(٢) الإنسانيَّةُ الإيمانية

ما أعنيه ﺑ «النزعة الإنسانيَّة» لا يرادف المصطلحَ الذي ظهر في العصر الحديث تمامًا، وإن كان يلتقي معه في أكثر دلالاته، كالتشديدِ على مرجعيةِ العقل، وإعادةِ الاعتبار للآدابِ والفنونِ والعلومِ والمعارفِ البشرية ومهمتِها العظمى في بناءِ الحياة وتطوُّرِها. وهو مفهومٌ متصالح مع الدين، وإن كان لا يقبل بتأميمِ الدين ومصادرتِه لكافَّة أشكال المعرفة البشرية.

«النزعةُ الإنسانيَّة» في مفهومي تعني «إنسانيَّةً إيمانيَّةً، وإيمانيَّةً إنسانيَّة»، وهي مختلِفةٌ عن «الإنسانيَّة غيرِ الإيمانية» التي لا تعبأ بالإيمان، ويتحدَّث عنها بعضُ المفكِّرين في الغرب والشرق، وتتمحور فيها الأنسنةُ حول مركزيةِ الإنسان، وتنصيبِ الإنسان بديلًا لله في كلِّ شيء في العالَم، حتى تنتهي إلى نسيانِ اللهِ وتأليهِ الإنسان. إنكارُ وجود الله، أو عزلُ اللهِ وتنصيبُ الإنسانِ سيِّدًا للعالَم، ينتهي إلى تهافُتٍ واضح؛ لأن الإنسان عاجزٌ عن اكتشاف كلِّ شيء في المجموعة الشمسية، ويتعذَّر عليه اكتشاف المجرَّات المدهشة في الكون، مهما تطوَّر العلم وأدواته. «أن نقولَ بمذهبٍ إنساني ملحد فهذا ضربٌ من التناقض؛ لأنه إذا انتفَى وجودُ الله انتفَى بالتالي وجودُ الإنسان.» كما يقول علي عزت بيغوفيتش. الإنسانيَّةُ الإيمانية لا تُولَد وتُنجِز وعودَها إلا عند إيقاظ العقل وإعادة تعريف الإنسان، كلُّ واحدٍ منهما يشكِّل مرتكزًا أساسيًّا لانبثاقها وتطوُّرها ورسوخها.

أولًا: إيقاظ العقل

يقترن ازدهارُ النزعةِ الإنسانيَّةِ في أيَّة حضارة بازدهارِ التفكيرِ الفلسفي وجُرأتِه في مُسَاءَلة ما هو منسيٌّ أو مُغلَقٌ أو ممنوعٌ في التفكير، واعتماد العقل مرجعية في الفهم والتفسير والنقد والتمحيص والحكم. فاعليةُ العقل شرطُ فاعلية «النزعة الإنسانيَّة»؛ إذ لا تستفيقُ هذه النزعةُ في مجتمعٍ ما زال عقلُه في حالةِ سُبات، يقظةُ العقل ضرورةٌ ليقظةِ «النزعة الإنسانيَّة». العقلانية النقدية شرط انبثاق الإنسانيَّة الإيمانية؛ لأنه لا ينبعث العقلُ وتتحقَّق فاعليتُه إلَّا بمساءلةِ قضايا مصنَّفةٍ من الثوابتِ الأبدية والبداهات التي لا تخضع للمراجعة والنقد، عندما تبلغ فاعليةُ العقل درجةً تخضع فيها الثوابتُ والمسلَّمات للمساءَلة تنبثقُ حينئذٍ «النزعةُ الإنسانيَّة».

العقلانية النقدية شرطُ ولادةِ النزعة الإنسانيَّة، وشرطُ الاعترافِ بإنسانيَّة الإنسان. العقلُ يفضحُ كلَّ تمييزٍ يتعرَّضُ له البشر، عندما يجري تصنيفُهم على أساس هُويتِهم العرقية أو جنسِهم أو دينِهم، وكلِّ تصنيفٍ يجعلُ بعضَهم فوقَ بعض، فيضع جماعةً في مرتبةٍ ساميةٍ ويمنحها المزيدَ من الحقوق والحريات، فيما يهبط بأخرى إلى مرتبةٍ دنيا ويسلبها الحقوقَ والحرياتِ التي يستحقها كلُّ إنسان بوصفه إنسانًا. العقلُ يكشف عن أن كلَّ التصنيفاتِ التراتبيةِ للبشر، وكلَّ ما تصنعه الهوياتُ المُغلَقةُ والمعتقَدات من تمايُزاتٍ، يعبِّر عن انتهاكٍ لإنسانيَّة الإنسان، وإهدارٍ لكرامته التي هي المكوِّنُ الأساسُ لكينونتِه الوجودية، والأفقُ الذي تتجلَّى فيه هُويتُه الإنسانيَّة.

النزعةُ الإنسانيَّةُ تهتمُّ بالتنوُّع، وتتعاطى معه بوصفه قيمةً أساسيةً تعمل على ترسيخِ بنيةِ المجتمع، وتكفُل الحقَّ في الاختلاف، وتتعاطى معه بوصفه ضرورةً لكلِّ أنواع الإبداع الخلَّاق، وإثراءِ الحياة المعنوية والقِيَمية والاجتماعية والسياسية والثقافية.

