(٤) اللهُ في القرآن الكريم

القرآنُ الكريم ليس ديوانًا من الشعر، أو كتابًا في الفلسفة، أو التاريخ، أو الجغرافيا، أو العلم، أو الفيزياء، أو الكيمياء، أو الرياضيات، أو غير ذلك من أجناس الكتابة. القرآنُ كتابٌ متفردٌ ليس كمثله كتابٌ، لا يشبه غيرَه ولا يشبهه غيرُه، حقيقتُه أنه قرآنٌ وكفى.

القرآنُ ابتكر نظامَه الدلاليَّ الخاص، فأسَّس شبكةَ علاقات دلالية مِحوَرُها الله، والرؤيةُ التوحيدية للوجود، وكلُّ المفاهيم الأخرى مشبعةٌ بدلالتها؛ لأنها تصدُر عنها وتنتمي إليها. لا تحتفظ الكلماتُ العربية المستعمَلة في معجم القرآن بالضرورة بدلالاتها السابقة، بعد أن وظَّفها القرآنُ في نظامه الدلالي، ودخلَت في شبكةِ العلاقات الجديدة التي محورها اللهُ والرؤيةُ التوحيدية للوجود. يشرح إيزوتسو ذلك بقوله: «إن المفاهيم لا تُوجَد منعزلة وحدها، بل تكون دائمًا منظَّمة إلى أقصى حدٍّ داخل نظام أو أنظمة … هذا يعني أن كلمة «كتاب» البسيطة بمعناها البسيط، حالما أُدخلَت في نظامٍ خاص، ومُنحَت موقعًا محدَّدًا ومعينًا فيه، اكتسبَت العديد من العناصر الدلالية الجديدة الناشئة عن هذا الوضع الخاص، وعن العلاقات المتنوِّعة التي شكَّلَتها لتحملها إلى المفاهيم الرئيسية لذلك النظام. وكما يحدث غالبًا، فإن العناصر الجديدة تميل إلى التأثير بعمق في بنية المعنى الأصلي للكلمة، بل إلى تغييرها جوهريًّا.»١
القرآنُ الكريم مرآةٌ يتجلَّى فيها الله، وذلك ما يقرؤه كلُّ متدبِّر لآياته أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا،٢ ويراه كلُّ مَنْ تُوقِظ قلبَه الأنوارُ الإلهية، وتتذوَّق بصيرتُه الإشراقاتِ الرحمانيةَ. وهذا ما يشير إليه قولُ الامام جعفر الصادق «ع»: «لقد تجلَّى الله لخلقه في كلامه، ولكنهم لا يبصرون.»٣

في ضوء ذلك، على مَنْ يريد أن يفهم القرآنَ أن يكتشف نظامَه الدلالي وشبكةَ علاقات الكلمات في سياقه، بوصفها اصطبغَت برؤيته التوحيدية للوجود. وذلك ما لم يتنبه إليه بعضُ المفسِّرين الذين ضاعوا في متاهات المعاني اللغوية للكلمات، أو الدلالات البديلة الغريبة على نظامه الدلالي، التي أسقطَتْها على معجم القرآن بيئاتٌ ثقافية ومجتمعاتٌ متنوِّعة دخلَت الدينَ الجديد، بعد امتداد عالَم الإسلام من الأندلس إلى الصين، وتشبَّع شيءٌ من كلماته بدلالات الفلسفة اليونانية وغيرها في عصر الترجمة.

كلُّ من يعرف نشأةَ الأديان، سواء كانت وحيانيةً أو غيرها، يعرف الأثرَ السحري الذي تُحدِثه كتبُها المقدَّسة في أرواح وقلوب وعقول المؤمنين بها، فلا نجدُ كتابًا أشدَّ حضورًا وتأثيرًا في حياة الناس الروحية والأخلاقية ومشاعرهم من الكتب المقدَّسة. لكن ليس كلُّ كتب الأديان تمكَّنَت من إنتاج حضاراتٍ رائدة. الحضورُ الشديد الأثَر للقرآن في العالم يكشف عن فرادةِ صوت الله فيه، وقُدرتِه الاستثنائية على أَسْر القلوب والأرواح. لقد كان وسيظل الفعلُ الحضاري للقرآن عظيمًا، وتعكِس مكاسبُ الحضارة الإسلامية الصورةَ الناطقةَ للقرآن في التاريخ. كان وما زال حضورُ القرآن الكريم شديدَ الأثَر في الحياة الدينية في عالَم الإسلام، ولم يكن أثَرُه باهتًا أو هامشيًّا أو ضئيلًا في حضارة الإسلام.

كلُّ كتابٍ مقدَّس يتضمنُ ما هو عابرٌ للزمان والمكان والتاريخ والواقع الذي ظهرَ فيه، كما يتضمن ما هو زماني ومكاني وتاريخي. القرآنُ الكريم يركِّزُ على الغيب بشكلٍ مدهش، وذلك يعني حضور ما هو رمزي في دلالاته. عالَمُ الغيب تتحكمُ فيه سننٌ ونواميسٌ لا نفقه منها شيئًا، إلا بحدود ما تشير إليها لغةُ الغيب الرمزية.

