(١) النزعةُ الإنسانيَّة
ظهرَت «النزعةُ الإنسانيَّةُ» في أوروبا كردِّ
فعلٍ على تأميمِ الدينِ ومؤسَّساتِه للفهمِ البشري،
واحتكارِ تفسيرِ كلِّ شيءٍ يتصل بحياة الإنسانِ
وعلومِه ومعارفِه وآدابِه وفنونِه، ورفضِ الاعترافِ
بدور العقلِ والعلمِ وما راكمَتْه التجربةُ
البشريةُ خارج فضاءِ الدين ورجالِه.
نشأَت «النزعةُ الإنسانيَّة» في أول الأمر بوصفها
دعوةً للتعرُّفِ على تراثِ وفلسفةِ وفنونِ وآدابِ
وعلومِ الحضارة اليونانية والرومانية، والإفادةِ
مما أنجزه القدماءُ من مكاسبَ معرفيةٍ خارجَ سياق
الدين ومؤسَّساتِه عندما اهتمَّ بعضُ الأدباء
والمفكرين الغربيين في القرنَين السادسَ عشرَ
والسابعَ عشرَ بتعلُّمِ لغاتِ المجتمعات القديمةِ
والإفادةِ منها في التنقيبِ عن فلسفة وآداب وفنون
ومعارف وعلوم حضاراتها، وكسرِ احتكارِ الكنيسةِ
لها، والخروجِ على موقفها المتمثِّل في رفضِ
الاعتراف بكلِّ معرفةٍ يُنتِجها الإنسانُ خارج إطار
النصوص الدينية وتفكيرِ رجال الدين ورؤيتِهم
للعالم.
سبقَت فلورنسا في إيطاليا غيرَها من المدن
الأوروبية في ظهور دُعاة النزعة الإنسانيَّة
الأوائل في القرنِ الرابعَ عشر، واشتُقَّت تسميةُ
«الإنسانيَّة» من تخصُّص «الإنسانيَّات» الذي
يُدَرِّس تراثَ وثقافاتِ الأقوام الماضية. كان
المصطلحُ يُستعمَل ابتداءً لتوصيف من يهتمُّ
بفلسفةِ وآدابِ وفنونِ المجتمعات القديمة، ثم
تطوَّرَت دلَالَتُه في عصورٍ لاحقة فأصبح يُطلَق
على من يقول بمركزيةِ الإنسانِ واكتفائِه بذاته.
وكانت الدعوةُ ﻟ «الإنسانيَّة» إيذانًا بالانطلاق
للخلاصِ من مصادرة المؤسسات الدينية للفهم البشري،
واعتمادِ مرجعياتٍ أخرى في فهم العالَم بموازاة
الدين، مثلِ الفلسفة اليونانية وثقافاتِ المجتمعات
الماضية ومعارفِها.
١
وازدهر على أثَرِ ذلك تعلُّمُ اللغة اليونانية،
ونشطَت حركةُ التنقيبِ والبحثِ عن مخطوطاتِ
مؤلَّفاتِ اليونان في المكتبات والأديرة والكنائس،
وصار الاتِّجارُ بها يحقِّق أرباحًا جيدة.
وأَنْتَجَتِ الجهودُ في القرنَين الرابعَ عشرَ
والخامسَ عشرَ تحقيقَ وتصحيحَ نصوص الفلسفة والآداب
في العصر اليوناني وترجمتها إلى اللاتينية.
٢
الشاعرُ والفنانُ والمترجمُ الإيطالي فرانشيسكو
بترارك (١٣٠٤–١٣٧٤م)،
٣ كان من أبرز روادِ النزعة الإنسانيَّة،
«استطاع بفضل تمكُّنه من اللغة اللاتينية أن
يتذوَّق الاتجاهات الإنسانية التي حفلَت بها
كتاباتُ الرومان فجعلَت منه عالمًا عملاقًا يمثِّل
طرازًا جديدًا من رجال الفكر يختلف عن أقرانه
مفكِّري العصور الوسطى … ونجح في تكوين مدرسة فكرية
تنتمي إليه، وتتكون من مثقَّفين متحمِّسين للدراسات الإنسانية.»
