(٦) التديُّن الشعبوي أبرز نماذج التديُّن الشكلي
التديُّن الشعبوي أحد أبرز نماذج التديُّن الشكلي. وتمثَّل الجماعاتُ الشعبية بيئةً ملائمةً لولادةِ هذا الشكلِ من التديُّن وتغَلغُلِه في مجالات حياتها المختلفة، وهو ما نعبِّر عنه ﺑ «التديُّن الشعبَوي»، والذي هو نوعُ تديُّنٍ شكليٌّ ذرائعيٌّ، يظهرُ في مختلفِ الأديان، لكنه ينشط كلَّما تبلَّد العقلُ أكثر، واشتدَّ تزييفُ الوعي، بعد أن يحدث انزياحٌ للتديُّن عن مجاله، وترحيلٌ لوظيفتِه؛ فبدلًا من توظيف الدين في بناءِ الحياة الروحية، وإيقاظِ الضمير الأخلاقي، تُصبِح الشعائرُ المُفتعَلةُ، لأغراضٍ لا صلةَ لها بوظيفة الدين الروحية والأخلاقية، هي محورُ التديُّن، ويحدث تطابقٌ بين مفهومِ التديُّن ومصاديقِ هذا النوع من الشعائر المُفتعَلةُ، ويفتقدُ هذا التديُّن الحسَّ الأخلاقي، وتنضبُ فيه الطاقةُ الروحية.
وعادةً ما يتحوَّل التديُّن الشعبوي إلى سلعةٍ يتداولها الأفرادُ لامتلاكِ رصيدٍ يُعلي من مكانةِ ودَورِ الفرد في الجماعة، وتُرسِّخ بواسطته المؤسَّساتُ حضورَها المجتمعي؛ لذلك يدخل سوقَ مزايداتٍ مبتذلة أحيانًا. التديُّنُ بهذا الشكل يعني أن الشخصَ الذي يبحث عن دَورٍ ومكانةٍ في الجماعة لا بدَّ أن ينخرطَ في مهرجانات الشعائر؛ فكلَّما كان حضورُه فيها أكثرَ صار أكثرَ تديُّنا، على وَفْق معايير السوق الدينية لهذا التديُّن، واكتسب بذلك مكانةً استثنائيةً عند الجمهور، ووجاهةً اجتماعيةً مرموقة، ومقامًا دينيًّا رفيعًا.
تبرَعُ أكثرُ السلطات السياسية وبعضُ المؤسَّسات الدينية في تكريسِ التديُّن الشعبويِّ، واستغلالِه لأغراضٍ على الضدِّ من وظيفة الدين الحقيقية، فيُتخَذُ التديُّن وسيلةً للاستحواذ على السلطة والثروة. إنه ضربٌ من تنويم العقل وتفشِّي الجهل الذي يتخذ من الدين غطاء؛ لذلك تتشوَّه فيه براءةُ الروح، ولا تتجلَّى فيه طهارةُ الشكل العَفْوي للتديُّن الشعبيِّ. وعادةً لا يخلو التديُّن الشعبويُّ من افتعالٍ يتولاه دجَّالون يضلِّلون الناسَ لغاياتٍ غيرِ سامية، يمتلكون وسائلَ بارعة في تجييشِ مشاعر الناس، وإذكاءِ انفعالاتهم النفسية، والإفراطِ في استغلالِ المقدَّس لتغذيةِ هذه الانفعالات وتفجيرِها متى شاءوا. يُسرِف من يُضلِّلون الناسَ لغاياتٍ غيرِ سامية في إنتاجِ شعائرَ لم ترِد في النصوص الدينية المعروفة، ولم يعرفها الناسُ من قبلُ، ويوظِّفون لترويجها مختلفَ وسائل التأثير على الرأي العام، ويختلقون من أجل زجِّ الناس فيها شائعاتٍ تُثير الرغبةَ والشغفَ للانخراط فيها، تتناغم وأذواقَ عامة الناس، وتُوقِد مشاعرَهم، وتُثير حساسياتِهم النفسية، وتفجِّر ذاكرتَهم الموروثة الجريحة.
في هذا الشكل من التديُّن يلتبس مفهومُ المقدَّس، فيجري تقديسُ غيرِ المقدَّس، ويُنسى المقدَّسُ. إنه تديُّن تفترسه خُرافات، ربما تبلُغ حدَّ الوثنية، وهو أشبه بالشعوذة منه بالتديُّن. يستهلك ما هو شكليٌّ في هذا النوع من التديُّن كلَّ ما هو أخلاقي، وتنضبُ منابعُ إلهام الروح فيه. في هذا التديُّن يزحف المقدَّسُ على ما هو دنيويٌّ فيتقدَّس أشخاصٌ وأشياءُ وأيامٌ وأماكنُ غيرُ مقدَّسةٍ بمرور الزمان، وتتفشَّى ظاهرةُ تقديسِ أشخاصٍ لا يمتلكون الحدَّ الأدنى من طهارةِ الروح وسلامةِ القلب وصحوةِ الضميرِ الأخلاقي. ويُجْهِضُ هذا النوعُ من التديُّن محاولاتِ إحياء الحياة الروحية، والتربيةَ على القِيَم الأصيلة، وبناءَ التفكير العقلاني.
التديُّن الشعبويُّ يصيِّر العقلَ رميمًا، لا يضع المقدَّسَ في حدوده إلَّا العقلُ، إذا لم يضع العقلُ حدودًا للمقدَّس يُمسِي كثيرٌ من الأشياءِ غيرِ المقدَّسة أوثانًا، بل يُمسِي المقدَّسُ وثنًا. كلَّما اتسع تقديسُ غير المقدَّس انحطَّت مكانةُ الإنسان، وأُهدرَت كرامتُه، وانطفأ ضميرُه الأخلاقي، وتشوَّهَت حياتُه الروحية، وتبلَّدَت حاستُه الجمالية، ودخلَ عقلُه حالةَ سُبات.