(٥) الحُبُّ والذكاءُ العاطفي
الذكاءُ العاطفي
الذكاءُ العاطفي مهارةُ الاعتراف بالآخر وتثمين منجَزه مهما كان صغيرًا، الذكاءُ العاطفي وعيٌ بكيفية التحكُّم إيجابيًّا بلطف لا بتسلُّطٍ وقهرٍ لمشاعر الآخرين. الذكاءُ العاطفي براعةٌ في اكتشافِ بواعث التفاعل والرغبة الكامنة لدى الإنسان، وإتقانِ وسائل التأثير العاطفي عليه وما يدعوه للانجذاب للآخر، ومعرفةِ مواطن انفعاله وتحسُّسه وغضبه، وتجنُّبِ ما يتسبَّب في امتعاضه ونفوره.
الذكاءُ العاطفي مضافًا إلى أنه موهبة، هو خبرةٌ عملية تتراكَم وتتكرَّس بالممارسة، وتسقيها المراجعةُ النقدية لأسلوب التحدُّث والسلوك والمواقف المتنوِّعة عند معاشرة الإنسان، والندمُ على ما يرتكبه الإنسانُ من أخطاء في العلاقات الاجتماعية، وتدريبُ الذات على الخلاص منها، عبْر الأساليب التربوية والنفسية والأخلاقية.
معاملةُ الإنسان برفق ولطف ودبلوماسية قَدْر الإمكان، وغضُّ النظر عن مواطن القصور والهشاشة في شخصيته، لا تعني الخداعَ أو النفاقَ في معاملته، ولا تعني الكذبَ عليه، بل تعني الصمتَ في مقام يتطلبُ الصمت، وعدمَ إعلان كلِّ ما نعرفه عن شخصيته، وما تتكشَّف من هَنات أقواله ووهَن أفعاله. الإنسانُ بطبيعته ينفرُ بشدَّة من فضح أخطائه؛ لأن ذلك يشي بتوبيخه، وشعوره المرير بأنه تشهيرٌ بنقصه. الإنسان ينزعج من كشف ضعفه ونقصه، كلُّ إنسان يطلب الكمالَ ويبحثُ عمن يتحدثُ له عن مواطن الجمال والقوة والتفوُّق في شخصيته.
لا يعني الذكاءُ العاطفي التواطؤَ مع الظلم والجريمة وخيانةَ الضمير الأخلاقي، بل يعني الخلاصَ من الشعور بالوصاية على الغير، والشفاءَ من مراقبة خصوصيات الناس واقتحام حياتهم الخاصة، والكفَّ عن العبث بسلامهم الداخلي، وإثارة مشاعرهم، وعدمَ التفتيش عن ثغرات شخصياتهم وأخطائهم، واستفزازهم بفضحها أمامهم أو إشاعتها في غيابهم. الذكاءُ العاطفي يتطلب الوعيَ بأن الإنسانَ كائنٌ انفعاليٌّ حسَّاس جدًّا، شخصيته مركَّبة من طبقاتٍ عميقة مهما كانت تظهر لنا مسطَّحةً وساذجة. في شخصية كلِّ إنسانٍ ثوابتُ تشكَّلَت في مرحلة طفولته، هذه الثوابت تظل تعيش معه إلى آخر يوم في حياته، وإن كان أكثرُها خفيًّا لا يعلن عن حضوره إلا في بعض الهفوات والمواقف الحرجة. لا يتغير الإنسانُ بموعظة أو مقترح أو توصية، ما يمكن أن يغيِّر الإنسانَ تغيُّرُ نمطِ وعيه، وظروفِ عيشه، وتبدُّلُ قناعاتِه، وكيفيةِ تعريفه لذاته، ورؤيتِه للعالَم. ما يغيِّره هو الصدماتُ الموجِعة التي تزلزلُ أمنَه وتهدِّد عيشَه، إن كان قادرًا على وعيِها والإفادةِ من دروسها القاسية. المحبةُ والإيمانُ والعواطفُ الصادقة والتضامنُ الإنساني يمكن أن تغيِّر الإنسان.