ثانيًا: إعادة تعريف الإنسان

(أ) مفهوم الإنسان في التراث

الإنسانُ ليس حيوانًا ناطقًا كما يُنقَل عن المعلِّم الأول أرسطو، والذي يريد به حيوانًا عاقلًا. هذا التعريف اختزل معرفةَ الإنسان وفهمه وأحكامه في العقل، بالمعنى القديم الذي ترسَّخ للعقل في الفلسفة اليونانية، على الرغم من أنَّ كثيرًا من سلوك الإنسان ومواقفه وكلماته لا تخضع للعقل بشكلٍ ميكانيكي؛ لأنها مثلما تصدُر عن العقل تصدُر أيضًا عن الأحكام الذهنية المسبقة والمصلحة والعاطفة واللاوعي والمتخيَّل. «كاتب هذه السطور أمضى سنواتٍ عديدة من حياته في تدريس المنطق الأرسطي، حتى كاد يحفظه عن ظهر قلب، بعد أن انشغل بتدريسه ١٢ مرةً متوالية.»

تعريفُ الإنسانِ ﺑ «الحيوان الناطق» يختزلُ الإنسانَ ببُعدٍ واحد هو العقل بالمعنى الموروث للعقل عن أرسطو، وقد تحوَّل ذلك المعنى إلى منبع لفهم شخصية الإنسان، واكتشاف طبيعته، وتفسير سلوكه، والحكم على مواقفه، وتفسير الأقوال والأفعال والأحكام والتعبيرات المتنوِّعة الصادرة عنه. ولبث هذا التعريفُ محورًا أساسيًّا تشتق منه العلوم والمعارف والنظريات والتفسيرات لفهم الإنسان وكيفية عمل ذهنه وقرارته ومواقفه وسلوكه، وما زال هذا التعريف للإنسان تصدُر عنه وتتخذه مرجعيةً علومُ الدين ومعارفُه، وتتعاطى معه بوصفه إحدى البداهات غير الخاضعة للمساءلة والتشكيك وإعادة النظر، وكأنه حقيقةٌ أبدية. ‏المفهوم الأرسطي للعقل والعقلانية والعلم واليقين والإنسان وكل ما يتأسَّس عليها ما زال يمثِّل بِنيةً تحتية صُلبة مغلَقة لعلوم الدين الإسلامي.

لكلِّ عصر عقلانيتُه، ولكلِّ عصر معارفُه وعلومُه. تطوُّر العلم في الوقت الذي هو تراكمي هو تجاوزي أيضًا. الفلسفة اليونانية بعضها ما زال حاضرًا، وربما يمكث طويلًا. ‏منطق أرسطو من عوامل ركود العقل وانغلاقه في الإسلام، بوصفه بنيةً صلبة مسدودة، يتعذَّر أن يخرج التفكير عنها. وَرِثْنا من أرسطو اليقين، اليقينُ حلقةٌ مغلقة تنفي التساؤلَ والتشكيك. ‏وذلك يُجهِض كل محاولة للعقل للتفكير في آفاقٍ رحبة خارج الجَزْميات واليقينيات. التفكير يبدأ بالتساؤلات والشكوك، ‏ولا شك ولا تساؤل مع اليقينيات.

كما وَرِثنا من أرسطو مفهومَ العقل والعلم والإنسان أيضًا. مفهومُ الإنسان صار موضوعًا مركزيًّا في تراثنا، وهذا المفهوم لا يغوص في أعماق الطبيعة الإنسانية. ‏نقرأ في علم الكلام والفقه والأخلاق والتصوف ‏وغيرها من المعارف في تراثنا البناءَ على تعريف الإنسان المستعار من أرسطو، وذلك ما أنتج مقولاتٍ اعتقادية وأحكامًا ومواعظَ ضد الطبيعة الإنسانية.‏

‏ ‏ لو تجاوزنا التعريفَ المتوارث للإنسان ونظرنا إليه في ضوء تفسيرات الفلاسفة وعلماء النفس وغيرهم في العصر الحديث لتبدَّلَت كثيرٌ من المقولات الاعتقادية في علم الكلام وبعض الأحكام الفقهية والمواعظ الأخلاقية ونمط التربية الصوفية على العبودية الطوعية.

وكان مفهومُ أرسطو للعقل وتعريفُه للعلم منبعًا لتشكُّل الفلسفة وعلم الكلام وعلوم الدين عند المسلمين. الفلسفةُ الحديثة والمعاصِرة كشفَت عن أن الذهنَ ليس آلةَ تصويرٍ صمَّاء صامتة، يعكسُ الواقعَ كما لو كان آلةَ تصويرٍ فوتوغرافية، كما يرى أنصار المنطق الأرسطي. الذهنُ يعالِجُ المعطيات التي يتلقَّاها فيصوغها في إطار: مقولاته، ورؤيته للعالم، وأحكامه السابقة، وأُفق انتظاره. كذلك أوضحَت الفلسفةُ الحديثة والمعاصرة أن العقل هو معقولاته، ومعقولات كلِّ عقل ليست خارج تاريخه وتاريخها؛ أي إن عقلَ أَمْسِ معقولاته هي معطياته ومقولاته ومفاهيمه وأحكامه ورؤيته للعالَم أمسِ، وهي لا تتطابقُ بالضرورة مع عقلنا اليوم. العقلُ هو معقولاته حيثما صارت ماهيتُها، وتشكَّلَت صورتُها، يصير هو، هي تصُوغه طبقًا لها، وهو يصوغها طبقًا له.١

في ضوء ما قاله أرسطو تشكَّل علمُ الكلام الإسلامي، ومنه انبثقَت رؤيتُه لله والإنسان والعالَم، وفي إطاره تمَّ إنتاجُ مختلف علوم الدين ومعارفه، وعلى أساس بِنْيته انبثق التفكيرُ، ولبثَت مدارسُ ومعاهد التعليم الديني أسيرةَ الفهم المشتقِّ من تعريف أرسطو للإنسان والعلم والعقل واليقين.

