(٧) سرُّ الحُبِّ أنه لا يتحقَّق إلا بالحُبِّ
الحُبُّ بوصفه عطاءً
سألني أحدُ تلامذتي: كيفَ يُمكِنني أن أكونَ معلِّمًا للأخلاق والمحبَّة؟
قلت له: لا تكون معلِّمًا للأخلاق والمحبَّة إلا أن تكون صادقًا مع نفسك أولًا، صادقًا مع الناس ثانيًا، وصادقًا مع الله ثالثًا. الحُبُّ يبدأ بحُبِّ الذات أولًا، ثم حُبِّ الناس ثانيًا، ليصل إلى حُبِّ الله ثالثًا. مَنْ لا يحُبُّ ذاتَه لا يحُبُّ الناس، ومَنْ لا يحُبُّ الناسَ لا يحُبُّ الله. الحُبُّ هو إسعادُ الناس، الطريقُ إلى الله يمُرُّ عبْر الناس، ما لم يكرِّس الإنسانُ جهودَه من أجل سعادةِ الناس، والعملِ على أن تكون حياتُهم أجمل، وعيشُهم أسهل، فلن يصل إلى الله. إسعاد الناس أقصر الطرق إلى الله. الحُبُّ عطاء، إسعاد الناس لا يتحقَّق إلا بالعطاء، العطاء بمعناه الأشمل، سواء أكان ماديًّا أو معنويًّا، بحسب ما يحتاجه مَنْ يستحق العطاء. مَنْ يحتاج خبزًا ودواءً وإغاثةً يُعطى الخبز والدواء والإغاثة. مَنْ يحتاج المعنى يُعطى المعنى، إشباعُ حاجة الإنسان للمعنى تُنقِذه من الشعور المرير باللاجدوى والضَّياع والقلق والكآبة.
تعرَّفتُ على أغنياء بخلاء لا هدفَ لهم في الحياة إلا تكديس المال ومراكمته، أشحةً على أنفسهم وأهليهم والناس، تنمو أموالُهم في البنوك أرقامًا صامتة، وأسهمًا وسنداتٍ وأوراقًا مالية مكدَّسة. لا ينتفعون من الأموال في حياتهم، يصرعهم الموت بغتةً، وهم غارقون في سكرة فائض الثروة. فجأةً يختفي كلُّ شيء، لا بصمةَ تُخلِّد الذكرَ في الدنيا، لا نورَ يضيء الآخرة.
شاقٌّ جدًّا أن يكون الإنسانُ معلِّمًا للأخلاق والمحبَّة، بل يتعذَّرُ على الناس المصابين بأمراضٍ نفسية ذلك، وإلا لأصبح كلُّ الناس معلِّمين للأخلاق والمحبَّة. الأخلاقُ والمحبَّةُ يتمنَّاها الناسُ جميعًا، إلا أن مُعظمَهم لا تُطاوِعه نفسُه للظفر بذلك، ويشقُّ عليه قهرُ نفسِه لتتجرَّع ما يؤذيها. النفسُ تستفزُّها نجاحاتُ الآخرين، وتثيرُها منجزاتُهم، وتنفرُ من تفوُّقهم، وتؤذيها سعادتُهم. الأخلاقُ تحثُّ على الاحتفاء بنجاحات الآخرين، الحُبُّ يهبَ الإنسانَ السعادة بكلِّ ما يُسعِد الآخرين. هنا يقعُ التناقضُ بين ما يرغبُ فيه الإنسانُ ويتمناه، وما تنفر نفسُه منه، وما تفرضه عليه طبيعتُه بوصفها ملتقَى الأضداد.
ترويضُ الطبيعة الإنسانية بالتربية الروحية والأخلاقية والجمالية يكفلُ احتواءَ هذا التناقض إلى حدٍّ كبير، عندما يخفض من فاعلية عناصر الشرِّ، ويغذِّي ويكرِّس عناصرَ الخير في هذه الطبيعة. التربيةُ عمليةٌ ديناميكية وليست ميكانيكية. إنها كالمعادلات الكيمياوية التي تختلفُ نتائجها تبعًا لاختلاف كيفيَّات وكميَّات عناصرها، فقد تكون ثمرتُها الاستعباد، كما هو نمط تربية أكثر المؤسَّسات في مجتمعنا الوارثة لتقاليد الاستبداد وثقافته، وقد تكون ثمرتُها الحرية، وهذه قليلًا ما نعثُر عليها في مجتمعنا. التربيةُ إن كانت ترتكز على معطيات العلوم والمعارف الإنسانية، والقِيَمِ الأخلاقية والروحية والجمالية، فإنها تكون تربيةً خلَّاقة، تُثري الرأسمالَ البشري الذي هو أثمنُ رأسمالٍ في العالم. وحين تغيب في التربية القِيَمُ والمعايير والاستراتيجيات والأساليب العلمية، وتجهل روحَ عصرها، فإنها تصير كجرعة السُّمِّ التي تقوِّض الحياةَ العقلية، وتُمرِض الحياةَ الروحية، وتُطفِئ الضميرَ الأخلاقي، وتُفسِد الذائقةَ الجمالية.
