(٨) التديُّنُ السياسي
أنتج التديُّنُ السياسي مرجعياتِه البديلة المختلفة عن مرجعيات الفقهاء للشأن الديني؛ فقد كانت أكثر مرجعياته غير متخصِّصة في علوم الدين، وكان تخصُّص أكثر مؤسِّسيه وقادته وكتَّابه خارجَ التخصص في الشريعة ومعارف الدين، وتكوَّن المفتي فيه خارجَ معاهد التعليم الديني، ولم يتمرَّس في تطبيق المنهج العلمي الذي يستند إليه الفقيهُ في استنباط الفتوى. مارَس المفتي في هذا التديُّن استنباطَ الفتوى بأدواتٍ غير أدوات الاستنباط الدقيقة في أصول الفقه والقواعد المعروفة في الاستنباط الفقهي. انشقَّ التديُّنُ السياسي على تدبير الحواضر الدينية ومعاهد التعليم الديني والحوزات للشأن الديني، فأنتَج حلقاتِه الخاصة للتربية والتدريب على الطاعة والانضباط والتثقيف، وأصدر كتاباتِه ومفاهيمَه وتفسيراتِه الخاصة للقرآن الكريم والسُّنَّة. كلُّها تركِّز على الدعوة للعمل السياسي الحزبي، الذي يهدف للتمكُّن من السلطة، وامتلاك كلِّ ما يتصل بالدولة والفضاء العام. لا نعثُر على جماعةٍ دينية انبثقَت من رحم مؤسَّسات ومعاهد التعليم الديني؛ فمثلًا جماعة الإخوان المسلمين لم يؤسِّسها أحدٌ من علماء الأزهر، ولم تُولَد الحركة في أروقته، وحتى اليوم لم يتقلَّد منصبَ المرشد العام في الجماعة أحدٌ من خريجي الأزهر.
لا يشبه التديُّنُ السياسي التديُّنَ العقلاني الأخلاقي، ولا التديُّنَ الرحمانيَّ، ولا التديُّنَ الشعبي. ولا يشبه التديُّنُ السياسيُّ أنواعًا أخرى موروثة من التديُّن، وإن كان يختلط فيه شيءٌ من تعبيرات التديُّن الشعبوي والشكلي.
تديُّنٌ مسكونٌ بالسياسة
يهتَم القرآنُ الكريم بالعبادات اهتمامًا لافتًا، فيتحدث عن مواقيتها وأحكامها وغاياتها. ولا يُهمِل أحكامَ الأحوال الشخصية وتنظيم الأسرة، ويشيرُ إلى بعضِ أحكام المعاملاتِ والعقوبات الجنائية التي فرضتها ظروفُ عصر البعثة. الأحكامُ لا تحتلُّ إلا نسبةً محدودة من آياته الكريمة، لا تتجاوز حسب ما تقوله أشهر مؤلَّفات علوم القرآن السبعة بالمائة. القرآنُ وكلُّ الكتب المقدسة في الأديان ليست دساتيرَ دولٍ وأنظمةَ سياسة واقتصاد وإدارة وغيرها، مما يكفُل بناء الدول ومتطلَّباتها القانونية والحقوقية والتنظيمية والإدارية. ذلك ما تُدلِّل عليه دلالةُ أكثر من تسعين بالمائة من آياته التي تتحدثُ عن الله والتوحيد والغيب والآخرة والوحي والنبوات والقصص، والقِيَم الروحية والأخلاقية والجمالية.
القرآنُ الكريم لم يُهمِل العقلَ، غير أنَّ حديثَ القرآن يتَّجه أكثرُه إلى القلب والروح والضمير والعواطف. القرآنُ ليس كتابًا فلسفيًّا، أسئلةُ الفلسفة وإجاباتُها وموضوعاتُها كلُّها عقليَّة، أكثرُ أسئلة القرآن وإجاباته وموضوعاته تُوقِظ البصيرةَ والروحَ والقلبَ والضميرَ والعواطف. ينشُد القرآنُ بعثَ صوت الله في الإنسان، وطمأنينةَ القلب، وسكينةَ الروح، وتكريسَ الضمير الأخلاقي، وتغذيةَ العواطف بالرحمة والمحبة.
