(٦) الحُبُّ مُعلِّمٌ صعبٌ لكنَّه عظيم
يصعبُ على الإنسان العيشُ وحده
الخوفُ من الوحدة، والحاجةُ للاحتماء بالآخر، وخفضُ قلَق الموت، تقود الكائنَ البشري للوقوع في الحُبِّ. الكائنُ البشري يصعُب عليه العيشُ وحده؛ لأن الحياةَ موحشةٌ جدًّا، الوحدةُ لا يُطيقها الإنسانُ غالبًا، أيُّ إنسانٍ قادرٍ على العيش وحده بلا وحشةٍ وألمٍ وقلقٍ هو إنسانٌ استثنائي. يقول باسكال: «كلُّ مشاكل الإنسانية تنبعُ من عدم قدرة الإنسان على الجلوس لوحده في غرفته بهدوء.»
وسائلُ التواصل اليومَ تُحاوِل حمايةَ الإنسان من الوحدة وخفضَ شعوره المرير بالخوف منها، لكنها تورِّطه بنوعٍ غريب من الوَحْدة، حين تنقلُه إلى عالَمٍ متخيَّل تشيِّد فيه نمطًا لحياته يضادُّ حياتَه الواقعية. عالَمٌ ترتهن مشاعرَه فيه وسائلُ التواصل، وتظلُّ تغذِّي شغفَه بحضورٍ باهت سرعانَ ما ينطفيء، الحضورُ فيه كالغياب. عالَمٌ يعيش فيه الإنسانُ منعزلًا وهو يخوض في وسائل التواصل كأنه عالَمُ أشباحِ بلا ملامح. عالَمٌ صاخبٌ يضجُّ بسراب الوجود لا حقيقته، عالَمٌ يسكُن فيه الإنسانُ بيتًا واهنًا لا سقف فيه ولا جدران، عالَمٌ يأوي فيه الإنسانُ إلى ملاذٍ بلا سكينة، عالَمٌ يحلُّ فيه الإنسانُ ضيفًا بلا ضيافة، عالَمٌ تتوالد فيه علاقاتٌ هلامية زئبقية سرعانَ ما تتلاشَى، عالَمٌ يُوقِع الإنسانَ فيه خوفُه من الوحدة، إلا أنه بمجرد خروجه من وسائل التواصل يجد نفسَه وحيدًا. يقول زيغمونت باومان إن: «مؤسِّس شركة فيسبوك يتغذَّى على خوف البشريَّة من الوَحْدة.»
حاجةُ الكائن البشري للاعتراف تدعوه لكسب ثقة الناس واعترافهم وتقديرهم له، وأيسرُ ما يُكسِب الثقةَ بأيِّ إنسان حُبُّه لغيره. أن يفتقر الإنسانُ للحُبِّ يعني أنه يعيش وحيدًا، ويفشل في رؤية ما هو جميلٌ في العالَم، وذلك يُفضي إلى الشعور بالعزلة والاغتراب. الحُبُّ حالةٌ تمنح الإنسانَ طاقةً حيوية تُشعِره بصِلةٍ بما هو جميلٌ في العالم بلا جهدٍ أو إنفاقِ مال، وتحرِّره أو على الأقل تخفضُ من شعوره بالاغتراب. الحُبُّ يصنع له صلةً عضوية بما حوله من ناس وكائنات وأشياء، ويتيح له ألفةً وتناغمًا مع إيقاع موسيقَى الوجود. الحُبُّ الأصيل في أبهى تجلياته حالةٌ أنطولوجية تتحقَّق بها الذاتُ وتتكامل، بمعنى أنه يعني حدوثَ طَورٍ وجودي تسمو به الكينونةُ الإنسانية، فتتمكَّن من خفض اغترابها الوجودي إلى أدنى حدٍّ. مَنْ ظفِر بإنسان تسكُن روحَه المحبَّةُ، وينبض قلبُه بالرحمة، ويتحكَّم ضميرُه الأخلاقي بمواقفه وسلوكه، عليه التمسُّك به. وما أقلَّ وجودَ مثل هذا الإنسانِ في حياتنا!
الإنسانُ بطبيعته يسعى لاحتكار الحُبِّ، كما يسعى لاحتكار كلِّ شيء يقع تحت يده؛ لذلك يحاول أن يفرضَ على حبيبه ألا يحُبَّ أحدًا في العالَم سواه. الحرصُ على احتكار الحُبِّ يُفسِد الحُبَّ، وإذا تمادى هذا الحرص واشتدَّ يتحوَّل إلى غَيرةٍ مَرَضية تبدِّد الحُبَّ وتُنهِك روحَ الحبيب.