المنطقُ الصوري هو الأساس الذي ابتنَتْ عليه علوم الدين ومعارفه في الإسلام. يقينياتُ أرسطو أغلقَت باب التساؤل والشك في العقل المسلم، وحوَّلَت مقولات الفرقة الناجية وغيرها من عقائد إلى جزميَّات لا يشوبها أيُّ شك، فكان ذلك اليقين الذي لا يتزلزل وما زال هو الدافع لقتل المختلِف في المعتقَد، ولموتِ مَنْ يعتنق هذا المعتقَد ذَوْدًا عنه.

أحترم عقلانية المعتزلة وأُثني عليها في عصرها بوصفها كانت اختراقًا لافتًا لجمود وتحجُّر أهل الحديث وغيرهم، وهكذا أحترم روحانيةَ ابن عربي بوصفها كانت اختراقًا لانغلاق المتكلمين وإهدار تَوْق الروح وأشواق القلب. تحدَّثتُ عن ذلك في أكثر من مناسبة: إن عقلانية المعتزلة مرآة عصرهم، وهي تختلف عن عقلانية العصر الحديث. عقلانية المعتزلة أرسطية، وعقلانية العصر الحديث كانطية. وهكذا روحانية ابن عربي مرآة لعصره، وتشديد الطريقة الأكبرية في التصوف على جَلْد الجسد ضد الطبيعة البشرية، ومتطلَّباتُ روحانية اليوم لا تتطابق بالضرورة مع روحانية ابن عربي.

لم تتقدَّم العلومُ وينضَج العقلُ ويتكامل في العصر الحديث إلا بعد أن تفلَّتَت المعرفةُ البشرية وخرجَت على التفسير اليوناني القديم للعقل، وغادرَت تعريفَ أرسطو للإنسان والعلم والعقل وطرق استدلاله، واكتشفَت طرائقَ تفكير لا تستنسخ ذلك الفهم للإنسان، وتتمرَّد على أشكال القياس واليقين الذي تُنتِجه طرق الاستدلال الموروثة في منطقه. أبصَر العقلُ النورَ بعد أن خرج من كهوف أرسطو وأتباعه من الفلاسفة واللاهوتيين، ومارَس الفهمُ والتفكير والاستدلال حريتَه خارج الفضاء المسدود ليقينيات أرسطو التي لَبثَ فيه قرونًا طويلة.

لم يتشكَّل العقلُ الحديث إلا بعد أن قوَّضَت الفلسفةُ الحديثة المنطقَ الصوري وفكَّكَت بداهات أرسطو وكشفَت عدم يقينيتها، وأعادت غربلةَ وتمحيصَ ما ورثَتْه من تراث اليونان، وتجاوزَت مقولاتِ الفلاسفة القدماء عن الإنسان. هكذا وُلِد العقل الحديث وتكرَّس، بعد أن أضاءت الفلسفةُ وعلمُ النفس والعلوم الإنسانية ومختلف العلوم والمعارف الحديثة طبيعةَ الإنسان وعرَّفَته في ضوء المعطَيات الجديدة، وأعادت النظر في تعريف العلم ومفهوم العقل والبداهات. العقلُ كائنٌ تاريخي، يتطورُ ويتكاملُ تبعًا لنوع معقولاته وتكامل وعي الإنسان بالطبيعة وبذاته وبالإنسان الآخر. مفهوم العقل متنوِّع ومتعدِّد. العقل في مفهوم الفلاسفة يختلف عن مفهومه عند المتكلمين وعند علماء النفس، وهكذا يختلف مفهومه باختلاف الفلاسفة. العقل في مفهوم أرسطو يختلف عن مفهومه عند كانْت، والعقل في مفهوم فرويد يختلف عن مفهومه عند أرسطو وديكارت وكانْت وكل الفلاسفة.