٤ بترارك «لا يرمي إلى شيءٍ حديث أو
جديد، بل إلى إحياء عصرٍ غابر، وكانت هذه الرؤية
محل قبول عند الإنسانويين.»
٥ وهكذا كان اللاهوتيُّ والمترجمُ
الهولندي إيراسموس (١٤٦٩–١٥٣٦م)، الذي ترجم الكتابَ
المقدَّس، وكان يكتب باللاتينية.
٦ وفي فرنسا تأثر بأرسطو ميشيل دي مونتين
(١٥٣٣–١٥٩٢م) الذي كان خبيرًا بالتراث اليوناني
والأدب اللاتيني، وكان من أعمق روَّاد النزعة
الإنسانيَّة. ويُوصَف مونتين بأنه رائد المقالة
الحديثة؛ إذ نُشرت مقالاتُه في ثلاثة
مجلَّدات.
ولادةُ مصطلحِ «الإنسانيَّة»
يؤكِّد أندريه لالاند في موسوعته الفلسفية أن
مصطلحَ «الإنسانيَّة» لم يُولَد في العصر
الحديث إلَّا في مطلع القرنِ التاسعَ عشر سنة
١٨٠٦م، عندما استعمله أحدُ المفكرين الألمان في
ذلك التاريخ، وكان يريد به: «النظامَ التربويَّ
التقليديَّ الذي يرمي إلى تكوين الشخصيَّة
الكُلِّيَّة والإنسانيَّة بواسطة الإنسانيَّات.»
٧ ويصف لالاند اﻟ «إنسانويَّة»
بأنها: «حركة فكريَّة، يمثِّلها إنسانَويُّو
النَّهضة، وهي تتميَّز بمجهود لرفع كرامة
الفكرِ البشريِّ، وجعله جديرًا، ذا قيمة، وذلك
بوصل الثقافة الحديثة بالثقافة القديمة، فيما
يتعدَّى العصر الوسيط والمدرسيَّة.»
٨ ويضيف لالاند: «ليس الإنسانوي هو
الذي يعرف القدامى، ويستوحي منهم، إنَّه ذلك
الذي يكون منبهرًا، منسحرًا بنفوذهم وسحرهم،
لدرجة أنَّه يقلِّدهم حرفيًّا، يحاكيهم،
يكرِّرهم، يتبنَّى نماذجهم، أمثلتهم، آلهتهم،
روحيَّتهم ولغتهم. إنَّ حركةً كهذه مدفوعةً إلى
أقاصيها المنطقيَّة، لا تنزع إلى شيءٍ أقل من
إلغاء الظاهرة المسيحية.»
٩ يشي توصيفُ لالاند ﻟ «الإنسانويِّ»
بأن المجتمعَ كان ينظر بنظرةِ ارتيابٍ إليه،
وإلى عدمِ تفهُّمه دعوتَه وجهودَه، وكيف كان
أيُّ تفكيرٍ وفهمٍ خارجَ فضاء الدين أو انشغالٍ
بتعلُّم شيءٍ غيرِ دينيٍّ يُقلِق الناس، لفَرْط
ما ألِفوه من احتكارِ الدين لفهمِ وتفسيرِ كلِّ
شأنٍ ديني ودنيوي، إلى الحدِّ الذي صار فيه
الدِّينُ ونصوصُه بوابةَ الفهم والتفسير
الوحيدة لكلِّ شيءٍ في السماء والأرض، وأمست
تفسيراتُه للاهوت والناسوت من البداهات
الراسخة.
اتسع مفهومُ «الإنسانيَّة» بمرور الوقت؛ فلم
يعُد يقتصر على التخصُّص في لغاتِ المجتمعات
القديمة ودراسةِ فلسفتها وآدابها وعلومها
ومعارفها، بل صارت «الإنسانيَّة» حسب لالاند:
«تدلُّ على تصوُّرٍ عامٍّ للحياة؛ فهي تقوم على
الاعتقاد بخلاص الإنسان بالقوى البشريَّة
وحدِها. وهذا اعتقادٌ يتعارض بشدَّة مع
المسيحيَّة، التي كانت في المقام الأوَّل هي
الاعتقاد بخلاص الإنسان بقدرة الله وحده وبالإيمان.»