أحيانًا لا يعجز الإنسانُ عن الحُبِّ فقط، بل يعجز عن الخلاص من كراهية الناس والحقد عليهم. تجده يتعذَّب بكُرْه كلِّ الناس، ولو فرضنا أنه في يومٍ ما لم يجد مَنْ يكرهُه فإنه يعود إلى نفسه ليكرهَها. بعضُ الناس عاجزٌ عن إنتاج الحُبِّ، على الرغم من حاجته الشديدة إليه، ربما يكون عاطفيًّا بلا حدود، ربما يمتلكُ حساسيةً فائقةً يفتقر إليها كثيرٌ من الناس. غير أن عجزَه عن إنتاج الحُبِّ يعود لعُقَدٍ نفسيةٍ وعاهاتٍ تربوية، وجروحٍ غاطسة في البِنية اللاشعورية في أعماقه، تفرض عليه حياةً خانقة كئيبة، لا يُمكِنه الخلاصُ منها أو تخفيفُ وطأتها إلا بمراجعة مَصَحٍّ نفساني.
ما دام هناك إنسانٌ فإن حاجتَه لمعنًى لحياته تفوق كلَّ حاجةٍ معنوية، لا يستطيع الإنسانُ العيشَ بسلامةٍ نفسية من دون معنًى لحياته، ولا معنى للحياة أثرى وأجمل من الحُبِّ والعطاء، صلة الحُبُّ بالعطاء صلةٌ عضوية، الحُبُّ أحد أعذب أشكال العطاء المعنوي. لغةُ الحُبِّ لغةُ القلوب، لغةُ القلوب لا تُخطئ، لغةُ القلوب لا يُمكِن التشكيكُ في صدقها، يتذوَّقها بغبطةٍ وابتهاج مَنْ تُفيض عليه حُبَّك، ولا ينجذب إليك مَنْ لا يتذوَّقها منك. كلَّما استثمر الإنسانُ المزيد في الحُبِّ كلَّما امتلك المزيدَ من القلوب، وتنامت ثقةُ الناس فيه وثقتُه فيهم.
الحُبُّ كالضوء يكشفُ كلَّ شيء
لا يُعرفُ الحُبُّ إلا بالحُبِّ. الحُبُّ كالضوء يكشفُ عن ذاته، وينكشفُ فيه كلُّ شيء ويُظهِره بجلاء. الحُبُّ لا يحتاج إلى من يَكشِفه ويُظهِره، بوصفه أوضحَ وأظهرَ من كلِّ شيء، وإن حاول أحدٌ تفسيرَه فهو عصيٌّ على التفسير. الحُبُّ حالةٌ، والحالاتُ أشياءُ وجودية. كما أن مفهومَ الوجود واضحٌ، وحقيقتَه عصيةٌ على الفهم، كذلك الحُبُّ مفهومُه واضحٌ وكُنهُهُ مبهَمٌ. ينطبق على الحُبِّ قولُ القديس أغسطينوس: «لو سألني أحدٌ ما الوجود فلن أعرف، وإن لم يسألني حينها سأعرف ما الوجود.» وهكذا قولُ ملا هادي السبزواري في بيان حقيقة الوجود، فمفهوم الوجود واضحٌ جدًّا، غير أن كُنهَه غايةٌ في الخفاء:
تعدَّدت طرائقُ فهمِ الحُبِّ وتفسيرِه وبيانِ آثاره المتنوِّعة على القلب والروح والضمير والعقل والجسد؛ فكلُّ فن وعلم يفسِّره من منظور يتطابق مع الوجهة التي يتجلى له فيها، الحُبُّ لا يتجلَّى إلَّا جميلًا مُلهِمًا. وكأن الحُبَّ مرآةٌ لا يرتسم فيها إلَّا ما هو رؤيويٌّ مضيء. الحُبُّ محُبوبٌ لكونه حُبًّا لا غير. الحُبُّ حاجةٌ أبدية، وكلُّ شيء يحتاجه الإنسانُ بهذا الشكل لا يحتاج سببًا آخر غيرَه يدعوه للظفَر به.
