(٣) فعلُ الخير ليس مشروطًا
مَنْ يعتنقُ عقيدةً انحصارية، تحصُرُ النجاةَ في الدنيا والآخرة بمعتقَده، ولا ينجو من النار ويدخل الجنة في الآخرة أيُّ إنسانٍ لا يعتقدُ بعقيدته، يكون لديه فعلُ الخير مشروطًا، بنحوٍ لا يصدُقُ عنوانُه وَفْقًا لمعتقَده إلا على مَنْ ينتمي إلى هويته الاعتقادية. هذا الإنسانُ الذي لا يصدُق عنوانُ فعل الخير لديه على أيِّ إنسان لا يعتقدُ بعقيدته، لا يجدُ حافزًا دينيًّا يدعوه لفعل الخير من أجل إنسانٍ مختلف في المعتقَد. فعلُ الخير في نظره يصدُقُ على عنوان الهُويَّة الاعتقادية لا غير، لا على الإنسان بوصفِه إنسانًا. العقيدةُ الانحصاريةُ تفرض على كلِّ مَنْ يعتقدُ فيها أن يعيشَ وذهنُه ومشاعرُه مسجونةٌ داخلَ هُويته الاعتقادية. لا يكون الإنسانُ في هذه العقيدة إلا أداةً تُستخدم لأجلها، كما تُستخدم الأشياء أداة لتحقيق غرضٍ معين.
فعلُ الخير في ضوء الإنسانية الإيمانية
في ضوء مفهومي ﻟ «لإنسانية الإيمانية» يصدق فعلُ الخير على كلِّ عملٍ يساهمُ في احترام كرامة الإنسان بوصفه إنسانًا ورعايته وإسعاده، ويحرصُ على حقوق كلِّ فرد، إلى أي جنس، أو أي دين، أو أية ثقافة، أو أية هوية ينتمي. فعلُ الخير هو كل مسعًى يعمل على بناء الحياة، باستثمارِ قِيَم الخير والحق والعدل والسلام، وتكريسِ ما يُسعِد الإنسان ويجعل العالَم أجمل، ويحرص على نفع الناس وحل مشكلاتهم، بغَضِّ النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع هؤلاء الناس في المعتقَد. عندما تكون الإنسانية هي المنطلق والغاية يصدُق حينئذٍ على كلِّ مسعًى من أجل إسعاد الإنسان أنه فعلٌ للخير.
فعلُ الخير في «الإنسانية الإيمانية» موضوعُه الإنسانُ، يبدأ بالإنسان وينتهي بالإنسان بوصفه إنسانًا، بلا تصنيفاتٍ إضافية أيديولوجية واعتقادية وعِرقية وثقافية وجغرافية تتعالى على حقيقته الإنسانية. الإنسانيةُ وحدها هي مناط التكريم والاحترام، الاهتمام بالإنسان بوصفه إنسانًا بذاته، إنسانًا قبل كل شيء وبعد كل شيء. عندما تكون الغاية هي الإنسان من حيث هو إنسان، وليس الإنسان من حيث هو أداة من أجل عقيدته أو هُويته أو إثنيته، حينئذٍ يكون فعلُ الخير من أجل الإنسان، لا من أجل عقيدة الإنسان. في «الإنسانية الإيمانية» العقيدة هي الأداة والإنسان هو الغاية، العقيدة أداة من أجل احترام كرامة الإنسان وحماية حرياته وحقوقه وإسعاده.
فعلُ الخير في ضوء مقولة الولاء والبراء
إن مقولة «الولاء والبراء» وغيرَها من مقولاتٍ اعتقادية وأحكامٍ فقهية ترسم حدودًا صارمةً لفعل الخير الذي يرضى عنه الله، وهو كلُّ فعلٍ مشروعٍ بالمعنى الذي تضع حدودَه مدوَّنة الاعتقاد، وكلُّ ما لا يرضى اللهُ عنه على وَفْق هذا المعنى لا يكون مصداقًا لفعل الخير. وعلى هذا لا يكون الإنسانُ الذي ينطبق عليه عنوانُ «غير مؤمن» أو «غير مسلم» موضوعًا لفعل الخير والعمل الصالح. لا يُنظر إليه من أجل كونه شريكًا في الإنسانية، ومن دون اهتمامٍ بنوع معتقَده؛ لأن مثلَ هذا الفعل ليس مطلوبًا لله من منظور أكثر متكلِّمي الفِرَق وفقهاء المذاهب.
