(١) الدينُ كائنٌ حيٌّ لن يموت

لا إيمانَ بلا شكلٍ من أشكال الدين، ولا دينَ بلا شكلٍ من أشكال التديُّن. لا يصنع الإنسانُ حاجتَه للدين، الحاجةُ للدين مُستودَعةٌ في أعماق الكينونة الوجودية للإنسان. ما يصنعه الإنسانُ هو أنماطُ تديُّنه. كان الدينُ مع آدم الأول وسيبقَى مع آدم الأخير في الأرض، الدينُ كائنٌ حي لن يموت ما دام هناك إنسانٌ يعيش على الأرض، كلُّ الظنون والتوقُّعات والآراء بأُفولِ الدين وانسحابِه من الحياة بتقدُّم العلم وتطوُّر معارف الإنسان يكذِّبها الواقع، ما يموت هو نمَط معرفةٍ بالدين ينتمي للماضي. الدينُ مكوِّنٌ للكينونة الوجودية للكائن البشري، الدينُ قدَرُ الإنسان، بمعنى ‏أن حاجةَ الإنسانِ للحياة الروحية والأخلاقية والجمالية وجودية، والدينُ أغزر منبع لإشباع هذه الحاجة. ومعنى كونه مُكوِّنًا للكينونة الوجودية أنه يُشبِع تلك الحاجة، وإن كان الإنسانُ يتمرَّد أحيانًا على بعض احتياجاته الوجودية ويتنكَّر لها.

الدليل على حضور الدين بقوة هو الازدياد المتواصل لعدد أتباع الأديان الذي يتزايد كلَّ يوم؛ فمثلًا «بحلول عام ٢٠١٠م كان هناك ٢٫٢ مليار مسيحي في العالم، و١٫٦ مليار مسلم، مِمن يشكِّلون ٣١٪، و٢٣٪ من سكان العالم … وتُشير التوقُّعات من مركز أبحاث بيو إلى أنه بحلول عام ٢٠٥٠م سوف ينمو تَعداد المسيحيين إلى ما يقارب ٢٫٩ مليار نسمة والمسلمين إلى ٢٫٨ مليار نسمة.»١ وقد كشف مقال نشره موقع الغارديان الإلكتروني بتاريخ ٤-٩-٢٠١٨م أن عدد أتباع الديانات ٨٤ بالمائة من إجمالي سكان المعمورة، بِناءً على دراسة أجراها مركز بيو للأبحاث الأمريكي المتخصِّص في الإحصائيات الديموغرافية إلى ارتفاع عدد المؤمنين في العالَم؛ إذ بلغ عدد أتباع الديانات ٨٤ بالمائة من إجمالي سكان المعمورة، الذين يبلغ عددهم أكثر من ٧ مليارات و٦٤٧ مليون نسمة، بحسب أرقام موقع وورلدماترس، وأشارت الصحيفة البريطانية إلى أن المتدينين هم غالبًا من فئة الشباب ولديهم نسبة إنجابٍ أعلى من الأشخاص الذين لا ينتمون إلى أي طائفةٍ دينية؛ ما يعني أن الأديان في حالة نمُو لأسبابٍ ديموغرافية.٢ ويقدِّر مركز بيو أن نسبة الملحدين ستتراجع من ١٦ في المائة حاليًّا من إجمالي عدد سكان الكرة الأرضية إلى ١٣ في المائة رغم تزايد عددهم الإجمالي من ١٫١٧ مليار في ٢٠١٥م إلى ١٫٢ مليار في عام ٢٠٦٠م، وفي المقابل يُتوقَّع أن يبلغ عدد المؤمنين بصفةٍ عامة إلى ٨٫١ مليار شخص بحلول عام ٢٠٥٠م.٣
يقول عالم النفس والأنثربولوجيا البريطاني روبين دنبر: «هنالك على الأقل سببان لاستمرار الدين في الحضور؛ أحدهما هو حقيقة أن الناس المتدينين بالمتوسط هم أكثر سعادة بشكلٍ عام، كما أنهم أكثر صحة، ويعيشون أطول. وسواء كان ذلك أمرًا حسنًا أو سيئًا، فإن موتَهم يكون أيسَر حين يحل الأجل. السبب الآخر هو أن المتدينين يشعرون بالانتماء إلى مجموعة، وقد ظهر في استطلاعٍ أجريتُه أن الذين يشاركون في الشعائر الدينية أكثر من غيرهم كانوا أقلَّ اكتئابًا، شعَروا بقيمة حياتهم أكثر، وكانوا أكثر اندماجًا في مجتمعاتهم المحلية، كما كانوا أكثر ثقة بالآخرين. هذه المنافع الكبيرة لا تعني فقط أن للدين جاذبيةً مستدامة، بل أن الممارسات الدينية تجعلك بالمعنى التطوُّري أكثر انسِجامًا مع محيطك؛ ولذلك فإن الأديان تميل للبقاء.»٤

