(٢) القلبُ هو الطريق
مسارُ القلبِ غير مسارِ العقلِ التساؤلي التشكيكي
الذي لا يهدأ. طريقُ القلب أقصرُ وأسهل وأجمل
الطرق إلى الله، وأسرعُها حضورًا في ملكوته،
طريقُ القلب يجعل الدينَ مُلهِمًا للمحبَّة والنور
والفرح. هذا طريقٌ يعرفه ذوو التجارب الروحية، وهو
منبعُ طمأنينة القلب وسكينة الروح والسلام الذي
يعيشونه في حياتهم.
الإيمانُ نورٌ يكشفُ للإنسان وجودَ الله ويُوصلُه
به، ويُشكِّلُ المنبعَ الأغزرَ لمعنى وجود الإنسان
ولحياته ومصيره وأمله بالخلود، وهو حالةٌ يعيشها
الإنسانُ وحقيقةٌ يتذوَّقها، هذه الحقيقة أمرٌ
وجوديٌ، وهي تختلف عن التصوُّر الذهني أو الشعور
النفساني. الإيمانُ نورٌ ينعكس فيه تجلِّي الإلهي
في البشري، وشهودُ البشري للإلهي،
وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ
نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ.
١ يقول باسكال: «للقلب حُجَجُه التي لا
يعرفُها العقلُ. القلبُ، لا العقل، يُحسُّ اللهَ،
وهذا هو الإيمانُ؛ استشعارُ الله بالقلب لا بالعقل.»
٢ ويقول خافيير زوبيري:
٣ «كلُّ وجودٍ إنساني هو تجربةٌ للألوهية
… العقلُ يعجز وحدَه عن الإدراك المباشر لله، فلا
يُتمثَّل اللهُ عن طريق العقل وحدَه، لكن أيضًا عن
طريق التجربة.»
٤ «أقوى برهان على وجود الله هو إمكانُ
تجربته وإدراك حضوره. الله مُعطًى تجريبي، ومضمونٌ
محسوس للتجربة، وحالةٌ روحانية.» حسب تعبير
المتصوِّف الهندوسي رادها كريشنان
٥
الإيمانُ ليس فكرةً نتأمَّلُها، أو معرفةً
نتعلَّمُها، أو معلومةً نتذكَّرُها. الإيمانُ حالةٌ
للروح نعيشها، وتجربةٌ للحقيقة نتذوَّقها، ثمرةُ
الإيمانِ تُعرف بمقدار إثرائه للسلام الباطني.
تبتهجُ للإنسانِ الأرضُ لحظةَ يبتهجُ قلبُ الإنسان
بأنوار الإيمانِ. الإيمانُ يختزنُ كنوزَ الله في
القلب، أجملُ وأرقُّ لغة يتجلى فيها الإيمانُ هي
لغةُ القلب. لغةُ القلب تتسعُ لحالاتٍ لا تتسعُ لها
الكلماتُ، إنها أعذبُ لغةٍ مشتركة بين كلِّ الناس
في كلِّ زمان ومكان.
يحتاج الناسُ إلى من يتعلَّمون منه كيف يستمعون
إلى نداء قلوبهم. القلبُ هو الطريقُ إلى الله، ما
دام القلبُ يحتضنُ الإيمانَ فلا جَدْوى من تَكرارِ
محاجَجات المتكلمين غير المنتجة لطمأنينة القلب
وسكينة الروح. كلُّ دليلٍ على الله لا يُمكِن أن
يُوصلَنا إلى الله بالشكل الذي يُوصلُنا فيه القلبُ
إلى الله، يعجز الدليلُ خارج القلب عن كشف الصلةِ
الوجودية للخلق بالحق، ولا تنكشفُ في مثل هذا
الدليل تجلياتُ جمال الله في الوجود، ولا يُمكِن أن
تُشرِق بواسطته أنوارُه على القلوب.