الذكاءُ العاطفي ليس كلمات مجاملة بلا مضمونٍ عملي، لا ينجح الذكي عاطفيًّا إلا أن يرى الناسُ سلوكَه صدًى لأقواله. الذكاءُ العاطفي مواقفُ صادقة في الرخاء والشدَّة. أعرف أشخاصًا يمتلكون ذكاءً عاطفيًّا، ويُجيدون تسويقَ أنفسهم في العلاقات العامة، إلا أنهم يعجزون عن تجسيد كلماتهم في سلوكهم، أحيانًا ينهشون غيرَهم في غيابهم بشراسة، فيفرُّ الناسُ من بين أيديهم، وإن ظفِروا بعلاقةٍ مميزة بهم. الكذَّابُ والمحتال والمراوغ والماكر، حتى لو كان يمتلك ذكاءً عاطفيًّا، يفشلُ في بناء علاقاتٍ راسخة بالناس لافتقاره للمصداقية. أعرفُ بعضَ الناس يُظهِرون اهتمامًا بغيرهم في تواصُلِهم وعباراتهم المنتقاة بعناية، غير أن مواقفَهم تكذِّب كلماتِهم.
الحُبُّ غيرُ الذكاء العاطفي. الذكاءُ العاطفي يتطلب عقلًا ذكيًّا في إدارة العلاقات بما لا يزعج الآخر، وإرادةً حازمة في الخلاص من العاهات والمواقف المنفِّرة له، وإتقانَ الكلمات الدافئة، والمواقفَ الأخلاقية في التعامل مع الناس. ليس بالضرورة أن يكون الذكيُّ غزيرَ العاطفة، وإن كان من الضروري أن يكون صادقًا. الذكي عاطفيًّا محترِفٌ لإظهار الاعتراف بالناس والاهتمام بهم ورعايتهم وتشجيعهم، وحريصٌ على عدم إزعاجهم بأية كلمةٍ قاسية أو موقفٍ جارح.
لا تضادَّ في الجمع بينَ الذكاءِ الذي يشيرُ إلى العقل، والعاطفةِ وما ينبعثُ من دوافعَ لدى الإنسانِ خارجَ العقل. عمليةُ الجمع تعني التفكيرَ الواقعيَّ الحكيم بتوجيهِ العواطفِ والسعي لتوظيفها في بناء علاقاتٍ إنسانيةٍ صادقة. الذكيُّ عاطفيًّا يُفكِّر بكيفية إدارةِ عواطف الناس؛ ويُتقن التعاملَ معهم بلغةٍ مهذبة، والتأثيرَ عليهم بأساليبَ محبَّبة للأنفس.
ليس بالضرورة أن يكون الإنسانُ العاطفي ذكيًّا عاطفيًّا، ربما يفتقر الإنسانُ العاطفيُّ للذكاء العاطفي، وقد يكون سلوكُه منفِّرًا، لا يتعطَّش الناسُ للتواصلِ معه والارتباطِ به، ولا يتلمَّسون لديه ما يشجِّعهم على صداقته. ربما يكون الإنسانُ عاطفيًّا لكنه متمركزٌ حولَ ذاته، بنحوٍ لا يتنبَّهُ لما ينجزُه غيرُه وإن كان ثمينًا ولافتًا للنظر، أو يتعمَّدُ تجاهُلَه ولا يهتمُّ به. وكأنه لا يعلمُ بأن التجاهلَ والإهمالَ وعدمَ الاكتراث بما يراه جميلًا في أقوالِ مَن يتعامل معه وأفعالِه صورةٌ للبلادة العاطفية. التجاهلُ أحيانًا والإهمال أسوأ أشكال عدم الاحترام، وقد يصلُ الشعورُ بالتجاهل عند الأشخاص الحسَّاسين حدَّ الإهانة.