كلماتُ القرآن تتحدَّث عن الغيب وتجليات المظاهر الإلهية في الوجود، عبْر التعبير عنها بلغةٍ بشريَّة. وعلى الرغم من كثافة هذا الحضور وتنوُّعه بشكلٍ لا نكاد نقرأ صفحةً من القرآن الكريم إلا ويضيئُها الله بأسمائه وصفاته في مواردَ متعدِّدة ومتنوِّعة، غير أننا لا نجد أيةَ دلالةٍ سياسيةٍ يشي بها حضورُ الله وأسماؤه وصفاته في القرآن، كما لا يرِد ما يشي بدلالةٍ سياسية تكشفُ عنها القرائنُ والسياقُ الذي ورد فيه ذكرُ هذه الأسماء والصفات الإلهية.
لا ثنائيةَ ضدِّية بين الحاكمية لله والحاكمية للإنسان
المدلولُ الذي شاعَ في أدبياتِ الجماعات الدينية للحاكمية لله على الضدِّ من المدلولِ القرآني لاستخلافِ الله للإنسان. الاستخلافُ يعني أن اللهَ فوَّضَ الإنسانَ بتسخيرِ القوانين الطبيعية واستثمارِ موارد الأرض، وإدارةِ وتسييرِ المجتمع والدولة؛ لأن اللهَ زوَّدَ الإنسانَ بما يُمكِّنه من أن ينجزَ ذلك بعقله وعلومه ومعارفه وخبراته المتراكمة عبْر تجاربه المتنوِّعة. أما ما هو خارج ذلك، مما يمنح وجودَه معناه الروحي والأخلاقي والجمالي فهي وظيفةٌ يكفُلها الدينُ لحياةِ الإنسان.
الحاكميةُ للهِ في مفهوم المودودي وغيره تنتهي إلى تعطيل عقل الإنسان، وسلب اختياره، والتحجير على ما وهبه الله له من قدراتٍ فذَّة، تُمكِّنه من اكتشاف قوانين الطبيعة واستثمارها، وتجميد ما وهبه اللهُ له من قدراتٍ خلَّاقة على التفكير والبحث، وابتكار واختراع وإبداع ما تتطلبه حياتُه وتنظيم علاقاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها في مختلف المراحل.
عند التقصِّي في التراث نرى الجذورَ العميقة للحاكمية لله ترتد إلى عقيدة الجبر، بالمعنى الذي وُلدَت فيه زمن الخلفاء الأمويين، أو قل: إن الحاكميةَ لله تسميةٌ جديدة لعقيدةٍ قديمة، ترسَّخَت بمرور الأيام لدى أكثر الفرق الكلامية المعروفة، التي صوَّرَتْها بصياغاتٍ مختلفة في تعبيراتها، وإن كانت واحدةً في مضمونها ونتائجها.
الانتماء للعقيدة لا للوطن
في ثقافة الجماعات الدينية وأدبياتها غاب مفهوم الوطن، وتجاهلَت قيادات وكتَّاب الجماعات الدينية هذا المفهوم خارج معناه في التراث. الفكر السياسي الحديث يجعل الانتماء لوطنٍ واحد نصابًا للمساواة التامة للكلِّ في الحقوق والحريات وتكافؤ الفرص، بغَضِّ النظر عن الجنس واللون والدين والإثنية.