وَرَد في دعاء عرفة المروي عن الإمام الحسين «ع»:
«إِلَهِي تَرَدُّدي فِي الآثارِ يُوجِبُ بُعْدَ
الْمَزارِ، فَاجْمَعْني عَلَيْكَ بِخِدْمَة
تُوصِلُني إِلَيْكَ، كَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْكَ
بِما هُوَ فِي وُجُودِهِ مُفْتَقِرٌ إِلَيْكَ؟
أَيَكُونُ لِغَيْرِكَ مِنَ الظُّهُورِ ما لَيْسَ
لَكَ، حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْمُظْهِرَ لَكَ؟ مَتى
غِبْتَ حَتَّى تَحْتاجَ إِلى دَليل يَدُلُّ
عَليْكَ؟ وَمَتى بَعُدْتَ حَتَّى تَكُونَ الآثارُ
هِيَ الَّتي تُوصِلُ إِلَيْكَ؟»
٦ مَنْ يحاول الاستدلالَ على الله
بمخلوقاته، كمَنْ يحاول الاستدلالَ على النور خارج
النور، النورُ يكشفُ عن نفسه، وينكشفُ فيه كلُّ شيء
غيرَه.
اللهُ نُورُ
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ،
٧ أَفِي اللهِ
شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضِ.
٨ اللهُ هو الدليلُ على اللهِ، لا دليلَ
أجلى منه عليه، ولا طريقَ أقرب منه إليه، هو
القريبُ في بُعده، البعيدُ في قُربه. الكلُّ
مدعوُّون للقاءِ الله، لا البُعد يُقصيهم، ولا
القُرب يُدنيهم. ما أكثف شذرة النِّفَّري وأغناها
وهي تكشِف للإنسان عن توهُّمه بوجود مسافة وبُعدٍ
مكاني يُبعِده عن الحقِّ: «القُربُ الذي تعرفه
مسافةٌ، والبُعد الذي تعرفه مسافةٌ، وأنا القريبُ
البعيدُ بلا مسافة.» ويرسم جلال الدين الرومي صورةً
بهيجة لشهوده لله: «هو الذي توطَّن مدينةَ القلب
فأين أُسافر؟ هو الذي سكنَ حدَقةَ العَين فإِلامَ
أنظر؟» أما عبد الحق بن سبعين فيوبِّخ الإنسانَ
المستريب: «يا هَذَا، غُضَّ بَصَرَ إدراكِكَ عن
غيرِ اللهِ، ثم قُلْ لنفسِكَ: يا خَسِيسَةَ
المنزلة، متى ثَبَتَ سِوَاهُ حَتَّى تستريبي فيه،
وتَغُضِّي بَصَرَكِ عنه؟! هو الله! فلا هو إلا هو،
ولا يُمكِن غيرُ ذلك.»
٩
اللهُ هو الدليلُ على اللهِ، يُعرَف هذا الدليل
على وجود الله ببرهان الصِّدِّيقين. أول مَنْ صاغ
هذا البرهانَ ابنُ سينا، وهو مَن أطلَق عليه هذه
التسمية، وأعاد بيانَه فلاسفةٌ مسلمون، وفلاسفةٌ
مسيحيون، مثل: توما الأكويني، وفلاسفةٌ يهود، مثل:
موسى بن ميمون. وأخيرًا أعاد بيانَه بتصويرٍ جديد
ملَّا صدرا الشيرازي، وواصل بيانَه ملَّا هادي
السبزواري، ومحمد حسين الطباطبائي.
الإيمانُ كما يعيشُهُ ويتذوَّقُهُ أصحابُ التجارب
الروحية المضيئة مسعًى أبديٌّ لاستبصارِ تجلياتِ
الحُبِّ والخير والجمال في كلماتِ الله التدوينية
والتكوينية. الإيمانُ ظاهرةٌ تفشلُ وسائلُ الكشفِ
العلمي المتاحة عن إدراكِ كنهها وتحليلِ جوهرها،
وإن كانت تدرسُ آثارَها المتنوِّعة في حياة الفرد
والمجتمع. الإيمانُ من جنس الحالات الوجودية،
و«قوالب الألفاظ والكلمات لا تتسع لمعاني الحالات»،
١٠ حسب تعبير محيي الدين بن عربي.