أشبَع العرفاءُ الحُبَّ في كلِّ الأديان بحثًا وتحليلًا، وما زال تحليلُهم لماهية الحُبِّ هو الأجمل والأبهج والأعذب والأثرى، وهكذا أنشدَه الشعراءُ في قصائدهم وتغنَّوا فيه بغزليَّاتهم، وتوغَّل في تصوير حالاتِه وأطوارِه وثمراته ومواجعِه أعظمُ الروائيين مثل دوستويفسكي في أعماله الخالدة، ونهَض بتفسيره الفلاسفةُ في علم النفس الفلسفي، واهتَم بالكشف عن آثارِه المتنوِّعة ومظاهرِه وتعبيراتِه في حياة الفرد والمجتمع، كلٌّ من: علماء النفس، والاجتماع، والأنثربولوجيا، والأخلاق، وأخيرًا قدَّم له علماءُ الأعصاب والدماغ تفسيرًا بايولوجيًّا. كلُّ علمٍ وفنٍّ يفسِّره من منظوره، الكلُّ يشدِّد على عدم استغناء الإنسان عنه في أي مرحلةٍ من مراحل حياته، وفي أية حالةٍ يكون فيها، وفي أية محطةٍ تصل حياتُه إليها. تظلُّ الحاجةُ للحُبِّ مزمنة، تُولَد مع الإنسان ولا تنتهي. يتطلعُ الإنسانُ كلَّ حياته إلى مَنْ يُحبُّه في الدنيا، مثلما يتطلعُ إلى مَنْ يلبث يُحبُّه فيُخلِّد ذكراه بعد وفاته.
مراتبُ الحُبِّ
- المرتبة الأولى: حُبٌّ شهواني عاطفي، حُبٌّ يقيم في الجسد، ويغرق فيه، ولن يتحرَّر منه ليعبُر إلى آفاق المعنى الإنساني الأخلاقي. هذه المرتبة من الحُبِّ تتفشَّى في علاقات كثيرٍ من المراهقين. وهي نمط حُبٍّ يشوبه قلقٌ واضطراب، ومسكونٌ بالحذَر واللاأمان والشعور بالفقدان واللايقين؛ لذلك لا يصنِّفه جماعةٌ من الباحثين حُبًّا، ولا تُطلَق عليه تسميةُ الحُبِّ عندهم. غالبًا ما تنطفئ هذه المرتبة لحظةَ المللِ من تذوُّق الجسد، والإفراطِ في تعاطي الجنس، والسأَم من المكوثِ في سجن الاحتياجات الحسية المادية، والفشل في عبور الجسد إلى رحاب المعنى. يصف إريك فروم هذا الحُبَّ بقوله: «يكتسب مصدر الإشباع الجنسي وظيفةً تجعله لا يختلف كثيرًا عن إدمان الكحول والمخدرات. إنه يصبح محاولةً يائسة لتلافي القلق المتولِّد من العزلة، ويؤدي بالنتيجة إلى تضخُّمٍ أكبر لمشاعر العزلة؛ لأن العمل الجنسي من غير حُبٍّ لا يمكنه أبدًا أن يمُد جسرًا فوق هاويةٍ تفصل كائنَين إنسانيَّين سوى للحظةٍ قصيرة.» وفي السياقِ ذاته يقول زيجمونت باومان: «عندما يتحول الجنس إلى حدثٍ فزيولوجي في الجسد، ولا تُثير التجربة الحسية سوى لذةٍ جسديةٍ ممتعة، فإن ذلك لا يعني أن الجنس تحرَّر من الأعباء الثقيلة الزائدة المقيدة غير الضرورية وغير المُجدِية، بل يعني، على العكس تمامًا، أن الأعباء التي يحملُها زادت عن حدِّها المعقول، فصار يفيض بآمال ليس بوسعه تحقيقها.»٦
- المرتبة الثانية: حُبٌّ عاطفي جسدي، لا يقف هذا الحُبُّ عند الجسد، بل يعبُره لآفاق المعنى الإنساني الأخلاقي. هذه المرتبة نجدها في كثير من حالات الحُبِّ بين الرجال والنساء، وعادةً ما تثمر زواجًا ناجحًا، لا تستنزفه الأيام سريعًا. يشكِّل هذا الحُبُّ حجرَ الزاوية في بناء كلِّ عائلة تعيش حياةً عاطفية متضامنة.
