(٣) فعلُ الخير ليس مشروطًا

مَنْ يعتنقُ عقيدةً انحصارية، تحصُرُ النجاةَ في الدنيا والآخرة بمعتقَده، ولا ينجو من النار ويدخل الجنة في الآخرة أيُّ إنسانٍ لا يعتقدُ بعقيدته، يكون لديه فعلُ الخير مشروطًا، بنحوٍ لا يصدُقُ عنوانُه وَفْقًا لمعتقَده إلا على ‏مَنْ ينتمي إلى هويته الاعتقادية. هذا الإنسانُ الذي لا يصدُق عنوانُ فعل الخير لديه على أيِّ إنسان ‏لا يعتقدُ بعقيدته، لا يجدُ حافزًا دينيًّا يدعوه لفعل الخير من أجل إنسانٍ مختلف في المعتقَد. فعلُ الخير في نظره يصدُقُ على عنوان الهُويَّة الاعتقادية لا غير، لا على الإنسان بوصفِه إنسانًا. العقيدةُ الانحصاريةُ تفرض على كلِّ مَنْ يعتقدُ فيها أن يعيشَ وذهنُه ومشاعرُه مسجونةٌ داخلَ هُويته الاعتقادية. لا يكون الإنسانُ في هذه العقيدة إلا أداةً تُستخدم لأجلها، كما تُستخدم الأشياء أداة لتحقيق غرضٍ معين.

مَنْ يتمسَّك بمعتقَدٍ انحصاري يجعل ‏الغايةَ معتقَدَه، الإنسانُ ليس غايةً، الإنسانُ أداةٌ لتحقيق ما يفرضه عليه معتقدُه؛ لذلك لا يفعل خيرًا من أجل الإنسان من حيث هو إنسان، وإنما يفعل الخير من أجل المعتقَد الذي يحدِّد له الذي ينطبق عليهم عنوانُ فعل الخير من البشر، وهم من يعتقدُ بمعتقَده خاصةً من دون غيرهم من الناس. كلُّ شيء يفعله لا يأخذ الإنسان بوصفه إنسانًا موضوعًا للتكريم والاهتمام والاحترام، وإنما يأخذ الإنسان بوصفه إنسانًا يعتقدُ بمعتقَدٍ معين موضوعًا؛ فالتكريم والاهتمام والاحترام يبدأ بالإنسانِ الذي يشترك معه بمعتقده، وينتهي عندما لا يكون الإنسانُ مشتركًا معه في الهُوية الاعتقادية. يكتب ابن تيمية: «وأمَّا الكفار فلم يأذن الله لهم في أكل أي شيء، ولا أحلَّ لهم شيئًا، ولا عفَا لهم عن شيءٍ يأكلونه، بل قال: يَا أيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا، فشرط فيما يأكلونه أن يكون حلالًا، وهو المأذون فيه من جهة الله ورسوله، والله لم يأذن في الأكل إلا للمؤمنين به، فلم يأذن لهم في أكل شيء إلا إذا آمنوا، ولهذا لم تكن أموالُهم مملوكةً لهم ملكًا شرعيًّا؛ لأنَّ الملك الشرعي هو المقدرة على التصرُّف الذي أباحه الشارع (ص) والشارع لم يُبِح لهم تصرفًا في الأموال إلا بشرط الإيمان … والمسلمون إذا استولَوا عليها فغنِموها ملَكُوها شرعًا، لأنَّ الله أباح لهم الغنائم ولم يُبِحها لغيرهم.»١ الغريبُ أن الخطابَ في الآية يشمل كلَّ الناس، ولم يختصَّ بالذين آمنوا، فكيف يُستدلُّ بها على المؤمنين خاصة. الاستدلالات من هذا النوع الغريب في مدوَّنة الفقه ليست قليلة.

