(٤) الحُبُّ والرؤيةُ الجمالية للعالَم
يحتاج الإنسانُ إلى لغةٍ مكتفية بذاتها، لغةٍ خارجَ اللغة يتحدثُ فيها للوجود، ويتحدثُ فيها الوجودُ إليه، لغةٍ يتذوَّقُ فيها إيقاعَ أنغام الوجود وألحانه. الفنُّ لغةٌ يتذوقُها كلُّ إنسان مهما كانت لغتُه وثقافتُه وديانتُه. الفنُّ لغةُ الروح قبلَ العقل، لغةُ القلب قبلَ الفكر، لغةٌ آسِرةٌ تُصغي إليها المشاعرُ كأجمل ما تصغي لأية لغة. لغةُ الواقع المحسوس تُنهِك القلب، الفنُّ لغةٌ يستريحُ فيها القلبُ عندما يُرهِقه المكوثُ طويلًا في لغةِ الواقع المحسوس.
الجمالُ تعجزُ أيةُ لغة في الكشف عن عذوبة معناه. لا يجدُ الجمالُ ناطقًا بصوته أجمل من لغة الفن. تذوُّقُ معنى الجمال حالةٌ وجودية كتذوُّق الحُبِّ والإيمان وأمثالها من معانٍ وجودية. عندما يحتاجُ الإنسانُ إلى لغةٍ عذبة يشتركُ بتذوُّقها الجميع يجدُ الفنَّ ناطقًا بهذه اللغة. الفنُّ يُخاطبُ الإنسانَ بمعانٍ أكبر من كلماتِه، ويتحدثُ لغةً تضيقُ بها أيةُ لغة. لغةُ الفن يشترك بتذوُّقها الجميع، المباهج الحسية يتذوَّقها الفرد خاصة، وليست مشتركة بين الكلِّ بطبيعتها، مباهج الجمال يتذوَّقها الفرد مثلما يتذوَّقها كلُّ إنسان يتمتعُ بذوقٍ سليم. كلما تعزَّز تذوُّقُ الجمال في حياة الفرد والجماعة اتَّسعَ حضورُ القِيَم السامية. اتِّساعُ تذوُّقِ الجمال يرادفُه انحسارُ لغةِ العنف وازدهارُ لغةِ السلام.
ليس هناك مجتمع يخلو من الدين والفن والحُبِّ. الفنُّ رديفُ الدين في التاريخ، حيثما عاش إنسانٌ في أيِّ مكانٍ وزمانٍ تظهرُ في حياته تعبيراتٌ للدين وتعبيراتٌ للفن. لا تضادَّ بين جوهر الدين وما ينشُدُه الفنُّ الأصيل. كلاهما ينشُدُ فَضْحَ ظلام العالم، وإنقاذَ الروح من مواجع الحياة، وتأمينَ ملاذٍ يتنفَّس فيه الكائنُ البشري بعد اختناقه بحرائق الشرور التي تنهشُ قلبَه، وتعبثُ بكلِّ شيءٍ جميل في حياته.
الحضورُ الواسع للفنون الجميلة في أي مجتمعٍ يقوِّم السلوك، ويخفضُ من وتيرةِ العنف، ويؤثِّرُ بشكلٍ مباشر على إشاعة الأمن والسلم الاجتماعي. الفنُّ الذي أتحدَّث عنه هو الفن الأصيل، الذي يُهذِّب المشاعرَ والعواطفَ والذوق، ويقوِّم السلوك. ولا أعني الفنَّ المُمْتَهَن المُبتذَل، الذي يُهدِر العفاف، ويُغوِي بالتهتُّك والمجون، ويُحرِّض على الكراهية والعنف.
كلُّ مجتمع يتوطنه الحُبُّ، والفنُّ، والتديُّنُ العقلاني الأخلاقي، تتوطَّنه قيمُ احترام المختلِف في المعتقَد، والعيش المشترك في إطار التنوُّع والاختلاف، وإن كان مثلُ هذا المجتمع يظلُّ حُلمًا أكثر من تحقُّقه في الواقع. الدينُ والحُبُّ والفنُّ يغذِّي كلٌّ منها الآخر ويتغذَّى منه. الرؤيةُ الجمالية لله والعالَم تتوالَد في سياق التفاعُل الإيجابي الخلَّاق لهذه العناصر الثلاثة. أتحدثُ هنا عن التديُّنِ العقلاني الأخلاقي، والفنِّ الأصيل الذي يهذِّب الذَّوق والأخلاق. لا أتحدَّثُ عن الواقع الذي فرضَتْه إكراهاتٌ تاريخية مريرة ما زالت تتحكَّمُ به حتى اليوم.