لا تعمل الهويةُ باتجاهٍ واحد؛ ففي الوقت الذي تُساعِد على تعبئة المجتمع ضدَّ الاحتلال والاستعمار، والثورة على الاستبداد والظلم. نراها تسقطُ في توهُّم النقاء والصفاء، فتلفظ كلَّ جماعة في الوطن لا تُشبِهها، وتنفي كلَّ شيء ينتمي للمختلف عنها، وإن كان يتمثَّل في مكاسب العلوم والمعارف الحديثة، وتغرَق في أوهام صناعة علومها ومعارفها المشتقة من ماضيها، وتستنزف سنواتٍ طويلة وأموالًا وإمكاناتٍ هائلة، تتيه وتتبدَّد فيها كثيرٌ من الموارد بلا جدوى. مآلاتُ هذا المسار تنتهي إلى انغلاق الهوية على ذاتها بصرامةٍ شديدة، ومُمَانعتها بقبول أية تحوُّلات تفرضُها عليها مواكبةُ الحياة، وانشغالها في صراع لا ينتهي مع المختلف، وعجزها عن الإصغاء لإيقاع الواقع.
يشدِّد التديُّنُ السياسي على الأممية الإسلامية وينسَى الوطن الأصلي، بما يشبه التشديد على أممية شيوعية طوباوية عند الشيوعيين. نسيان معنى الوطن أنتج تضادًّا بين الانتماءات للمنخرطين في الجماعات الدينية؛ فبدلًا من أن يكون لقاء الانتماءات تكامليًّا يتعزز فيه رصيد الهوية الأصلية، وتحتمي فيه الهويات الفرعية، وتتغذَّى كلٌّ منها من الأخرى، وتتكامل وتتناغم وتأتلف معًا، تتذبذب الهُويَّات وتضطرب الانتماءات وتتنازع لدى الجماعات الدينية، إلى الحد الذي تتصادم فترفض كلٌّ منها الأخرى وتنفيها. يضطرب البناء المنطقي للهُويَّات ويتذَبذَب، فتنقلب الهُويَّة الفرعية إلى أصلية والأصلية إلى فرعية. في هذا السياق بدلًا من أن ترسِّخ الهويةُ الانتماءَ للوطن وتدفع المواطن للعمل من أجل حاضر أرضه وشعبه ومستقبله، يفرض عليه الانتماء للأمة المتخيَّلة حملَ هموم وأحلام وأهداف ومصالح شعوبٍ أخرى تفوق قدراته، عندما تُقنِعه أن الانتماء للأمة وعقيدتها يتقدم على الانتماء للوطن، فيكرِّس كلَّ طاقته من أجل أوطانٍ أخرى ينسى معها وطنه الأصلي، ولا يستفيق حتى لو فرض عليه ذلك الانتماء أن يعمل ضد مصير ومصلحة وطنه وشعبه.
تجذَّر في اللاشعور السياسي الجمعي للمنخرطين في الجماعات الدينية مفهوم «جنسية المسلم عقيدته»، الذي أنتج تضادًّا حادًّا بين متطلَّبات الانتماء لأرضٍ يعيش فيها المواطن ويكتسب هُويتَه من انتمائه لها، وبين الانتماء الرومانسِي لأمةٍ زئبقية، أمةٌ تنقسمُ على نفسها باستمرار، وتتشتَّت في فِرَق وطوائف وشعوب ودول؛ ما يفرِّقها أشد مما يوحِّدها، كثيرٌ من مصالحها مختلفة وأحيانًا متضادَّة، أكثرُ أنظمتها وسلطاتها متنازعة، ورثَت صراعاتٍ طائفيةً مقيتة، ونزاعاتٍ راهنةً ومؤجَّلة على الحدود الجغرافية، وصداماتٍ على مناطقِ نفوذ، وصراعاتٍ على أراضٍ غير أراضيها، تُستباح وتَتَفَتَّتُ فيها دولٌ أخرى، وتتبدَّد مصائرُ شعوبها، ويُستلَب أمنها، وتُستنزَف ثرواتها ووسائل عيشها.