١٠ وهو يعني أن فكرةَ «الإنسانيَّة»
كأيَّة فكرةٍ ينتجها البشرُ في التاريخ، فحين
تظهر، في زمان ومكان ومجتمع، تتطور دلَالَتُها
ويتجذَّر معناها ويتبلوَر، وتتنوَّع مصاديقُها
وتتعدَّد على وَفْق مراحلِ صيرورتِها
المجتمعية، واستمراريتِها وتواصلِ حضورها في
المجالات المختلفة.
لم تحتفظ دلالة «الإنسانيَّة» بمعناها كما هو
لحظة البدايات، بوصفها تمثِّل اتجاهًا لغويًّا
أدبيًّا جماليًّا يهدف لإحياء التراث اليوناني
والروماني، بل اكتسب ذلك المعنى مضمونًا
فلسفيًّا يتحدث لغةَ العقلانية النقدية، ويكتسي
منطقَ التنوير ومقولاتِه ورؤيتَه للعالَم،
وواصل معنى «الإنسانيَّة» صيرورته تبعًا لما
ينعكس عليه من إضافات ومكاسب الفلسفة وعلوم
الإنسان والمجتمع ورؤية العالَم المتغيرة من
عصر إلى آخر. وتنوَّع معنى «الإنسانيَّة» تبعًا
لتنوُّع الموقف الميتافيزيقي، وكيفية فهم
الطبيعة الإنسانية، ونمط الرؤية للعالَم. يقول
رالف بارتون بري: «ليس هناك من تعريفٍ دقيق،
منطقيًّا كان أم رياضيًّا للمذهب الإنساني؛ فإن
المعاني المختلفة التي ارتبطَت بهذا التعبير ما
هي إلا انعكاساتٌ لتفكير حِقَبٍ مختلفة من
تاريخ الإنسانية، ولمضامينَ شخصيةٍ واجتماعيةٍ متنوعة.»
١١ ويرى هيدغر: «إذا كنا نفهم من
النزعة الإنسانية بوجهٍ عام الجهدَ الراميَ إلى
جعل الإنسان حرًّا من أجل إنسانيته، وإلى
تمكينه من اكتشاف كرامته، فإن النزعات
الإنسانية ستختلف حسب التصوُّر الذي يكون لدينا
عن الحرية وعن طبيعة الإنسان، وستتباين بنفس
الكيفية وسائل تحقيقها؛ فالنزعة الإنسانية لدى
ماركس لا تتطلَّب أية عودة إلى القديم، تمامًا
كما هو الشأن بالنسبة للنزعة الإنسانية التي
يتصوَّرها سارتر تحت اسم الوجودية، وبالمعنى
العام المشار إليه سالفًا تكون المسيحية أيضًا
نزعةً إنسانية، من حيث إن كل شيء في مذهبها
يرتبط بخلاص النفس وإن تاريخ الإنسانية يندرج
في إطار تاريخ الخلاص. غير أنه مهما اختلفَت
أشكال النزعة الإنسانية من حيث الهدف والأساس،
والصيغة ووسائل التحقيق، تتفق رغم ذلك حول هذه
النقطة وهي كون إنسانية الإنسان الإنساني تكون
محدَّدةً انطلاقًا من تأويلٍ وُضِعَ قبلًا:
للطبيعة، للتاريخ، للعالم، لأساس العالم؛ أي
للموجود في كُلِّيته.»
١٢
بداياتُ النزعة «الإنسانيَّة»
كانت بداياتُ النزعة «الإنسانيَّة» أدبيةً،
لكنها تمدَّدَت بالتدريج فاستوعبَت الفلسفةَ
والعلومَ والفنونَ والمعارفَ البشرية
المتنوِّعة، واللاهوتَ وكلَّ ما يتصل بالمعارف
الدينية. أعلن الإنسانيون موقفَهم الواضحَ الذي
أعاد الثقةَ بقدرةِ العقل والاهتمامِ بدوره
البنَّاء في حياةِ الإنسان وتكوينِ معارفِه
وخبراتِه المتنوِّعة، واستوعب مفهومُ
«الإنسانيَّة» بالتدريج القيمَ الأخلاقيةَ،
والحقوقَ البشريةَ التي يستحقُّها كلُّ إنسان
بوصفه إنسانًا، من دون نظر لجنسه أو معتقَده أو
هُويَّته العِرقية. وتمادى بعضُ الإنسانيِّين
في تشديدِهم على استغناءِ الإنسان واكتفائِه
بذاته، والإعلاءِ من قيمته والارتقاءِ به إلى
الحدِّ الذي يضعه فوق كلِّ شيء، بالنحو الذي
صادر فيه الإنسانُ مكانةَ الله في
العالَم.