فعلُ الخير في ضوء الإنسانية الإيمانية

في ضوء مفهومي ﻟ «لإنسانية الإيمانية» يصدق فعلُ الخير على كلِّ عملٍ يساهمُ في احترام كرامة الإنسان بوصفه إنسانًا ورعايته وإسعاده، ويحرصُ على حقوق كلِّ فرد، إلى أي جنس، أو أي دين، أو أية ثقافة، أو أية هوية ينتمي. فعلُ الخير هو كل مسعًى يعمل على بناء الحياة، باستثمارِ قِيَم الخير والحق والعدل والسلام، وتكريسِ ما يُسعِد الإنسان ويجعل العالَم أجمل، ويحرص على نفع الناس وحل مشكلاتهم، بغَضِّ النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع هؤلاء الناس في المعتقَد. عندما تكون الإنسانية هي المنطلق والغاية يصدُق حينئذٍ على كلِّ مسعًى من أجل إسعاد الإنسان أنه فعلٌ للخير.

فعلُ الخير في «الإنسانية الإيمانية» موضوعُه الإنسانُ، يبدأ بالإنسان وينتهي بالإنسان بوصفه إنسانًا، بلا تصنيفاتٍ إضافية أيديولوجية واعتقادية وعِرقية وثقافية وجغرافية تتعالى على حقيقته الإنسانية. الإنسانيةُ وحدها هي مناط التكريم والاحترام، الاهتمام بالإنسان ‏بوصفه إنسانًا بذاته، إنسانًا قبل كل شيء وبعد كل شيء. ‏عندما تكون الغاية هي الإنسان من حيث هو إنسان، وليس الإنسان من حيث هو أداة من أجل عقيدته أو هُويته أو إثنيته، حينئذٍ يكون فعلُ الخير من أجل الإنسان، لا من أجل ‏عقيدة الإنسان. في «الإنسانية الإيمانية» العقيدة هي الأداة والإنسان هو الغاية، العقيدة أداة من أجل احترام كرامة الإنسان وحماية حرياته وحقوقه وإسعاده‏.

في «الإنسانية الإيمانية» يقترن الإيمان بالعمل الصالح؛ فقد وردَت كلمة الصالحات ١٨٠ مرَّة في القرآن الكريم، وجاء العمل الصالح ملازمًا للإيمان في ٧٥ موردًا في القرآن، وذلك يشي بأن الأثَر الطبيعي للإيمان هو العمل الصالح؛ ففي «المواضع التي يذكُر فيها القرآنُ الذين آمنوا يَقرِن بينهم وبين العمل الصالح بشكلٍ صريح، فيما يَقرِن الإيمان بألوانٍ من الرؤى‏ والقصد والسلوك في المواضع الأخرى‏، يجسِّد العمل الصالح روحَها، ويمثِّل مادَّتها التي تتقوَّم بها؛ فإن أركان الإيمان، وثمراته في الدنيا، وثوابه في الآخرة، كلها تأتلف مع العمل الصالح متواشجةً في منظومةٍ واحدة، يكتسي ظاهرها وباطنها بالعمل الصالح. ويتجلَّى‏ لنا ذلك بوضوح عندما نتأمل الآيات التي اقترنَ فيها الإيمان بالله بالعمل الصالح؛ فقد ارتبط العمل الصالح ارتباطًا عضويًّا بالإيمان، وبدا العمل الصالح كمُعطًى للإيمان.»٢ الإنسان يكون صالحًا بقَدْر جهوده وأثَره وثمَراته الطيبة في الحياة، وبما يقدِّمه من عطاء يجعل العالَم أجمل. العمل الصالح معنًى عام يصدُق على كل جهدٍ يعمل على بناء الحياة، وينفع الناسَ ويحلُّ مشكلاتهم ويُسعِدهم، بغَضِّ النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معهم في المعتقَد.