الدينُ غيرُ الأيديولوجيا

لا أعني بالأيديولوجيا في هذا الكتاب وغيره من كتاباتي حيثما وردَت «عِلْم الأفكار»؛ أي دراسة الأفكار دراسةً علمية، وهو المعنى الذي وَضَعَ له المصطلحَ بعد الثورة الفرنسية أنطوانُ دستيت دو تراسي.٥ وإن كان نابليون استعمل مصطلحَ الأيديولوجيا بعد ذلك بمعنًى سياسي يزدري مفاهيمَ التنوير. وفي كتاب «الأيديولوجيا الألمانية» استعملَها أنجلز وماركس ١٨٤٥م بمفهوم الإدراك المقلوب والزائف للواقع. وتغلَّب هذا المفهوم في استعمالها لاحقًا فأُهمل معناها الذي صاغه المفكِّر الفرنسي أنطوان دستيت دو تراسي، وتغلَّب عليه هذا المعنى البديل.٦
أعني بالأيديولوجيا نظامًا ﻹنتاج المعنى السياسي، يصنع نسيجَ سلطةٍ متشعِّبة لإنتاج صورةٍ متخيَّلة، وَفْقًا لأحلامٍ مسكونة بعالمٍ طوباوي موهوم. الأيديولوجيا تزييفٌ للحقيقة، وطمسٌ لمعناها عبْر حجب الواقع، واحتكارٌ لنظام إنتاج المعنى. يتبنَّى الأيديولوجي نموذجًا تفسيريًّا مسطَّحًا أحاديًّا للإنسان وللواقع، يمنحه شعورًا مزوَّرًا بأنَّه قادرٌ على الفهم الدقيق والتحليل العميق لكلِّ شيءٍ، وأنَّ أفكاره مبتكرةٌ فريدةٌ، ويوحي له ذلك التفسير بنزعةٍ رسوليةٍ خلاصيةٍ، وشخصيةٍ نبويَّةٍ إنقاذية. ويلبث غارقًا لا يستفيق من عبوديَّته للأيديولوجيا، حتَّى كأنَّ سعادته في عبوديته هذه. إن تفشِّي الأيديولوجيات اليسارية والقومية والأصولية في مجتمعاتنا، أنتج عقلًا مُغلَقًا متحجِّرًا، يفسِّر كلَّ شيءٍ بشيءٍ واحدٍ، ويبثُّ وعودًا وأحلامًا رومانسِيةً خلاصية، منقطعة الصلة بالواقع، ويعمل على بناء فضاءٍ أيديولوجي مسيَّج بأسوارٍ تختنق فيها روحُ الإنسان، وكأنها سجونٌ يُولَد ويترعرع في داخلها أتباعٌ لا يُطيقون العيش خارج أسوارها، حين تُمسي الأيديولوجيا مادَّةً لأذهانهم ومشاعرهم، ويُمسون هم مادَّةً لها.٧

هناك من يخلط بين الدين والأيديولوجيا، فيحسب الدينَ أيديولوجيا، وهذا غير منطقي. مصطلح الأيديولوجيا كان يعني في أول ظهوره واستعماله علمَ الأفكار، ثم استُعمل معناه لاحقًا في النسق الفكري المغلَق، الذي يرفض كل أشكال الاختلاف ‏في التفكير والتعبير. يمكن توظيف الدين واستغلاله كأيديولوجيا سياسية، كما فعل أبو الأعلى المودودي وغيره من مفكري الإسلام السياسي، لكن استغلال الدين في الأيديولوجيا يمحَقه، ويبدِّد مضمونه الروحي والأخلاقي والجمالي.

يفتقدُ الدينُ رسالتَه، بوصفه حياةً في أفق المعنى، عندما ينزلقُ فيهجُر مجالَه الروحي والأخلاقي والجمالي ويسقطُ في فخ الأيديولوجيا. يتحول الدينُ الذي تفترسه الأيديولوجيا إلى أداة للصراع على السلطة والمال والثروة، وينتهي مصيرُه إلى البؤس الذي انتهت إليه الأيديولوجياتُ اليسارية والقومية والأصولية في بلادنا.