تبتهجُ الحياةُ لحظة تبتهجُ الكلماتُ بالحُبِّ. على الرغم من أن الحُبَّ يقترن عادةً بخوفٍ من فقدانه، لكنَّه يخفضُ كثيرًا حالةَ الشعور بالخوف، ويخلِّص المرءَ من الشعور بعدم الأمان. الحُبُّ هو الحبلُ السُّرِّي لما يعيشه الإنسانُ من حالات الرضا والثقة والإنجاز والسعادة، وهو المُلهِم لكلِّ ما هو جميلٌ في الحياة، ولكلِّ ما تغتني وتتكامل وتسمو به كينونةُ الكائن البشري.
لا مُنتِجَ للمعنى في الحياة أجمل من الحُبِّ، لا طاقةَ أغنى من الحُبِّ تُلهِمنا إرادةَ الحياة، ولا مُعلِّمَ أجمَل من الحُبِّ يعلِّمنا كيفيةَ العيش. الحُبُّ مُعلِّمٌ صعب لكنه عظيم، الحُبُّ من أشدِّ اختبارات المرء في الأرض، وأغناها عطاءً. الإنسان كائنٌ مسكون بطلب الحُبِّ.
تجربةُ الحُبِّ أثرى تجربةٍ عاطفية وروحية يعيشها الكائنُ البشري، وأبدعُ قصيدة أشواق تتدفَّق من قلب هذا الكائن. الكلُّ يسعى إليها، الكلُّ يحاول تعلُّمها، الكلُّ يسعي للتشبُّث بها، كي يتمثَّلها ويمتلكَها. الإنسانُ الأصيل حُبُّه أصيل؛ فحين يكتب قصيدةَ حُبِّه يعيشها ويُدمِن عليها ويتسامى بها، ولن تتبدَّد أو تهربَ أو تضيعَ لحظة يمتلكها. أكثرُ البشر يكتُبها فتضيع، ثم يكتُبها فتضيع؛ لأن تحوُّل الحُبِّ من كلمة إلى حالةٍ يعيشها الإنسانُ تتضافر في إنتاجه مجموعةُ استعداداتٍ ذاتية ومكتسَبة، ربما يتعذَّر الظفرُ بكلِّ عناصرها؛ لأنها تتطلَّب روحًا نقية، ومشاعرَ صافية، ورؤيةً متفائلة للعالَم، تتحسَّس جمالياته وتتذوَّقها بشغف. الحُبُّ الحقيقي بوصفه حالةً لا يُولَد بيسر وسهولة، تُجهِضه العواملُ المضادَّة المتفشِّية في الحياة الإنسانية، وهي عواملُ مختلفة تنتج التعصبَ والكراهيةَ والعنفَ والشرَّ في حياة البشر. العيشُ بالأحقاد والضغائن تتحوَّل فيه الحياةُ إلى علقَم، العيشُ بالمحبة عذبٌ بهيج، لكن امتلاكَ المحبة صعبٌ جدًّا، ومتعذرٌ أحيانًا. على الرغم من أن الحُبَّ أثمنُ معاني الحياة الإنسانية وأسماها، غير أنَّ حضوره لا يُوازِي الحاجة الأبدية له في حياتنا؛ إذ قلَّما يحضُر في ثقافتنا وكتاباتنا وفنوننا وآدابنا وأحاديثا ونقاشاتنا، ووسائل إعلامنا ومنابرنا ومواعظنا الدينية وتديُّننا.
صعوبة الحُبِّ
الحُبُّ ليس صعبًا فقط، بل هو عصيٌّ على أكثر الناس، لا يسكُن الحُبُّ الأصيلُ إلا الأرواحَ السامية، ولا يناله إلا مَنْ يتغلَّب بمشقةٍ بالغةٍ على منابع التعصُّب والكراهية والعنف الكامنة في أعماقه. حُبُّ الإنسان من أشقِّ الأشياء في حياة الإنسان؛ لأن هذا الكائنَ بطبيعته أسيرُ ضعفه البشري، يصعُب عليه أن يتخلَّص من بواعث الغَيرة في نفسه، وما تنتجه غَيرتُه من منافسات ونزاعات وصراعات، وما يفرضُه استعدادُه للشرِّ من كراهياتٍ بغيضة، وآلامٍ مريرة.
