الله هو الاحتجاب.

الإيمانُ مُستقرُّه القلب، ومأواه الروح. إنه ليس صورةً نُدرِكها، الصورةُ يختزنها الذهنُ. الإيمانُ، خلافًا للفَهم والمعرفة، لا يتحقَّق بالنيابة، في عملية الفَهم يمكِن أن يتلقَّى الإنسانُ معارفَه من شخصٍ آخر، أو يقلِّد غيرَه في آرائه. الإيمانُ تجربةٌ تعكس تَسَاميَ الروح في سفر النور من الخلق إلى الحق. إنه ضوءٌ ينبعث داخل الإنسان، إنَّه صيرورةٌ تتحقَّق فيها الروحُ وتتكامل، ونمطُ وجودٍ يرتوي به الظمأُ الأنطولوجي للمقدَّس، إنه مما تضيق في التعبير عنه العبارةُ، ولا تُشير إليه إلا الإشارة.

يحقِّق الإيمانُ الإنسانَ في طورٍ وجودي جديد؛ فحيث يُسافِر الإنسانُ للحقِّ تتكرَّس قدرتُه، وتترسَّخ إرادتُه، وتتعذَّر هزيمتُه؛ لأنه يتحقَّق بالحق فلا يشعرُ بهشاشةِ وخَواء وجوده. بذلك يجعل الإيمانُ الاشياءَ المستحيلةَ ممكِنة، والشاقَّةَ سهلة، والمُرَّةَ حُلْوة.

الإيمانُ وحُبُّ الله كلاهما كيمياء للروح، كلاهما ينبثقان من جوهرٍ واحد. يُولَدان معًا، ويرتضعان معًا، ويتكرَّسان معًا، ويتوحَّدان معًا؛ فحيث ينمو الإيمانُ ينمو الحُبُّ، وحيث يذبُل الإيمانُ يذبل الحُبُّ. إنهما في صيرورة وتفاعُل وفوَران، يتحوَّل الإيمانُ إلى حُبٍّ، كما يتحوَّل الحُبُّ إلى إيمان. الإيمانُ عُصارةُ الحُبِّ، والحُبُّ عُصارةُ الإيمان، كلا الحالتَين تستقيان من الشلَّال ذاته، يصبح كلٌّ منهما صورةً لحقيقة واحدة متعدِّدةَ الوجوه. حين يصير الإيمانُ حُبًّا والحُبُّ إيمانًا تشهَد حياةُ الإنسان أنوارَ الأبد. الإيمانُ فرَحُ الروح في زمنٍ قلَّما تفرَح فيه الروحُ؛ إذ يتهدَّدُ العالَمَ تديُّنٌ كئيبٌ يغمُر الروحَ بالأسى. ما أجملَ التعبيرَ الواردَ في مناجاة المحُبِّين للإمام السَّجَّاد «ع»: «إلهي مَنْ ذَا الَّذي ذاقَ حَلاوَةَ مَحُبَّتِكَ فَرامَ مِنْكَ بَدَلًا، وَمَنْ ذَا الَّذي أنِسَ بِقُرْبِكَ فَابْتَغى عَنْكَ حِوَلًا.»

لا يُولَد السلامُ بين الأديان في فضاء الاعتقاد، بل يُولَد السلامُ بين الأديان في فضاء الإيمان. الإيمانُ يتكلَّمُ لغةً واحدة، المؤمنون في كلِّ الأديان يستَوْحون إيمانَهم من منبعٍ مشترَك هو الحق، وإن تجلَّى لكلٍّ منهم في صورة، تتنوَّع صورُ الحق بتنوُّعِ دياناتِهم، وبصمةِ ذواتهم وبيئاتهم، غير أنهم يعيشون التجاربَ الروحيةَ المُلهِمةَ للطمأنينة والسكينة والسلام. الإيمانُ حقيقةٌ يتجلَّى فيها جوهرُ الأديان، وأرضيةٌ تتوحَّد في فضائها، ومنبعٌ مُلهِم للحياة الدينية فيها. لا يتخلَّص الإنسانُ من نزاعات الأديان وحروبها إلا في فضاء الإيمان.