لا يُمكِن أن يستغني الإنسانُ عن الجمالِ، حاجةُ الإنسان لمتعة تذوُّق تجلِّيات الجمال في العالَم رافدٌ يعزِّز السلامةَ النفسيةَ والروحية. تذوُّقُ الجمال انكشافٌ متبادل؛ ففي الوقت الذي ينكشِفُ للإنسان فيه جمالُ العالَم، ينكشِف له جمالُ ذاته، بمعنى أنه مثلما ينكشِف فيه المُشاهَد بشكلٍ مُضِيء، يتحقَّق فيه المُشاهِد بشكلٍ مُضِيء أيضًا. حين يبتهج الإنسانُ بتذوُّق تجلِّياتِ جمال الله في الوجود يتكامل إلى مرتبةٍ وجوديةٍ أسمى. وقتئذٍ يكونُ الشعورُ الجمالي تعبيرًا عن الشعور الديني، والشعورُ الديني تعبيرًا عن الشعور الجمالي.
يقترن الشعورُ الجمالي بالحُبِّ إثباتًا ونفيًا، الحُبُّ مرآةُ الجمال، الجمالُ مرآةُ الحُبِّ. لا حُبَّ ما لم يتجلَّ المحبوبُ جميلًا. عندما يلتقي الإنسانُ جمالَ المحبوب كأنه يلتقي نفسَه؛ لأنه يرى كلَّ ما يتمنَّاه لصورته فيه. الحُبُّ مصدر الوعي الجمالي في حياة الكائن البشري، وهو ما يصيِّر كلَّ شيءٍ في الوجود جميلًا. الحُبُّ يلوِّن الحياةَ بأجمل معانيها، ويكشِف للإنسان أجملَ صورها المكتنَزة. الحُبُّ يضيء الحياة، ويبدِّد وحشةَ الكائن البشري فيها. حين ينبض قلبُ الإنسان بالحُبِّ يرى كلَّ شيء كأنه مخلوقٌ من جمال.
لمَّا كان الدينُ: «حياةٌ في أُفق المعنى»، يكونُ إنتاجُ المعنى الجمالي أحدَ أهداف الدين المحورية، وفي ضوء هذا الفهم يفرض الدينُ على أتباعه الإسهامَ في رسمِ صورةٍ أجمل للعالَم، وإن الكفَّ عن الإسهام في رسم هذه الصورة لا يُعدُّ موقفًا إيمانيًّا أصيلًا. التعبيرُ الجمالي عن الدين ضرورةٌ، بوصفه ضمانةً لإحياء رسالة الدين الحيَّة المُلهمة لمعاني الخير والمحبة والجمال والسلام في كلِّ عصر، ويكون هذا التعبير أشدَّ ضرورة عندما يتفشَّى قبحُ التعبير المتوحِّش عن الدين.
مشاهدةُ القلوب لتجلياتِ الجمال الإلهي في الوجود تصيِّر كلَّ شيء مرآةً ينعكس عليها ذلك الجمال، وتتذوَّق في كلِّ شيء جمالًا يشاكله. يتسعُ في فضاء مشاهدة القلوب الأُفقُ الروحي للجمال ليكون أُفقًا كونيًّا مشتركًا، لا تضيقُ فيه مضائقُ المكان والزمان. الأفقُ الروحي للجمال يكفلُ حمايةَ الإنسان من الاغتراب الوجودي، وتكريسَ سكينة الروح وطمأنينة القلب.
شحَّةُ الجماليات في أعمالنا، وطغيانُ الفنون المُبتذَلة، واضمحلالُ الأبعاد الجمالية في البناء والعمارة والسينما والمسرح ووسائل الإعلام والدعاية والإعلان وكلِّ شيء، تجعل الإنسانَ ينفرُ من الحياة ويشعرُ بالغربة والاختناق. يكتئبُ الإنسانُ عندما يرى العالَمَ مشوَّهًا قبيحًا مظلمًا، لا يبوحُ بأي معنًى جميل، يُفيضُ على قلبه الطمأنينةَ، وعلى روحه السكينةَ.
