(٥) التديُّن الشكلي
التديُّنُ الشكلي ذلك الشكل السطحي المجوَّف من التديُّن، المفرَّغَ من نبضِ الحياة الروحية، ووهَجِ الضمير الأخلاقي، الذي يضع معاييرَ ظاهريةً شكليةً تُقاس درجةُ التديُّن بمدى الالتزام بها، بغَضِّ النظرِ عن بناءِ الكيان الداخلي للمتديِّن. وكثيرًا ما ينتهي التديُّنُ الشكليُّ إلى تديُّنٍ زائفٍ يمحَق روحَ الدين، بعد أن تنطفيءَ فيه جذوةُ الإيمان، وتتهشَّم القِيَم، وتتحوَّل المفاهيمُ المولِّدةُ للطاقة الروحية إلى مفاهيمَ محنَّطة، وطالما تحوَّل هذا التديُّن إلى نوعٍ من الفلكلور المبتذَل؛ لذلك كان سببًا أساسيًّا لنفور الناس من الدين.
يتداخل هذا التديُّن مع بعض الأشكال الأخرى؛ فالتديُّن الشعبويُّ أظهرُ أمثلة التديُّن الشكلي، ويظهر التديُّنُ الشكليُّ أيضًا بوضوحٍ في بعض حالات التديُّن السياسي. وقد انتهى النموذجُ الذي صنعه التديُّن الشكلي إلى المبالغةِ في التشديد على السلوك الظاهري للمتديِّن، وأسرفَ كثيرًا بالاهتمام بالشعائر والاحتفالات الجماعية، وانشغلَ بشكلِ اللباس، ولغةِ الجسد، وتعبيراتِ الوجه، ونوعِ الحركة والمشي، ونبرةِ الصوت؛ ما دعا أكثرَ المتديِّنين بهذا الشكل من التديُّن لصناعة جدارٍ سميك بين شخصيته الحقيقية المتحجِّبة في داخله، وبين ما يُظهِره للخارج من سلوك، وأفضى ذلك إلى انشطار الشخصية إلى كيانَين؛ خارجي لا يشبه الداخلي، وداخلي لا يشبه الخارجي. وربما حاول بعضُهم أن يظهر بملامحَ غامضة، بغيةَ إخفاءِ شخصيته الداخلية وحجبِها عن الأنظار. وربما أسرف بعضٌ آخر في التمثيل بغيةَ إخفاء أكثر ملامح شخصيته، حتى صار ذلك الشخصُ لفَرْط التمثيل بلا ملامح.
تعرَّفتُ في حياتي على شباب أصبحوا متديِّنين بهذا الشكل من التديُّن، وعندما تديَّنوا افتقدوا بالتدريج لكثيرٍ من وضوحِهم وبساطتِهم وعَفْويتِهم وتلقائيتِهم ومباشرتِهم في التعبير عن أنفسهم، بعد أن فرضَت عليهم بيئةُ التديُّن الشكلي محاكاتَها بكلِّ ما يتفشَّى فيها من تمثيلٍ زائف.
وصار همُّ المتديِّن المزمنُ إيصالَ رسالةٍ للجماعة التي ينتمي إليها تعلن تديُّنه المفتعَل وتقواه الصورية؛ لذلك تراه حتى لو مارس عملًا صالحًا يتخذ منه سلعةً لترويج صورته بين الناس، ويحرص على الإعلان عنه بأية وسيلةٍ متاحة له. ولو تطوَّع بعملٍ خيري، يسلُك الطرقَ المختلفةَ للإعلانِ عن عمله، وإن كان ذلك الإعلانُ مذمومًا في بعض الموارد في الشريعة؛ لأن كلَّ ما ينشُده المتديِّن الشكلي من فعلِ الخير هو إبلاغُ الآخرين كي يشهدوا على أنه متديِّن. وينشُد من ذلك الإعلانِ الفوزَ باعترافِ المجتمع وثقتِه. وهو رأسُ المال الذي يحرص على امتلاكه، كي يوظِّفَه في تعزيزِ نفوذه الاجتماعي، وتسويقِ شخصيته، للاستحواذ على مواقعَ ومكاسبَ يسعي إليها، في مجتمعٍ يشيعُ فيه هذا اللونُ من التديُّن، وتحكُمه تقاليدُه ومفاهيمُه.
وأظن أن هذا الضربَ من التديُّن نشأ في قصورِ الخلفاء والسلاطين في عالَم الإسلام، ثم تسرَّب بالتدريج إلى مجالاتٍ أخرى في المجتمعات الإسلامية. ومن قبله وُلد وترعرع في دولةِ الكهنوتِ الكنسيِّ في أوروبا العصور الوسطى.