الأيديولوجيا غير الدين، ‏ليس كلُّ مَنْ يعتقد بدين إنسانًا أيديولوجيًّا، أن يكون الإنسانُ بوذيًّا أو هندوسيًّا أو مسيحيًّا أو مسلمًّا في دينه لا يعني أنه أيديولوجي. لمَّا كان الدينُ حياةً في أفق المعنى فهو غيرُ الدين الأيديولوجي، الذي تعمل على الدعوة إليه وتكريسه جماعاتُ التديُّن السياسي في مختلف الأديان.

الأيديولوجيا مرضُ الدين والتديُّن، مرضُ التديُّن مرضُ الحياة، وعندما يصحو التديُّن تصحو الحياة. لا دينَ بلا تديُّن، ولا تديُّن بلا إنسان. ‏الدينُ بالمعنى الأعمِّ من الأديان الوحيانية المعروفة وغيرِها ‏يتحقَّقُ في الأرض من خلال تمثُّلاته في حياة الفرد والمجتمع ‏وتعبيراته المتنوِّعة.

نرى الدينَ يعبِّرُ عن حضوره في ثقافة الإنسان ولغتِه وسلوكِه ومواقفِه المتنوِّعة في الحياة، سواء أكانت هذه المواقفُ متناغمةً ومنسجمةً، أو كانت مختلفةً أو متضادَّةً، وقبل ذلك نرى الدينَ يعبِّر عن حضوره في طقوس الإنسان وشعائره وممارساته الدينية.

ما أشقَى التديُّن الذي يقدِّمه لنا المسجونون في مقولات التكفير الكلامية، المختنقون بفتاوى تضييق وتشديد فقه التحريم، أولئك الذين يصيِّرون الدينَ في حياة الناس: ظلامًا للبصيرة، ووجلًا للقلب، وسجنًا للروح، ومقبرةً للضمير الأخلاقي. ما أجملَ التديُّن عندما يصير يقظةً للعقل، ونورًا للبصيرة، وطمأنينةً للقلب، وسكينةً للروح. لا يُنجِز الدينُ وعودَه في الحياة إلا بعد أن يعيشه الإنسانُ بوصفه تجربةً تتسامى فيها الروحُ إلى أسمى أطوار وجودها.

أشكالُ التديُّن

كتاباتي وأحاديثي عن الدين كلُّها تُحيل إلى مفهومي‏ عن الدين، الذي هو حياةٌ في أُفُق المعنى. لا يشدِّدُ تصنيفُنا للتديُّن على أن كلَّ شكل من أشكاله المذكورة مستقلٌّ بذاته ولا يلتبسُ بغيره؛ فالتديُّن الشعبي يتداخل أحيانًا بما هو شعبوي، والتديُّن الشعبوي أوضحُ مثالٍ للتديُّن الشكلي، وأحيانًا يكونُ التديُّن السياسي مثالًا للتديُّن الشكلي.

يشيرُ هذا التصنيفُ لأشكال التديُّن إلى أن الدينَ غالبًا ما يتخذُ شكلَ المحيطِ المجتمعي الذي يحلُّ فيه، وطبيعةِ العمران، ومختلف الظروف التي يعيشها الناس. كذلك يصطبغُ بنوع الشخصيَّة البشريَّة، وسيكولوجيتها، وأسلوب تربيتها، وتكوينها التعليمي، وثقافتها، والطبقة المجتمعيَّة المنتمية إليها.

كما يشيرُ تصنيفُ التديُّن إلى أن صورةَ الله لدى الإنسان تؤثِّر بشكلٍ كبير في تحديد نوع التديُّن، نمطُ التديُّن الرحماني الأخلاقي تُنتِجُه صورةُ الله الرحماني الأخلاقي، نمطُ التديُّن العنيف تُنتِجُه صورةُ الله المحارِب. إن كانت صورةُ الله مضيئةً فإنها تبعثُ المحبةَ والسلام والتراحم بين الناس، وإن كانت هذه الصورةُ مظلمةً فإنها تبعثُ كراهياتِ وحروبَ الأديان. الناسُ يعبدون الصورةَ التي اجتهد في رسمها مؤسِّسو الفرق الكلامية ومجتهدوها، واكتسبت هذه الصورةُ ألوانَها وملامحَها من الواقع الذي يعيشه الإنسانُ فردًا وجماعة.