بموازاة ذلك اهتم إنسانيَّون آخرون باستردادِ
القيمة المهدورة للإنسان، لكنهم لم ينصِّبوا
الإنسانَ بديلًا لله في العالَم. ومع أنهم
وضعوا الدينَ في حدودِ اللاهوت ومعارفِ الدين
الخاصة، ورفضوا مصادرتَه للعلم والأدب والفن،
لكنهم رفضوا أيضًا الدعوةَ لاستغناءِ الإنسان
واكتفائِه بذاته، وتنبَّهوا إلى أن الإنسانَ
يظل بحاجةٍ أبديةٍ إلى صلةٍ بوجودٍ مُطلَق
يتخطَّى وجودَه الشخصي، تتكرَّس به كينونتُه،
ويمنح حياتَه معنى وجوده المُولَع باكتشافه؛
ذلك أن «فكرة الاكتفاء الذاتي للإنسان التي
تقوم عليها الإنسانيَّة العلمانيَّة، لا
تستطيع اكتشاف الغاية النهائيَّة ولا المُثُل
العليا؛ وبالتالي لا تقدِّم أساسًا لتحقيقها،
بينما الدين، لكونه يربط بين المبدأ المنظِّم
للوجود وبين الغاية النهائية، يصبح بمقدوره
تأسيس المُثُل العليا؛ أي تأسيس القِيَم ومنح
المعنى للوجود الإنساني؛ ذلك أنَّ التفسير
الطبيعي للوجودِ الإنسانيِّ يقدِّم صورةً جزئية
عنه، بينما الجزء الآخر الروحي أو المعنوي أو
القِيَمي يتطلَّب تفسيرًا متجاوزًا لذلك …
القصور الأساسي في الإنسانيَّة العلمانيَّة
يكمُن في تصوُّرها أن الحاجاتِ العميقة للإنسان
يُمكِن تلبيتُها من خلال إمكاناته الذاتيَّة
وحدها … إنَّ ما يمجِّده الإنسانيُّون
العلمانيُّون من قِيَم، كالعدالة والكرامة
الإنسانيَّة والرقيِّ الإنسانيِّ، فإنَّهم
بذلك يمجِّدون قيمًا مستمدَّة من التراث
القديم، بما فيه التراث اليهودي والمسيحي؛ ذلك
أنَّ الأنبياء هم أنفسهم أبطال العدل
الاجتماعي. وحينما يذهبون إلى أنَّ الوجود ليس
له علَّة أو غايةٌ نهائيَّة، فإنَّهم لا
يستدلُّون على ذلك عقليًّا، ولا من خلال
التحليل المنطقي، رغم أنَّهم يتصوَّرون أنَّ
العقل والمنطق إلى جانبهم، فالعقل بالنسبة لهم
يتخلل العالَم الطبيعي كله، لكنه يختفي حينما
يتعلق الأمر بالمبدأ المفسِّر لوجود هذا
العالَم الطبيعي، بينما التفكير المنطقي يقضي
بأنَّ هذا الوجود لا بد أن تكونَ له علَّةٌ
كافيةٌ لوجوده، وهي علَّة وإن استعصت على
الإثبات، إلا أنها لا تتنافَى مع العقل.»