ما دام الحُبُّ أثمنَ ما يظفَر به الإنسانُ وأغلاه، فإن نيلَه يتطلَّب معاناةً شاقةً وجهودًا مضنية. الإنسانُ أعقدُ الكائنات في الأرض، وأغربُها في تناقضاته، وتقلُّب حالاته. تناقضاتُه لا تنتهي؛ لأنها تتوالد منها تناقضاتٌ باستمرار، ما لم يُفلِح الإنسانُ بالتغلب عليها بمزيدٍ من صلابة الإرادة، ووعي الحياة، واكتشافِ مسالكها الوعْرة، والخلاصِ من ضغائنها، والعملِ على الاستثمار في منابع إلهام الحُبِّ، ونحوٍ من الارتياض النفسي والروحي والأخلاقي الذي يسمو بالإنسان في مراتب الكمال.
حُبُّ الناس صعبٌ، حُبُّ الناس، إن ظفرَ به الإنسانُ، حالةٌ يعيشها الإنسانُ ويتحقَّقُ بها في طورٍ وجودي جديد، وهي لا تتكرَّس إلا بالتربيةِ والتهذيب، والصبرِ الطويل بإكراه النفس على العفو والصفح، والتدريب المتواصل على إخماد نيران التعصُّب وتحطيم الأغلال المترسِّبة في باطنه، والعملِ الدءوب على اكتشاف منابع إلهام الحُبِّ وتنميتها. ومن أثرى هذه المنابع النظرُ لما هو مضيء فيمَنْ تتعامل معه، والعفوُ، والصفحُ، والغفرانُ عن الإساءة، والانهمامُ بالذات، وعدمُ الانشغال بالغير وشئونه وأحواله، والكفُّ عن التدخُّلِ في الحياة الخاصة للناس وانتهاكِها، ومطاردتِهم بالأحقاد كما يفعل البعضُ الذي ينصِّب نفسَه وكأنه وصيٌّ على الناس، يترصَّد كلَّ شيءٍ يصدُر عنهم فيُحاسِبهم عليه. وهو لا يعلم أنَّ كلَّ فعلٍ يرتدُّ على فاعله، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر.
أعرفُ أحدَ الأشخاص المعقَّدين المغرورين المشاكسين، كان لا يُطيقه الأقرباءُ والأصدقاءُ وجميعُ الناس الذين يتعامل معهم. كلُّ شيء يراه أو يسمعه من غيره ينقلب قبيحًا لديه. طالما سمعتُه يذمُّ كلَّ شيء، لا يرى الجميلَ عند غيره إلا قبيحًا، وإذا استمع حديثًا من صديق، يعقِّب عليه بقوله: «هذا خطأ، أنتَ تجهلُ هذه الأشياء»، وإذا قرأ نصًّا لغيره سَخِرَ منه، بلا أن يفكِّر ويتثبَّت ويدقِّق في مضمونه، ومتى رأى شيئًا جميلًا يزدرِه. لا يبادر في العطاء، وعندما يتلقَّى هديةً جميلة يفتِّش بعناية عن أيِّ نقصٍ أو عيبٍ فيها، وإن لم يعثُر على عيبٍ يفتعل عيبًا كي يذمَّها. كان يترقَّب على الدوام أن يُقدِّم له الناسُ كلَّ شيء، ويمدَحَه الناسُ على كلِّ شيء، من دون أن يفكِّر يومًا أن يقدِّمَ شيئًا لأحد، أو يمتدحَ أحدًا على فعلٍ حَسَن. انتهى مصيرُ هذا الإنسان في شيخوخته إلى أن عاش منفيًّا في داخله، منبوذًا من الكلِّ، بعد أن نفر الكلُّ منه حتى أقرب الناس إليه.
شاقٌّ جدًّا أن يكون الإنسانُ معلِّمًا للأخلاق والمحبَّة، بل يتعذَّرُ على الناس المصابين بأمراضٍ نفسية وأخلاقية ذلك، وإلا لأصبح كلُّ الناس معلِّمين للأخلاق والمحبَّة. الأخلاقُ والمحبَّةُ يتمناها الناسُ جميعًا، إلا أن مُعظمَهم لا تُطاوِعه نفسُه للظفر بذلك، ويشُقُّ عليه قهرُ نفسِه لتتجرَّع ما يؤذيها. النفسُ تستفزُّها نجاحاتُ الآخرين، وتثيرُها منجَزاتُهم، وتنفرُ من تفوُّقهم، وتؤذيها سعادتُهم. الأخلاقُ تحثُّ على الاحتفاء بنجاحات الآخرين، الحُبُّ يهَب الإنسانَ السعادة بكلِّ ما يُسعِد الآخرين. هنا يقعُ التناقضُ بين ما يرغبُ فيه الإنسانُ ويتمناه، وما تنفر نفسُه منه، وما تفرضه عليه طبيعتُه بوصفها ملتقَى الأضداد. ترويضُ الطبيعة الإنسانية بالتربية الروحية والأخلاقية والجمالية يكفلُ احتواءَ هذا التناقض إلى حدٍّ كبير، عندما يخفض من فاعلية عناصر الشرِّ، ويغذِّي ويكرِّس عناصرَ الخير في هذه الطبيعة.