فعلُ الخير في ضوء مقولة الولاء والبراء

مفهوم فعل الخير والعمل الصالح السابق يتنافَى مع مفهوم فعل الخير والعمل الصالح في ضوء مقولة الولاء والبراء؛ إذ لا يصدُق فعلُ الخير والعمل الصالح فيها على المختلِف في المعتقَد. في إطار «الولاء والبراء»٣ لا يكون فعلُ الخير خيريًّا أو العمل الصالح صالحًا بذاته، وبوصفه فعلًا يُسعِد الإنسان، وإنما يستمدُّ فعلُ الخير قيمتَه من كونه متصفًا بالخيرية بحسب المعايير والحدود المرسومة في مقولة «الولاء والبراء»، وهذه الصفة لا تتحقَّقُ إلا عندما يكون ذلك الفعلُ من أجل المشتركين في العقيدة، فيكتسب قيمتَه الخيرية وصلاحَه من حكم العقيدة بأنه فعلُ خير وعملٌ صالحٌ، وليس بالضرورة أن يكون ذلك الحكمُ مطابقًا في كل الحالات لحكم العقل الأخلاقي «العقل العملي»؛ لأن أحكامَ العقل الأخلاقي لا تقبلُ التقييد بهُويَّةٍ اعتقادية أو سواها.٤
عندما يشدِّدُ من يتبنَّى «الولاء والبراء» على أن أيَّ فعلِ خيرٍ وعملٍ صالح يجب أن يكون لله، ولا يُشرك به أحدًا من الخلق، يريد بذلك أنَّ كلَّ فعل لا يتصف بالخيرية إلا إن كانت تنطبق عليه المعايير والقيود والشروط المنصوص عليها في العقيدة، وهي تعني ألا يفعل فعلًا من أجل الإنسان بوصفه إنسانًا، بل يفعله لمن ينتمي إلى معتقَده خاصة٥ وإن كان المقصودُ هو الإنسان في بعض الحالات فإنه مقصودٌ لسببٍ ما، وليس لكونه إنسانًا فقط، وهو ما تُحيلُ إليه الرؤية التوحيدية السلفية، الذي تتفرَّع عنه مقولةُ «الولاء والبراء»؛ لذلك لا يبادر من يعتنقون هذا المعتقَدَ إلى فعل الخير للناس من دون نظرٍ لعقيدتهم، يختَص فعلُ الخير لمن يشترك معهم في المعتقَد دون سواه، بمعنى أن التديُّنَ الذي يَبْتني على هذه الرؤية يرى أن الصلةَ بالله لا تتحقَّق إلا من خلال ميثاقٍ خاص للاعتقاد، وما يرسمُه هذا الميثاق من حدودٍ تفصيلية دقيقة لمعتقداتِ المتديِّن وسلوكِه. الميثاقُ يتضمَّن مقولاتٍ اعتقاديةً وأحكامًا فقهية تحرِّم فعلَ الخير لغير المسلم في أكثر الحالات، وترسمُ بوصلةً تُرشِد لخارطة الخيرية التي حدودها أهل المعتقَد، وأهلُ المعتقَد أتباع المذهب خاصة أو المسلمون عامة، داخل هذه الحدود تكون للفعل قيمةٌ دينية تجعله مصداقًا لعنوان كونه خيريًّا وصالحًا.

إن مقولة «الولاء والبراء» وغيرَها من مقولاتٍ اعتقادية وأحكامٍ فقهية ترسم حدودًا صارمةً لفعل الخير الذي يرضى عنه الله، وهو كلُّ فعلٍ مشروعٍ بالمعنى الذي تضع حدودَه مدوَّنة الاعتقاد، وكلُّ ما لا يرضى اللهُ عنه على وَفْق هذا المعنى لا يكون مصداقًا لفعل الخير. وعلى هذا لا يكون الإنسانُ الذي ينطبق عليه عنوانُ «غير مؤمن» أو «غير مسلم» موضوعًا لفعل الخير والعمل الصالح. لا يُنظر إليه من أجل كونه شريكًا في الإنسانية، ومن دون اهتمامٍ بنوع معتقَده؛ لأن مثلَ هذا الفعل ليس مطلوبًا لله من منظور أكثر متكلِّمي الفِرَق وفقهاء المذاهب.