١٣
وعلى الرغم من أن الإنسانيين الروَّادَ كانوا
مؤمنين بالدين المسيحي، بل كان إيراسموس
الهولندي (١٤٦٩–١٥٣٦م) لاهوتيًّا ومترجمًا
للكتاب المقدَّس، وحاول أن يقدِّم قراءةً
جديدةً للإنجيل تضع المسيحيةَ أفقًا لديانةٍ
عالمية. يصف هاشم صالح إيراسموس بأنه: «الشخصية
التي جسَّدَت مُثُلَ عصر النهضة والنزعة
الإنسانية في أرقَى تجلياتها، ولكن لا يفهمنَّ
أحدٌ من هذا الكلام أنه كان مضادًّا للدين. على
العكس، لقد كان مؤمنًا مستنيرًا راسخ الإيمان،
ولأنه كان مستنيرًا فإنه وقع في صدام مع رجال
الدين في عصره؛ أي مع جمهور الكهنة والرهبان
الذين كانوا يشكِّلون عددًا غفيرًا في ذلك
الزمان، وأكبر بكثير مما هو عليه الحال في
أوروبا الحديثة الحاليَّة.»
١٤ وكان الإيطالي فرانشيسكو بترارك
(١٣٠٤–١٣٧٤م) يرى للسيد المسيح مكانةً ساميةً
يتفوَّق فيها على غيره، إلا أن إنسانيِّين
آخرين دعَوا في وقتٍ لاحقٍ إلى «إنسانيَّة»
بعيدةٍ عن الدين، فاتخذَت الدعوةُ ﻟ
«الإنسانيَّة» لنفسِها مسارَين هما:
تنوُّعُ ترجماتِ مصطلح
Humanism
بالعربية
تنوَّعَت بالعربية ترجماتُ هذا المصطلح،
فترجمه عبدُ الرحمن بدوي ﺑ «النزعة الإنسانيَّة».
١٦ وترجمه هاشم صالح وغيرُه في كتابات
محمد أركون إلى: «نزعة الأنسنة»،
١٧ و«الفلسفة الإنسانيَّة»، و«النزعة
الإنسيَّة»، و«الاتِّجاه الإنسيِّ».
١٨ وترجمه حازم خيري إلى «الأنسنيَّة»،
١٩ ووردَت ترجمتُه في موسوعة أندريه
لالاند الفلسفية إلى «الإنسانويَّة».
٢٠
اعتمدتُ في كتاباتي ترجمةَ «النزعة الإنسانيَّة»،
٢١ لأن كلمةَ الإنسان والإنسانيِّ
والإنسانيَّة هي الأكثرُ تداولًا في اللسان
العربي أمسِ واليومَ؛ إذ وردَت كلمةُ
«الإِنسَان» مثلًا في القرآن ٥٦ مرَّة، ووردَت
«الإنس» ١٤ مرَّة، فيكون مجموعهما ٧٠ مرة.
وقلَّما وجدتُ لكلماتِ الأنسنة والإنسيَّة
والأنسنيَّة حضورًا في اللسان العربي، فلم أعثر
عند البحث في أكثر معاجم اللغة العربية على
كلمات: «الأنسنة والإنسيَّة والأنسنيَّة»، وإن
كنتُ لا أرى ضرورةً لأن يكون للكلمةِ المنحوتة
أصلٌ قديمٌ في اللغة؛ لأن كلَّ لغةٍ حيَّةٍ
كائنٌ حي، وأجزاءُ كلِّ كائنٍ حي في حالة موتٍ
وخلقٍ مستمر.
إن الاستعمالَ الواسعَ لكلمة «الإنسانيَّة»
دعاني لاعتمادِها، مع أن كلمةَ «الأنسنة» هي
الأقربُ والأكثرُ دلالةً على ما يتضمَّنه
المصطلحُ من معنًى؛ لأن كلمةَ «أنسنَ» تؤشِّر
إلى الفعل الذي يدلُّ على الارتقاءِ بمكانةِ
العقل وتهذيبِ الكائن البشري وتثقيفِه، كما
نصَّت معاجمُ اللغة على معناها: «أنسنَ
الإنسانَ ارتقَى بعقله فَهَذَّبه وثَقَّفه، أو
عامله كإنسانٍ له عقلٌ يميِّزه عن بقيَّة
المخلوقات. وأنسنَ الحيوانَ شبَّهَه بالإنسان.»