كان فرنسيس بيكون (١٥٦١–١٦٢٦م) أكثر فلاسفة العصر الحديث شجاعةً عقلية؛ فهو الرائد في تحطيم هالة أرسطو وزعزعة أسس منطقه وقوالب التفكير والاستدلال المعروفة عنه. لا يكتمُ بيكون غضبه ضدَ أرسطو: «إنني غاضب على أرسطو؛ لأنه ربَّى إمبراطورَين اثنَين! أما الأول فقد تمدَّد على الجغرافيا وهيمَن على ما فيها من دول وشعوب! وأما الثاني فقد تمدَّد على العقول وهيمَن على ما فيها من اختلاجات وأفكار. وأقصد بهذَين الإمبراطورَين المستبدَّين؛ الإسكندر المقدوني، والمنطق الصوري … فإن هذا المنطق الأرسطي سيُسيطِر على العقول طيلة أزيد من ألفَي عام.»٢ وأعاد رينيه ديكارت (١٥٩٦–١٦٥٠م) النظر في يقينيات أرسطو والفلسفة اليونانية الراسخة، وانطلق لبناء تفكيره الفلسفي من «الكوجيتو»، الذي يوجزه في عبارته الشهيرة: «أنا أفكر إذن أنا موجود»، وكان ديكارت أبرز ناطق باسم عقلانية القرنِ السابعَ عشرَ الميلادي. بدأ ديكارت صناعة العقل الحديث بالشك في كل شيء، شك حتى في وجود ذاته، لكن تنبَّه إلى أنَّ «الشك تفكير»، والتفكير لا بد أنْ يصدر من ذاتٍ موجودة تفكِّر، فقال: «أنا أشك، إذن أنا موجود.» هذا هو «الكوجيتو Cogito» الديكارتي الذي صنع العقل الحديث في الغرب. الشك نسمِّيه «شبهة»، والشبهات ملعونة في تراثنا الديني؛ لذلك فإن كل من يشُك فهو ملعون؛ لأنه يضلِّل الناس. البرهان الأرسطي المبني على اليقين ونفي الشك أغلق العقل وعطَّل عملية التفكير في أكثر علوم الدين ومعارف المسلمين، بعد أن تسيَّد هذا المنطق وتشبَّعَت به كلُّ حقول التراث صار مرجعيةً نهائية سجنَت العقل في مداراتٍ مسدودة. إن تم تدجين العقل على ذلك، فلا يلبث إلا أن يصير في حالة سُباتٍ بحياة الناس المدجَّنين، عندئذٍ لا تُوقِظه إلا الصدمات العنيفة. الموقف المناهض للفلسفة للحديثة مناهضٌ للتساؤل والتفكير النقدي، وهو المسئول الأول عن مأزِق العقل المسلم وغيابه عن عالمه وعصره منذ عدة قرون. هذا الموقف مناهِضٌ للتفكير النقدي وللأسئلة الوجودية الكبرى. يتحقَّق العقل بشغَفه بالمعرفة؛ لذلك يظل في رحلةِ اكتشافٍ أبدية، وذلك الاكتشاف يدعوه ألا يكُف عن التفكير النقدي الذي تتوالد منه مختلف الأسئلة. كل حضارةٍ عظمى صنَعها البشر توالَدَت من رحم الأسئلة. كل إدمانٍ مُؤْذٍ إلا الإدمان على السؤال. لا يُولَد العقل الفلسفي إلا بالتفكير الحر، خارج الأسوار أو الشروط أو الخطوط الحمراء. يتعطَّل العقل الفلسفي إن كان التفكير فيه مشروطًا بأي شرطٍ مهما كان. لا مسلَّمات نهائية في الفلسفة. لا يبدأ التفكير الفلسفي إلا بالأسئلة، والشك في المسلَّمات وما يحسبه الناسُ بداهات، والتي تتوالد من أجوبتها باستمرار أسئلةٌ جديدة.

وجاء ديفيد هيوم (١٧١١–١٧٧٦م) بفهمٍ مختلف لكيفية عمل الذهن يخرج على تلك اليقينيات؛ إذ يقدِّم تفسيرًا لطبيعة الإدراك ومصادر المعرفة يبتعد كثيرًا عن تفسير أرسطو وأتباعه؛ شرَحَه في كتاب «مبحث في الفاهمة البشرية».

توالت التقويضات الفلسفية ليقينيات أرسطو وتفسيره للمعرفة البشرية وفهمه للإنسان، فقدَّم إيمانويل كانْت (١٧٢٤–١٨٠٤م) تحليلًا جديدًا لتشكُّل المعرفة البشرية وكيفية الإدراك والفهم، وكانت فلسفتُه النقدية من أعمق تجليات عصر الأنوار، وما زال كتابُه الكنز «نقد العقل المحض» من أعمق الأعمال الرائدة في نقد وتقويض التفسير المتوارث للمعرفة بتمييزه الدقيق بين: الشيء كما يظهر لنا Phenomenon والشيء في حدِّ ذاته Noumenon. وصار هذا التمييز بين: «الشيء في حدِّ ذاته» و«الشيء كما يظهر لنا» منبعًا لإلهام أكثر الفلاسفة الذين جاءوا بعد إيمانويل كانْت؛ إذ اتخذه كلُّ واحد منهم أُفقًا للكشف عن كيفيةِ حدوث المعرفة وعملِ الذهن، وما يُمكِن أن يترتَّبَ على ذلك من نتائجَ وآثار.

وأضاءت اكتشافاتُ علم النفس الحديث وشروحُه المعمَّقة لأثر اللاوعي الفردي والجمعي آفاقًا جديدة في فهم عقل الإنسان، وتفسير توالُد معرفته، ودوافع قراراته وأحكامه ومواقفه وسلوكه، وهكذا أحدثَت مكاسبُ علم الاجتماع والأنثربولوجيا والهرمنيوطيقا الفلسفية ومختلف العلوم الإنسانية والمعطَيات الجديدة لعلم الأعصاب وغيره رؤيةً مفارِقة لما ورثناه عن المعلِّم الأول والفلاسفة اليونان وأتباعهم.