الإيمانُ تجربةٌ، كلُّ تجربةٍ روحية تجربةٌ
وجودية لا تتسع اللغةُ للتعبير عنها، وإن تحدَّثَت
عنها فإنها تخون دلَالَتَها في التوصيل والإيضاح؛
لأنها لا تستطيع أن تتحدَّث عنها إلا بكلماتٍ
وعباراتٍ ضبابية مبهَمة غامضة. الرموزُ أشدُّ
دلالةً على الإيمان، وعلى كلِّ تواصلٍ وجودي مع
الله والغيب، بل إن الكلماتِ والعبارات عندما تتحدث
عن الله أو الغيب تستعير دلالةَ الرموز؛ لأنها تشير
إلى ما هو مجرَّد عن المادة وآثارها، الغيبُ لا
يتمكَّن الإنسانُ أن يتواصل معه بالمعاني الظاهرة
للُّغة القاطنة في فضاء الزمان والمكان
والحواسِّ.
الطريقُ العقلي إلى الله باردٌ، لا جَذْوةَ فيه،
لا يُنتِج سكينةَ الروح وطمأنينةَ القلب. إلهُ
الفلاسفة إلهٌ يتأمله العقلُ، تلبثُ صورتُه في فضاء
العقل وتمكثُ في حدوده، وهذه الصورة لا تحضُر فيه
بوصفها مُلهمةً للمعنى الروحي والأخلاقي في حياة
الإنسان.
لا يتمسك فلاسفةٌ مشاهيرُ بطريق العقل، ويرَونَ
أنه يخذلنا ولن يُوصلَنا إلى الله، مثل: بليز
باسكال، وسورين كيركغورد، وغيرهما. ولا يعبأ
عُرفاءُ في مختلف الأديان بطريق العقل، أمثال: محيي
الدين بن عربي، وجلال الدين الرومي، ومايستر
إكهارت، وغيرُهم. يقول جلال الدين الرومي: «إن
قدَمَ أصحاب العقل والاستدلال قدَمٌ خشبيةٌ مهزوزةٌ
غير ثابتة.» و«يُرْوى أن الفخرَ الرازي مرَّ في
الطريق وحوَله أتباعه وتلامذته الكثيرون، فرأته
عجوزٌ مؤمنة في جانب الطريق فسألَت: من هذا؟
فقالوا: هذا الفخر الرازي، الذي يعرف ألفَ دليل
ودليل على وجود الله تعالى، فقالت: لو لم يكن عنده
ألف شكٍّ وشكٍّ لما احتاج إلى ألف دليل ودليل. فلما
سمع الفخر الرازي بذلك، قال: اللَّهُمَّ إيمانًا
كإيمان العجائز.»
عقلُ هؤلاء الفلاسفة هو الذي اكتشفَ بأن القلبَ
هو الطريق، بعد أن يعجز العقلُ يدلُّهُم على طريقِ
آخرَ يُوصلُهم إلى الله. العقلُ النظري والعقلُ
العملي هما ما يقرِّران صحةَ أو بطلانَ ما هو خارج
عنهما.
الإيمانُ لايتحقَّق بالنيابة، خلافًا للفهم
والمعرفة؛ ففي عملية الفهم يُمكِن أن يتلقَّى
الإنسانُ معارفَه من شخصٍ آخر، أو يقلِّد غيرَه في
آرائه، الإيمانُ ضوءٌ ينبثقُ في روح الإنسان، إنه
صيرورةٌ تنبعثُ بها الروحُ وتتوهَّجُ. الإيمانُ
حالةٌ روحية متسامية، الإيمانُ جوهرةٌ كيفية لا
تخضع لقياساتٍ كمِّية مادية، إنه شروعٌ في سفَرٍ
وجودي للعروج نحو الحقِّ.
حينما لا يحيا الإنسانُ الدينَ كصِلةٍ حيَّة
متوثبة بالحق، بل يُقدَّم للمرء بوصفه مقولاتٍ
ومفاهيمَ وأفكارًا وشعارات، يجب أن يعتنقَها
الكلُّ، ويحفظَها الكلُّ، ويتطابقَ فيها الكلُّ،
فلن يرتويَ القلبُ بالإيمان ولن يبتهجَ بلذَّة
وِصال الحق. يصير العقلُ مستودَعًا يختزن مجموعةَ
محفوظات، هي بمثابة مومياءاتٍ محنَّطة مفرَّغة من
أية شُعلةٍ روحية متوهِّجة. يكتب محيي الدين بن
عربي: «إن الإيمان نورٌ شَعشَعاني، ظهَر عن صفةٍ
مطلَقة لا تقبل التقييد، والمؤمنون فيه على قسمَين؛
مؤمن عن نظر واستدلال وبرهان، فهذا لا يُوثَق
بإيمانه، ولا يخالِط نورُه بشاشةَ القلوب، فإن
صاحبه لا ينظر إليه إلَّا من خلف حجابِ دليلِه، وما
من دليلٍ لأصحاب النظر إلا وهو مُعَرَّضٌ للدَّخَلِ
فيه والقَدْحِ ولو بَعْدَ حينٍ، فلا يُمكِن لصاحِبِ
البرهان أن يُخالطَ الإيمانُ بشاشةَ قلبه، وهذا
الحجاب بينه وبينه. والمؤمن الآخر الذي كان برهانُه
عينَ حصول الإيمان في قلبه، لا أمر آخر، وهذا هو
الإيمان الذي يُخالِط بشاشة القلوب، فلا يُتصوَّر
في صاحبه شك؛ لأن الشكَّ لا يجد محلًّا يعمُره
فإنَّ مَحَلَّهُ الدليلُ.»
