(٣) التديُّن الرَّحماني
المتديِّن الرحماني مرآةٌ تتجلَّى فيها صورةُ الرحمن؛ لذلك تكون الرحمةُ مقامًا أنطولوجيًّا ساميًا في الحياة الروحية؛ إذ تشكِّل مكوِّنًا لهُويَّته الوجودية، فيتميَّز بها عن غيره من المتديِّنين. وهو مقامٌ يتعذَّر على كلِّ متديِّن أن يسموَ إليه. الرحمةُ حالةٌ نسبية، حضورُها وتحققُّها على درجات، وبعضُ تعبيراتها أوضحُ ظهورًا في التديُّن الفطري لدى عامة الناس الذين يكون تديُّنُهم تديُّنًا شعبيًّا، ولا تظهر في مراتبها العليا إلا نادرًا لدى بعض الشخصيات الروحانية الاستثنائية المُلهِمة.
في التديُّن الرحماني يظلُّ أفقُ المعنى الروحي ثريًّا متدفقًا مُلهمًا، يتجدَّدُ بتجدُّدِ احتياجاتِ الروحِ للسكينةِ والسلامِ الداخلي. وكلَّما تكرَّس هذا المستوى من التديُّن لدى إنسانٍ نجده لا ينشغل كثيرًا بالإعلان عن أقوالِه وأفعالِه للناس، ليس لأنه لا يحتاج للاعتراف الذي يحتاجه كلُّ إنسان، بوصف الاعتراف أحدَ منابع المعنى في الحياة، فضلًا عن أنه يمثِّل حاجةً وحافزًا مهمًّا لكلِّ فعلٍ وقولٍ في حياةِ الكائن البشري، بل لأن المعنى الروحيَّ أثمنُ من كلِّ معنًى في العالَم. احتياجُ الإنسان للاعتراف يُشبِعه منبعٌ بديل، عندما يصلُ إلى محطاتٍ في سفَره الوجودي إلى الحقِّ تشكِّل أغزرَ منبعٍ للمعنى والاعترافِ به. وكلَّما توغلَ الإنسان في سفره إلى الحقِّ تَسَامَى في عوالم المعنى، وصارت شخصيتُهُ مُلهمةً روحيًّا ومُشرقةً أخلاقيًّا، فيُبجِّل الناسُ في الأرض مثلَ هذا الإنسان ويُعْلون من مقامه.
التديُّنُ الرحماني تديُّنٌ نادر، وإن كانت أمثلتُه موجودةً في كلِّ الأديان، سواء أكانت سماويةً أو غيرها. لا يتجسَّد هذا التديُّن إلا في شخصياتٍ نبيلة ملهمة تمتلك مشاعرَ مرهفةً وعواطفَ شديدةَ الحساسية لكلِّ ألمٍ يصيب الآخر؛ فهي تتألم لما يُؤلِم الآخرَ، وتحزَن لما يُحزِن الآخرَ، وتكتئب لاكتئابِ الآخر، ويؤذيها كلُّ أذًى يصيب الخلق، ولا يُسعِدها إلا إسعادُهم.
لا ينظر المتديِّنُ الرحمانيُّ لأي إنسانٍ إلا بوصفه إنسانًا؛ لذلك نراه عندما يتعامل مع الناس لا يفتِّش عن معتقداتهم، ولا يسأل عن أديانهم، ولا تهمُّه أعراقُهم وقبائلُهم. يصيرُ التراحمُ سجيَّتَه وطبعَه الثابت، نرى بصمةَ الرحمة في مواقفه وسلوكه، وحتى في تعامُله مع المختلِف في المعتقَد. إنه مستثمرٌ بارعٌ في الرحمة، حيثما يجد مخلوقًا يطلبُ الرحمةَ يرحمه.
المتديِّنُ الرحماني قدوةٌ مُلهِمةٌ لتأسيس علاقاتِ تراحُمٍ مجتمعية، من دون وجودِه يفتقرُ بناءُ هذه العلاقات للأسوة، ولا يُبنى التراحمُ ويتكرَّس ويترسَّخ بلا رحمةٍ مُجسَّدةٍ في إنسان، يهتمُّ بغيره بمقدار اهتمامه بنفسه، وغالبًا ما يمنح غيرَه ما لا يمنحه لنفسه، يُبهجُه العطاءُ مثلما يُبهجُ الأمَّ وهي تُعطي الأبناء. المتديِّنُ الرحماني يزهد بالتهافُت على الامتلاك ولا يُسرِف في الاستهلاك إلا بحدود احتياجاته الأساسية.