تعلن أمميةُ التديُّن السياسي المتخيَّلة في أدبياته وكتاباته وشعاراته ومواقفه المتنوِّعة، عن هويةٍ جامعة تدَّعي توحيد كلِّ المسلمين، وأنها هويةٌ عابرةٌ للطوائف، تتسع لكلِّ المذاهب، لكن لا نرى حضورًا عمليًّا فاعلًا لهذه الهوية في حياة المسلمين؛ لأنها تجهل لغة الواقع السياسي، وتجهل الممارسة السياسة بوصفها عمليةً ديناميكية متغيرة. لَبِثَت هذه الهوية أُمنية يتنكَّر لها الواقع، لا يعرفُها حتى اليوم، ولن يتعرَّف عليها غدًا. حاول التديُّنُ السياسي استقطابَ بعضِ الأشخاص من خارج المذهب في مشاريعه وأعماله عند نشأته، غير أنه سرعان ما سقط في معتقَدات الطوائف المغلَقة، وتورَّط في خلافاتها ونزاعاتها وصراعاتها المزمنة.
ضيقُ أفق التفكير والتشدُّد والانغلاقُ التدريحي واللاواقعيةُ حالة تغلَّبَت على التديُّن السياسي بمرور الزمن؛ فسيد قطب أكثر تشددًا وانغلاقًا من حسن البنا، ومحمد بديع أكثر تشدُّدًا وانغلاقًا وأقلُّ ثقافةً وموهبةً من سيد قطب، وهكذا الحال في كلِّ الحركات السنية والشيعية. التشدُّد والانغلاق حالةٌ تغلَّبَت على التديُّن السياسي بالتدريج، تقي الدين النبهاني مؤسس حزب التحرير في كتاباته التي ألَّفها منتصف القرن الماضي، يمثِّل القراءة الأكثر تشدُّدًا وجَزْمية وانغلاقًا للجماعات الدينية، وإن كان حزبُ التحرير الأضعفَ حضورًا في عالَم الإسلام.
استغلال الدين الأيديولوجي للديمقراطية
تفشَّى التديُّنُ السياسي لدى الجماعاتِ الدينيةِ في نصفِ القرن الأخير، بعد أن غادروا المرحلةَ السرِّيَّةَ في عهد الأنظمةِ القمعيةِ، وتخلَّصوا من بطش الحكَّام المستبدِّين، وتفاقمَ بشكلٍ مخيف بعد وصول هذه الجماعات للسلطة. ينكشف ما هو مُضمَرٌ في التديُّن السياسي لحظةَ تستحوِذُ هذه الجماعاتُ على السلطة؛ إذ يفتقرُ تديُّنُ معظم سلوك رجال السلطة من أتباعها إلى التمسُّك بالقِيَم، ويتراجع حضورُ الحسِّ الدينيِّ لدى أكثر من يحتلُّ موقعًا في السلطة، ولن يعود الضميرُ الأخلاقي رادعًا له، بالشكل الذي يمنَعه من تجاوز الحدود التي يرسمها القانونُ والأخلاقُ والشريعةُ. وبغيةَ الاحتفاظ برصيده الديني في الجماعة التي ينتمي إليها يحرص رجلُ السلطةِ على تبرير سلوكه ومواقفه من خلال اللجوء إلى الحِيَلِ الفقهية، وفتاوى «مجهول المالك»، وكلِّ ما يسوِّغ له الاستحواذَ على المال العام، فيتخذها قناعًا يختفي سلوكُه اللامشروعُ خلفَه.