١١ القلبُ الذي يختزنُ الإيمانَ يختزنُ
المحبَّةَ والرحمةَ والشفقة أيضًا. القلبُ بريء من
العنف الذي يتورط فيه الإنسان. القلبُ بطبيعته لا
يُطيقُ العنف، العنفُ لا يجد طريقًا للقلب. لا
يصدُر العنفُ إلا حين تحجُبُ لغةَ القلب الأديانُ
وتُخرِسها.
كما أن القلبَ هو الطريقُ إلى الله، هو أيضًا
بوصلةُ بناء وترسيخ أثرى العلاقات الإنسانية في
الحياة وأخصبِها، وأغناها بالحميمية والتراحم، مثل
علاقات الأمهات والآباء بالأبناء، وكلِّ العلاقات
الإنسانية في إطار العائلة الواحدة. كلُّ علاقةٍ
إنسانية أصيلة لا يُمكِن أن تنموَ وتتغذَّى
وتتجذَّرَ إلا بعواطفَ ومشاعرَ نبيلة تُستقَى من
القلب.
حكاية النبي موسى والراعي
إيمانُ القلب متوهجٌ عَفْويٌ يتدفقُ بحميمية
بلا تكلُّف وافتعال، يتمثَّلُ هذا الإيمانُ في
حالة من التديُّن الرحماني. التديُّنُ الرحماني
الذي يعيشه معلِّمو الروح الكبار، ويعيشه أيضًا
أناسٌ بسطاء، كلٌّ من الصنفين يتذوَّقُه
ويعبِّر عنه على شاكلته، وهو أكثر أشكال
التديُّن حضورًا في حياة العمال والفلاحين
وكبار السن والعجائز. في التديُّن الرحماني
القلبُ هو الطريقُ إلى الله، إنه تديُّنٌ
تُبهِج الإنسانَ فيه أنوارُ البصيرة، وتَسْقي
قلبَه الطمأنينةُ، وتسكُن روحَه السكينةُ.
١٢
أكثرُ الناس البسطاء صلتُهم بالله حيَّة
متدفِّقة، يعبدونه كأنهم يرَوْنه، يشتاقون إلى
لقائه بتلهُّفٍ أشدَّ من تلهُّفهم لأبنائهم،
يلتقونه بشغفٍ كأنه معشوقٌ يعانقونه، يتحدَّثون
إليه بلغة القلب المشتعلة، لغةُ القلب لا تحضُر
إلا في تجارب الحُبِّ والعشق الصافية في
الحياة، وتحضُر بأجمل صورها في صلة الإنسان
العميقة بالله. لغةُ القلب مباشرة لا تحتفي
بالكنايات والاستعارات ولا تختفي خلفَ
المجازات. صلةُ الناس، ممَّنْ نسمِّيهم
«العامة»، الحميمية بالله لا تعبِّر عنها إلا
لغةُ القلب، تختزنُ هذه اللغةُ حزنَهم مثلما
تختزنُ فرحَهم، تُعبِّر عن امتنانهم مثلما
تُعبِّر عن غضبهم، تحملُ أشواقَهم بقَدْرِ ما
تحملُ ضجرَهم، تبوحُ بهدوئهم بقَدْرِ ما تبوحُ
باضطرابهم، تُعلِن سكينتَهم بقَدْرِ ما تُعلِن
قلقَهم، وتتحدثُ باتزانهم وهدوئهم بقَدْرِ ما
تتحدثُ بانفعالهم وتوتُّرهم. تراهم يتحدثون إلى
الله تارةً بلغةٍ دافئة رقيقة، وأخرى يتحدثون
إليه بلغةٍ جافَّةٍ حادَّة، تخلو من أساليب
التأدُّب المتعارَفة في التحدث إليه، وهم على
قناعة بأن ذلك من حقِّهم، لشعورهم بالاستئثار
بصلةٍ قلبية فريدة يختصُّونه بها ويوقنون أنه
يختصُّهم بأعمقَ منها، صلة تُعلِن عنها
مشاعرُهم بأشواقهم إليه وتلهُّفهم للقائه.