في الإيمان تتناغم الأديانُ وتتعايش وتأتلف، بعد أن تكتشف شفرةَ اللُّغة الروحية الواحدة المشتركة التي يتكلَّمها إيمانُها، وإن كانت في الاعتقاد تتكلَّم لغاتٍ شتى لا تفقه كلٌّ منها الأخرى. يقول محيي الدين بن عربي: «تنوَّعت المشاربُ، واختلفَت المذاهبُ، وتميَّزَت المراتبُ، وظهَرَت الأسماءُ الإلهية والآثارُ الكونية، وكثُرَت الأسماءُ والآلهةُ في العالم.»٤ وفي سياق شرحه لقول الإمام علي بن أبي طالب ‏«ع»: «الإخلاص نفي الصفات عن الحق تعالى.» يكتب ابن عربي: «وأما عند التجلي، فإنه يتجلى لكلِّ أحد بصورة مُعْتَقَدِه.» ثم عقَّب عليه بما جاء عن العارف أبي القاسم الجنيد — رحمه الله: «حين سُئِل عن المعرفة بالله تعالى والعارف به، فقال: «لونُ الماء لونُ إنائه»؛ ‏أي إن الحقَّ تعالى لا يتجلى بصورة المعرفة إلا بحسب استعداد المُتجلَّى له. ‏وهو جوابٌ محكَم مطابق لمعرفة ما في نفس الأمر؛ فإن الماء لا لون له، ويتكوَّن بألوان أوعيته الشفافة، فكذلك الحقُّ تعالى لا تعيُّن له يحصُره، ‏ويتعيَّن بحسب الاستعدادات والقابليات.»٥
كثيرٌ من دعاة ومبشِّري الأديان يخافون على الله أكثر من خوفهم على الإنسان، ويُشفِقون على الله أكثر من شفقَتهم على الإنسان، ويَنهمِكون بالغَيرة على الله أكثر من غَيرتهم على الإنسان، وينشغلون بحماية الله أكثر من حماية الإنسان، ويتسلحون للدفاع عن الله أكثر من دفاعهم عن الإنسان، ويحرصون على حقوق الله أكثر من حرصهم على حقوق الإنسان. اللهُ لا يحتاح لأحدٍ يشفقُ عليه أو يحميه أو يدافعُ عنه أو يحرصُ عليه؛ لأن اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ.٦ الإنسانُ يحتاجُ الحمايةَ والرحمةَ والعطفَ والرعايةَ، اللهُ يريد منا أن نُشفقَ على خلقه، وندافعَ عن حقهم في العيش بكرامة، ونعملَ على إسعادهم. يقول محيي الدين بن عربي: «واعلم أن الشفقة على عباد الله أحق بالرعاية من الغَيْرة في الله. أراد داود بنيان البيت المقدَّس فبناه مرارًا، فكلَّما فرغ منه تهدَّم، فشَكَا ذلك إلى الله فأوحى الله إليه أن بيتي هذا لا يقوم على يدَي مَن سفَك الدماء، فقال داود: يا رب ألَمْ يكُن ذلك في سبيلك؟ قال بلى! ولكنهم أليسوا عبادي؟ قال يا رب فاجعل بنيانه على يدَي مَن هو مِنِّي، فأوحى الله إليه أن ابنك سليمان يبنيه. فالغرض من هذه الحكاية مراعاة هذه النشأة الإنسانية، وأن إقامتها أولى من هدمها.»٧ من أراد أن يصل إلى الله فطريق الوصول إلى الله لا يمُرُّ إلا من خلال الإنسان، وإن كلَّ طريق خارج تلبية حاجات الإنسان، والعمل على حل مشكلاته، وخلاصه من همومه وأحزانه وآلامه لن يوصل إلى الله.

إن كانت نصوصُ الدين مقدَّسةً غيرَ أن تفسيرَها وتأويلَها وفهمَها يتجلى فيه الأفقُ التاريخي الذي يتَموضَع فيه الكائنُ البشري، لا يُمكِن أن يكون ذلك الفهمُ عابرًا للإطار المعرفي الذي يعيش فيه ذلك الكائنُ. إن تطبيقَ المناهج العلمية في دراسة الأديان وفِرقها ومذاهبها ضرورةٌ يفرضها التعرُّفُ على كيفيةِ ولادتها وصيرورتها عبْر التاريخ، والآثارِ المتنوعة لها في الحياة البشرية. الأديانُ تُولَد في عصر مؤسِّسيها، لكنها تظلُّ تتخلَّق وتنمو في صيرورة لا تتصرَّم عبْر الزمان والمكان، في سياقات نسيجِ المتطلَّبات المتنوِّعة لحياة الإنسان فردًا وجماعةً، والعلاقاتِ العضوية بين السلطة والمعرفة، كما يشرحها ميشيل فوكو.