٢٢
تُستعمل «الإنسانيَّة» أحيانًا بمعنًى عاطفي
يُشير لمشاعر الشفقة والعطف والرحمة، وهذا
المعنى أضيق من المعنى الفلسفي الذي يدُل على
العقلانية النقدية، والمعنى القِيَمي الذي يدُل
على المضمون الروحي والأخلاقيات المشتركة بين
البشر، والمعنى الذي يشي برؤيةٍ جمالية
للعالَم.
تعني «النزعةُ الإنسانيَّة» في مفهومِي
النظرَ لذلك الجوهر الواحد الذي يشتركُ فيه
كلُّ كائنٍ بشري مع غيره، والمتمثِّل فيما
يصيِّر كلَّ إنسانٍ إنسانًا. بمعنى ما يكون به
الإنسانُ إنسانًا بغضِّ النظرِ عن أي شيءٍ آخر
يتدخل في تصنيفِه عِرقيًّا أو جغرافيًّا أو
اقتصاديًّا أو ثقافيًّا أو دينيًّا. الإنسانُ
يستمدُّ قيمتَه ومكانتَه ومسئوليتَه من كونه
إنسانًا لا غير. ومعيارُ المصداقية الأخلاقية
والموقفُ الإنسانيُّ لأيِّ دينٍ أو مُعتقَد أو
نظامٍ اجتماعي يعتمد في قدرته على النظر
للكائنِ البشريِّ بوصفه إنسانًا من دون اعتبارٍ
لما هو خارج إنسانيَّته، والتعاطي معه بعيدًا
عن أيِّ تصنيفاتٍ تفرضها الهُوِيةُ وحدودُها
الرمزية التي تصنَعها الإثنيةُ واللونُ والجنسُ
والجغرافيا والثقافة والمعتقَد.
منذ القرنِ الثامنَ عشرَ تغلَّبَت «النزعةُ
الإنسانيَّة» ذات البُعد الواحد؛ لأنها كانت
محصلة تعريفٍ للإنسان لا يتحسَّس الظمأ
الأنطولوجي للكائن البشري، ولا يُدرِك حاجة هذا
الكائن العميقة لتكريس وجوده الفقير بالاتصال
بالوجود المطلق. أنتَج ذلك التعريفُ
«إنسانيَّةً» تنظر للإنسان وكأنه شيءٌ من
الأشياء الموجودة في الطبيعة، وانتهى إلى:
«تشيُّؤ الإنسان واغترابه»،
٢٣ بعد أن تحوَّل الإنسانُ إلى أداةٍ
تخضع لمتطلبات الماكنة وما تفرضه قوانينُ العمل
والإنتاج الصناعي والتسويق، وما تحدِّده
معاييرُ الكفاءة والجودة والنجاح، التي يختصرها
كلَّها الربحُ المادي لا غير. لم تنشغل
«النزعةُ الإنسانيَّة» بالقلق الوجودي للإنسان
ويأسه وسأَمه وتشاؤمه وانعدام المعنى لحياته،
لم تتبصَّر هذه الإنسانيَّةُ احتياجاتِه
الروحية والنفسية والعاطفية المزمنة. استعبد
نمطُ الإنتاج الصناعي الإنسانَ، بالشكل الذي
أضحت فيه الأداةُ هدفًا للحياة، عندما أصبح
الإنسانُ الذي صنع الماكنةَ عبدًا لها.
«النزعةُ الإنسانيَّة» لا تكتمل وتحصُد
ثمارَها الناضجةَ إلا بإعادة تعريف الإنسان
بوصفه الكائنَ الذي ينفرد عن كلِّ المخلوقات في
الأرض بنوعِ وجوده، وهو نوعُ وجودٍ هَش لا يشبه
فيه الإنسانُ إلا نفسه، ولا يُسكِن هذه
الهشاشةَ إلا الإيمان. في ضوء هذا الفهم
للإنسان يكون الإيمانُ هو البُعدُ المنسيُّ
الذي يتكرَّس فيه وجوده، وتتحقَّق فيه
إنسانيَّةُ الإنسان بالمعنى الذي نعبِّر عنه ﺑ:
«الإنسانيَّة الإيمانية».