إن العملَ الخيري لأجل الإنسانِ غيرِ المسلم ليس مصداقًا لفعل الخير لدى الفقهاء الذين يحرِّمون حتى المبادرةَ بتهنئة غير المسلم في أعياده، ويحرِّمون تحيتَه والسلامَ عليه. يقول ابن القيم: «وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنِّئهم بأعيادهم وصومهم فيقول: عيدٌ مبارك عليك أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر، فهو من المحرَّمات وهو بمنزلة أن يهنِّئه بسجوده للصليب … وكثيرٌ ممن لا قَدْر للدين عنده يقع في ذلك.»٦ بل يحرِّمون أكلَ ذبيحة المسلم الذي لا يُصلِّي، ودعوتَه لأية مناسبة، ويفرضون مقاطعةً شاملةً عليه.٧ وقد بلغ التشدُّدُ لدى ابن تيمية أقصى مدَيَاته عندما منعَ الإفادةَ من خبرات ومعارف غير المسلم ومنعَ تقليدَه حتى فيما فيه مصلحة للمسلم؛ إذ يقول: «لا تقلدهم حتى فيما فيه مصلحة لنا؛ لأن اللهَ إما أن يعطينا في الدنيا مثله أو خيرًا منه، وإما أن يعوِّضَنا عنه في الآخرة.»٨ وهذا يعني مقاطعةَ المسلمِ للعالَم غير المسلم كلِّه، والدخولَ في مواجهةٍ معه، وذلك متعذِّر؛ لأن العالَم اليوم متداخلٌ ومتفاعل ومتشابك كنسيجٍ مترابط في تواصُله وتبادُله وتفاعُله في مختلف مجالات الحياة، وليس بوسع مجتمعٍ يريد أن يحضُر في العالَم العيشُ وكأنه في جزيرة يغلقها على نفسه.

سبيلُ الله هو سبيلُ الإنسان

عندما لا يكون سبيلُ الإنسان هو سبيلُ الله، ولا يمرُّ الطريقُ إلى الله عبْر الإنسان، عندئذٍ لا ينطبق على كثيرٍ من أفعال الخير عنوانُ «في سبيل الله»، إن كانت من أجل الإنسان بوصفه إنسانًا؛ لأن سبيلَ الله على وَفْق ذلك لا يتَّحد دائمًا مع سبيل الإنسان؛ أي لا يصدُق على فعلِ الخير والعمل الصالح للإنسان غالبًا أنه في سبيل الله إلا عندما يكون ذلك الإنسانُ متحدًا معه في المعتقَد، ومعنى ذلك أن الإنسانَ بوصفه إنسانًا لا غير لا يستحقُّ أن يتعامل معه كما يتعامل مع من ينتمي إلى دينه، ولا ينطبق عنوانُ فعل الخير على ما يفعله من أجله بوصفه إنسانًا إلا في بعض المواقف الخاصة. وعندما لا يتطابق سبيلُ الإنسان وسبيل الله لا تُصان حقوق الإنسان، وتُصادَر حرياتُه في حالاتٍ متعدِّدة بذريعة حماية حقوق الله.

الإنسانيةُ الإيمانيةُ يتَّحد فيها سبيلُ الإنسان بسبيل الله، سبيلُ الإنسان هو سبيلُ الله، ومفهومُ سبيل الله المنفصلُ عن سبيل الإنسان لا يصل إلى الله؛ لأن سبيلَ الإنسان وسبيلَ الله لا يتحقَّقان إلا معًا، وأن نفيَ سبيل الإنسان يعني نفيَ سبيل الله، كلاهما وجهان لحقيقةٍ واحدة، ذلك هو المضمونُ الإنساني للتوحيد كما أفهمه.