تحرص الجماعاتُ الدينيةُ في تربية أفرادها على التمسُّك الشكلي بالأحكام الفقهية؛ لأنها لا ترى حدودًا للإسلام خارجَ المدوَّنة الفقهية، وتعمل على أن تكتسب مشروعيَّتَها منها، وتشدِّد في أدبياتها على ما يخصُّ الفكر السياسي، والتكييفَ الفقهي الشكلي للحكم والإدارة والاقتصاد والمصارف والمؤسَّسات المتنوِّعة في الدولة. وتحسب هذه الجماعاتُ المدوَّنةَ الفقهيةَ الموروثة تتَّسع لكلِّ نُظُم الدولة الحديثة، وتُحاول تطبيقَ ما جاء به علمُ الاقتصاد الحديث والعلومُ السياسية ولوائحُ الحقوق والحريات والقوانين على بعض أحكام هذه المدوَّنةِ بأساليبَ صوريةٍ متهافتة.
التديُّنُ السياسي رومانسِي غير واقعي، لا يدرك أن متطلَّبات العيش في الأرض تختلف عن متطلَّبات العيش في السماء، وأن متطلَّبات العيش في الحاضر تختلف عن متطلَّبات العيش في الماضي. التديُّنُ السياسي يكره كلَّ ما لا يُشبِهه، وهو لا يُشبِه شيئًا ولا يُشبِهه شيءٌ في الواقع السياسي الذي يعمل فيه.
بعد شيوع موجة الديمقراطية حاولَت أكثرُ الجماعات الدينية استثمار هذه الموجة، فعملَت على تلفيق الدين بوصفه أيديولوجيا سياسية بالديمقراطية بشكلٍ مبسَّط متهافت. انخرطَت في الانتخابات وحقَّقَت مكاسبَ جيدة، لامتلاكها رصيدًا شعبيًّا واسعًا، ولبراعتها في توظيف منابر الجمعة وخبرة مؤسَّساتها في تعبئة الشارع. تعجَّلَت الجماعاتُ الدينية بخلط الدين كأيديولوجيا سياسية بالديمقراطية، بعد أن لبثَت عشرات السنين ترفُض ذلك بصرامة؛ إذ كانت أدبياتُها تصنِّف الدولةَ الديمقراطية على أنها دولةٌ كافرة، إلا أن الواقعَ فرض عليها موقفًا براغماتيًّا سريعًا، بلا بحثٍ وفهمٍ دقيق لتراث علم الكلام والفقه.
عندما فازت هذه الجماعات في الانتخابات وظفِرَت بالسلطة في أكثر من بلد، واجهَتها مفارقة تكييف المساواة في الحقوق والحريات الممنوحة لكلِّ مواطن يشترك مع غيره في الانتماء لأرض الوطن بغَضِّ النظر عن دينه وقوميَّته وجنسه، وما تنصُّ عليه مدوَّنةُ علم الكلام والفقه من اختلافات في الحقوق والحريات على أساس المعتقَد. كان الإسرافُ في التعاطي مع هذا الموضوع بسطحيةٍ لحظةَ التمكُّن من السلطة، أحدَ عوامل إخفاق تجارب التركيب الهجين للدولة الديمقراطية الحديثة بالدين، بعد أن استخدمَت هذه الجماعاتُ الدينَ كأيديولوجيا سياسية.
التناشُز بين أدلجة الدين والديمقراطية
بعض من يدَّعون الإصلاح في التديُّن السياسي يتحدثون عن مصطلحاتٍ غامضة، يمكن أن تقول كلَّ شيء من دون أن تقول شيئًا واضحًا. سألتُ أحد كتَّاب التديُّن السياسي: ما هو شكل الدولة التي تنادون بها؟ فقال: إنها دولة تحكُم فيها الشريعة. قلتُ له: هل دولة الشريعة دولةٌ دينية أو دولةٌ مدنية، هل دولةٌ ديمقراطية حديثة أو دولة خلافةٍ قديمة أو إمامة أو سلطنة؟ إن كانت دولةُ الشريعة دولةً دينية، فمعنى ذلك أنها دولةٌ تحكُم بالمقولات الاعتقادية لعلم الكلام وأحكام الفقه، وهذه المقولات والأحكام تنُص على عدم المساواة في وطنٍ واحد، وتصنِّف الحريات والحقوق والواجبات للمواطنين على أساس التمييز بين: الكافر والمسلم، والحر والعبد، والمرأة والرجل. هل تقوم هذه الدولة على الفكر السياسي الحديث الذي يبتني على: مواطنة نصابها الانتماء للأرض وَفْقًا لمفهوم «المواطنة الدستورية»، والانتخابات الحرة، وفصل السلطات، والتداول السلمي للسلطة؟ هل هذه الدولة دولةٌ ديمقراطية أو دولةٌ مستبدة؟ وغير ذلك من أسئلة. المؤسف أنهم يلقِّنون الأتباع مصطلحاتٍ وشعاراتٍ غائمةً مضلِّلة، يمكن أن تتلبَّس بكل معنًى من دون أن تقول معنًى محدَّدًا واضحًا مفيدًا.