سبيلُ الله هو سبيلُ الإنسان
عندما لا يكون سبيلُ الإنسان هو سبيلُ الله، ولا يمرُّ الطريقُ إلى الله عبْر الإنسان، عندئذٍ لا ينطبق على كثيرٍ من أفعال الخير عنوانُ «في سبيل الله»، إن كانت من أجل الإنسان بوصفه إنسانًا؛ لأن سبيلَ الله على وَفْق ذلك لا يتَّحد دائمًا مع سبيل الإنسان؛ أي لا يصدُق على فعلِ الخير والعمل الصالح للإنسان غالبًا أنه في سبيل الله إلا عندما يكون ذلك الإنسانُ متحدًا معه في المعتقَد، ومعنى ذلك أن الإنسانَ بوصفه إنسانًا لا غير لا يستحقُّ أن يتعامل معه كما يتعامل مع من ينتمي إلى دينه، ولا ينطبق عنوانُ فعل الخير على ما يفعله من أجله بوصفه إنسانًا إلا في بعض المواقف الخاصة. وعندما لا يتطابق سبيلُ الإنسان وسبيل الله لا تُصان حقوق الإنسان، وتُصادَر حرياتُه في حالاتٍ متعدِّدة بذريعة حماية حقوق الله.
الإنسانيةُ الإيمانيةُ يتَّحد فيها سبيلُ الإنسان بسبيل الله، سبيلُ الإنسان هو سبيلُ الله، ومفهومُ سبيل الله المنفصلُ عن سبيل الإنسان لا يصل إلى الله؛ لأن سبيلَ الإنسان وسبيلَ الله لا يتحقَّقان إلا معًا، وأن نفيَ سبيل الإنسان يعني نفيَ سبيل الله، كلاهما وجهان لحقيقةٍ واحدة، ذلك هو المضمونُ الإنساني للتوحيد كما أفهمه.
مأزقُ التديُّن الذي يتأسس على «الولاء والبراء» يكمُن في أن الضميرَ الديني يتغلبُ فيه على الضمير الأخلاقي، وأعني بالضمير الديني ما هو غاطس في البِنية اللاشعوريَّة، وما تفرضُه عليه مقولة «الولاء والبراء». يتساءل الضميرُ الديني دائمًا عن تكليفه لحظةَ الإقدام على فعل شيءٍ ما، أو عند ترك شيءٍ ما، يريد معرفة إن كان هذا الفعل واجبًا أم مستحَبًّا أم حرامًا أم مكروهًا أم مباحًا، كي يتحدد موقفُه العملي.
وأعني بالضمير الأخلاقي ما يحكُم به العقلُ الأخلاقي «العقل العملي» بشكلٍ مستقلٍّ عن أي عنوانٍ اعتقادي أو ديني أو هُويَّاتي أو أيديولوجي؛ ففعلُ الخير على وَفْق منطق العقل الأخلاقي هو ما تقدِّمه للإنسان بعنوان كونه إنسانًا لا غير، من دون أيِّ توصيفٍ إضافي، سواء كان هذا التوصيفُ الإضافي دينيًّا أم هُويَّاتيًّا أم ثقافيًّا أم عِرقيًّا أم جغرافيًّا أم غيره.
عندما يبتني الضميرُ الديني على الأخلاق يكون هو ذاته الضمير الأخلاقي، وهو يختلف عن الضمير الديني الذي يبتني على مقولة «الولاء والبراء»، في سياق «الولاء والبراء» يُوجدُ الضميرُ الديني عندما يُوجدُ التكليفُ بمدلوله الكلامي والفقهي، وينتفي هذا الضمير عندما ينتفي التكليفُ.