مأزقُ التديُّن الذي يتأسس على «الولاء والبراء» يكمُن في أن الضميرَ الديني يتغلبُ فيه على الضمير الأخلاقي، وأعني بالضمير الديني ما هو غاطس في البِنية اللاشعوريَّة، وما تفرضُه عليه مقولة «الولاء والبراء». يتساءل الضميرُ الديني دائمًا عن تكليفه لحظةَ الإقدام على فعل شيءٍ ما، أو عند ترك شيءٍ ما، يريد معرفة إن كان هذا الفعل واجبًا أم مستحَبًّا أم حرامًا أم مكروهًا أم مباحًا، كي يتحدد موقفُه العملي.

وأعني بالضمير الأخلاقي ما يحكُم به العقلُ الأخلاقي «العقل العملي» بشكلٍ مستقلٍّ عن أي عنوانٍ اعتقادي أو ديني أو هُويَّاتي أو أيديولوجي؛ ففعلُ الخير على وَفْق منطق العقل الأخلاقي هو ما تقدِّمه للإنسان بعنوان كونه إنسانًا لا غير، من دون أيِّ توصيفٍ إضافي، سواء كان هذا التوصيفُ الإضافي دينيًّا أم هُويَّاتيًّا أم ثقافيًّا أم عِرقيًّا أم جغرافيًّا أم غيره.

عندما يبتني الضميرُ الديني على الأخلاق يكون هو ‏ذاته الضمير الأخلاقي، ‏وهو يختلف عن الضمير الديني الذي يبتني على مقولة «الولاء والبراء»، في سياق «الولاء والبراء» يُوجدُ الضميرُ الديني عندما يُوجدُ التكليفُ بمدلوله الكلامي والفقهي، وينتفي هذا الضمير عندما ينتفي التكليفُ.

فعلُ الخير على وَفْق مفهوم «الولاء والبراء»، هو ما تقدِّمه للإنسان بتوصيفه الإضافي، وهو عنوانُ كونه مسلمًا أو من مذهبك؛ لذلك لا يجد المتديُّنُ، في أكثر الحالات، حافزًا لأن يفعلَ خيرًا ويعمل صالحًا للإنسان بعنوان كونه إنسانًا؛ لأنه غيرُ مكلَّفٍ بذلك، فينحصر فعلُ الخير والعمل الصالح في ضميره الديني بما يقدِّمه للإنسان بعنوان كونه من مذهبه أو مسلمًا، انطلاقًا مما ينغرس في ضمير المتديِّن من أن مفهومَ الخير لا يصدُق على أيِّ فعلٍ ما لم يكن خيرًا بالمعنى المكلَّف فيه المتديِّن. هذا المنطق لا يختصُّ بدينٍ خاص، بل يفرض على كلِّ صاحب عقيدةٍ دينية من أيِّ دين أن يكون فعلُ الخير مختصًّا بدينه، إن كان فعلُ الخير في عقيدته مشروطًا بأتباع دينه ولا ينطبق على غيرهم. كما يتسلَّط هذا المنطقُ ويأسِر كلَّ إنسان ينطلق في فعل الخير من عنوانٍ للإنسان مُقيَّدٍ بتوصيفٍ إضافي مهما كان، سواء كان ذلك القيدُ دينيًّا أو هُوياتيًّا أو ثقافيًّا أو عِرقيًّا أو جغرافيًّا أو حزبيًّا أو غيره. خلافًا لمن ينطلقُ في فعل الخير من الضمير الذي يحكمُ به العقلُ الأخلاقي؛ فهو يتألمُ لآلامِ الناس بوصفه شريكًا لهم في إنسانيتهم، ويشعرُ باحتياجاتهم وآلامهم بغَضِّ النظر عن كونِهم شركاء في ملته أو خارجها، أو اتفاقِهم معه بأيِّ توصيفٍ آخر خارج عنوان كونهم شركاء في الإنسانية.

الضميرُ الأخلاقي يفسَد إن كان مشروطًا؛ لأن الضميرَ الأخلاقي حرٌّ بطبيعته لا يقبل أيَّ قيد، بمعنى أن التعاملَ بصدق وأمانة وعدل حسَنٌ مع كل إنسان بوصفه إنسانًا، بغَضِّ النظر عن دينه ومعتقَده وجنسه وثقافته، والتعاملَ بالكذب والخيانة والظلم والتمييز بين الناس قبيحٌ مع كلِّ إنسان بوصفه إنسانًا.

