(٤) التديُّن الشعبي
التديُّنُ الشعبي تديُّنٌ بريء، تديُّنٌ يظهرُ فيه شيءٌ من روح التديُّن الرحماني، تديُّنٌ معروفٌ في حياة الأفراد والمجتمعات، يتوارثه الناسُ جيلًا بعد جيل منذ عصر الرسالة. التديُّنُ الشعبي عَفْويٌّ متصالحٌ مع المؤسَّسات الدينية التقليدية والمرجعيات الفقهية فيها، متصالحٌ وطرائق عيش المسلمين وطبيعة حياتهم، لا يجدون فيه تناشزًا مع فنونهم الشعبية وفلكلورهم، ولا يشكِّل عبئًا على علاقاتهم بمحيطهم، ولا يفرض عليهم سلوكًا متشدِّدًا في علاقاتهم الاجتماعية بالمُختلِف في الدين أو المذهب أو الهُويَّة أو الثقافة.
التديُّنُ الشعبيُّ طالما وقَع ضحيةً للجهل، وافترسَتْه الخرافة؛ لأن الأميةَ والفقرَ والمرضَ لا تُغادر مواطنَ الجماعاتِ الشعبية في القرى والأرياف والأحياء الفقيرة وأحزمة البؤس في المدن، وهذه العوامل تمثِّل بيئةً خصبةً لظهور الخُرافات والمعتقَدات الغرائبية. وعلى الرغم من نفحاتِ الروح الرحيمة في هذا التديُّن وحضورِ الأخلاقيات العَفْوية الدافئة، لكن يلتبس أحيانًا في هذا التديُّن ما هو أخلاقيٌّ بما هو شكليٌّ، ويصعُب على الناس التمييزُ بين الدينيِّ والدنيويِّ، والمقدَّس وغيرِه؛ لذلك تتسع دائرةُ المقدَّس باستمرار، لتلتهم غيرَ المقدَّس وتدمجه في فضائها، تمدُّد المقدس وتضخُّمه يضيِّق فضاء التفكير العقلاني.
أكثرُ الناس متعطشون لوجود آلهة من جنس البشر. في كلِّ الأديان يتمدَّد ويتضخَّم المقدَّسُ باستمرار، عندما يتخلَّى العقل عن وظيفته التفسيرية النقدية، ولا يعمل على تحليل المقدَّس ونقد تمثُّلاته وتشوُّهاته المختلفة في الحياة. يتضخَّم المقدسُ؛ لأن فضاءَ الواقع ضيِّق يختنق فيه الناس، الواقعُ لا يخلو من عنفٍ متنوع، الواقعُ شديد الوطأة على الروح، فتتوق الروح للهروب منه إلى فضاءٍ تستريح فيه وتسكُن، ولن تجد ملاذًا أهدأ من المقدَّس. تلبية المقدَّس لبعض احتياجات الروح يتورَّط بسببها الإنسان فيقدِّس ما لا يستحق التقديس، وبعد أن يتورط بتقديس ما لا يستحق التقديس يتحول إلى عبد له. المتديِّن العقلاني يستطيع أن يفضحَ زيفَ ما لا يستحق التقديس.