يتحدثون إليه بلا تردُّد من دون أن يرهبوه،
يلومونه بلا حياء كأنهم أقرضوه ولم يسدِّد لهم
قروضَهم. يعاتبونه بلغةٍ صريحةٍ لا تخلو من
عتبٍ بالتقصير في حقِّهم، وأحيانًا يلومونه
بغضب، وربما يعاتبونه بأسًى يمتزج بشعور
باستئثارهم به دون سواهم، يشعُرون بحقِّهم
عليه، بل يتمادى بعضُهم في إلحاحه وكأنه أقرضَ
اللهَ أغلى ما يمتلك لكنه تنكَّر لعطاياه
وتجاهلَه ولم يُوفِه دَينَه.
الجدَّاتُ والأجدادُ والآباءُ والأمهاتُ
وكبارُ السنِ من الفلاحين والشيوخ يخاطبون
اللهَ كأنهم يرَوْنه، يشعرون أنه أقربُ إليهم
من حَبْلِ الوريد. لا يرَوْن مسافاتٍ بعيدة أو
حواجزَ منيعة تفصلُه عنهم أو تفصلُهم عنه، إنه
حاضرٌ بجوارهم حيثما تضيقُ بهم الحياةُ،
يتحسَّسونه في أغلب الحالات معهم، قلوبُهم
مرآةُ أنوارِه وتجلياتِ جماله وإشراقاتِ رحمته
التي وسعَت كلَّ شيء ولم يسَعْها شيء. يخاطبونه
كما يخاطبون مَنْ يقيمُ في قلوبهم، لا تُوجَد
أيةُ حواجز بروتوكولية أو رسمية تحولُ بينه
وبينهم. يعيشُ هؤلاء حالةَ شهودٍ صافية
أحيانًا، لا يتذوَّقها إلا ذوو المكاشفات
الروحية في أسفار الروح إليه. حضورُ الله
وانكشافُه لهم أعمقُ منبع يغذِّيهم بالسكينة
والطمأنينة عندما تفترسهم مواجعُ العيش
ومعاناةُ الحياة ومكابداتُها المريرة.
لفَرْطِ حضوره يغيب ولفرطِ غيابه يحضُر،
لحظةَ يشعرون بغيابه تتوقُ أرواحُهم إليه
بلَوْعة، ويستولي على قلوبهم الذعرُ تلك
اللحظة. في العراقِ نستمع إلى بعضِهم، يقول
بلهجة الجنوب العراقي بلا تردَّد: «كون أكو درج
وأصعد أعاتبك.» بمعنى: «أتمنى وجود سُلَّم كي
أصعد إليك معاتبًا.» لماذا غبتَ عني هذه اللحظة
الحرجة الأقسى وجعًا ومرارة؟ لولا شعورُهم
بحضورِه الدائمِ معهم، أينما كانوا وحيثُما
كانوا، لم يخاطبوه بهذه اللهجةِ المباشرةِ
المكشوفة، الخارجةِ على أساليب التبجيل في
مخاطبةِ العظماء والإعلاءِ من مقاماتهم.
يتذوَّقون حنانَ الله وشفقتَه ورحمتَه بهم
وَحَنَانًا مِنْ
لَدُنَّا،
١٣ وكأنهم في حالة شهود. لا يشعُرون
بحجابٍ يحولُ بينهم وبينه، لا مسافة تُقصيهم
عنه أو تُقصيه عنهم. يرسمُ هذه الحالةَ
النفَّري في موقف القُرب من مواقفه: «القُربُ
الذي تعرفه مسافة، والبُعد الذي تعرفه مسافة،
وأنا القريبُ البعيدُ بلا مسافة.» قلوبُهم
مرآةٌ صافية تُشرِق عليها الأنوارُ الإلهية،
بلا أن تُمرِضها مقولاتُ الفرقة الناجية
والفِرَق الهالكة، وغيرها من معتقَدات
المتكلمين الإقصائية، وبلا أن تنحَبِسَ قلوبُهم
في بعض فتاوى الفقهاء المفرَّغة من المضمون
الروحي والأخلاقي.