وطالما تقمَّص التديُّنَ الشكليَّ التجَّارُ ورجالُ الأعمال وكلُّ من يسوِّق البضائعَ للناس، ووظَّفه السياسيون ورجالُ الحكم في المجتمعات الدينية. ويتغوَّل هذا التديُّنُ عادةً في مجتمعاتٍ تعتمده معيارًا في التوثيقِ والتصديقِ في المعاشِ والمعادِ.
يتداخل أحيانًا التديُّنُ الشكلي مع التديُّن الفقهي، الذي هو تديُّن يتمحور حول الفتاوى الواردةِ في المدوَّنة الفقهية، ويحاول أن يهتمَّ بتطبيق الفتاوى شكليًّا على كلِّ واقعة في الحياة الشخصية والاجتماعية. تُختزَل في هذا التديُّن الشريعةُ بالفقه، ولا يكترثُ كثيرًا بتربية الروحِ، وترسيخ الضميرِ الأخلاقي، وتنميةِ الذوقِ الفنيِّ، وإلهامِ الحسِّ الجمالي، ما دام المتديِّنُ مُلتزِمًا بتطبيق الفتوى شكليًّا على الواقعة الحياتية. نجد أحيانًا في هذا النوع من التديُّن ما هو أخلاقي، لكن طالما صار هذا التديُّن غطاءً للتديُّن الشكلي.
الخوفُ ليس مصدرًا للأخلاق
تقترن التربيةُ في التديُّن الشكلي بالخوف، لذلك يشدِّد هذا التديُّن على قيمةِ العنف في الحياة الدنيا، ويستحضر على الدوام صورَ العذاب الأخروي، والمشاهدَ التي تثير الهلعَ في الحياة الآخرة. ويسود اعتقادٌ لدى أكثر المتديِّنين بهذا النوع من التديُّن أن الأخلاقَ لا تُولَد إلَّا من الخوف، ولا يُمكِن بناءُ الفرد والمجتمع من دون خوف.
الخوفُ ليس مصدرًا للأخلاق؛ فربما تجد من يخاف حدَّ الهلع لكنه ليس أخلاقيًّا، وربما تجد مَن كان يبدو أخلاقيًّا قبل امتلاكه السلطة والثروة، غير أنه لحظةَ يمتلكُهما تنكشف شخصيتُه اللاأخلاقية. الخوفُ لا يصنع أخلاقًا، ولا يخلق إنسانًا أخلاقيًّا، الخوفُ يغَطي لاأخلاقيةَ بعض الناس؛ لذلك يُفتضح الوجهُ الحقيقي لهؤلاء عندما يتخلَّصون من الخوف، كما نرى بعضَ الناس ممن يبدو أخلاقيًّا في الظاهر حين يكون فقيرًا، غير أنه لو استغنى ينزعُ القناعَ الأخلاقي ويُسفِر عن وجهه المُحتجِب خلف ذلك القناع. وبعض الناس ممن نراه أخلاقيًّا إن كان ضعيفًا لا يمتلك سلطةً أو نفوذًا، لكنه لو امتلك أيَّ شكلٍ للسلطة تنكشف شخصيتُه اللاأخلاقيةُ فيتسيَّد ويستبدُّ ويطغى.
يستفيق الضميرُ الأخلاقيُّ بالتربيةِ الصالحة والبناءِ السليم للمجتمع. بناءُ الأخلاق على الخوف لا يؤسِّس أخلاقًا أصيلة، ولا يبني مجتمعًا أخلاقيًّا، وكثيرًا ما ينتهي إلى ازدواجيةٍ ونفاقٍ سلوكي.
للأخلاقِ قيمةٌ بذاتها؛ ذلك أنَّ الحَسَنَ حَسَنٌ بذاته، والقبيحَ قبيحٌ بذاته. يستمدُّ الفعلُ الأخلاقيُّ قيمتَه من كونه فعلًا أخلاقيًّا لا غير، وذلك ما يجعل أثرَه يظهر مباشرةً على حياةِ وسلوكِ فاعله قبل غيره. جوهرُ الفعل الأخلاقي أنه واجبٌ لذاته بغَضِّ النظر عن نتائجه؛ فلو حاوَل شخصٌ إنقاذَ غريقٍ فإنه قام بفعلٍ أخلاقي، سواء أفلح بذلك أم لم يُفلِح. للوجودِ ذاكرةٌ أخلاقيةٌ لا يُمحى فيها أثَرُ أيِّ فعلٍ أخلاقي؛ لذلك يُعلِن الفعلُ الأخلاقي باستمرار عن نفسه ويتحدَّث عن فاعله، ويفرض احترامَه على كلِّ إنسان.