ربما يظن البعض أن تعريف أرسطو للإنسان والعقل والعلم يتضمَّن كلَّ ما أشرنا إليه، إلا أن هذا غيرُ دقيق؛ لأن ‏اللاوعي اكتشفه فرويد، ‏وكون الشيء في حد ذاته غير الشيء كما يظهر في الذهن، هذا التمييز الذي تأسَّس عليه مفهوم المعرفة والإدراك في العصر الحديث، ‏قال به الفيلسوف كانْت، بتمييزه العبقري بين النومن والفنومن، ولم يتحدث عنه فيلسوفٌ قبل كانْت بهذه الكيفية، وهكذا مفهوم المتخيَّل والأسطورة وغير ذلك، كلُّها مفاهيم شكَّلَت العقل الحديث، وهو مَن أعاد فهمها في ضوء الأفق التاريخي للحديث. لم يفكِّر أرسطو والفلسفة اليونانية بكل هذه المفاهيم بمعناها البديل المختلف للمعنى المتداوَل لديه، ‏بل لم تكُن المعطَيات الحضارية والمعرفية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية تسمح بولادة مثل هذا الضرب من التفكير.

(ب) تعريف الإنسان في ضوء العقلانية الحديثة

في ضوء تلك المعطيات يمكن أن نُعرِّفَ الإنسانَ بأنه: كائنٌ عاقلٌ، عاطفيٌّ، أخلاقيٌّ، دينيٌّ، جماليٌّ، اجتماعيٌّ، تاريخيٌّ. الإنسانُ كائنٌ متفرِّدٌ، يتميَّز عن غيره من الكائنات في الأرض ﺑ: العقل، واللغة، والعواطف، والمخيِّلة، وتذوُّق الفن والاستمتاع بالجمال، ووعي الموت، والشعور بالزمان، والحاجة للأخلاق، والدين، وإنتاج الميثولوجيا، والرموز.

كلُّ إنسان واحدٌ في الوقت الذي هو فيه متعدِّد، ومتعدِّدٌ في الوقت الذي هو فيه واحد. الإنسانُ هو الكائنُ الأكثر غموضًا والأعقدُ والأغربُ، والأشدُّ ألمًا في هذا العالَم. كلما اكتشف الإنسانُ سرًّا، وحلَّ لغزًا في طبيعته، وظنَّ بأنه أدرك حقيقةَ الإنسان بتمامها، رأى سرًّا خفيًّا لم يكُن يعرفُه من قبلُ، فيعود ليُعلِنَ عن جهله بالمعرفة الكاملة لحقيقة الإنسان. ذاتُ الإنسانِ لغزٌ للإنسانِ نفسِه، قبل أن تكون لغزًا لغيره. هذا الكائنُ غامضٌ بطبيعته، مركَّبٌ، طبقاتُه متعدِّدة ومتنوِّعة، قلَّما يتصف سلوكُه بالتناغُم والانسِجام الكامل، وقلَّما ينجو سلوكُه ويتوازن فيكون في مأمن من العثَرات المباغتة، وتخلو أفعالُه من المواقف المتناشزة.

الإنسانُ كائنٌ غريب، تتوحدُ في كيانه: متطلباتُ جسدٍ لكلِّ ما يُشبعُ حاجاته المادية، ومتطلباتُ عقلٍ لكلِّ ما ينشُده من بهجة المعرفة، وشغفٍ باكتشافِ ما حوله من ألغازِ عالمٍ مُجسَّدٍ لا يكفُّ عن الامتدادِ والاتساع، وعالمٍ مجرَّدٍ تظلُّ الأسئلةُ حيال أسراره مفتوحةً على الدوام، ومتطلباتُ نفسٍ لكلِّ ما تبُوح به وتُضمِره من عواطف ومشاعر وأحاسيس وقلق، ومتطلباتُ روحٍ لكلِّ ما تبُوح به وتُضمِره من ظمأ أنطولوجي وأشواقٍ توَّاقةٍ لصلةٍ وجوديةٍ بالمطلق؛ لذلك تنوَّعَت، تبعًا لتنوُّع تلك المتطلَّبات، العلومُ والمعارفُ والآداب والفنون بجوار الأديان والفلسفات.

الطبيعةُ الإنسانيَّةُ ملتقَى الأضداد. عقلُ الإنسان يفكِّرُ في الخيرِ مثلما يفكِّرُ في الشرِّ، وينشغلُ الإنسان بتدبير السلامِ مثلما ينشغلُ بتدبير الحربِ، وينفق جهودَه وحياتَه من أجل تأمين متطلَّبات العيش والحياة الكريمة مثلما ينفق جهودَه وحياتَه من أجل إنتاج أسلحة القتل وأدوات التدمير الشامل، ومثلما يبرعُ في ابتكار وسائل السعادة يبرعُ في ابتكار وسائل الشقاء. وإلَّا فمن أين يأتي كلُّ هذا الكيد والمكر والغدر واللؤم والخيانة، وكلُّ هذه الكراهية والتعصُّب والعدوان والحروب وسفك الدماء، وكلُّ هذا الخراب، وكلُّ هذا القبح والظلام الذي يعبثُ بالحياة؟ وإن كان العقلُ يحاولُ ألا يفضحَ نفسَه؛ لذلك لا يعلن عمَّا يصدرُ عنه من طاقةٍ تدميرية. وكثيرًا ما يتحدَّث ويَعِدُ بما هو بنَّاء وإيجابي، ويتجاهلُ ويهملُ ما هو هدَّام وسلبي.

