(٢) التديُّن العقلاني الأخلاقي
يتحقَّقُ الدينُ في حياة الإنسان في أنماطٍ متنوعة من التديُّن، من أعقلها وأنبلها وأجملها وأكثرها تهذيبًا وتأدبًا التديُّنُ العقلاني الأخلاقي، في هذا التديُّن تسبق الغَيرةُ على الإنسان الغيرةَ على الله، لا تبدأ في هذا التديُّن الغَيرةُ على الله إلَّا عند الغَيرة على الإنسان.
التديُّنُ العقلاني الأخلاقي هو ذلك النمَطُ من التديُّن الإنساني الذي تمتلئ فيه الروحُ، ويَرْوي ظمأَ الكائن البشري للمقدَّس، فينشغل التديُّن بإشباعِ الحاجة الوجودية للكائن البشري، وإشباعُها يكرِّس بناءَ الروح، وإيقاظَ الضمير الأخلاقي. وتلك وظيفةُ الدين العظمى في بناءِ شخصية الفرد وتمتينِ بنية المجتمع. إرواءُ ظمأ الكائن البشري للمقدَّس يشكِّل بِنيةً أساسيةً متينةً لحياةٍ روحية وأخلاقية مُلهِمةٍ للفرد والمجتمع، بنيةً ترتكز عليها العلاقاتُ الاجتماعية الصالحة، وتساعدُ على بناءِ أمنٍ عائلي وسلمٍ مجتمعي، وتعملُ على بناءِ أرضيةٍ ملائمة لعمليات الإنتاجِ والتوزيعِ والاستهلاك، وتحفيزِ النشاط الاقتصادي السليم، وخلقِ بيئةٍ مناسبة للثقافة والآداب والفنون. وفي ظلِّ حياةٍ روحية سليمة وضميرٍ أخلاقي يقظ يمكن إعدادُ إنسانٍ مسئولٍ حيالَ الوطن، وأكثر وفاءً للنظام العام، وأشدَّ التزامًا بتطبيق القوانين.
هذا النمَط من التديُّن ينشُد:
-
(١)
حياةً روحية مُلهِمة.
-
(٢)
ضميرًا أخلاقيًّا يقظًا.
-
(٣)
تذوُّقًا لجماليات الوجود.
التديُّن العقلاني الأخلاقي تديُّن يتجلَّى فيه صوتُ العقل، بموازاة حياةِ الروح، ويقظةِ الضمير الأخلاقي، يتذوَّق فيه المتديِّن تجلياتِ الجمال في العالَم. تديُّن تتكرَّس فيه كينونةُ الكائن البشري، ويحقِّق فيه الدينُ وظيفتَه في إرواء ظمأ الإنسان للمقدِّس. تديُّن يتموضعُ فيه الدينُ في مجاله الخاص به، وينجز وعودَه في الحياة الروحية والأخلاقية والجمالية.
إنه تديُّن مُتصالحٌ مع العقل والروح والقلب والضمير. لا يقترنُ الدينُ في هذا الشكل من التديُّن بالخوفِ، ولا المقدَّسُ بالرعبِ. الإيمانُ بالله في هذا التديُّن حالةٌ يتذوَّقها الإنسان وليس معلومةً يُدرِكها، والتوحيدُ يعني حياةً توحيديةً مُلهِمة، وليس اعتقادًا بمفاهيمَ ذهنيةٍ محنَّطة. الإيمانُ فيه ليس فكرةً يتأملها المتديُّن، أو معرفةً يتعلَّمها، أو معلومةً يتذكَّرها. الإيمانُ فيه حالةٌ للروح يعيشها، وتجربةٌ للحقيقة يتذوَّقها.