التربيةُ على «الولاء والبراء» وغيرها من المقولات المماثِلة تفرض سلسلةً من الشروط لتصنيفِ البشر على مراتب، وعدمِ إنصاف الناس، والتمييزِ بينهم في المعاملة على أساس معتقَداتهم، فمن تتطابق معتقَداتُه مع معتقَداتك يستحقُّ أن تعامله كنفسك، في حين لا يستحقُّ المختلفُ عنك في الدين الحقوقَ التي يستحقُّها الشركاءُ في معتقَداتك.

في ضوءِ ذلك نفهمُ لماذا يشحُّ في قائمةِ أعظمِ المتبرِّعين بثرواتهم من أجل الإنسانية ككلٍّ حضورُ أصحاب الثروات من المسلمين بما يتناسب مع نسبَتهم من سكان الأرض، ونفهم السببَ الذي لا يجد معه رجالُ الأعمال في ديارنا دافعًا للعطاء من أجل إسعاد الإنسان بوصفه إنسانًا بغَضِّ النظر عن دينه، كما يفعلُ أصحابُ الضمائر الأخلاقية اليقظة، الذين يُنصِتون لصوت العقلِ الأخلاقي، من مالكي الثروات الهائلة خارج ديارنا، الذين لا ينظرون إلا لاحتياجات الناس الذين يستحقُّون الرعاية، ولا يهتمون بمعتقَداتهم الدينية وهُويَّاتهم الإثنية؛ لذلك يُنفِقون في أعمال الخير مليارات الدولارات، ولا تختص المشاريع بصنفٍ من البشر دون غيرهم.

خلَصتُ من كلِّ تجارب حياتي إلى أن الإنسانَ الوحيد الذي يُمكِنُ أن أُراهنَ عليه في كلِّ شيء هو مَن يمتلك ضميرًا أخلاقيًّا يقظًا، بغضِ النظرِ عن دينه ومعتقَده ومذهبه وهُويَّته وقوميته وموطنه وثقافته، وبغَضِّ النظرِ عن مقامه الاجتماعي والسياسي والمالي والثقافي، وغير ذلك. إنسانيةُ الإنسان تتجلَّى في أخلاقه.