نمط الحياة الامتلاكي ونمط الحياة الوجودي

يميِّز إريكُ فروم بين نمطَين لحياة الإنسان هما: «نمط الحياة الامتلاكي، ونمط الحياة الوجودي»، ينفي كلُّ واحد منهما الآخرَ لكونه على الضدِّ منه، وتتحدَّد كيفيةُ عيش الإنسان ورؤيتُه للعالَم وطبيعةُ علاقاته بما حوله على أساسهما. نمطُ الحياة الوجودي هو أن يمتلك الإنسانُ الأشياء لا أن تمتلكه هي، ويُشبِع فيها احتياجاته المتنوِّعة بالحدود المعتدلة المتوازنة، ويتركَّز سعيُه في الحياة على عدم خسرانه لذاته وامتلاء وجوده وتكريسه، عبْر بناء صلة لوجوده بالوجود المُسْتَغْنِي عن كل شيء سواه. يصف إيكهارت النمط الوجودي، حسب نقل إريك فروم: «الوجود هو طريقة «طبخ» ﻟ «الولادة الذاتية للذات»؛ أي ذاك الذي «يتدفَّق في ذاته وعلى ذاته».»٣

نمطُ الحياة الامتلاكي كيفيةٌ يختفي فيها وجودُ الإنسان الحقيقي كإنسان، ولا يُعلِن عن حضوره في الحياة إلا كشيءٍ يستهلك الأشياءَ المادية ويتهافَت عليها. تمتلكُ الإنسانَ في هذا الحضور أشياءُ لا يمتلكها، ويقع أسيرًا لها تتحكَّم باحتياجاته وكلِّ شيء في حياته. في هذا النمط تفتقر حياةُ الإنسان لوجودها الحقيقي، بعد أن يستنزفَها امتلاكُ الأشياء، ويُنهِكَها الإفراطُ في استهلاكها.

في نمط الحياة الامتلاكي يظلُّ الكائنُ البشري يلهَث وهو يسعى وراء ما هو ثمين ماديًّا كي يمتلكَه ويستهلكَه، من دون أن يصلَ إلى حالةٍ يمتلكُ فيها شيئًا يشعرُ معه أنه حقَّق ذاتَه واستغنى واكتفى، وارتوى عطشُه للحياة الروحية وللمعنى الأخلاقي والجمالي، مهما كان الشيءُ الماديُّ الذي يمتلكه ثمينًا ونادرًا وغريبًا. يغرقُ هذا الكائنُ كلَّ يوم في الاستحواذ على الأشياء وتكديسها، بلا أن يعثرَ على شيءٍ يرتوي به نهمُهُ، بل إنَّ أفراطَه في استهلاك ما هو خارج احتياجاته الضرورية، يُشعِرُه أنه يُهروِل وراءَ سراب، ويغرقُه في الملَل والسأَم والضجَر وانعدام المعنى، وكلَّما تهافَت على الامتلاك اختفَى حضورُه الفاعل في بناء صورةٍ أجمل للعالَم، وفَشِل في أن يكون سعيدًا بعد خسرانه لوجوده الحقيقي كإنسان.

بعد طغيان واجتياح النمط الامتلاكي لكلِّ شيء في حياة الإنسان أمسَى نمطُ الحياة الوجودي محدودًا. يكتب إريك فروم: «بما أننا نعيش في مجتمع مُوَجه نحو الامتلاك والربح، فإننا لا نرى إلا نادرًا وجود نمط الحياة الوجودية، وترى غالبية الناس أسلوب التملك أسلوبًا طبيعيًّا في الحياة، بل أسلوبًا وحيدًا للوجود. وهذا هو السبب الذي يجعل نمط الحياة الوجودية صعب الفهم من طرف، وكون كلا المفهومين مُتَجَذِّرَيْنِ في التجربة الإنسانية، ولا يمكن دراسة أحدهما بطريقةٍ مجردة مفهومة بمعزل عن الآخر. إنهما ينعكسان في الحياة اليومية، ولهذا السبب يكون في الإمكان دراستهما بالفعل.»٤ نمطُ الحياة الوجودي قليلٌ وليس نادرًا، وإلا فبماذا نفسِّر دوافع العطاء وأعمال الخير في الأرض، البعيدة عن الدعاية والإعلان والإعلام والأغراض غير الإنسانية. ففي الأرض مَنْ يتبرع اليوم بثروة تقدَّر بالمليارات للأعمال الخيرية، يتبرَّع من أجل الإنسان بوصفه إنسانًا وكفى، بلا أن ينظر لمعتقده أو لونه أو جنسه أو ثقافته أو بلده. يُهدِي ثروتَه البالغة عشرات المليارات لدعم النظام الصحي والتربوي والتعليمي في بلدانٍ فقيرة، وغير ذلك من عطاء يجعل عيشَ الناس أسهل وحياتَهم أجمل. هؤلاء الأشخاص يُسعِدهم العطاءُ، تُسعِدهم سعادةُ الإنسان، وتلك هي أسمى المعاني الروحية والأخلاقية التي تتكشَّف في نمط الحياة الوجودي، ولولا ذلك لا نجد مثل هذه المبادرات الإنسانية الأخلاقية.

نمطُ الحياة الامتلاكي تغرقُ فيه مجتمعاتُ التخمة المُترَفة. معظمُ الحاجات في هذه المجتمعات ليست أساسية، تفتعلُها أساليبُ تسويقٍ مراوغة تبرع في غواية الإنسان وغرسِ وتنميةِ شعورٍ كاذبٍ لديه بضرورة الأشياء المعروضة للتسوُّق بأسعارٍ فاحشة، على الرغم من أنها لا تُشبِع حاجةً حقيقية، بقَدْرِ ما تكون أداةً للإشهار وإعلان التميُّز والتفوق.