ما لم يتسع حقلُ دراسةِ الأديان ومقارنتِها لدى الباحثين في الدراسات الدينية، لا يمكن تصويبُ سوء الفهم والأحكام السلبية السابقة، وحذفُ الكثير من الأخطاء المتراكمة في فهم أتباع ديانةٍ لمقولات ومعتقدات أتباع ديانةٍ أخرى؛ إذ تتوالد من سوءِ الفهم والأحكامِ السلبية السابقة دائمًا أحكامٌ إقصائية حيالَ الآخَر المختلف.

تنشأ الأحكامُ السلبيةُ والقاسيةُ على الأديان، والمواقفُ المتشددةُ من معتقداتها وقِيَمها، وتسفيهُ رصيدها الروحي والأخلاقي، ومقاطعةُ أتباعها، من عدم الاطِّلاع عليها، وعدم التفحُّص الدقيق لمضمون قِيَمها ومعتقداتها، والعيش في الفضاء الاجتماعي لمواطن حضورها، واكتشافِ جوهر القيم الإنسانية المشتركة فيها. يندرُ أن تجد أحدًا من أتباع الأديان والمذاهب طالعَ الكتبَ المقدَّسة والميراثَ القيمي للأديان خارج دينه أو مذهبه، أو حاول أن يتفحَّصَ لاهوتَ ديانةٍ أخرى، ويتعرفَ على مواقفها من الإنسان والعالَم، ويسعى بموضوعية لامتحان ما قدَّمَته للإنسانية من عطاء، وما تورَّطَت فيه من نزاعات وعنف ضد المختلِف في المعتقَد عبْر مسيرتها التاريخية. لو أنفق الإنسانُ سنواتٍ طويلةً من حياته يحاول التعرُّف على الأديان، عبْر مطالعة نصوصها الخاصة وتجربتها الحية، لا أظن أنه يتمكَّن من الإلمام بتفاصيل ما كان يسعى إليه. ولا أظن تتسع حياةُ الإنسان، ولو أنفق العمر كلَّه، لمعرفة كلِّ الأديان والمذاهب في الأرض — منذ فجر التاريخ إلى اليوم — معرفةً علمية دقيقة.

إن دراسةَ الأديان ومقارنتَها هي المعيارُ الحقيقي لاختبار وفاءِ الأديان بوعودها، ومصداقيةِ ادِّعاءات أتباعها. ولا يتحقَّق ذلك إلا بالعودة إلى نصوصِها المقدَّسة، ومدوناتِها الخاصة الموازية لهذه النصوص، والتعرُّفِ على أنماطِ حضورها في حياة الأفراد والمجتمعات التي تعتنقها، ومدى تأثيرِها الإيجابي في تنمية الحياة الروحية والأخلاقية، والتفتيشِ عن أثرها السلبي، وفضحِ ما تعمل على إخفائه أو تتعمَّد حذفَه من تراثها وتاريخها الخاص. دراسةُ الأديان الوَحْيانية مثلًا لا تصحُّ إلَّا بالعودة إلى نصوصِها المقدَّسة وتراثها الخاص، وطبيعةِ تأثيرها في حياة الفرد والمجتمع الذي يعتنقها، وكيفياتِ حضورها في التاريخ البشري، وما تركَتْه من آثارٍ مختلفة في البناء والهدم.