أساسُ الأخلاق أحكامُ العقل العملي. وهذا العقلُ هو الذي يحكُم بقبحِ الكذب وحسنِ الصدق، وقبحِ الخيانة وحسنِ الأمانة، وقبحِ الظلم وحسنِ العدل. وهو المرجعيةُ في كلِّ ما هو حسَن أو قبيح، وفيما نجده من قِيَمٍ أخلاقية كُليَّة في البِنية العميقة للمجتمعات البشرية التي لم تتعرَّف على الوحي الإلهي؛ فلو لم تكُن هناك نواميسُ كونيةٌ للقيم والأخلاق، وكان كلُّ حُسن يحيل إلى ما يُحسِّنه الوحي، وكلُّ قُبح يُحيل إلى ما يقبِّحه الوحي، فسيُفضِي ذلك إلى تفريغِ الأخلاق من مضمونِها، وغيابِ أيِّ فعل أو سلوكٍ أخلاقي في المجتمعات البشرية التي لم تعرِف الوحي. وعلى الرغم من أن تلك المجتمعات لم تعرف الأديانَ السماوية، ولم تصل إليها تشريعاتُ الوحي، فإن تاريخَها يبرهن على أن هناك حضورًا للكلمات والأفعال الأخلاقية في حياة وسلوك الفرد والجماعة، وأنها تدرك أنَّ للكلمات والأفعال الأخلاقية الأصيلة بصمةً في ضمير العالَم.
روافد التديُّن الشكلي
يتغذَّى التديُّن الشكلي في مجتمعاتنا من: العائلة والمدرسة والعشيرة والمجتمع والسلطة السياسية، كلُّ هذه المؤسَّسات تتولى تدجينَ طبيعة الإنسان، وتعمل على تنميطها، فتبثُّ الرعبَ ببراعةٍ في القلوب، وتسقي العقولَ والمخيِّلة أوهامًا خادعة، حتى تُودِعَها في صندوقٍ مُقفَل. الخداعُ الذي يتغذَّى منه المتديِّن يتضخَّمُ ليُضفيَ على ذهنه قشرةً واهيةً، تُشعِره بتوهُّم معرفة كلِّ شيء، وأنه على صوابٍ دائمًا، ويترسَّخ لديه توهمُ القوة والإنجاز؛ لذلك لا يجرؤ على أن يعبِّرَ عن شعوره العميق بالعجز وعدم القدرة والضعف، خشيةَ الازدراء في مجتمعه، ولئلا يفقدَ تلك الهالةَ الزائفةَ التي تحمَّلتْها شخصيتُه، بنحوٍ يتلبس فيها إلى الحد الذي يتمركز حول ذاته، ويعجز عن الاعتراف بأخطائه، ويلجأ لتبرير مواقفه مهما كانت نشازًا، وسلوكه مهما كان مهينًا.
يتغذَّى التديُّن الشكلي أيضًا من الازدواجية ويغذِّيها؛ إذ يعملُ هذا التديُّن على تغذيةِ وترسيخِ الجذورِ العميقة لانشطار الشخص إلى كيانَين؛ كيانٍ باطني يعبِّر عنه كما هو في ذاته، وكيانٍ ظاهريٍّ يُحاكي ما يحقِّق له حضورًا ومكانةً مجتمعية، وهذا الكيان لا يعبِّر عنه إلا بالشكل الذي يريده الناس؛ لذلك يفرض عليه ارتداءَ أقنعةٍ تختبئ خلفَها شخصيتُه الباطنية.
كذلك يتغذَّى التديُّن الشكلي من تقاليد التربية والتنشئة المجتمعية التقليدية ويغذِّيها. وأكثرُ هذه التقاليد ليست واقعيةً؛ لأنها على الضدِّ من طبيعة الإنسان، وتتنكَّر لكثيرٍ من احتياجاتها الأساسية؛ فهي مثلًا لا تكشف مكامنَ الضعف الطبيعية للإنسان، ولا تكترث بهشاشةِ الكائن البشري وعجزِه الطبيعي، وتشدِّد على الدوام على إضفاءِ قوَّةٍ وهميةٍ على الأشخاص، والإعلاءِ منهم، ومن تفرُّدِهم الاستثنائي بكلِّ شيء، وتفوُّقِهم على كلِّ شخص سواهم. تبدأ هذه الأساليبُ في مرحلة الطفولة؛ فمثلًا من أسوأ الأخطاء التربوية التي يرتكبها أكثرُ الآباء والأمهات في المجتمعات التقليدية، وعادةً ما يدفع الأطفالُ فاتورتَها مع تقدُّم عمرهم، هي ترسيخُ قناعاتٍ زائفة عند الناشئة بأنهم أكبرُ من مرحلتهم العمرية، والعملُ على ترويضهم وتدجينهم باستمرار على أن سلوكَ جيلهم هو عبثٌ وطيشُ صِبْيَةٍ غيرُ متزِن، لا يليق بعقلهم ومكانتهم وشخصيتهم، ويجد ذلك تعبيرَه بوضوحٍ في حرمانِهم من اللعب، ومنعِهم من العبث البريء في طفولتهم مع أقرانهم، الذي يتكفَّل ببناءِ مَلَكةِ التفكير، وانبثاقِ قدرات الإبداع والابتكار، وإيقاد فاعلية المخيِّلة في أذهانهم.