لا يتمكَّنُ الإنسانُ من الخلاصِ من كثيرٍ من الألمِ إلا بالاستغناءِ عمَّا ليس ضروريًّا في الامتلاك، والكفِّ عن الإفراطِ بالاستهلاك. من أهمِّ بواعث طغيان التباهي والغطرسة في الاستهلاك الجهلُ بطبيعة الإنسان. إعادةُ تعريف الإنسان في ضوء معطيات الفلسفة وعلم النفس والعلوم الحديثة، الذي تحدَّثنا عنه، يُمهِّد لانبثاق حياةٍ روحية وأخلاقية يقظة، ويحمي الإنسانَ من خسران ذاته وإهدار كرامته، والاعتداء على حقوق غيره وحرياته.

نمطُ الحياة الامتلاكي ينتهي إلى ما اصطلحنا عليه ﺑ «الاغتراب الميتافيزيقي» الذي هو ضربٌ من الاغتراب الوجودي يختلف عن اغتراب الوعي والاغتراب الاقتصادي والاجتماعي والنفسي والسياسي. إنه ضياعُ كينونة الإنسان وتشرُّدُها عن أصلها الوجودي. يفتقرُ الإنسانُ في وجوده الفقير المحدود إلى اتصالٍ بوجودٍ غنيٍّ بذاته، وعندما لا تتحقَّق له مثلُ هذه الصلة الوجودية الحيوية يسقطُ في اغترابٍ وجودي. الاغترابُ الميتافيزيقي يعني أن وجودَ الذات البشرية وكمالَها لا يتحقَّقان ما دامت مغتربةً في منفًى عن أصلها الذي هو الوجودُ الحقُّ. الاغترابُ الميتافيزيقي يعني أن وجودَ الذات البشرية وكمالَها لا يتحقَّقان ما دامت مغتربةً في منفًى عن أصلها الذي هو الوجود الإلهي.٥

اقترانُ الإيمانِ بالإنسانيَّة والإنسانيَّة بالإيمان

ضرورةُ اقترانِ الإيمانِ بالإنسانيَّة يعود للحاجة إلى اعتمادِ العقلِ مرجعيةً في فهم الدين، وفهم كلِّ شيء، والاعترافِ بالذات الفردية للكائن البشري، وحمايتِها من أيِّ انتهاكٍ باسم الدين، وعدمِ التضحية بالفردِ لأجل الجماعة، والتشديدِ على صيانة حقوقِ الذات البشريةِ وحرياتِها، واعتمادِ العدل قيمةً عليا في الحياة. كما يعودُ اقترانُ الإيمان بالإنسانيَّة إلى الخلاصِ من القراءةِ الخرافيةِ والمتوحشةِ للنصوص الدينية. القراءةُ المتوحشةُ تبدِّد الإيمان، وتهدر كرامةَ الإنسان وتفتك به. والقراءةُ الخرافية لا تخلو من وثنية، وكلُّ وثنية لا تُهدِر كرامةَ الإنسان وتبدِّد المضمونَ الروحي والأخلاقي للدين فحسب، بل يحتجبُ معها اللهُ عن العالَم، وتنتصبُ بديلًا عنه أوثانٌ تتعدَّد بتعدُّد تلك الخرافات، وهذه الأوثانُ ليست إلَّا آلهةً زائفةً تستعبد الإنسان، بعد أن تشُلَّ عقلَه، وتمزِّق روحَه، وتبذِّر حقوقَه، وتحجُبه عن الإلهِ الرحماني الأخلاقي.

أما ضرورةُ اقترانِ الإنسانيَّة بالإيمان فتعود إلى أن الكائنَ البشري لن يستغني عن الحياة الروحية؛ لذلك كثيرًا ما يقود نسيانُ الله إلى ضَياعِ هذا الكائن، وتخبُّطِه في روحانياتٍ مُستلَبة زائفة، لا تخلو من وثنياتٍ وخرافاتٍ غرائبية، وممارساتٍ هي أقربُ للسحر والشعوذة المبتذلة، كعبادةِ البشر وتأليههم، أو الانصياعِ لضروب من روحانياتٍ عبثية، والشغفِ ببعض أنواع الارتياض العنيف، أو اعتزالِ الحياة والهروب من الأوطان إلى غابات وكهوف وزوايا نائية، والتسليمِ الأعمى لدجَّالين مُشعوِذين، يزعمون أنهم مُلهِمون حاذقون في إيقادِ جذوة الحياة الروحية.

مفهومُ الدين في «الإنسانيَّة الإيمانية» غيرُ الدين المستلَبةِ فيه إنسانيةُ الإنسان. الإيمانُ في «الإنسانيَّة الإيمانية» هو الإيمانُ الحرُّ الذي يقترن فيه الإيمانُ دائمًا بالحرية وليس بالاسترقاق والعبودية. الإيمانُ الحرُّ يحمي الإنسان من الانبهار بالطاغوت والاندهاش بمواهبه الدعائية وعبادته الكاذبة، الإيمانُ الحرُّ يبعث في روح الإنسان الانبهارَ بالله، والابتهاجَ بتجليات جماله في الوجود، وانحصار الثناء والتبجيل والتمجيد والعبادة بالله.