الدينُ مثلما يؤثِّرُ في حياة الناس يتأثرُ بثقافاتِهم، وتقاليدِهم، وطرائقِ عيشهم، وشبكات مصالحهم. وهذا يعني أن حضورَ الدين بالشكل الذي يكون معه فاعلًا إيجابيًّا في البناء والتنمية يتوقفُ على شكل تديُّنٍ مُلهِمٍ للروح والضمير الأخلاقي والحسِّ الجمالي، ويرتبطُ ذلك عضويًّا بإعادةِ بناءِ أنظمة التربية والتعليم في ضوء مكاسب العلوم والمعارف الحديثة، والاهتمامِ بالقِيَم الكونية المشتركة بين البشر، وخلقِ وعيٍ جديدٍ مواكبٍ للتحولات الكبرى في العالَم.

التديُّنُ الذي تظهر فيه التعبيراتُ العمليةُ للدين يتجلَّى في أشكالٍ متنوعة في حياة الفرد والجماعة، كثيرٌ منها تديُّن شكلي، وقليلٌ منها تديُّن أخلاقي. التديُّنُ الشكلي لا أخلاقي، ويُضعِف حضور الأخلاق في التديُّن الشعبوي. بعضُ أشكال التديُّن الشكلي لا تتميَّز بوضوحٍ عن التديُّن الأخلاقي، تتخفَّى بتمويهٍ ماكر، فتتداخل وتلتبس بالتديُّن الأخلاقي، على الرغم من التضادِّ في الجوهر الروحي والأخلاقي بين هذَين الضربَين من التديُّن.

يظهر أثرُ الدين في تكريسِ القِيَم الأخلاقية، وتنميةِ المسئولية الإنسانية حيالَ الذات والآخر والعالَم؛ ذلك أن بناءَ الحياة الأخلاقية في مجتمعٍ ديني يستقي من الحياة الروحية، ومن دونِ الأساسِ الروحي في المجتمع الديني لا تترسَّخ الحياةُ الأخلاقيةُ، ولا يستفيق الضميرُ الأخلاقي ويتجذَّر. ومع بناءِ الحياةِ الروحية والأخلاقية يتجلَّى الأثرُ الفاعلُ للدين بأجملِ صُورِه في حياةِ الفرد والجماعة.

تُختبَر إنسانيةُ أيةِ ديانة وأخلاقيَّتُها بمدى قُدرتها على خفضِ الكراهية في الأرض عمليًّا، وتجفيفِ منابع حاجة البشر إليها، وتنميةِ الإيمان المقترِن بالمحبة، وإثراءِ منابعه وتكريسها. الاستنارة الروحية ثمرة الإيمان المقترِن بالمحبة. الاستنارة الروحية تسقي القلبَ طمأنينةً وتُشرِق فيها الروحُ بالسكينة. الاستنارة الروحية أعظم ما أنجزَه العرفانُ في كلِّ الأديان؛ ففي الإسلام كانت منبعًا غزيرًا لتحوُّل الصلة بالله من صلةٍ مسكونة بالخوف إلى صلةٍ تتحدثُ لغةَ المحبة.

١  فريزر، جايلز، لِمَ يزداد إقبال العالَم على الدين؟، مجلة حكمة، نسخة متاحة على الإنترنت.
٢  موقع فرانس ٢٤، بتاريخ ٤-٩-٢٠١٨م.
٣  هل يموتُ الدين في مختلف أنحاء العالم؟، تقريرُ منشور على موقع اﻟ «بي بي سي» العربية، بتاريخ ٧ مارس/آذار ٢٠١٩م.
٤  روبين دنبر، الفكرة الكبرى: هل ما زلنا بحاجة إلى الدين؟، جريدة الغارديان البريطانية بتاريخ: ٢٨ /٣ /٢٠٢٢م.
٥  Antoine Destutt de Tracy ١٧٥٤–١٨٣٦م فيلسوف وسياسي فرنسي صاغ مصطلح الأيديولوجيا.
٦  تحدَّثتُ عن ذلك بتفصيلٍ أوسع في مقدمة كتاب الدين والظمأ الأنطولوجي، والفصل الخاص بنقد أدلجة الدين عند د. علي شريعتي.
٧  الرفاعي، عبد الجبار، الدين والظمأ الأنطولوجي، ص١٠٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