إجاباتٌ جاهزة
ينزعج التديُّنُ السياسي من الأسئلة، لديه إجاباتٌ جاهزة، معظمها مقولاتٌ وشعاراتٌ عامة، يُصاب الناس بالملَل وأحيانًا القرف من كثرة كتاباتاتهم التي تتكرَّر فيها شعاراتٌ تقول كلَّ شيء ولا تقول شيئًا مفيدًا وجديدًا، شعاراتٌ مثل: «الإسلام هو الحل»، وغير ذلك. وحتى لو حَاوَلَتْ كتاباتاتُهم الإجابةَ عن بعض الأسئلة فهي تنتقي الجوابَ الذي يُسكِت السؤال، وعادةً ما يكون الجوابُ الذي يُسكِت السؤالَ المتصل بالشأن الاجتماعي والسياسي فتوًى فقهيةً، والجوابُ الذي يُسكِت السؤالَ الاعتقادي جوابٌ مصدره مقولات المتكلمين، وكلاهما جوابٌ نهائي يمنع الخروجَ عليه. وكأن هذا النوعَ من التديُّنَ لا يدري أن الإجاباتِ القديمةَ لم تعُد مقنعةً للجيل الجديد.
الجيلُ الجديد لا يُطيقُ التشدُّدَ والاستغراقَ في تفاصيل تُنتِجها الصناعةُ الافتراضية الميكانيكية للعقل الأصولي والفقهي، ولا تنتمي إلى روحِ الشريعة، والأهدافِ الإنسانية الكلية للدين، وما يتضمنه الدينُ من قيمٍ كونية مشتركة بين البشر. حدودُ الأحكام الشرعية في القرآن الكريم لا تحتل إلا مساحةً قليلة من آياته، وهكذا حدود ما طبَّقه النبي الكريم (ص) في عصر البعثة الشريفة من أحكام. اتسع الفقهُ وتضخَّم بمرور الزمن، بعد استغراقه في تشعُّباتٍ افتراضية، وكلما اتسع وتضخَّم الفقهُ يضيق فضاءُ الإباحة ويتسع ويتضخَّم فضاءُ الحرمة والاحتياط، إلى الحد الذي يُصادرُ أكثرَ الحريات والحقوق الطبيعية والمدنية للإنسان، ويستنزفُ كثيرًا من المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي في الدين.
الجيلُ الجديد حتى لو تفاعَل مع بعض الإجابات لأوَّل وهلة، فإن كثيرًا منهم سرعان ما يرحلون عن الأجوبة السطحية المبسَّطة إلى حَيْرة: اللاموقف، اللاقرار، اللاوقوف، اللامحطة، اللانهاية، وأخيرا اللاجدوى، وربما الضَّياع. الإجابات الجديدة تأويلية، والتأويل يتطلب تفكيرًا خلَّاقًا، أغلب مَن يعيش في فضاء التديُّن السياسي لا يطيق التفكيرَ الخلَّاقَ والتأمُّلَ الدقيق، أو لا يُسعِفه تكوينُه التعليمي وذكاؤه واطِّلاعُه لممارسة هذا النوع من التفكير.