أعذبُ شخصيةٍ يلتقي فيها الذكاءُ العاطفي بالمشاعر الصادقة المتدفِّقة. ربما يكون الإنسانُ عاطفيًّا حميميًّا، غزيرَ المشاعر، يحتاجُ المحبَّةَ أكثر من غيره من ذوي المشاعر الباردة، لكنه يعجزُ عن محبَّة الناس، لشعوره الدائم بالتفوُّق على غيره، ولغَيرتِه المَرَضِية تجاه كلِّ ناجح، وللعُقَد التربوية المترسِّبة في أعماقه، فيحبس نفسَه في محيطٍ عدائي يصنعُه هو، ويظلُّ يكابدُ كلَّ حياته للخلاص منه دون أن يتخلَّص.
التربيةُ تغذِّيها العواطفُ قبل العقل
الأخلاقُ والعواطفُ الصادقة إكسيرُ العملية التربوية والتعليمية. تُخفِق التربيةُ والتعليم عندما يفتقرُ الأستاذُ للذكاء العاطفي، ويعجزُ عن التعامل مع تلامذته بأبوَّةٍ أخلاقية مشفِقة. أحيانًا تكون الكلمةُ سرَّ الحياة، وأحيانًا تكون الكلمةُ رصاصةً قاتلة. تشجيعُ التلميذ والاعترافُ بمنجَزه مهما كان ضئيلًا، يُمِدُّه بطاقةٍ خلَّاقة تُوقدُ مواهبَه الكامنة. إهمالُ التلميذ وعدمُ تشجيعه، يعطِّل مواهبَه وربما يُميتُها. الأخطرُ من ذلك الازدراءُ بما يُنجزُه التلميذ، فإنه يُشعِرُه بالعجز التام، وربما ينتهي إلى إعاقةٍ ذهنية لدى التلامذة العاطفيين جدًّا.
أعرفُ تلميذَ ماجستير ذكيًّا مهذَّبًا، فنَّانًا صاحبَ ذوقٍ رفيع، شَكَا لي بمرارةٍ عن معاناته وزملائه من أحد الأساتذة، يصفُ التلميذُ هذا الأستاذَ بقوله: إنه يغار من تلامذته، ويُقلِقه تفوُّقُ الأذكياء، فيوبِّخهم باستمرار بلا سبب، ويَسخرُ من إجاباتهم، وأحيانًا يتعسَّفُ في معاملتهم، ويزدري ما يُنجزونه بشكلٍ موجع، ما يَضْطرُّ بعضَهم لترك الدراسة والتضحية بمستقبله.
يشكو تلامذةٌ من أستاذٍ تورَّطوا بالحضور لديه مدةً من الزمن، قبل أن يتعرَّفوا على أخلاقه والبِنية السيكولوجية المعقَّدة لشخصيته. قالوا بأنه كان يذمُّ بقسوة مَنْ تربطنا بهم علاقات، ويتظلَّمُ بمرارة من إهمالِ الناس له، وعدمِ الانشغال بموهبته وذكائه وعلمه ومنجَزه. هذا الأستاذ شخصيتُه سامَّة، مصابٌ بعاهاتٍ نفسية وأخلاقية مزمنة، كان لا يُطيقُ أن يتعاملَ معه الناسُ إلا بالتبجيل والتعظيم. إذا لمح نظرةً أو موقفًا من أيِّ شخص وظنَّ أنه لم يُظهِر الاحتفاءَ به يشكوه بتوجُّع. يذمُّ الناسَ ويهجوهم لا لشيء إلا لنفورٍ عنيف لديه منهم، يتلذَّذ بهجاء غيره، لا تسمع منه تبجيلًا ولا ترى منه احتفاءً بإنسان، ولا ثناءً على منجَزه، خاصةً مَنْ كانوا من ذوي المنجَز اللافت، يشعُر كأن اللهَ خلق الناسَ ليكونوا خدمًا له. بعد تقدُّم عمرُه وجد نفسَه غريبًا بين الكلِّ، تواصَل فرارُ تلامذته واحدًا بعد الآخر، أكثرُهم لم يمكُث معه إلا سنةً أو أقل، كذلك تفرَّق كلُّ أصدقائه عندما أدركوا عجزَه عن مداوة نفسه، وعجزَهم عن تخليص أنفسهم من هجائه لهم، ويأسَهم من تخليص الناس من شتيمته. بعضُ الناس عندما يفعلون أيَّ شيء يترقبون من الكلِّ أن يُبديَ إعجابَه واحتفاءَه بفعلهم، لكن لا تسمع أو ترى منهم تثمينًا لمنجَز أيِّ إنسانٍ آخر، مهما كانت قيمةُ منجَزه وأثَره. يظنون أنَّ مهمةَ الناس التصفيقُ لهم، من دون أن يبادروا بتقديم أيِّ شيء لغيرهم.