ليستْ هناك ديانةٌ تستأثر وحدَها بالمحبَّة والحرياتِ والحقوقِ واحترامِ كرامة الإنسان، وليس هناك تاريخُ ديانةٍ منزَّهًا من التعصُّب والعنف وانتهاك الكرامة. لا يكفي الحكمُ على أخلاقية وإنسانية الديانة بما تشتمل عليه مدوَّنتُها، وليس بشهاداتِ أتباعِها عنها، مهما ادَّعَوا من انحصار الأخلاق والإنسانية فيها. لا يكون الحكمُ صادقًا إلا بمقارنتها بالديانات الأخرى، وتفحُّص وغربلة مسيرتها التاريخية، وما صنعَتْه في محطات رحلتها عبْر الزمان، وما قدَّمَته من مكاسبَ للحضارات البشرية، مضافًا إلى اكتشاف مقدار تجلِّي القيم الإنسانية لهذه الديانة وأخلاقياتها في سلوكِ مُعتنِقيها أفرادًا وجماعاتٍ في الماضي والحاضر.٨

ما لم يكن الدينُ تجربةً وجوديةً تتحقَّق وتتسامى بها الذات روحيًّا وأخلاقيَّا وجماليًّا، يظلَّ يخضع للاستغلال من أجل توظيفه في مختلف مصالح البشر المتضادَّة. كي تتعايش الأديان وتأتلف ينبغي العمل على تكريس المشترك الإنساني الروحي والأخلاقي والجمالي للأديان، ‏وتوظيف الرصيد الإيماني والرمزي الحي لها من أجل صناعة السلام في العالَم، والكفِّ عن نبش ذاكرة حروبها المريرة والانتهاكات الشنيعة في مسيرتها، وما يختبئ في أرشيفاتها من تعصُّباتٍ وكراهياتٍ وصراعاتٍ دينية مريرة.

وأن ينشُد الكلُّ الكفَّ عن استدعاء تراث الثنائيات الضدِّية المؤسِّسة للصراع بين الأديان، والانتقالَ إلى رؤيةٍ أخرى للإنسان، ترى الكلَّ «عيالَ الله» على وَفْق مفهوم: «الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللهِ، وَأَحَبُّهُمْ إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ.»٩ حسب المروي عن رسول الله (ص). لن تتخلَّص الأديانُ من صراعاتها ما لم تتحرَّر من تراث الثنائيات الضدِّية، وتنظر لكلِّ «الخَلْق» بوصفِهم «عيالَ الله»، وتتبنَّى ذلك وترسِّخه على أنه المقصدُ الإنساني الأسمى الذي يكشف عن الغاية العظمى لكلِّ الأديان.
إما أن نعيشَ معًا وذلك ما ينشُده كلُّ حكيمٍ أخلاقي في الأرض، وإما أن نموت معًا وذلك ما يعمل عليه كلُّ متعصِّبٍ أحمق. كتب الأديان المقدَّسة وميراثها منجم يكتنز بالمعاني الروحية والأخلاقية الأصيلة، التي تبني أُسس العيش معًا إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.١٠

من الضروري الارتقاءُ بالحوار بين الأديان، والانتقالُ من الكلام المكرَّر؛ كلام العلاقات العامة والمجامَلَات، إلى اعتمادِ المناهلِ الروحية والقيم الأخلاقية المُختزَنة في جوهرها، والبناءِ عليها بوصفها منطلقاتٍ للبحث في دراسة الأديان والحوار بين أتباعها.

في ضوء ذلك ينبغي رفضُ مواقف كلِّ من يستخفُّ بمعتقدات أيِّ دينٍ آخر أو يسفِّهها، وأن تتعاقدَ كلُّ الأديان على رفض التكفير، وإن كان التكفيرُ يمتلك حُججَه وأدلتَه داخل منطق الديانة وتراثها، مهما كانت تلك الحُجج والأدلة مقنعةً لأتباع الديانة. وأن ينطلق الكلُّ من واقع الحياة البشرية، وليس من الرغبات والأماني والأحلام والأوهام، هذا الواقع الذي يُدلِّل على أن الناسَ لا يمكِن أن يجتمعوا على قناعةٍ واحدة، أو اعتقادٍ مشترك، أو ديانةٍ واحدة.