- المرتبة الثالثة: حُبٌّ عاطفي حميمي أخلاقي إنساني، كحُبِّ الأم والأب للأبناء، وحُبِّ الأبناء للآباء. وأسمى درجات هذا الحُبِّ هو ما يتجلَّى في الأمومة بوصفِها الحالةَ الوحيدة في الكائن البشري المخلوقة من الرحمة الإلهية الخالصة دون سواها، لا يعرف منزلةَ الأم إلا من ذاق مرارةَ فقدانها، والحرمان من حُبِّها وحنانها، ضراوةُ هذا الحرمان أقسَى من ضراوة النار. الحُبُّ العاطفي الحميمي الأخلاقي الإنساني هو الكَنز الأثمَن الذي يُثري بناء العائلة ويغذِّي نسيجَها بالرعاية والحماية، ويكرِّس علاقاتِ القرابة بالسكينة والمودَّة والرحمة، ويدعَم العلاقاتِ الاجتماعية المتنوِّعة، ويرسِّخ بِنيةَ المجتمع. كلَّما ترسَّخَت بِنيةُ العائلة وتماسكَت وتنامى التضامنُ والتراحمُ داخلها، ترسَّخَت بِنيةُ المجتمع وازدهَر التوادُّ والحياةُ التراحمية في علاقاته، وتصلَّب السياجُ الأخلاقي الذي يحميه من التصدُّع والانهيار.
- المرتبة الرابعة: حُبُّ الله للإنسان وحُبُّ الإنسان لله. الحُبُّ حالةٌ وجوديةٌ تتكرَّس بالإيمان، الإيمانُ حالةٌ وجودية تتكرَّس بالحُبِّ. المعنى الكامن في الحُبِّ لا يوازيه إلا المعنى الكامن في الإيمان العميق بالله. حُبُّ الله والإيمانُ كلاهما تجلِّيان لحقيقةٍ واحدة. أجمل ما تتجلَّى به روحُ الإنسان أن يكون إيمانُها بالله حُبًّا، وحُبُّها لله إيمانًا. أسمى مراتب الحُبِّ وأجملُها هو حُبُّ الله لنا وحُبُّنا له، هو لدينا حالةٌ وجوديةٌ كالإيمان، يتعطَّش الكائنُ البشري في أعماقه لنَيْله، وتستقي منه أنماطُ الحُبِّ الأخرى، فمن يحُبُّ اللهَ يحُبُّ خلقَ الله بلا شروط. هذا الحُبُّ لا يظفَر بدرجاته العليا إلا مُلهمو الروح ذوو البصائر الأفذاذ، ممن يتوافرون على استعدادٍ روحي وأخلاقي استثنائي، وقادرون على إطفاءِ نار الكراهية في أنفسهم، والتغلبِ على بواعث الشرِّ المختبئة في باطنهم. يقول محيي الدين بن عربي: «والحب الإلهي هو أسمَى ما في عالَم المعاني؛ ولهذا يستغرق الطاقة كلها، فيُذْهِلُ المُحِبَّ عن نفسه، ويفنَى في محبوبه فَناءً معنويًّا لا يُمكِن تصوُّره، وكيف نتصوَّر ما ليس بصورة وليست للمعنويات صور؟ وهذا هو حب العارفين، الذين يمتازون به عن العوامِّ أصحاب الاتحاد الذين تخيَّلوا الفناء اتحادًا ذاتيًّا لا معنويًّا، وتخيُّلهم هذا دَلَّ على نقص فِطْرتهم.» وفي تصنيفه لمراتب الحُبِّ يقول محيي الدين: «فاعلم أن الحُبَّ على ثلاثِ مراتب، حُبٍّ طبيعي: وهو حُبُّ العوام وغايته الاتحاد في الروح الحيواني، فتكون روح كلِّ واحدٍ منهما روحًا لصاحبِه بطريق الالتذاذ وإثارة الشهوة ونهايته من الفعل النكاح؛ فإن شهوة الحُبِّ تسري في