القرآنُ مفتاحُ بوابة الارتواء من منابع النور، وضوءٌ لبصيرة مَنْ ينشد بناءَ صلةٍ وجودية بالله. كان وما يزال وسيظل هذا الكتابُ الكريمُ يوقظ صوتَ الله داخل الإنسان. القرآن منجمٌ عظيم، لكن هذا المنجم لا يُفصِح عن كنوزه إلا بمفاتيحَ يمتلكها ذوو البصيرة النورانية.‏

القرآنُ كتابٌ ميتافيزيقي بامتياز، عند العودةِ إليه والنظرِ فيه بتدبُّرٍ نلحظ أن حضورَ الله يتفوَّق كثيرًا على كلِّ حضورٍ في هذا الكتاب، وهذا الحضورُ لله لا نراه ماثلًا بهذه الكثافة في أيِّ كتابٍ مقدَّسٍ آخر غيرِ القرآن في الأديان؛ فقد ورَد ذكرُ اسمِ «الله» ٢٦٩٩ مرَّة في آياته، ولو أضفنا لذلك عددَ أسماءِ الله وصفاتِه المتنوِّعةِ في القرآن لتجاوَز هذا العددَ بكثير؛ فمثلًا تكرَّر ذكرُ كلمة «رب» ١٢٤ مرَّة.