التديُّن الرحماني ليس بالضرورة عقلانيًّا. أكثر المتديِّنين الرحمانيين يغلقون الأسئلة المفتوحة، كي يضمنوا تكريسَ السلام الباطني. التديُّن الرحماني طريقه إلى الله القلب وليس العقل، وعندما يكون القلبُ هو الطريق، يفترض ألا يغيب العقلُ، لأنَّ العقلَ هو من يكتشف القلبَ طريقًا إلى الله. المرجعيةُ للعقل في البرهنة والحكم على أية قضية في الحياة؛ دينية، أو دنيوية. العقلُ لا غير هو مَن يستطيع أن يكتشف ويفسِّر ذلك ويدلِّل عليه.
التديُّنُ الرحماني نادرٌ في أكثر المجتمعات، لا يُمكِن أن نرى ملامحه بشكلٍ واسع إلا في حياة أشخاصٍ استثنائيين. الخبرة الروحية في الوصال مع الله هي منبع إلهام هذا التديُّن، سلامةُ الإنسان من الأمراض النفسية والأخلاقية علامة تحقُّق هذا التديُّن.
لا يُخلَق المتديِّن الرحماني رحيمًا بالطبع، وكأنه مجبورٌ على هذه الحالة، إنما هو إنسانٌ مثلُ بقية البشر، وإن كان أكثرَ استعدادًا للاتصاف بالرحمة من غيره. إنما يكون الأكثرَ استعدادًا للاتصاف بالرحمة عندما يكون غزيرَ العاطفة، شديدَ التأثر لآلامِ الناس وعذاباتِهم. ومع ذلك لا تُكتسَب هذه الحالةُ إلا من خلال تربيةٍ على القناعة بالقيمة العظمى لمعنى الرحمة التي تتفوَّق على قيمةِ كلِّ مصلحةٍ ومنفعةٍ في الحياة، وارتياضٍ روحيٍّ يُدمِن عليه الإنسان، حتى تكفَّ نزعاتُ الشرِّ في داخله أن تجدَ ما يسمح لها بالظهور، وينخفض أثَر الشر في محيطه إلى أدنى حد، بل يستطيع في مراحلَ متقدمةٍ من التربيةِ والارتياضِ أن يقتلع الجذورَ الغاطسةَ للشرِّ ولكراهية الآخر في باطنه، ويسعى للظفر بالمعاني الروحية الأصيلة؛ بوصفها الأجملَ في الحياة.
فاعليةُ المتديِّن وحيويتُه وتفاؤله يستمدُّها من كيفيةِ تصوُّره لله، وطبيعةِ استحضاره لأسمائه وصفاته وتحقُّقه بها، فإن كانت صورةُ الله في ضميره قاسيةً، مخيفة، شديدةَ العنف، لا تعرف المغفرةَ والعفوَ والسلام، ولا تحضُر فيها رحمة، حينئذٍ يستولي عليه الخوفُ والقلقُ والإحباطُ واليأس، وتُصاب قدرتُه على المبادرةِ والفعلِ البنَّاء بالشلل. وإن كانت هذه الصورةُ مرآةً يرى فيها الرحمةَ بوصفها صوتَ الله، والسلامَ بوصفه اسمَ الله، والعدلَ بوصفه شريعةَ الله، والمحبةَ بوصفها ضميرَ الإيمان، يكون مُبادِرًا فاعلًا حيويًّا متفائلًا.
أعرف بعضَ المتديِّنين الذين تنتابهم حالاتُ هلوسةٍ واضطرابٍ وهلعٍ من الصور المُفزِعة التي ترسمُها قصصُ عذاب القبر، والمشاهدُ المهولة للعالَم الآخر، وحكاياتُ بعض الوعَّاظ التي لا تنشُد سوى إثارة الذعر في قلوب الناس، من خلال التشديدِ على ما يمتلئ به القبرُ من نيران، فضلًا عن الصور المُفزِعة للحساب والقيامة وأهوالها. وكأن اللهَ لم يخلق الإنسان إلا ليتلذَّذ بعذابه. لذلك نرى الذين لا يتجلَّى لهم اللهُ إلَّا بصورة معاقِبٍ عنيفٍ شديدِ البطش والقسوة، تختنق حياتُهم بكوابيسَ مرعبة، أما الذين يتجلَّى لهم اللهُ بصورة الرحمنِ السلامِ العفُوِّ الجميل، وهم الأقلُّ في الحياة الدينية في مجتمعنا اليوم، فلم أرَ أحدًا منهم إلَّا وهو في حالةِ سكينةٍ روحيةٍ وسلامٍ قلبي، وثقةٍ بالله وبذاته.