جميع المزاج سريان الماء في الصوفة بل سريان اللون في المتلون. وحُبٍّ روحاني نفسي، وغايتُه التشبُّه بالمحبوب مع القيام بحق المحبوب ومعرفة قدره. وحُبٍّ إلهي: وهو حُبُّ الله للعبد وحُبُّ العبد ربه، كما قال: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ. ونهايتُه من الطرفَين أن يشاهد العبد كونَه مَظهرًا للحق، وهو لذلك الحق الظاهر كالروح للجسم باطنه غيبٌ فيه لا يُدرك أبدًا ولا يشهده إلا محُبٌّ.»٧
الحُبُّ على الرغم من أنه يُسهِم في منح حياتنا الاجتماعية وعلاقاتنا بالغير كثيرًا من الدفء والسلام، لكنه بوصفه حالةً وجودية، يهَبنا أعمق مما تهَبنا إياه القيمُ الأخرى. كما تمنح الأخلاقُ الحُبَّ سياجًا يحميه من الانهيار، كذلك يمنح الحُبُّ الأخلاقَ شرطَ فاعليتها وقوةَ تأثيرها. المُحِبُّ للناس هو بالضرورة يشعُر بمسئوليته عن إسعادهم، ويكون صادقًا معهم، ويلبث أمينًا على أمن حياتهم، ويكرِّس جهودَه من أجل أن تكون حياتُهم أجمل. الأخلاقُ هي الضمانة الوحيدة لحماية الحُبِّ من الضَّياع؛ لأنها تكفُل للطرفَين المتحابَّين عدم العبث بالحُبِّ، بوصفه أسمى قيمةٍ إنسانية في الحياة، فإن كان أحدُ الشخصين لا أخلاقيًّا سرعان ما يتصدَّع الحُبُّ ويتهشَّم، بل إن السياجَ الأخلاقي هو الذي يحمي العائلةَ والمجتمعَ وكلَّ شيء جميل في حياة الإنسان من الابتذال والامتهان.
إنما يكون الحُبُّ جوهرَ الإيمان في ضوء منهج العُرفاء في فهم الدين وقراءة نصوصه، وما تكتشفه بصيرتُهم المضيئة لنمط صلة الإنسان بالله المشبعة بالمحبَّة، وهو ما تتحدث به آثارُهم المتنوِّعة شعرًا ونثرًا. أما في ضوء منهج المتكلمين فيصعُب أن يكون الحُبُّ جوهرَ الإيمان، لأن نمطَ صلة الإنسان بالله تأخذ شكلَ استعباد، وهو ما تقرره المقولاتُ الاعتقادية للمتكلم، والمُستعبَد يتعذر على قلبه حُبُّ مَنْ يستعبده، سواء كان من جنس الآلهة أو البشر.
قوةُ الحُبِّ
الكلُّ يريد أن يحُبَّه الكلُّ، ويكون محبوبًا للكلِّ، لكن الكائنَ البشري لا يتنبَّه إلى أنه لن يصبح محبوبًا للكلِّ، ما لم يكن محُبًّا للكلِّ. العلاقةُ تفاعلية متبادلة بين حُبِّ الآخر لك وحُبِّك للآخر. ليس هناك شيءٌ يُمنَح مجانًا في الأرض، لن يحُبَّك الآخرون ما لم تحبَّهم، ولن يهَبَك الآخرون الحُبَّ، الذي هو أثمنُ عطاياهم، ما لم تَهَبْهم أثمنَ عطاياك. يُمكِن أن يحصلَ الإنسانُ على بعض الأشياء مجانًا أو مقابل ثمَنٍ مادي مهما كانت نادرةً وثمينة، لكنَّه لن يحصل على الحُبِّ إلا بالحُبِّ، سِرُّ الحُبِّ أنه لا يتحقَّق إلا بالحُبِّ. لا علةَ للحُبِّ إلَّا الحُبُّ، لا يُنتِج الحُبَّ إلَّا الحُبُّ، لا ثمرة للحُبِّ إلَّا الحُبُّ.