فعلُ الخير على وَفْق مفهوم «الولاء والبراء»، هو ما تقدِّمه للإنسان بتوصيفه الإضافي، وهو عنوانُ كونه مسلمًا أو من مذهبك؛ لذلك لا يجد المتديُّنُ، في أكثر الحالات، حافزًا لأن يفعلَ خيرًا ويعمل صالحًا للإنسان بعنوان كونه إنسانًا؛ لأنه غيرُ مكلَّفٍ بذلك، فينحصر فعلُ الخير والعمل الصالح في ضميره الديني بما يقدِّمه للإنسان بعنوان كونه من مذهبه أو مسلمًا، انطلاقًا مما ينغرس في ضمير المتديِّن من أن مفهومَ الخير لا يصدُق على أيِّ فعلٍ ما لم يكن خيرًا بالمعنى المكلَّف فيه المتديِّن. هذا المنطق لا يختصُّ بدينٍ خاص، بل يفرض على كلِّ صاحب عقيدةٍ دينية من أيِّ دين أن يكون فعلُ الخير مختصًّا بدينه، إن كان فعلُ الخير في عقيدته مشروطًا بأتباع دينه ولا ينطبق على غيرهم. كما يتسلَّط هذا المنطقُ ويأسِر كلَّ إنسان ينطلق في فعل الخير من عنوانٍ للإنسان مُقيَّدٍ بتوصيفٍ إضافي مهما كان، سواء كان ذلك القيدُ دينيًّا أو هُوياتيًّا أو ثقافيًّا أو عِرقيًّا أو جغرافيًّا أو حزبيًّا أو غيره. خلافًا لمن ينطلقُ في فعل الخير من الضمير الذي يحكمُ به العقلُ الأخلاقي؛ فهو يتألمُ لآلامِ الناس بوصفه شريكًا لهم في إنسانيتهم، ويشعرُ باحتياجاتهم وآلامهم بغَضِّ النظر عن كونِهم شركاء في ملته أو خارجها، أو اتفاقِهم معه بأيِّ توصيفٍ آخر خارج عنوان كونهم شركاء في الإنسانية.
الضميرُ الأخلاقي يفسَد إن كان مشروطًا؛ لأن الضميرَ الأخلاقي حرٌّ بطبيعته لا يقبل أيَّ قيد، بمعنى أن التعاملَ بصدق وأمانة وعدل حسَنٌ مع كل إنسان بوصفه إنسانًا، بغَضِّ النظر عن دينه ومعتقَده وجنسه وثقافته، والتعاملَ بالكذب والخيانة والظلم والتمييز بين الناس قبيحٌ مع كلِّ إنسان بوصفه إنسانًا.
التربيةُ على «الولاء والبراء» وغيرها من المقولات المماثِلة تفرض سلسلةً من الشروط لتصنيفِ البشر على مراتب، وعدمِ إنصاف الناس، والتمييزِ بينهم في المعاملة على أساس معتقَداتهم، فمن تتطابق معتقَداتُه مع معتقَداتك يستحقُّ أن تعامله كنفسك، في حين لا يستحقُّ المختلفُ عنك في الدين الحقوقَ التي يستحقُّها الشركاءُ في معتقَداتك.
في ضوءِ ذلك نفهمُ لماذا يشحُّ في قائمةِ أعظمِ المتبرِّعين بثرواتهم من أجل الإنسانية ككلٍّ حضورُ أصحاب الثروات من المسلمين بما يتناسب مع نسبَتهم من سكان الأرض، ونفهم السببَ الذي لا يجد معه رجالُ الأعمال في ديارنا دافعًا للعطاء من أجل إسعاد الإنسان بوصفه إنسانًا بغَضِّ النظر عن دينه، كما يفعلُ أصحابُ الضمائر الأخلاقية اليقظة، الذين يُنصِتون لصوت العقلِ الأخلاقي، من مالكي الثروات الهائلة خارج ديارنا، الذين لا ينظرون إلا لاحتياجات الناس الذين يستحقُّون الرعاية، ولا يهتمون بمعتقَداتهم الدينية وهُويَّاتهم الإثنية؛ لذلك يُنفِقون في أعمال الخير مليارات الدولارات، ولا تختص المشاريع بصنفٍ من البشر دون غيرهم.
خلَصتُ من كلِّ تجارب حياتي إلى أن الإنسانَ الوحيد الذي يُمكِنُ أن أُراهنَ عليه في كلِّ شيء هو مَن يمتلك ضميرًا أخلاقيًّا يقظًا، بغضِ النظرِ عن دينه ومعتقَده ومذهبه وهُويَّته وقوميته وموطنه وثقافته، وبغَضِّ النظرِ عن مقامه الاجتماعي والسياسي والمالي والثقافي، وغير ذلك. إنسانيةُ الإنسان تتجلَّى في أخلاقه.
«واعلم أنه لايستقيم للمرء إسلامٌ ولو وحَّد الله وترَك الشرك، إلا بعداوة المشركين والتصريح لهم … وقال العلامة حمد بن عتيق: فأما معاداة الكفار والمشركين فاعلم أن الله سبحانه وتعالى قد أوجَب ذلك وأكَّد إيجابه، وحرَّم موالاتهم وشدَّد فيها حتى إنه ليس في كتاب الله تعالى حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم، بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده. إذن فلا بد من تحقيق الولاء والبراء.» إنجاح حاجة السائل، فصل في بيان حقيقة الإسلام والشرك، ج١، ص١٠.