إن كان الإنسانُ يعيشُ في مجتمعٍ لا يكترث بالجمال، ويطغى فيه صوتُ الكراهية والعنف، يتبلَّد ذَوقُه الفني، وتتعطَّل حواسُّه الخاصة بتذوُّق الألوان والأصوات والألحان. تذوقُ الجمال يحتاج تربيةَ الذوق الفنيِّ منذ الطفولة، ولابد أن تتواصلَ هذه التربيةُ كلَّ حياة الإنسان. تربيةُ الذوق الفني ذاتُ صلةٍ مباشرة بالرؤية الجمالية للعالَم، ونمطِ تمثِّلها في اللاشعور الفردي والمجتمعي. تنعكس رؤيةُ العالَم على صلة الإنسان بما حوله، من: بشر، وكائناتٍ حيَّة، وأشياء، كما تنعكس على نمط صلته بالله. تربيةُ الذوق الفني تدخل عنصرًا أساسيًّا في إنتاج رؤية مضيئة للعالَم. الرؤيةُ المضيئةُ للعالَم تعيد إنتاجَ الذوق الفني مثلما يعيد الذوقُ الفني إنتاجَها.
إن كانت بصيرةُ الإنسان حاذقةً، وذوقُه الفني صافيًا، وحاسَّتُه الجماليةُ مضيئةً، تُصبِح رؤيتُه للعالَم مضيئةً، يرى هذا الإنسانُ صورةَ الله مشرقةً، ويكتشف تجلياتِ جماله في الموجودات. ويستطيع مَنْ يمتلك رؤيةً مضيئةً للعالَم أن يساهم في تشكيل صورًا مضيئة للأشياء؛ إذ يُمكِنه أن يعيد بناءَ كلِّ شيء في الأرض بشكل يكشف لنا عن جماله، يقول غوته: «يُمكِنك أن تصنعَ الجمالَ حتى من الحجارة التي تُوضَع لك عثرةً في الطريق.»
التربيةُ في بلادنا تجهلُ الأثرَ الحيوي البنَّاء للذوق الفني والحاسَّة الجمالية في تفكير الإنسان وفهمه ورؤيته للعالَم ومشاعره ومواقفه وسلوكه، ولا تتنبَّهُ لما يُمكِن أن تُساهم فيه من خفض وتيرة العنف في المجتمع بكلِّ تعبيراته.
عندما لا تعبأ العائلةُ والمدرسةُ بتربية الذوق الفني وإثراءِ الحاسَّة الجمالية للأبناء يدخل هذا الذوقُ والحاسَّةُ الجمالية حالةَ خمولٍ وسبات، وربما يُصابُ الإنسانُ ببلادة تذوقِ الفنون السمعية والبصرية، والعجزِ عن الشعور بجمال الألوان والصور والموسيقَى والألحان والأصوات، ويظهر أثرُ ذلك في نمطِ إدراك صورة الله، وكيفيةِ فهم الإنسان للدين، وطريقةِ قراءته لنصوصه، وفي ثقافة الإنسان، ورؤيته للعالَم، وعلاقاتِه الاجتماعية، وكلِّ شيء في حياته.
تربيةُ الذوق الفني وتنميتُه تُخَفِّض كثيرًا من الحزن والكآبة والغضب والحقد والضغينة والعنف والجريمة، وتعزِّز السلمَ المجتمعي، وترسِّخ السلامَ العالمَي. تربيةُ الذوق الفني أخصبُ أرضية لاستنبات الحُبِّ وتغذيته وتكريسه. كلُّ مجتمع يتجاهل تربيةَ الذوق الفني، ويفشل في تهذيبه، يفشل في بناء حضارة حيَّة، تتناغم وإيقاعَ العصر، وتستجيب لاحتياجات الإنسان المادية ولمتطلبات حياته المعنوية.
من ورَّطَتْه الأيامُ وفرضَت عليه ظروفُ حياته صلةً بكائنٍ بشري يعجز عن رؤية ما هو جميل في العالَم، لا تتحسَّس مشاعرُه الفنونَ وتتذوَّقها، ولا يرى تجلياتِ جمال الله في الوجود، عليه الهروبُ منه لئلا تتسمَّم حياتُه، ويلبث حزينًا يبكي قلبُه كلَّ يوم.
عندما يتغذَّى الحُبُّ من الجمال ويغذِّيه يكون أحدَ أثرى منابع الأمل والتفاؤل والثقة بالغد، الثقةُ بالغد ضرورةٌ لتواصل إنتاج الحياة لأجمل معانيها. يعيش القلبُ بالحُبِّ كما تعيش السمكة بالماء. كلَّما اشتدَّ الحُبُّ اشتدَّت رغبةُ الإنسان بالحياة. الحُبُّ يساعد الإنسانَ في التغلب على قلقِ الموتِ، الحُبُّ يمكن أن يكون إكسيرًا للحياة، يموت الإنسانُ داخلَ الإنسان لحظةَ يموت الحُبُّ في الأرض. الحُبُّ يضيء الحياةَ بمعناها الأجمل، ويبدِّد وحشةَ الكائن البشري وغربتَه فيها. الظمأ البشري للمحبَّة حاجةٌ لا تتوقف ولا تنتهي. لحظةَ يفتقد الكائنُ البشري الحُبَّ تفتقد حياتُه معناها الآسِر، فقدان الحُبِّ في حياة إنسانٍ عاطفيٍّ مُرهَف الحسِّ يقوده للحزن والتشاؤم والاكتئاب، وأحيانًا يكون أحدَ أسباب الانتحار.