سألني أحد تلامذتي: ما أجملُ لغة ومواقف أكسب بها قلوبَ الناس، وتترسَّخ بها صلتي بهم، ويستطيع الإنسانُ من خلالها أن يعزِّز الصدقَ والثقة والسلام والمحبة بين الناس؟ قلتُ له: الحُبُّ شفاءٌ للقلب من الغِلِّ والضغينة، الحُبُّ عطاءٌ يسمو بمَنْ يُحِبُّ على مَنْ يعجز عن الحُبِّ. إن أردتَ أن تعيشَ سلامًا في داخلك، وتعيشَ سلامًا في علاقاتك بالناس، فحاوِل أن تمنحَ الإنسانَ أعذبَ ما يُبهِجه، حاوِل أن تكتشفَ الجميلَ في كلِّ إنسانٍ ممن تتعامل معه، وتُعرِب له عن جماله. كلُّ إنسانٍ يعيشُ سلامةً عقلية ونفسية وعاطفية نعثُر على صفاتٍ حَسَنة في شخصيته ومواقفَ جميلة في سلوكه، وحين نُترجِم حضورَها لديه في كلماتنا بصدقٍ نُهديه أعذبَ ما يتمنَّى أن يسمعه منا. الإنسانُ بطبيعته يفرحُ كالأطفال حين يرى أو يستمع إلى ما يكشفُ له عن جماله، ويتمنَّى أن تفرحَ الأرضُ وتحتفلَ بفرحه.
لا يكفُّ الإنسانُ عن الصراع مع غيره، ولا يتوانى عن اللجوء لمختلف أنواع العنف اللفظي والرمزي والجسدي مع خصومه، وإن كانت للعنف دوافعُه المختلفة، ولا عنفَ من دون أسبابٍ ظاهرة أو كامنة، إلا أن الإنسانَ أحيانًا يلجأ للعنف بلا أيِّ سببٍ ظاهر يدعوه لذلك. الحيواناتُ المفترسة تُمارِس القتل لأنها تحتاج الطعامَ، ولحظةَ تَشْبع لا تقتل غيرَها، الإنسانُ هو الكائن الوحيد الذي يُمارِس القتل من دون حاجةٍ تدفعه إليه، إلا تفريغًا للعنف المكبوت داخله. يصعب جدًّا بلوغُ الإنسان مرتبةً يصير فيها الحُبُّ حالةً لا كلمة، وحقيقةً راسخةً لا ظاهرةً عابرة. الظفَر بالحُبِّ تُجهِضُه نزعةُ التعصُّب المترسِّبةُ في النفس الإنسانية، ويُجهِضُه التلذُّذُ المضمَر غالبًا، الذي يستبدُّ ببعض الناس من حيث لا يشعر، فيبتهج لحظةَ نكباتِ الغير وانكساراتِهم وآلامِهم وأحزانِهم. أكثرُ الناسِ في مجتمعنا مشغولون بالحطِّ بعضهم من بعض، حياتُهم تضجُّ بالكراهية والأحقادِ والضغائن، كلُّهم جائعون للمحبَّة غيرَ أن أكثرَهم يعجزُ عن إنتاجها.
في معاشرةِ الناسِ نحتاجُ القلبَ أكثر من العقل
في معاشرةِ الناس نحتاجُ القلبَ أكثر من العقل، نحتاجُ لغةً تتقن مخاطبة العواطف أكثر من لغة المنطق والفلسفة والرياضيات والعلم، نحتاجُ المشاعرَ أكثر من الفكر، نحتاجُ الكلماتِ الحيَّة المهذَّبة أكثر من كلمات المجاملة المنطفئة، ونحتاجُ المعاني الأصيلة الصادقة أكثر من الفائض اللفظي الذي يُمكِن أن تقول الألفاظُ فيه كلَّ شيء من دون أن تقول شيئًا جميلًا. الحكيمُ في هذا العالَم هو من يعمل من أجل أن تكون حياتُه والعالَمُ الذي يعيش فيه أجمل، ولا تكون حياتُه أجملَ إلا إن كانَ قادرًا على صناعة الجمال في حياة غيره. صناعةُ الجمال تتطلب أن يعطي الإنسانُ ما هو أجمل في كلِّ كلمة يقولها، في كلِّ حرف يكتبه، في كلِّ فعل يفعله، وفي كلِّ قرار يتخذه، في كلِّ شيء يقدِّمه لغيره. وهذا سلوكٌ شاقٌّ على النفس.