في «الإنسانيَّة الإيمانية» يكون الإيمان حيث تكون الحرية، الحريةُ تقترن بوجود الإنسان وبخَلْق الله له، وإلا فكيف يكون الإنسانُ خليفةً لله من دون أن يكون حرًّا في تسخير الأرض واستثمارها. الصلةُ بالله في «الإنسانيَّة الإيمانية» لا تتأسَّس على الرضوخ والِانسِحاق وإهدار الكرامة، بل تتأسَّس على الحريات والحقوق. الدفاعُ عن الله في «الإنسانيَّة الإيمانية» يبدأ بالدفاع عن كرامةِ الإنسان، وصيانةِ حقوقه، وحمايةِ حرياته؛ إذ لا يمُرُّ الطريقُ إلى الله إلَّا من خلال احترامِ الإنسان ورعايتِه وتكريمِه. الإنسانيَّةُ الإيمانيةُ يتَّحد فيها مسارُ الإيمان بمسارِ حمايةِ كرامة الكائن البشري واحترامِ إنسانيته، بل إن الإيمانَ إنما يتحقَّق ويتكرَّس فيها بالغَيرة على الإنسان.

إنها أنسنةٌ للإنسان بحمايتِه من لا إنسانية البشر، وتحريرِ الإنسان من تعصُّبِ وعدوانِ ووحشيةِ البشر. الإنسانيَّةُ الإيمانيةُ يحيل معناها إلى أن «اللهَ واحدٌ والإنسانَ واحدٌ»، بمعنى أن الإنسانَ يكتسب حقوقَه الطبيعيةَ بوصفه إنسانًا لا غير. وعلى هذا الأساس يبتني مفهومُ المواطنة التي ينبثق منها استحقاقُ كلِّ مواطنٍ لحقوقه الطبيعية والمدنية والسياسية.

في سياق هذا الفهم تكتسب المساواةُ قيمتَها من كونها مساواةً لا غير. وتكتسب الحريةُ قيمتَها من كونها حريةً لا غير. وتكتسب المحبةُ قيمتَها من كونها محبةً لا غير. وتكتسب الرحمةُ قيمتَها من كونها رحمةً لا غير؛ ذلك أن المساواةَ والحريةَ والمحبةَ والرحمةَ قِيمٌ كونيةٌ عابرةٌ للمعتقدات والثقافات والإثنيات والهويات والتاريخ والجغرافيا. ولو لم يستمد الكائنُ البشري حقوقَه من كونه إنسانًا، واستمدَّها من انتمائه إلى إثنية وهوية وثقافة وديانة خاصة، وقتئذٍ يتضخَّم ما هو لا إنساني ليبدَّد ما هو إنساني. وعندما تكون الهويةُ والمُعتقَد والحقوقُ الثقافيةُ والإثنية الخاصَّة أعلى من إنسانية الإنسان تنقلب الهويةُ إلى لا إنسانية تُسجَن فيها القِيَمُ الكونية، ويتحول الإنسان إلى أداة، أما الغاية فهي الهوية والمُعتقَد والإثنية.٦ يقول إيمانويل كانْت: «يُوجَد الإنسانُ وبوجهٍ عام كلُّ كائنٍ عاقل بوصفه غايةً في ذاته، وليس مجرَّد وسيلة يمكن أن تستخدمها هذه الإرادة أو تلك وَفْق هواها؛ ففي جميع هذه الأفعال، كما في تلك التي تخصُّ ذاته والتي تخصُّ الكائنات العاقلة الأخرى، يجب دائمًا اعتباره غاية … وعلى ذلك، فإذا كان لا بدَّ للعقل من مبدأ عملي أسمى، كما لا بدَّ للإدارة الإنسانية من أمرٍ مطلَق، فإنَّ هذا المبدأ يلزم أن يكون بحيث يكون بالضرورة عند تمثُّل ما هو غاية في ذاته غاية لكلِّ إنسان؛ فهو يشكِّل مبدأ موضوعيًّا للإدارة، ويُمكِن بالتالي أن يكون بمثابة قانونٍ عملي كلِّي، وأساس هذا المبدأ هو التالي: إنَّ الطبيعة العاقلة تُوجَد كغاية في ذاتها.»٧

الرؤيةُ للعالَم في الإنسانيَّة الإيمانية تبتني على مركزية الله في الوجود، ومركزيةِ الإنسان في الأرض. مركزيةُ الإنسان في إطار مركزية الله، كما سنشير إلى ذلك في الحديث عن الاستخلاف الذي اختص اللهُ به الإنسانَ دون سواه من المخلوقات، بما يمتلك من عقل وإرادة وحرية وإمكانات وقدراتٍ متنوعة تؤهِّله لهذه المهمة الاستثنائية.

١  الرفاعي، عبد الجبار، مقدمة في علم الكلام الجديد، ٢٠٢١م، دار الشئون الثقافية، بغداد.
٢  ضد أرسطو١-٢، جريدة الخليج ٨ أغسطس ٢٠٠٨م.
٣  فروم، إريك، الامتلاك أو الوجود: الأسس النفسية لمجتع جديد، ترجمة: حميد لشهب، ص٩٣، ٢٠١٩م، جداول للنشر والترجمة والتوزيع، بيروت.
٤  المصدر السابق، ص٤٩.
٥  الرفاعي، عبد الجبار، الدين والاغتراب الميتافيزيقي، ص٢٦٩.
٦  الرفاعي، عبد الجبار، الدين والاغتراب الميتافيزيقي، بيروت، دار التنوير، ومركز دراسات فلسفة الدين، ٢٠١٨م، ص٩٢–٩٤.
٧  كانْت، إيمانويل، أسس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة: فيكتور دلبوس، دولاغراف، ١٩٦٩م، ص، ١٤٨-١٤٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