صاغ جلالُ الدين الرومي حكايةً في «المثنوي»
ترسمُ صورةً مُوحِيَةً تتكشَّف فيها الكيفيةُ
التي ينعكسُ من خلالها إيمانُ القلب في حالة
تديُّنٍ عَفْوي بريء مُتَّقِد، يعبِّر عنه
إيمانُ أحد رعاة الأغنام بروحه الصافية، وكيف
طلب من الله أن يحلَّ ضيفًا عنده، كي يتولى
خدمتَه وتنظيفَ ثيابه وتمشيطَ شعره. كان الراعي
يخاطبُ اللهَ بلغته الساذجة المتخشِّبة، وكأنه
يتحدث مع أحد زملائه من رُعاة الأغنام، لغتُه
لا صلة لها بالفكر وانتقاء الكلمات المهذَّبة
والمجازات والاستعارات والكنايات الجذَّابة،
لغة لا يتكلم فيها إلا قلبُ الراعي وعواطفه،
لغة يصمت عندها العقل ويتجلَّى الإنسانُ كما هو
بلا أقنعة. استهجَن النبيُّ موسى لغةَ الراعي
الغليظة، وانزعجَ من طريقة تعبيره وحديثه
المكشوف مع الله. لحظة استمع النبيُّ موسى إلى
الراعي وهو يتحدَّث بهذا الأسلوب المباشر الذي
لا يليق بجلال الله وكبريائه، وبَّخه بشدَّة
على ما سمعه من هُراء، وحذَّره من استعمال لغةٍ
فَجَّة عند التحدُّث إلى الله.
نقتبسُ فيما يلي مستخلصًا لهذه الحكاية من
المثنوي: «رأى موسى راعيًا على الطريق، وكان
هذا يردِّد: «إلهي يا مَن تصطفي من تشاء، أين
أنت حتى أصبح خادمًا لك؟ فأُصلِح نعلَيك،
وأمشِّط رأسك! وأغسل ثيابك، وأقتُل ما بها من
القمل! وأحمل الحليبَ إليك أيُّها العظيم!
وأقبِّل يدك اللطيفة، وأمسَح قدمك الرقيقة،
وأنظف مخدعَك حين يجيء وقت المنام. يا مَن
فداؤك كلُّ أغنامي! ويا مَن لذكرك حنيني
وهُيامي!» وأخذ الراعي يردِّد هذا النوع من
هُراء القول. رآه موسى فناداه قائلًا: مع مَن
تتحدَّث أيها الرجل؟ فقال الراعي: مع ذلك الشخص
الذي خلَقَنا. مع مَنْ ظهرَت بقدرته هذه الأرض
وتلك السموات. فقال موسى: حذارِ، إنك قد أوغلتَ
في إدبارك. وما غدوتَ بقولك هذا مُسْلمًا، بل
صِرتَ من الكافرين. ما هذا العبَث، وما هذا
الكُفر والهذَيان؟ ألا فلتحشُ فمك بقطعة من
القطن. إنَّ نَتَنَ كفرك قد جعل العالَم كلَه
مُنتِنًا! بل إنَّ كفرك قد مزَّق ديباجة الدين!
فمع مَنْ تتحدث، أمع العم أو الخال؟! وهل الجسم
والحاجة من صفات ذي الجلال؟ إن الحليب يشربه
مَنْ يكون قابلًا للنشأة والنماء. والنعل
يلبسها مَنْ هو بحاجة إلى القدم … إنَّ
التحدُّث بدون أدبٍ مع خواص الحق، يُميت القلب،
ويجعل الصحائف سوداء … فقال الراعي: يا موسى
لقد ختمتَ على فمي، وها أنت ذا قد أحرقتَ
بالندم روحي. ومزَّق ثيابه، وتأوه، ثم انطلَق
مسرعًا إلى الصحراء، ومضى، فجاء موسى الوحيُ من
الله قائلًا: لقد أبعدتَ عني واحدًا من عبادي!