الجمالُ أحدُ الروافدِ المُلهمةِ لبناء الحضارة، وأحدُ عواملِ تطوُّرِها وترسيخِ وجودِها وتراكُم ثرواتها. تفتقدُ الحضارةُ هُويتَها الإنسانية المبدعة حين تفتقدُ الرؤيةَ الجماليةَ للعالَم، ويتبلَّدُ لدى إنسانِها الذَّوقُ الفني. تنمو الحضاراتُ وتُثري منجزَها وتتسع بنُمو وغزارة الفنون واتساع الرؤية الجمالية للعالَم، تفتقرُ الحضاراتُ وتضمحلُّ بنضوب منابع الفنون وضيق الرؤية الجمالية للعالَم. أكثرُ مَنْ يتحدَّثون ويكتُبون عن الفنِّ والجمال لا يهتمون بالصلة العضوية بين الدِّين والفن والجمال، أكثرُ مَنْ يتحدَّثون ويكتبون عن التربية والتعليم لا يهتمُّون بالصلة العضوية بين التربية والتعليم والفن والجمال، أكثرُ مَنْ يتحدثون ويكتبون في الفلسفة لا يتنبَّهون لأثَر الفن والجمال في بناء العقل الفلسفي، أكثرُ مَنْ يتحدَّثون ويكتبون في الفِكْر لا يتنبَّهون لأثَر الفن والجمال في بناء التفكير المبدع الخلَّاق. أصحاب المشاريع الفكرية الذين انشغَلوا بالكشف عن عواملِ الانحطاط وبواعثِ النهوض عند العرب، منذ القرنِ التاسعَ عشرَ إلى اليوم، لا يتنبَّهون للأثَر الأساسي لتربيةِ الذَّوق الفني وإيقاظِ الحاسَّة الجمالية في النهوض والبناء والتنمية. كلَّما زاد الوعيُ الفني ونضجَت الحاسَّةُ الجمالية ازدادت قدرةُ الإنسانُ على بناءِ رؤيةٍ مضيئة للعالَم، وازدادت قدرتُه على جعلِ محيطِ عيشِه على الأرض أجمل.
لم يهتمَّ أكثرُ المصلحين والمجدِّدين في عالَم الإسلام الحديثِ ببناءِ رؤيةٍ جمالية للعالَم تتكشَّف فيها الأبعادُ الجمالية للنصوص الدينية وما يكتنزُه تراثُ العُرفاء من قِيَمٍ فنية وجمالية، ولم يهتمُّوا بإيقاظ الحياةِ الجمالية في الدِّين. مَنْ ينشُدُ إعادةَ فهم الدين في ضوء متطلبات العصر، عليه إعادةُ الاعتبار للجمال بوصفه قيمةً محوريةً لرسالة الدين، والبحثُ عن كلِّ ما من شأنه الكشفُ عنه في النصوص الدينية، وتفسيرُ هذه النصوص في سياق الحاجة الراهنة لبناءِ وترسيخِ الرؤية الجمالية للمسلم وتربيةِ ذوقه الفني، فكلُّ إنسانٍ يفتقدُ الرؤيةَ الجماليةَ للعالَم ويفتقرُ للذوقِ الفنيِّ تشتدُّ عزلتُه عن العالَم؛ لأنه لا يرى في العالَم ما يشي بجماله، أو يراه قبيحًا ولا يجد وشيجةً تربطه بما حوله.
الموقفُ الديني الذي يُصِرُّ على إدانة الفن والجمال، ويزدري كلَّ أشكالِ الحُبِّ والفرح والمسرَّات، يعمل من حيث لا يدري على طردِ الدين من الحياة، وتجفيفِ منابعِ إيقاظِ المشاعر والعواطف الإنسانية الأصيلة. لا يُنقِذنا من التديُّن المتطرِّف إلا حضورٌ فاعلٌ للفنون بتعبيراتها البصرية والسمعية، وتديُّنٌ يتكلمُ لغةَ المحبة، وحياةٌ روحية تُسهِم في إثرائها الفنونُ، وتُضِيئُها الرؤيةُ الجمالية للعالَم.