الأتباعُ إن كانوا مُدَجَّنِينَ نراهم يبحثون عن الإجابات الجاهزة للأسئلة الدينية مهما كانت. غير أن أكثرَ الجيل الجديد يرفضون مثل هذه الإجابات. الأسئلةُ الدينية نوعُ أسئلةٍ ليستْ لها إجاباتٌ نهائية، الأسئلةُ الميتافيزيقية أعمقُها الأسئلة المفتوحة، وهي نوع أسئلة يعجز العقلُ عن إغلاقها بإجاباتٍ نهائية.
التربيةُ على الطاعة العمياء راسخةٌ في كلِّ الأحزاب اليسارية الأممية والقومية في بلادنا، وكرَّسَتها جماعةُ الأخوان المسلمين بإضفاء مشروعيةٍ دينية عليها، تتخذ من البيعة على: «السمع والطاعة» أساسًا لها، بصيغتها الموروثة في فقه الأحكام السلطانية. وصار ذلك تقليدًا راسخًا في الجماعات الدينية؛ لذلك لم نقرأ مراجعةً نقديةً لمسيرة إحدى هذه الجماعات، تُبادِر قيادتُها أو أحدُ أعضاء التنظيم المعروفين لكتابتها، على الرغم من المنعطَفات الحرجة والإخفاقات المختلِفة في محطَّات عملها السياسي، وما يراه القارئُ الذكي من هشاشةٍ وتبسيطٍ ولا واقعية في أدبياتها. كلُّ الذي قرأناه من نقدٍ لها، صدر إما عن منشقِّين عليها، أو من كتَّاب خارجها لا علاقة لهم بها.
ضيقُ فضاء التسامحِ في التديُّن السياسي
تقترن التربيةُ في التديُّن السياسي بالتخويف من المختلِف في المعتقَد والهُويَّة والثقافة؛ لذلك تشيع بين من يتبنَّون التديُّنَ السياسي حالاتُ حذرٍ وشكٍّ وسوءِ ظنٍّ بالآخر، وتضمحلُّ فيه منابعُ محبةِ الناس والرحمةِ والعفو والغفران في التعامل معهم، بل طالما تحوَّل إلى بيئةٍ لنموِّ نزعاتِ الكراهية والتعصُّب والانغلاق.
حدودُ التسامحِ ضيقةٌ في هذا الشكل من التديُّن؛ فهو غالبًا لا يعرف حقَّ الإنسان في الخطأ، ولم يتجذَّر في تقاليده التربوية الحقُّ في الاختلاف؛ لذلك لا يستطيع أغلبُ الأشخاص الذين يتمسَّكون بهذا النوع من التديُّن تحمُّلَ أصحاب المعتقدات الأخرى، ويتعذَّر على كثيرٍ منهم العملُ مع من يختلف معه في أيديولوجيته أو ثقافته أو رؤيته للعالَم، ويصعُب عليهم قبولُ التفكير الذي لا يتطابق مع تفكيرهم؛ لذلك نجدهم عندما يتحدَّثون عن المُختلِف يسود لغتَهم تخويفٌ منه، وتحذيرٌ من دسائسه ومكائده ومؤمراته.
يعيشُ الشبابُ المنخرطون في هذا التديُّن حالةَ توجسٍ من المختلِف، بنحوٍ يُصابُ فيه بعضُهم بالشلل النفسي في إدارة علاقاته خارج محيط جماعته. وأحيانًا تصلُ الحالةُ عند بعض أفراده إلى أن يتحولَ هجاءُ المُختلِف واتهامُه إلى مهنته الأبدية، بل ربما يشعرُ أن استمرارَ حضوره في العالَم يقترنُ بهجاءِ المُختلِف والانشغالِ به، من دون أن ينشغلَ هو بنفسِه وإصلاحِ أحواله.