فهل أتيتَ لعقد أواصر الوصل، أو أنك جئتَ
لإيقاع الفراق؟ فما استطعتَ لا تخطُ خطوةً نحو
إيقاع الفراق، فأبغض الحلال عندي هو الطلاق!
لقد وضعتُ لكل إنسان سيرة، ووهبتُ كلَّ رجل
مصطلحًا للتعبير، يكون في اعتباره مدحًا، على
حينِ أنه في اعتبارك ذمٌّ. ويكون في مذاقه
شهدًا، وهو في مذاقك سمٌّ. إنَّني منزَّه عن كل
طُهر وتلوُّث، وعن كل روح ثقلَت في عبادتي، أو
خفَّت. والتكليف من جانبي، لم يكن لربحٍ
أنشُده، لكن ذلك كان كي أُنعِم على عبادي. فأهل
الهند لهم أسلوبهم في المديح، ولأهل السند كذلك
أسلوبهم. ولست أغدو طاهرًا بتسبيحهم، بل هم
المتطهِّرون بذلك، الناثرون الدُّر. ولسنا ننظر
إلى اللسان والقال، بل نحن ننظر إلى الباطن
والحال. فنظرنا إنَّما هو لخشوع القلب، حتى لو
جاء اللسان مجرَّدًا من الخشوع. فالقلب يكونُ
هو الجوهر، أما الكلام فعَرَض، والعَرَض يأتي
كالطفيلي، أما الجوهر فهو المقصِد والغرَض.
فإلى متى هذه الألفاظ، وذلك الإضمار والمجاز؟
إني أطلب لهيب الحُبِّ، فاحترِق وتقرَّب بهذا
الاحتراق! أشعِل في روحك نارًا من العشق، ثم
أحرِق بها كل فكر، وكل عبارة! يا موسى، إنَّ
العارفين بالآداب نوعٌ من الناس، والذين تحترق
أنفسهم وأرواحهم بالمحبَّة نوعٌ آخر. إنَّ
للعشاق احتراقًا في كل لحظةٍ … فلو أنَّه أخطأ
في القول، فلا تسمِّه خاطئًا، وإن كان مجلَّلًا
بالدماء فلا تغسِّل الشهداء؛ فالدم أولى
بالشهداء من الماء! وخطأ المحُبِّ خيرٌ من مائة
صواب … إنَّ ملَّة العشق قد انفصلَت عن كلِّ
الأديان، فمذهب العشَّاق وملَّتهم هو الله. ولو
لَم يكن للياقوتة خاتمٌ فلا ضير في ذلك، والعشق
في خِضَم الأسى ليس مثيرًا للأسى … فحين سمع
موسى هذا العتاب من الحق، هُرِع وراء الراعي
مُوغِلًا في البيداء … وفي النهاية أدرك موسى
الراعي ورآه. وقال البشير للراعي: إن الإذن قد
جاء! فلا تلتمس أدبًا ولا ترتيبًا، وانطِق بكل
ما يبتغيه قلبُك الشجي! إنَّ كفرك دين، ودينك
نور للروح! وإنَّك لآمنٌ، والعالَم بك في
أمانٍ! أيُّها المعافى، إنَّ الله يفعل ما
يشاء، فاذهب، وأطلقِ لسانك بدون محاباةٍ. فقال
الراعي: يا موسى، إني قد تجاوزتُ ذلك. إنَّني
الآن مجلل بدماء قلبي! لقد تجاوزتُ سدرة
المنتهى، وخطوتُ مائة ألف عام في ذلك الجانب!
إنَّك قد أعملتَ سَوطك، فدارَ حصاني، فبلغ قُبة
السماء، ثمَّ تجاوز الآفاق! فعسَى الله أن يجعل
جوهرنا الإنساني نجيَّ سر لاهوته … فالآن قد
تجاوَز حالي نطاق القول. فهذا الذي أقوله ليس
حقيقة حالي. إنَّك تُبصِر النقش الذي يكون في
المرآة، وهذا النقش صورتُك أنت، وليس صورة
المرآة. والأنفاس الَّتي ينفثها لاعب الناي في
الناي، هل تنتمي للناي؟ لا، بل هي منتمية للرجل.»
١٤