الكثافةُ اللافتةُ لحضورِ «الله» وأسمائِه وصفاتِه المتنوِّعةِ تدلِّل بوضوحٍ على أن القرآنَ يشدِّد على الإيمانِ بالله، ويجعله حَجرَ الزاوية في بناء الحياة الدينية في الإسلام، ويؤشِّر إلى ضرورة وصل نظام القِيَم في الحياة الفردية والمجتمعية بالله، بالمعنى الذي يصير فيه الإيمانُ بالله منبعًا مُلهِمًا للحق والعدل والخير والسلام والمحبة والجمال في العالَم. وتظهر القيمةُ العظمى للإيمان في تحريرِ الإنسان من اغترابه الوجودي؛ فهذا الاغترابُ يُفضي إلى استلابِ ذات الكائن البشري؛ لأنه اغترابٌ لكينونة هذا الكائن عن وجودها، ومن هذا الاغتراب يحدُث القلقُ الوجودي؛ إذ بعد أن تنقطعَ صلةُ الإنسان الوجوديةُ بإلهِهِ، تُستلَب ذاتُه ويفتقدها، وعندما يفتقدُ الإنسانُ ذاتَه يُمسِي عُرضةً لكلِّ أشكال التبعثُر والتشظِّي، وربما يتردَّى إلى حالةٍ من الغثيان الذي يعبثُ بروحِهِ ويمزِّقُ سلامَه وسكينتَه الجُوَّانية.٤
على الرغم من كثافة حضور الله في القرآن، إلا إننا وصلنا مرحلةً نجدُ فيها «إسلامًا ينسَى الله»؛ إذ غابَ اللهُ بمرور الزمن عند كثيرين عن الحياة الدينية، باحتلالِ بشرٍ مقامَه، وعندما يحتل البشرُ مقامه يحتجبُ الله عن الكل؛ فمن ينسَى اللهَ ينسَى نفسَه. وذلك ما قرَّره القرآنُ بقوله: نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ.٥
ونفهمُ من هذه الكثافةِ لحضور الله في القرآن أن هدفَ القرآن يتلخصُ في أن يكونَ اللهُ هو المعبودُ فقط، لا معبودَ سواه، وإن كان ذلك المعبودُ نبيًّا أو صحابيًّا أو إمامًا أو وليًّا أو شيخًا أو حاكمًا، أو أيَّ إنسانٍ مهما كان، ومهما كانت مواهبُه وصفاتُه ومكانتُه الدينية والاجتماعية والعلمية. القرآنُ يريدُ تحريرَ الإنسان من كل أشكال العبوديات؛ ولذلك أصرَّ على محوِ الوثنية بكل أنماطها، وعملَ على خلاصِ المسلم من كل ألوانها، سواء كانت وثنيةَ أحجارٍ أو أشياء أو أفكار أو بشر. اهتمَّ القرآنُ بالقضاء على وثنية البشر خاصة؛ لذلك تحدَّثَ عن أمثلةٍ لأفراد ومجتمعات كانوا ضحيةَ توثين البشر، وذَكَرَ المتاهاتِ التي غرقَت فيها حياتُهم، وإنما اهتمَّ القرآنُ بها لأنها أشدُّ أنماطِ الوثنية التباسًا، وأكثرُها أقنعةً وحُجُبًا، وأخطرُها على الوعي والروح والضمير. وثنيةُ الحجر منحطةٌ مفضوحة، وقد كانت متفشيةً في الحياة الدينية للعرب عصر البعثة النبوية الشريفة، فنزلَ القرآنُ لأجل تحرير الإنسان منها ومن غيرها، لكنَّ المؤسفَ أن توثينَ البشر ظهَر بالتدريج بعد البعثة في الحياة الدينية عندَ كثيرٍ من المسلمين، فصارَ في عصور لاحقة جيلٌ بكل أشخاصه مهما كانوا مقدسًا، كجيل الصحابة، لا تجوزُ دراسةُ حياته وتجربته وممارساته بمنطق علم التاريخ، ولا يصح الكشفُ عن أخطائه وخطاياه وموبقاته، على الرغم من أن الصحابة تقاتلوا في أكثر من معركةٍ شرسة قُتِلَ فيها عدد ليس قليلًا منهم.٦
تقديسُ البشر والإعلاءُ من مقامهم بما يفوق بشريتهم ضربٌ من التوثين، واتخاذُ الأرباب من دون الله. توثينُ البشر ظاهرةٌ نجدها في كلِّ الأديان، وقد استنكَرها القرآنُ بقوله: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ.٧ في الإسلام أضحى الإمامُ أو الوليُّ أو الشيخُ أو الخليفةُ أو السلطانُ أو الحاكمُ وغيرُهم مقدَّسًا، عند مختلف الفِرَق والمذاهب.
تتبدَّل أقنعةُ الأوثان وتختلف باختلاف الأحوال والأزمان والأديان والمجتمعات والأفراد غير أن جوهرها يظل واحدًا. لا تختصُّ الأوثان بما هو مصنوع من الحجر أو الخشب أو الحديد أو الأشياء المادية، الوثنُ كلُّ ما يُعبَد، الوثنُ كلُّ ما يلبث معه الإنسانُ فقيرًا في وجوده، ويكون وجودُه مغتربًا عن الله؛ لذلك تصير أحيانًا ديانةٌ أو مذهبٌ أو عقيدةٌ أو فكرةٌ أو أيديولوجيا وثنًا، أو قد تتحوَّل كلمةٌ أو شعارٌ أو كتابٌ إلى وثنٍ، أو يصبح زعيمٌ سياسي أو عسكريٌّ أو روحيٌّ وثنًا، وربما تُمسِي سلطةٌ أو حزبٌ أو جماعةٌ أو طائفةٌ أو قوميَّةٌ أو قبيلةٌ أو عائلةٌ وثنًا، أو يغدو طقسٌ أو عبادةٌ أو شعيرةٌ وثنًا. ومن أوضح ما قرأتُ في توضيح جوهر الوثنية جوابٌ لأبي يزيد البسطامي عن سؤال: «ما لنا نعبد الله ولا نجد لذة العبادة؟ قال: إنكم عبدتُم العبادة، ولو عبدتُم الله لوجدتم لذة العبادة.» ويشير إريك فروم إلى أثَر الوثنية في إفقار الإنسان بقوله: «كلما ينقل الإنسان قواه للأوثان يصبح أفقر، وكلما يصبح أكثر تبعيةً لها، إلى درجة لا يستطيع فيها الإنسان أن يستردَّ جزءًا صغيرًا مما هو بالأصل ذاته. إن الأوثان يمكن أن تكون: تمثالًا لإله، دولة، كنيسة، شخصًا، أو ملكية.»٨ يكتب ابنُ سبعين: «وجودُك حجابُك، ورؤيتُكَ إيَّاكَ سرابُك، وقوفُكَ مع الأشكالِ حَجَبَكَ وتُهْتَ حتى لا تَدْرِي مطلبَك.»٩
١  إيزوتسو، توشي هيكو، الله والإنسان في القرآن، علم دلالة الرؤية القرآنية للعالَم، ترجمة: هلال محمد الجهاد، ص٦٦، ط١، ٢٠٠٧م، المنظمة العربية للترجمة، بيروت.
٢  محمد، ٢٤.
٣  المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج٨٩، ص١٠٧، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
٤  المصدر السابق، ص٢٢١.
٥  التوبة، ٦٧.
٦  عبد الكريم، خليل، شَدْو الربابة في أحوال مجتمع الصحابة، القاهرة، سينا للنشر، بيروت، دار الانتشار العربي، ط٢، ٣ أسفار. في هذا الكتاب يعود المؤلف إلى مراجعَ مختلفةٍ تتحدث عن حياة الصحابة، فتصف أحوالهم كبشر محكومين بكل ما يعتري البشر من ضعف ووهن وهشاشة وطمع، وينقل الكثير من المواقف والمشاهد والأحوال المتنوعة التي تدلِّل على ذلك.
٧  التوبة، ٣١.
٨  فروم، إريك، مفهوم الإنسان عند ماركس، ترجمة: محمد سيد رصاص، ص٦٤، ١٩٩٨م، دار الحصاد للنشر والتوزيع، دمشق.
٩  رسائل ابن سبعين، تحقيق وتخريج وتعليق، أحمد فريد المزيدي، ص٤٦٢، الطبعة الأولى، ٢٠٠٧م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