المتديِّنُ الذي يتجلَّى اللهُ له باسم «الرحمن» يعيشُ سلامًا في روحه، وحيثما كان يكونُ سلامًا في كلِّ قولٍ وفعلٍ في حياته وعلاقاته بالناس. إن التشدُّدَ في الدين، والأسلوبَ العنيفَ في التعامل مع الناس، نتيجةٌ طبيعية لنسيان اسم «الرحمن» واحتجابه عن الحياةِ الروحية للناس الذين يجري تثقيفُهم وتربيتُهم بأدبيات جماعاتٍ دينية احتجَب عنها اسم «الرحمن» في ظلمات التشدُّد والتطرُّف والعنف.
التديُّنُ الرحماني والتديُّنُ الأخلاقي بينهما مشتركاتٌ كثيرة، إلى الحدِّ الذي يدعو البعضَ للاعتقاد بتطابقهما كليًّا، بمعنى أن الشخصَ ما دام متديِّنًا أخلاقيًّا فهو متديِّن رحمانيٌّ، وما دام متديِّنًا رحمانيًّا فهو متديِّنٌ أخلاقيٌّ، لكن التأمُّلَ يُظهِر أن المتديِّن الأخلاقيَّ لا يكون بالضرورة رحمانيًّا، وإن كان كلُّ متديِّن رحمانيٍّ أخلاقيًّا بالضرورة؛ أي إن بعضَ الناس ربما يكون أخلاقيًّا في تديُّنه وحياتِه الشخصية، وتعامُلِه مع الغير، غير أن حالةَ الرحمة لم تصبح مكوِّنًا لهويته الوجودية؛ لذلك تراه يجسِّد العدالةَ والإنصافَ في سلوكه وتعامُله مع الناس، إلا أنه لا يسمو في بعض المواقف التي تتطلب منه التسامي إلى الرحمة. المتديِّنُ الرحمانيُّ يجسِّد العدالةَ والإنصافَ في سلوكه ومعاملاته المختلفة مع الناس، ومع ذلك يتسامى إلى مرتبةِ الرحمة، حيثما تطلَّب الموقفُ ذلك، والرحمةُ لا تفوقها مرتبةٌ؛ لأنها أسمى مراتبِ الاهتمامِ بالناس والشفقة عليهم ورعايتِهم والتضحية من أجل أمنِهم وسلامتِهم وسعادتهم.
ما زالت الكتاباتُ الدينيةُ المختلفةُ تفتقر للحديث عن الرحمةِ الإلهية؛ فقلَّما أقرأ مقالةً أو عملًا عنها، على الرغم من الحاجة الماسَّة لها في عصر تتسلَّط فيه بعضُ القراءات الفاشية للنصوص الدينية، ويُحاصِر الحياةَ الروحيةَ والأخلاقيةَ والجماليةَ فهمٌ مغلقٌ للدين. وتلك واحدةٌ من الثغَرات الكبيرة في الثقافة الدينية اليوم. كذلك قلَّما تتحدَّث الكتاباتُ الدينيةُ عن الأخلاق، وإن تحدَّثَتْ عنها تأتي في سياقِ الكلام عن غيرها، وبمنطقٍ وعظي، ولا تُقارِبها في ضوء الأفق التاريخي الذي يعيشه المتديِّن اليوم واحتياجات حياته الماسَّة للقِيَم الكونية المشتركة بين البشر. الدراساتُ الدينيةُ في معاهدِ التعليم الديني أكثرُها تكرِّرُ المكرَّراتِ المملة، وتشرحُ الشروحَ المتراكمة على هامشِ المتونِ القديمة، ولا تُطِلُّ بأي أفقٍ مضيء يواكبُ المتطلباتِ القِيَميةَ لحياةِ المتديِّن. ولا تسعى لإنقاذ الأبناء الذين ضيَّعَتْهم متاهاتُ الفهمِ المغلَق للدين والقراءةُ الحرفيةُ لنصوصه، فغرقوا في تديُّنٍ عنيف لا يعرفُ سلامًا ولا رحمة.