يحتفي هذا التديُّن بالفن، ويُدرِك حاجةَ كلِّ كائن بشري العميقةِ للجمال، كحاجته لكلِّ ما هو أساسيٌّ من الاحتياجات في حياته. إنه تديُّن يدرُس الدينَ بوصفه ظاهرةً لها حقيقةٌ تقع داخلَ أُفق الدين ذاته، ويُمكِن إدراكُ جوهرها في الفضاء الخاص للحياة الروحية. الدينُ حقيقةٌ يُمكِن اكتشافُ تعبيراتِها وتجلياتِها وآفاقِها من خلال العقل والعلوم والمعارف البشرية، لكنَّ هذه المعارفَ والعلومَ لا تُدرِك تمامَ مدَيَاتِها الباطنية القصيَّة وجوهرَها الروحي العميق، وإن كانت تستطيع أن ترسمَ حدودَها، وتحدِّد خارطةً لتمييز ما هو ديني عمَّا هو دنيوي.
يدركُ هذا التديُّنُ أن احترامَ الآخر المختلف ضرورةٌ تفرضها ثقةُ الذات بدينها وهُويتها وثقافتها، والتدليل على أخلاقية دينها وإنسانيته؛ فمَن لا يحترمُ الآخرَ المختلف في مجتمعه يغتربُ عن محيطه وعصره، وتُعوِزه الحُجَّة في البرهنة على مصداقية أخلاقية دينه وإنسانيته.
يرى التديُّنُ العقلاني الأخلاقي أن أكثرَ الأساليب الموروثة لتبليغ الأديان والدعوة إليها والتبشير بها انتهت صلاحيتُها؛ لذلك تجده يشدِّدُ على أهميةِ الذكاء العاطفي، وأثرِه النفسي الإيجابي الفاعل في نظرة الآخَر لمصداقية تديُّن أيِّ إنسانٍ وأخلاقيةِ دينه؛ فللعواطف الصادقة سحرٌ آسِرٌ على مشاعرِ كلِّ إنسان، ومن طبيعة البشر أنهم ينجذبون بقوةٍ لكلِّ إنسانٍ يُحبُّ الناسَ، ويشفقُ على البؤساء ويرعاهم، مهما كانت ديانتُهم. عبْر العواطفِ الصادقة، والكشفِ عن الجوهر الروحي والقِيَم الأخلاقية المشترَكة بين البشر، والحوارِ الأخلاقي البعيدِ عن المنطق الوثوقي للمقولات الاعتقادية المغلَقة، يُمكِن التدليلُ على الدَّورِ الذي يقوم به الدينُ اليومَ لإنتاج ما يمنَح الحياةَ معناها، ويُمكِن التدليلُ على ضرورةِ التديُّن الأخلاقي لإنتاج ما يمنَح الروحَ سكينتَها وطمأنينتَها، وإيقاظِ الضمير الأخلاقي.
يذهبُ التديُّنُ العقلاني الأخلاقي إلى أن الحاجةَ للمعتقَدات تكفي لاعتناقِها، واعتناقُ الإنسان لها لا يعني بالضرورة إقامةَ الدليل عليها والقناعةَ العقليةَ بها؛ فمهما حاولتَ أن تقيمَ من أدلةٍ على عدم صحة معتقدٍ ما، فلن يتخلَّى عنه صاحبُه ما دام محتاجًا إليه. إذا أردتَ تحريرَ إنسانٍ من معتقَداته المغلَقة المتشدِّدة فحرِّرْهُ من احتياجاتِه النفسية والعاطفية والمادية التي تدعوه للاعتقادِ بها، وحاوِل أن تُعيد موضعةَ احتياجاته في أفق تديُّنٍ أخلاقي منفتح.
ينشُد هذا الشكل من التديُّن التحرُّرَ من كلِّ ألوان الاستعباد والوثنية. التديُّنُ العقلاني الأخلاقي ضدَّ كلِّ ما يستعبدُ الروحَ، وضدَّ كلِّ ما يستعبدُ القلبَ، وضدَّ كلِّ ما يستعبدُ الضميرَ، وضدَّ كلِّ ما يستعبدُ العقلَ. فكلُّ وثنٍ يستعبدُ على شاكلته. جوهرُ الوثنية موقفٌ اعتقادي يُستلَب فيه الإنسانُ، عندما يُعلي من قيمةِ شيءٍ خلقَه هو، أو أي شيءٍ آخر لم يخلقه، لكنه يخدع نفسه بخَلق صورةٍ زائفة له يخلع عليها خصائصَ وصفاتٍ وأحوالًا لا تتصف بها إلا الآلهة، ويستسلم ويرضخ له، في مقابل الحطِّ من قيمته وهدرِ كرامته، بنحوٍ يصيِّرُ ذلك الشيء المعبود الإنسانَ مسخًا.