ويتغذَّى هذا التديُّن من استبدادِ السلطة، والأنساقِ العشائرية الراسخة في مجتمعنا، وما تشدِّد عليه من روحِ الانقياد والإذعان، ويغذِّيها. الاستبدادُ أخطرُ منابع التديُّن الشكلي؛ فكلُّ استبدادٍ ينشُد التطابقَ وإنتاجَ نُسخٍ متماثلة للكائن البشري، ويعمل على محوِ الاختلاف، ومن ثَمَّ طمسِ الخصوصيات الذاتية للفرد؛ لأن الاستبدادَ لا يتمكَّن من إنجاز ما يرمي إليه إلَّا بالعمل على محوِ الذات الفردية. على الرغم من أن كلَّ من يريد أن يكرِّره الآخرُ لا يفهم الذاتَ البشرية وطبيعتَها المتفرِّدة التي يتعذَّر محوُها. الفرديةُ هي الهويةُ الوجودية للكائن البشري، فكلُّ كائنٍ بشري لا يتطابق كلِّيًّا إلَّا مع ذاته. ولأن الذاتَ يتعذَّر محوُها تمامًا؛ لذلك تُفضي أساليبُ تربية الأنظمة المستبدَّة إلى الإصابة بالازدواجية وتفشِّي النفاقِ السلوكي، وعلى أثَر ذلك تتعدَّد أقنعةُ بعض البشر بعدد المواقفِ والحالاتِ التي يكون فيها، والأشخاصِ الذين يخاطبهم. ويلبث الشخصُ من هؤلاء كلَّ حياته منفيًّا خارج ذاته، كلَّ مرة يعيش حياةً شخصيةً أخرى مُستعارَة، وكل حياة بشخصيةٍ مستعارة شكل حياةٍ ينفي الحياة الأخلاقية.
وأحيانًا يستفيقُ الشخصُ المدجَّنُ على تقاليد التديُّن الشكلي وينتفض ليعود إلى شخصيته الحقيقية؛ لأن طبيعةَ الإنسان يُنهِكها التزويرُ والتمثيلُ الزائف الذي يُكرَه عليه الإنسان في مختلف المواقف. طبيعة الإنسان تقاوم بصمتٍ من يعبثُ بها؛ لذلك يرتدُّ انتهاكُها على ذات الإنسان فيترسَّب على شكلِ عُقدٍ نفسية، كما يقول علمُ النفس الحديث.
آثار التديُّن الشكلي
يرادفُ التديُّنُ الشكليُّ غالبًا ازدواجيةً ونفاقًا سلوكيًّا، وادعاءاتٍ ومزاعم، وحِيَلًا فقهية، وتوريةً، وإظهارَ الحياءِ والعفَّة والتواضع المصطَنع، وكثرةَ الكلام في الدين والفقه، والجدلَ العقيم والثرثرةَ في قضايا دينية هامشية، والإلحاحَ في السؤال، وطلبَ فتوى الفقيه لكلِّ شيء يقوله أو يفعله المتديِّن من أجل التباهي بتطبيقها شكليًّا، وربما تتورم حالتُه فينتهي إلى مرضٍ نفسي واضطرابٍ ذهني وسلوكي.
المتديِّنُ الذي ينخرطُ في هذا الشكل من التديُّن يهمُّه التسويغُ الفقهي الشكلي لفعلِه وقولِه، مهما كان أثرُه السلبي على حياتِه الروحية والأخلاقية، ومصيرِه الأخروي، وإن كان سلوكُهُ مضرًّا بمصالحِ الناس ومعاشِهم، فهو يحرص جدًّا على أن يعثُرَ على فقيه، وما أكثر مَن يدَّعي الفقاهةَ اليوم! يفتي له بجواز فعلِ أو قولِ ما يريده، وإن كان ذلك الفعلُ أو القولُ قبيحًا على وَفْق أحكامِ العقل العملي «الأخلاقي»، أو كان يهدم العمرانَ وعلى الضدِّ من بناءِ الأوطان، أو كان ذلك الفعلُ أو القولُ يجرح الروحَ وينتهك الضميرَ الأخلاقي.