الحُبُّ استراحةُ الروح حين تأوي إلى ما يشاكلُها من أرواح. الحُبُّ الأصيل راحةُ الأرواح المتعَبة بوصفه أعذبَ معنًى يتذوقُه الإنسانُ لحياته. الحُبُّ تعبيرٌ عميق عن أشواق الروح الإنسانية وتطلُّعها للاتحاد بالآخر. كنوزُ المعنى مختبئةٌ في القلوب لا تُسفِر عن جواهرها إلا بالحُبِّ. إنتاجُ الحُبِّ أصعبُ أشكال إنتاج المعنى في حياة الإنسان، مَن يمنَحك الحُبَّ يمنَحك أجملَ معنًى في الحياة، ومن يسلبك الحُبَّ يسلبك أجملَ معنًى في الحياة. إذا أردتَ أن تمتلك قلبَ إنسان فامنح حياتَه معنًى، بالحُبِّ تمتلكُ قلبَ الإنسان لأنك تمنح حياةَ مَنْ تُحبُّ أجملَ معانيها. كلمةُ المحبة الصادقة يتحدثها القلبُ قبل اللسان، كلمةُ المحبة تغسل القلوبَ من سموم الكراهية.
لو تجسَّدَ السموُّ والسماحةُ والعطاءُ والوفاءُ والمروءةُ في أسمى شيء في الحياة فلن يكون أعذبَ من الحُبِّ. ولو اختُزِلَت حلولُ مشاكل العلاقات بين الناس بكلمةٍ واحدةٍ فلن تكون أعذبَ من الحُبِّ.
لا طاقةَ أغنى من الحُبِّ تُلهِمنا إرادةَ الحياة، لا مُعلِّمَ أذكى من الحُبِّ يعلِّمنا كيفيةَ العيش. الحُبُّ صنعَ التاريخَ على شاكلته، مثلما صنعَت الكراهيةُ التاريخَ على شاكلتها، غير أن قوةَ الحُبِّ تظل بصمةً مضيئةً في ضمير التاريخ. الحُبُّ الأصيلُ يُغيِّر الإنسان، الحُبُّ هو الحقيقة المُلهِمة التي تغذِّي معادلة تغيير الذات بلا إلزام أو إكراه أو قهر. معادلةُ التغيير في الحُبِّ كيفيةٌ لا كمية، كيميائيةٌ لا حسابية. قوةُ الحُبِّ كانت مُلهِمةً لكلِّ ما شَهدَته الإنسانيةُ من مكاسبَ عظمى في تاريخ الحضارات، اختراعاتُ واكتشافاتُ العلماء وإبداعاتُ الفنانين والأدباء كان وما زال وقودُها الشغفَ والحُبَّ.
يظل الحُبُّ أجملَ تجربةٍ يعيشها الإنسانُ في حياته، إن كانت هذه التجربةُ يقظةً متوهجةً فإنها تتجدُّد ولا تنضبُ طاقتُها. إن عاشَ الإنسانُ تجربةَ حُبٍّ أصيلة يجد كثيرَ الحُبِّ قليلًا. أنشودة تجربة الحُبِّ تتدفق ألحانُها كأعذب ألحانٍ تبتهجُ بها الحياةُ، وكأنها تعزفُ على أوتار القلب وهي تشدو: الحُبُّ الذي يرتوي باللقاءِ ليس حُبًّا، القلبُ الذي تذبلُ فيه أزهارُ الحُبِّ ليس قلبًا.
الحُبُّ والشفقةُ على خلق الله عصارةُ الجوهر الروحاني الأخلاقي للأديان. لا يمكن أن تنجز الأديانُ وعودَها، وتتحول إلى طاقة مُلهِمة للخير والعدل والسلام والرحمة والمحبَّة والجمال، من دون اكتشاف ذلك الجوهر الروحاني الأخلاقي المشترك، المختبئ خلف رُكام الصراعات اللاهوتية، والتفسيرات الفاشيَّة للنصوص الدينية.
الحُبُّ هو الضمانة الأساسية لحضور الدين المؤثِّر الفاعل في الحياة البشرية؛ فكلُّ ديانة تحرص على إنتاج الحُبِّ، وتعلنه بوصفه الهدفَ الذي تسعى لتحقيقه في الحياة، ويجسِّده أتباعُها في سلوكهم، تتلهَّف القلوبُ للانتماء إليها، ويتأبَّد حضورُها في الحياة. وكلُّ ديانة تحرص على إنتاجِ الحرب والانشغال بصراعات السلطة والثروة، تنفر القلوبُ منها ومن أتباعها. ما يربحه كلُّ دين رسالتُه الحُبُّ يخسره كلُّ دين رسالتُه الحرب.