بعضُ الناسِ يتهرَّب من أية مسئوليةٍ أخلاقية تجاه الغير، يترقَّب تضحيةَ الكلِّ من أجله، من دون مكافأة أحدٍ حتى بكلمة شكر. التهرُّبُ من المسئولية ضربٌ من خيانة الضمير الأخلاقي. تحمُّلُ المسئولية تضحية، كلُّ تضحيةٍ تمنحُ الإنسانَ معنًى جديدًا لحياته لا يتذوَّقه خارجَها. التضحيةُ بكلِّ مستوياتها وأنواعها وتعبيراتها تُسعِد مَنْ يضحِّي، سواء أكانت بإنفاق المالِ أو الجهدِ أو الراحةِ أو الوقتِ أو الشفقةِ على أنين الضحايا والبؤساء والصبرِ الطويل على إغاثتهم ماديًّا وعاطفيًّا، أو غير ذلك من المبادرات الإنسانية لإسعاد الغير. تحمُّلُ المسئولية ينتقل بالإنسانِ إلى طَورٍ أخلاقي أنبل؛ لأنه يتقاسمُ حياتَه مع إنسانٍ آخر، ويُسهِم بجعل العالَم الذي يلتقي فيه الجميع أجمل. تحمُّلُ المسئولية تجاه العائلة والمجتمع والوطن والطبيعة وغيرها من أسمى ما تتجلى فيه إنسانيةُ الإنسان. ما يُواجِه الإنسانَ الأصيل من متاعبَ وآلام من أجل إسعاد الغَير لا يُرهِقُه بل يُشعِرُه بالرضا والغبطة.
يتسامى الإنسانُ بمستوى تحمُّله المسئولية. تحمُّل المسئولية مرآةٌ ينعكسُ فيها سموُّ الإنسان وعلوُّ مقامه ويقظةُ ضميره الأخلاقي. يرتفع مقامُ الإنسان بارتفاع شعوره بالمسئولية وسعيه لتحمُّلها. يتناسبُ تحمُّل المسئولية مع المكانة الوجودية للإنسان في العالَم. الكبارُ يتحمَّلون المسئوليات الكبيرة تجاه الإنسان والكائنات الأخرى والطبيعة والعالَم. الإنسانُ غير المسئول ينتهكُ حقَّ مَنْ حوله، ويتحوَّل إلى عبءٍ على ذاتِه.
الحُبُّ أثمنُ رأسمالٍ للمعنى
الإنسانُ كائنٌ مسكون بطلب الاعتراف، شغفُ الإنسانِ بالاعتراف يدعوه للتطلع للثناء على كلِّ شيء يقوله ويفعله، الحُبُّ أسمى معاني الاعتراف. لغةُ الحُبِّ والجمال تُوقِظُ الحماسَ للحياة في أعماق الإنسان. تُفسِد المعتقداتُ الإقصائية الحُبَّ وتُسمِّمه، يعجزُ مَنْ يعتنق هذه المعتقَدات عن حُبِّ المختلِف في المعتقَد. عندما يصدرُ الحُبُّ بقرار من سلطةٍ سياسية أو دينية أو أيديولوجية، وتصدُرُ الكراهيةُ بقرار، ويصدُرُ التضامنُ مع جراح الضحايا بقرار، فلا دليلَ أوضحُ من ذلك على أن الإنسانَ ماتَ في داخل الإنسان.