وذلك يدعو الكلُّ لتفهُّم تنوُّع تجلِّي صور الله وتعدُّد الطرق إليه، كما جاء في المأثور أن: «الطُّرق إلى الله بعدَد أنفاس الخلائق.»١١ ما دام تجلِّي صور الله متنوعًا، فلا يمكن أن يجتمعَ الناسُ على دين واحد. لم تفلح دعواتُ أي دين السلمية لاعتناق كلِّ الناس له، ولم تفلح عملياتُ إكراه الناس بالقوة على اعتناق كلِّ الناس لأي دين. ذلك ما يتحدث عنه تاريخ ظهور الأديان وانتشارها، منذ أول دين ظهر في الأرض حتى اليوم. يشرح الشيخ محيي الدين بن عربي تنوُّعَ تجلِّي صور الله وتعدُّدَها، فيما يقوله الشيخ أبو طالب المكي صاحب قوت القلوب وغيره من رجال الله عز وجل: «ما تجلى قط في صورةٍ واحدة لشخصَين، ولا في صورةٍ واحدة مرتَين، ولهذا اختلفَت الآثارُ في العالم … فإن كلَّ طائفة قد اعتقدَت في الله أمرًا ما إن تجلَّى لها في خلافه أنكرَتْه، فإذا تحوَّل لها في العلامة التي قد قرَّرَتها تلك الطائفة مع الله في نفسها أقرَّت به، فإذا تجلَّى للأشعري في صورة اعتقاد مَنْ يُخالفه في عقده في الله، وتجلَّى للمخالف في صورة اعتقاد الأشعري مثلًا، أنكرَه كلُّ واحد من الطائفتَين كما ورد، وهكذا في جميع الطوائف.»١٢ وجاء في شعر جلال الدين الرومي: «نفرتُ من إلهك القديم، لي في كلِّ لحظة إلهٌ آخر جديد.»١٣  وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ.١٤

يُتقِن النفَّري ومحيي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي وأمثالهم من العرفاء التحدُّثَ بلغة الإيمان. لغةُ الإيمان مضيئةٌ، لغةُ الإيمان عابرةٌ للغات المعتقَدات والفِرَق والمذاهب. الإيمانُ يتكلمُ لغةً واحدة يتجلى فيها الجوهرُ المشترك للأديان، والمعتقَداتُ والفِرقُ والمذاهبُ تتكلم لغاتٍ مختلفة وأحيانًا متضادَّة.

١  الرعد، ٢٨.
٢  الحشر، ١٩.
٣  الحجر، ٢٩.
٤  ابن عربي، محيي الدين، الفتوحات المكية، ج٣، ص٩٤. نسخة إلكترونية على شبكة الإنترنت.
٥  ابن عربي، محيي الدين، المسائل لإيضاح المسائل ويليه رد المتشابه إلى المحكم من الآيات، المسألة التاسعة بعد المائة، ص٦٨-٦٩، ٢٠٠٤م، دار الكتب العلمية، بيروت.
٦  آل عمران، ٩٧.
٧  فصوص الحكم، فص حكمة نَفْسيَّة في كلمة يونُسية.
٨  الرفاعي، عبد الجبار، الدين والاغتراب الميتافيزيقي، ص١٠٥، ٢٠١٩م، دار التنوير، بيروت، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد.
٩  رواه أبو يعلى ٦ / ٦٥، والطبراني في المعجم الكبير ١٠ / ٨٦، والقضاعي في مسند الشهاب ٢ / ٢٥٥، وغيرها.
١٠  البقرة، ٦٢.
١١  هذه العبارة وإن كانت غير موجودة في المدوَّنات الحديثية، إلَّا أنها مشهورة على ألسنة الكثير من المتصوفة. راجع: الآملي، حيدر، المقدمات من كتاب نص النصوص، ص٢٣، ط١، ١٩٩٤م، قسم الدراسات الإيرانية إنستيتو إيران وفرنسا للبحوث والدراسات العلمية في إيران، طهران. جامع الأسرار ومنبع الأنوار، ص٨، ط١، ١٩٨٨م، مركز النشريات العلمية والثقافية التابعة لوزارة الثقافة والتعليم العالي، طهران.
١٢  ابن عربي، الفتوحات المكية، ج١، ص٢٦٦، باب ٤٨. نسخة إلكترونية على شبكة الإنترنت.
١٣  ما جاء في شعر جلال الدين الرومي. بیزارم از آن کهنه خدایی که تو داری، هر لحظه مرا تازه خدایی دگر هستی.
١٤  هود، ١١٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