شاهدتُ وأشاهدُ باستمرار في حياتي، ويشاهد كثيرٌ ممن عاش في مجتمعاتٍ دينية، أفعالًا يومية تعكس التديُّن الشكلي في سلوك ومواقف أكثر مَن نتعامل معهم. لأن التديُّن الشكلي أكثرُ أشكال التديُّن شيوعًا في مجتمعاتنا، فهو يتحكَّم في العلاقات الاجتماعية بين المتديِّنين، وتسود القيمُ الشكلية التي أنتجَها حياتَهم، وهي التي تحدِّد أنواعَ اهتماماتهم وأحكامهم.
في التديُّن الشكلي طالما عجزَ الإنسان عن البَوْح والاعتراف؛ لذلك نجد بعضَ الأشخاص يمارس مراوغةً مبتذلة في التعبير عمَّا يريده، ويظهرُ العجزُ عن البَوْح والاعتراف في المذكِّرات الشخصية بوضوح؛ إذ قلَّما نطالع في مذكِّرات مَن يكتُب في مجتمعاتنا اعترافات، خلافًا للغربيين الذين نقرأ في مُذكِّراتِهم الشخصية كثيرًا من البَوْح والحديث المكشوف. إنها اعترافاتٌ شجاعة تبوحُ بطبيعتهم البشرية التي تختزن ضعفَهم وهشاشتَهم وقلقَهم وعبثَهم وأخطاءَهم وتناقضاتِهم.
تنحرف الطقوسُ في التديُّن الشكلي عن مقاصدها الروحية والأخلاقية. الصلاةُ قد تتحول أحيانًا إلى غاية بذاتها، وربما تصيرُ الطقوسُ وثنًا. توثينُ الصلاة مثلًا يُصاب به بعضُ المتديِّنين، وتظهَر أعراضُه على شكل اضطرابٍ وضوضاء وهوسٍ وقتَ الصلاة. وأحيانًا يُصبِح الغرقُ في التديُّن الطقوسي ضربًا من التعبير عن شغفٍ بسُلطةٍ مُشتهاة. عندها يجري توظيفُ الطقس قِناعًا لتكريسِ سطوة الشخص على مَن حوله، ترى مثلَ هؤلاء ينشُدون سلطةً دنيوية، أكثر مما ينشُدون إثراءَ حياةٍ روحية وأخلاقية؛ لذلك يتعرَّض من يتعاملون معهم إلى ضربٍ من العنف الرمزي المنبعث من أجسادِ هؤلاء المهووسين بشكل أداءِ الطقوسِ ومظاهرها لذاتها ونسيان مقاصدها. في لغتِهم عنفٌ، وهكذا في أساليب تعامُلهم مع الناس عنفٌ رمزي، ترى بعضَهم يعيش حالةَ انفعالٍ وتوترٍ شديدَين، ولا تخلو ممارستُه الطقسَ من تكلُّفٍ وتعبيراتٍ تشي بالشغَف بسلطةٍ منشودة، وكأنه لا يفتأ عن تنبيه الآخَر بسطوته، وإشعاره بتفوُّق مقامه الروحي وارتقائه مقاماتٍ سامية.
لم يكن التديُّن الشكلي في يومٍ ما حلًّا لمشكلة، بل كان وما زال هو المشكلةُ في مجتمعاتنا. من الآثارِ الخطيرةِ للتديُّن الشكلي سوءُ الظن برسالة الدين التربوية الروحية والأخلاقية في الحياة، وتفشِّي حالة نفورٍ من الدين لدى أكثرِ الجيل الجديد اليوم، وشعورهم بأن الجهل والتخلُّف والعجز في مجتمعاتنا نتيجة لتمسُّكها بالدين.
التديُّن الشكلي هو العامل الأساسي لنفور الجيل الجديد من الدين. لادينيةُ أكثر الشباب اليوم احتجاجٌ على التديُّن الشكلي، بوصفه تديُّنًا يغيبُ فيه الضميرُ الأخلاقي، تديُّنًا يُفقِر الحياةَ الروحية، تديُّنًا يعجز عن تذوُّق جماليات الوجود، تديُّنًا ضد الفنون، تديُّنًا ضد الفرح، تديُّنًا حزينًا، تديُّنًا كأنه اكتئاب.