التديُّنُ العقلاني الأخلاقي هو الأقلُّ حضورًا في الحياة الفردية والاجتماعية اليوم، وعادةً ما تصدُر الأحكامُ السلبية على الدين بسبب شيوعِ الأشكال الأخرى للتديُّن في حياة الفرد والجماعة وشحَّة حضور هذا التديُّن؛ لذلك يظن كثيرون أن تلك الأشكال هي المعبِّرةُ عن الدين فحسب لا سواها، وقلَّما يتنبَّه من ينتقد الدينَ إلى وجود التديُّن الأخلاقي لدى شخصياتٍ روحانيةٍ أخلاقيةٍ مُلهِمة.
الحياةُ الأخلاقية سلسلةُ مواقف، تصنع بمجموعها طورًا وجوديًّا خاصًّا للكائن البشري، إنها الشرطُ الذي يتحقَّق به شكلُ حضورٍ إنساني لهذا الكائن في العالَم؛ إذ يتأنسنُ الإنسان بالأخلاق؛ فهو من دون أخلاقٍ ليس إنسانًا؛ لذلك لا يعبِّر الدينُ عن حضورِه الأصيل في الحياة إلَّا من خلال الحياةِ الأخلاقية. الحياةُ الأخلاقية تطرد كلَّ تمثيل للدين يتلفَّع بأقنعةٍ زائفة؛ فكلُّ من ينتهك سلوكُه الأخلاقَ يُهدِر المعنى الإنساني للدين. ولا قيمةَ لأيِّ حكمٍ ديني يتناقض وأحكامَ العقل العملي الأخلاقي. إن كلَّ فعل يرتدي قناعًا دينيًّا بلا مضمونٍ أخلاقي هو في مفهومي ليس دينًا، مهما كان الشخصُ أو الجهةُ الصادر عنها.
إن أخطرَ ما يهدِّد وجودَ الدين في المجتمع هو ضمورُ الحسِّ الأخلاقي في حياة الفرد والجماعة، وتفشِّي التبريرات والحِيَل التي تتخفَّى بنصوصٍ دينية وتتخذها ذريعةً لتسويغِ انتهاك كرامةِ الإنسان والتضحيةِ بحقوقه بوصفه إنسانًا، واتخاذُ الدين وسيلةً للارتزاق، وتوظيفُه في صراعات السلطة والثروة، واستغلالُه كقناعٍ يُخفي الكثير من الممارساتِ اللاأخلاقيةِ والمواقفِ اللاإنسانية.
الصلةُ بين الدين والأخلاق ديناميكيةٌ حيَّة، يتفاعلُ فيها الدينُ مع الأخلاق وتتفاعلُ فيها الأخلاقُ مع الدين، يتحدُ الدينُ بالأخلاق وتتحدُ الأخلاقُ بالدين، وهو ما نتلمَّسه في التديُّن الأخلاقي والتديُّن الرحماني.
يُمكِن أن يكونَ الإنسانُ الأخلاقي غيرَ مؤمن، وهو ما نراه في مواقف وسلوك شخصيات أخلاقية نبيلة، مواقفُها منضبطةً بالمعايير القِيَمية الأخلاقية في حياتها الشخصية، وفي تعاملها مع الغير. هو صادقٌ لا يكذب، أمينٌ لا يخون، ثقةٌ لا ينقض عهدًا أو يُخلِف وعدًا، يسعى لإسعاد الناس ورعايتهم.