١  السمهوري، رائد، نقد الخطاب السلفي، ابن تيمية نموذجًا، ص٣٤-٣٥، ط١، ٢٠١٠م، طوى للثقافة والنشر.
٢  الرفاعي، عبد الجبار، تحديث الدرس الكلامي والفلسفي في الحوزة، بيروت، دار المدى، ٢٠١٠م، ص٧٦.
٣  في بيان معنى الولاء والبراء ورَد ما يلي، «العداوة أو البراء، هو بُغض الشرك، بُغض الضلال، بُغض الشيطان، بُغض عبادة غير الله، بُغض الكفر، هذا القدْر هو الشرط، مَن لم يأتِ به فلا إسلام له. فكلمة التوحيد (لا إله إلا الله) هذه مشتملة على الولاء والبراء، مشتملة على الموالاة والمعاداة، لكن الولاء والبراء منه قدْرٌ مجزئ لا يصح إسلام أحد إلا به؛ يعني مجزئًا في صحة الإسلام، ومنه قدْرٌ آخرُ واجب لكن ليس شرطًا في الصحة، القدْر الواجب هو ما كان من قبيل الحب والبغض، أصل المعنى، وهو الموجود في القلب، فمحبة التوحيد وبُغض الشرك هذا أصلٌ في الإسلام، وهو معنى الولاء والبراء ومعنى كلمة التوحيد، فمن لم يكن عنده حُب للتوحيد وبُغض للشرك فلا إسلام له أصلًا.» شرح عدة متون في العقيدة، التعليقات الحسان على كتاب الفرقان، ج٦، ص١٤٨.
«واعلم أنه لايستقيم للمرء إسلامٌ ولو وحَّد الله وترَك الشرك، إلا بعداوة المشركين والتصريح لهم … وقال العلامة حمد بن عتيق: فأما معاداة الكفار والمشركين فاعلم أن الله سبحانه وتعالى قد أوجَب ذلك وأكَّد إيجابه، وحرَّم موالاتهم وشدَّد فيها حتى إنه ليس في كتاب الله تعالى حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم، بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده. إذن فلا بد من تحقيق الولاء والبراء.» إنجاح حاجة السائل، فصل في بيان حقيقة الإسلام والشرك، ج١، ص١٠.
٤  في الفصل السادس من كتابنا هذا دلَّلنا على عدم التطابق الكلي بين مقولات علم الكلام وأحكام الفقه من جهة وأحكام العقل الأخلاقي من جهة أخرى؛ لأن أحكامَ العقل الأخلاقي لا تقبل التقييد؛ فالكذبُ قبيحٌ مع كل الناس والصدقُ حَسَنٌ مع كل الناس، والظلمُ قبيحٌ مع كل الناس والعدل حَسَنٌ مع كل الناس … وهكذا، بغَضِّ النظر عن معتقداتهم الدينية وغيرها.
٥  وردت كلمة «خير» في ١٠٩ من الآيات القرآنية، وسياق أكثر الآيات فيها يشير إلى عنوانٍ عام لفعل الخير يشمل الكل. كما جاء «العملُ الصالح» مقترنًا بالإيمان في سياقٍ يتحدث عن عنوانٍ عام يشمل كل فعلٍ حَسَن يفعله المؤمن لأجل الناس.
٦  أحكام أهل الذمة ١، ٢٠٥.
٧  «سئل الشيخ ابن عثيمين، عن حكم السلام على غير المسلمين؟ فأجاب بقوله، البدء بالسلام على غير المسلمين محرَّم ولا يجوز.» الولاء والبراء ١، ١٨. «البدء بالسلام على غير المسلمين محرَّم ولا يجوز.» ابن عثيمين، فتاوى متفرقة، ١٣، ٢٨٨. و«سئل الشيخ عبد العزيز بن باز، عن حكم جواز الأكل من ذبائح تارك الصلاة عمدًا، الذي لا يُصلي لا تُؤكل ذبيحته. هذا هو الصواب … إن الذي لا يصلي لا دين له، ولا تُؤكَل ذبيحته … فلا تُؤكَل ذبيحتُه، ولا يُدعى لوليمة، ولا تُجاب دعوته؛ بل يُهجَر حتى يتوب إلى الله وحتى يصلي.» مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز ١٠ /٢٧٤.
٨  نورِد هنا ما قلناه غير مرة، من أن تكرار إشارتنا إلى ابن تيمية وفتاواه وآرائه وأتباعه، ليس بمعنى تفرُّده بهذه الفتاوى والآراء، بل لأنه يمثِّل المرجعية الأكثف حضورًا اليوم في أدبيات الجماعات السلفية والتكفيرية، واعتمادهم فتاواه وآراءه في سلوكهم الذي يرفُض العيش المشترك مع المختلِف في الاعتقاد، ويشرِّع العنف في بعض حالات التعامل معه. كما نبَّهنا أكثر من مرة إلى أن بعض هذه الفتاوى يفتي بها فقهاء من مختلِف المذاهب الإسلامية سنية وشيعية، لكنَّ جهلَ أكثر من يتحدَّثون عن الإسلام بالمدوَّنة الكلامية والفقهية، أو تجاهُلَ مَن يعلم منهم بذلك، جعلهم يُصِرُّون على تبرئة تراث فرقتهم ومذهبهم خاصة، ويتهمون غيرهم بالتكفير. الرفاعي، عبد الجبار، الدين والاغتراب الميتافيزيقي، بيروت، دار التنوير، ومركز دراسات فلسفة الدين، ط٢، ٢٠١٩م، ص٣٤؛ ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، ص١٧٢–١٧٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