الحُبُّ الأصيل أثمنُ رأسمالٍ للمعنى تمنحه الحياةُ للإنسان، حيثما يكونُ الحُبُّ يكونُ معنى الحياة. الحُبُّ يُعلِّمُ الناسَ كيف يستمعون لنداء قلوبهم، الحُبُّ أعذبُ معاني الفرح. الحُبُّ مُلهِمٌ لمعادلة تغيير الذات بلا إكراه أو قهر، معادلة التغيير في الحُبِّ ديناميكية لا ميكانيكية. الحُبُّ مُلهِمٌ لكلِّ ما أنجزَتْه الإنسانية من إبداعات واختراعات واكتشافات في مختلف العلوم والفنون والآداب، كان وما زال الحُبُّ والشغفُ يُمِدُّ الإنسانَ بالصبرِ الطويل والطاقةِ الضرورية لإنجاز الأحلام الكبيرة.
مهما كان الإنسانُ صغيرًا أو كبيرًا يحتاج الحُبَّ والدعمَ العاطفي. الخَلْطةُ السحرية لمعادلة التربية والتعليم تغذِّيها العواطفُ قبل العقل. دَورُ العاطفة في التربية والتعليم أكبرُ من دَور العقل، إذا أراد المعلِّمُ التأثيرَ الفَعَّال في أذهان تلامذته فعليه أن يبدأ بعواطفهم. متى ازدادت العواطفُ ازدادَ تحفيزُ المواهب وإيقاظُ الوعي وإثراءُ المهارات، الاعترافُ بمنجَز التلميذ والاعجابُ بجهوده وتشجيعُه إكسيرُ التربية والتعليم. التاريخُ البشري صنعَته العواطفُ مثلما صنَعه العقل. العلومُ والفلسفة والفكر صنعها العقلُ أكثر مما صنعتها العواطفُ والانفعالات والمعتقَدات والهُويَّات. تتجاذب التفكيرَ العواطفُ والمشاعر والمعتقَدات والهُويَّات من جهة، والعقلُ والتفكيرُ النقدي من جهةٍ أخرى. الفلسفةُ والعلوم والتفكير النقدي يتغلبُ فيها العقلُ على العواطف والمشاعر والمعتقَدات والهُويَّات.
القلبُ مرآةٌ يُضيئُها الحُبُّ، القلبُ الذي يعيشُ الحُبَّ لا تُدرِكه الشيخوخة، الحُبُّ يغيِّر ما دام متوهِّجًا، في الحُبِّ يتجلَّى أجملُ ما في الإنسان، وتنبعثُ منابعُ الخير المودَعةُ في أعماقه. في التربية والتعليم الحُبُّ يغيِّر؛ يوقظُ العقلَ، ويروي المواهبَ، ويطوِّر المهاراتِ، ويفجِّر الطاقاتِ الكامنة. في العلاقاتِ الإنسانية الحُبُّ يغيِّر؛ الحُبُّ يتكفَّل حمايةَ الإنسان من الشرِّ الأخلاقي. عندما تتحدثُ لغةُ الحُبِّ تصمتُ لغةُ الشر.
أجملُ ما يتجلى في الإنسان الحُبُّ، وأسمى ما يتجلَّى فيه الإنسانُ الحُبُّ، وأنفسُ طورٍ وجودي للإنسان الحُبُّ، وأثمنُ وجودٍ للإنسان الحُبُّ، وأزكى وجود للإنسان الحُبُّ، وأعذبُ صلةٍ وجودية بين إنسان وإنسان لا ينتجها إلا الحُبُّ. في بعض الحالات يتسامى الحُبُّ ليكون نمطًا لوجود الإنسان في العالَم، وذلك ما يجعلُ وجودَ هذا الإنسان ضروريًّا لتغذية الحياة بأبهَج معانيها. ليس هناك ما يُشعِر الإنسانَ بمتعة وجوده في العالَم كالحُبِّ. الحُبُّ يتكفلُ حمايةَ الإنسانِ من الشر الأخلاقي؛ عندما تتحدثُ لغةُ الحُبِّ تصمتُ لغةُ الشر.
تظلُّ المحبَّةُ الرصيدَ الأسمى للعلاقات الإنسانية، مَنْ يوقفُ حياتَه للاستثمار في المحبَّة يراها دواءً للقلوب، ولكلِّ داء في حياته الشخصية وعلاقاته الاجتماعية. المحبَّةُ رافدٌ غزير يغذِّي الصلةَ بالله ويكرِّسها. العِرفانُ في الأديان يُوقِظُ في الأرواح لغةَ الحُبِّ والجمال.