كان وما زال العفوُ والصفحُ والحُبُّ أنجعَ دواءٍ في شفاء الإنسان وشفاء علاقاته في المحيط الاجتماعي من الأمراضِ التي تتسبَّبُ بها الكراهيةُ والبغضاء. أعترف أني جرَّبتُ العفوَ والصفحَ مع بعض الناس الذين لا يعيشون إلا بالضغائن والأحقاد ففشِلتُ، وجرَّبتُ العفوَ والصفحَ معهم ثانيةً وثالثةً ورابعةً وخامسةً وسادسةً وسابعةً ففشِلتُ، وربما سأفشل لو كرَّرتُ التجربةَ، لكني كنتُ وما زلتُ متشبثًا بقناعتي الراسخة التي تشتدُّ كلَّ يوم، بأن العفوَ والصفحَ هما الدواء الذي يشفي القلوبَ من الضغائن والأحقاد المتفشِّية في مجتمعنا، وهما الدواءُ الذي يكفُل الشفاءَ من أغلب الظواهر المقيتة لسأَم الناس من الحياة وجزعهم.
كنتُ قبل أكثر من ٤٠ عامًا لا أُطيق تجرُّع مراراتِ العفو والصفح والغفران، خاصة مع أولئك الناس الذين أُكرِمهم وأُحسِن إليهم ويقابلون الإحسانَ بالإساءة. يظل قلبي ينزف مدةً طويلةً من جروحٍ لا تندمل، وبعد فهمٍ علمي للطبيعة الإنسانية، وارتياضٍ روحي وأخلاقي مرير، ومطالعاتٍ معمَّقةٍ في الفلسفة وعلم النفس والاجتماع ومختلف العلوم والمعارف الحديثة، وآثار العرفاء، ومعاشرة مختلف أصناف الناس في مجتمعاتٍ متنوِّعة، صرتُ أُطيق تجرُّعَ مرارات العفو والصفح والغفران بقُدرةٍ أكبر ومراراتٍ أقل؛ لأنها شفاءٌ للقلب من سموم الكراهية. ما زلتُ أُداوي الكراهيةَ بالصفح والغفرانِ، وأحاول التسامي بالمحبَّة. العفو والصفح شديدان على النفس عندما تتكرَّر الإساءة، ربما يجد الإنسانُ نفسَه يتلقَّى طعناتٍ غادرةً متكرِّرة ممن لم يتعامل معهم على الدوام إلا بالإحسان إليهم. الصفحُ عن هؤلاء صعب، ومحبَّتُهم أصعب، محبَّتُهم أشقُّ وأقسَى المواقف وأشدُّها مرارةً في النفس، لا يُطيقها الإنسانُ إلا في بعضِ الحالات الاستثنائية التي يرى فيها تحوُّلًا في سلوكهم، وتلك حالاتٌ نادرة. طالما أشفقتُ على مثل هؤلاء، لحظةَ أكتشِف أن حاجتهم للكراهية تفوقُ حاجتهم للمحبة، وأنهم لا يعيشون إلا بكراهية مَن حولهم، بل حتى كراهية أنفسهم، إثْر اعتلالِ صحتهم النفسية، وانهيارِ حياتهم الأخلاقية، إنهم كحالة بعض الكائنات الحية التي لا تعيش إلا في الظلام أو في الأماكن القذرة.
الحريقُ لا يمكن إطفاؤه إلا بالماء، الحربُ لا يمكن إطفاؤها إلا بالسلام، الكراهيةُ لا يمكن شفاؤها إلا بالعفو والصفح والغفران، الصفحُ ممكنٌ وإن كان شاقًّا. المحبةُ أشقُّ، وأحيانًا ليست ممكنةً، غير أن العملَ على إثراء منابع إلهام المحبة وتكريسها غيرُ مستحيل عبْر الحرص على تغذية هذه المنابع باستمرار. أثرى منابعِ المحبة أن تكون صادقًا مع نفسك، صادقًا مع الناس، صادقًا مع الله. عندما تكون صادقًا في كلِّ كلماتك ومواقفك تكون معلِّمًا للأخلاق، وملهِمًا للمحبة في هذا العالَم المُوحِش.