يقترن التثقيفُ السياسي في هذا التديُّن بمبالغة وإسراف في اعتماد التفسير التآمري، ولا واقعية وتهويل في فهم أكثر الأحداث والوقائع والمواقف المختلفة في إدراة السلطة والثروة والشأن العام والعلاقات الدولية، وعدمِ التريُّث في البحث عن العوامل المعلَنة المتنوِّعة والأسباب الخفية لما يحدث، وأحيانًا يعبِّر هذا التفسيرُ للأحداث عن مواقفَ مبتذَلة ساذجة.
في فضاء هذا التديُّن يعجزُ أكثرُ الأفراد عن بناء الذات؛ لأنهم يستهلكون كلَّ طاقتهم بمعارك أكثرُها مُفتعَلٌ مع المُختلِف، وتبعًا لذلك يعجزون عن بناءِ العقول والأرواح والضمائر والأوطان. التديُّنُ السياسي تشتركُ فيه كلُّ الأديان.
التديُّنُ السياسي تشتركُ فيه كلُّ الأديان
إذا ظهر التديُّنُ السياسي في أيِّ دين فإن أهدافَه واحدة، إنه يختزلُ رسالةَ الدين في الاستحواذ على الدولة وامتلاك السلطة والثروة، فيتحوَّل الدينُ إلى وقود يحترق معناه الروحي والأخلاقي والجمالي في عملية الصراع على السلطة والثروة. مشتركاتُ التديُّن السياسي في الدين الواحد أعمق وأوثق وأكثر في عالَمنا، التديُّنُ السياسي السني والشيعي في الإسلام وجهان لعملةٍ واحدة، الاختلافاتُ بينهما عَرَضيَّة وليست جوهرية، كميَّة وليست كيفية، شكلية وليست أساسية، يختلفان في الدرجة لا في النوع، لكلٍّ منهما أشكاله وألوانه وتعبيراته، وهي دائمًا على شاكلة المجتمع الذي ينشأ التديُّنُ ويعيش فيه، وهذه الألوان والأشكال ينعكس فيها شيءٌ من أثَر الهُوية الدينية والذهبية والإثنية والثقافية للمجتمع الذي يتوطن فيه التديُّنُ السياسي.
خلاصة
ما تقدم تصنيفٌ لأشكال التديُّن، اقترحتُهُ في ضوء مطالعاتٍ واسعة، تَوَاصَلَتْ منذ نصف قرن لعلم النفس والاجتماع والأنثربولوجيا والتاريخ، والميثيولوجيا ونشأة الأديان ومسيرتها، ودراسة وتدريس لعلوم الدين ومعارفه. مضافًا إلى أنه جاء محصِّلةَ خبرةِ عَيْشٍ شخصيةٍ في مجتمعاتٍ دينية، وتجربة عمل داخل جماعاتٍ دينية، غادرتُها مبكرًا. كنتُ أهتمُّ منذ وقتٍ مبكر برصد تمثُّلاتِ الدين وتعبيراتِه في سلوك الأفراد والجماعات حيثما كنتُ، وأحاول رصد ما ينبغي أن ينتجه التديُّن من آثارٍ عمليةٍ، يُفترضُ أن تجدَ تعبيرها القِيَمي في سلوك المتديِّن.
في هذا التصنيفِ لم أجد الحدودَ صارمةً بين كلِّ واحدٍ من هذه الأشكال والآخر؛ إذ تتداخل أكثرُ أشكال التديُّن مع بعضها وتختلط. تعبيراتُ التديُّنُ الشكلي مثلًا تتداخلُ مع تعبيراتِ التديُّن الشعبوي، وتتداخلُ مع شيءٍ من تعبيراتِ أشكالِ تديُّنٍ أخرى، وهكذا.
في هذا التصنيفِ وفي كلِّ هذا الكتاب وغيره من أعمالي، اعتمدتُ المعيارَ الذي أفهمُ فيه الدينَ بوصفه حياةً في أفق المعنى.