الحُبُّ كيمياءٌ تصهرُ عناصرَ متنوِّعة في حياة الإنسان فتُنتِج توليفةً كأنها إكسيرٌ يحوِّل كلَّ شيء إلى نفيس، وكذلك تفعل الرحمةُ عندما تنطقها لغةُ القلب المشفِقة، الرحمةُ تعيدُ ترميمَ كلِّ شيءٍ تتفاعل معه في حياة الإنسان؛ تَشْفي جروح الروح، وتبعث طاقةً حيوية تُعيد بعثَ الأمل في الأرواح اليائسة، لكن لا الحُبُّ ولا الرحمة بديلان للعدالة والعقوبات والقوانين والأنظمة والخطَط والبرامج الضرورية لبناء الدولة وإدارة شئون الناس، وحماية الحياة الشخصية والمجتمعية من الشرِّ الكامن داخل الإنسان.
العقلُ والعلم والمعرفة لا تكفي وحدها لتطهير الإنسان من الشرِّ الكامن في باطنه. الإيمانُ والمحبة والأخلاق هي ما يخفضُ وطأةَ الشرِّ الأخلاقي في الأرض. الإنسانُ الأخلاقيُّ الخالص والإنسانُ الكامل يتنكَّرُ له الواقع لأنه لا يُشبِه طبيعةَ الإنسان، وعلى فرض وجوده فهو استثناءٌ نادر.
لا الحُبُّ ولا الرحمة بديلان للعدالة
لا مجتمعَ في الأرض يخلو من الشرِّ الأخلاقي والظلم والجريمة والعنف، لا مجتمعَ في الأرض يعيش بلا قضاء وأنظمة وقوانين لإدارة حياته وتنظيم علاقاته. لا تتأسَّس المجتمعاتُ والدول على الحُبِّ وحده أو الرحمة وحدها أو الشفقة وحدها أو العطاء وحده. لا تعني الدعوةُ للحبِّ إلغاءَ النظم التربوية والتعليمية والإدارية والقضائية والسياسية، ولا النظم والقوانين الأساسية لبناء الدول القائمة على تداولٍ سلمي للسلطة وأُسسٍ علمية حديثة. لا تعني الدعوةُ للرحمة إلغاءَ القوانين الجنائية والجزائية العادلة، ولا تعني الدعوةُ للإنفاق والعطاء إلغاءَ الملكية الشخصية، ولا تعني الدعوةُ للذكاء العاطفي في الإدارة إلغاءَ النظام الإداري الحديث. الدعوةُ لشيء لا تعني إلغاءَ ما سواه.
لا يُمكِن الاستغناءُ عن العدالة بالرحمة، الرحمةُ ليست بديلًا عن العدالة في بناء أيَّة جماعةٍ بشرية أو بناء أيَّة دولة. الظلمُ مقيمٌ في الأرض، وعيشُ الإنسان وتأمينُ متطلَّباته الحياتية يفرض عليه الكدحَ والتنافسَ والصراع، العدالةُ تمنع من أن ينتهيَ تأمينُ الإنسان لمصالحه ومتطلَّباته إلى نزاعاتٍ دموية وحروبٍ عدوانية.
لا مجتمعَ في الأرض يخلو من الشرِّ الأخلاقي والظلم والجريمة والعنف، لا مجتمعَ في الأرض يعيش بلا قضاء وأنظمة وقوانين لإدارة حياته وتنظيم علاقاته. لا تتأسَّس المجتمعاتُ والدول على الحُبِّ وحده أو الرحمة وحدها أو الشفقة وحدها أو العطاء وحده. لا تعني الدعوةُ للحُبِّ والرحمة إلغاءَ النظم التربوية والتعليمية والإدارية والقضائية والسياسية، ولا النظم والقوانين الأساسية لبناء الدول القائمة على تداوُلٍ سلمي للسلطة وأُسسٍ علمية حديثة.