(٥) الإنسانُ في القرآن الكريم
صورتان متقابلتان للإنسان في القرآن
القرآنُ الكريم كتابٌ واقعي، يتحدث عن طبيعة الإنسان كما هي، ولا يُخفي المواقف والاستجابات المختلفة للإمكانات والأبعاد المتنوِّعة في شخصيته. يكشف لنا القرآنُ مواطنَ الضعف والهشاشة واليأس وغيرها من حالاتٍ سلبية في الإنسان، كما يكشف عن مواطن القوة والتفرُّد والتفوُّق على كل المخلوقات، بخَلْقه في أحسن تقويم، وتكريمه، واستخلافه في الأرض، وغيرها من حالاتٍ وخصائصَ استثنائية ينفرد فيها؛ لذلك نرى صورتَين متقابلتَين للإنسان القرآني، وهما:
-
(أ)
إنسانٌ قرآني: يتصفُ بأنه مخلوقٌ ضعيف، ظلوم، جهول، يئوس، كفور، وغير ذلك. يعرض القرآنُ الإنسانَ في صورةٍ غالبًا ما يقترن ذكرُه فيها بحالات وصفات تكشف عن ضعفه، ولا تُخفي آياتُ القرآن هشاشة هذا الكائن بطبيعته؛ إذ تعلن عن ألمه، وغروره، وطغيانه، ويأسه، وقنوطه، وسأَمه، وغير ذلك من توصيفات، مثل: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ،٣ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا،٤ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ،٥ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ،٦ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ،٧ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ،٨ بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ"،٩ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا،١٠ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا،١١ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ،١٢ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا،١٣ وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا،١٤ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ،١٥ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا،١٦ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ،١٧ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى،١٨ إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ،١٩ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ،٢٠ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا،٢١ اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً،٢٢ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ،٢٣ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ،٢٤ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا،٢٥ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا،٢٦ لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ،٢٧ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ،٢٨ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي.٢٩
ما نستفيده من هذه الآيات هو أنَّ اتصافَ الإنسان بهذه الحالات يعني أن لديه إمكانيةَ الاتصاف بأضدادها. وأن القرآنَ هنا في مقامِ توصيفِ الإنسان، والإخبارِ عن طبائعه وإمكاناته وأحواله، والكشفِ عن عجزه، وليس في مقام إنشاء إهانةٍ أو توبيخٍ أو ازدراء، ولا في مقام إنشاء معايير، أو إصدار أحكامٍ قدْحيةٍ عن الإنسان.
توصيفاتُ القرآنِ لهشاشة الإنسان واقعية، يتحدث القرآن الكريم بصراحة عن عجز وهشاشة الإنسان بتوصيفاتٍ وأساليبَ شديدة الإيقاع، في أكثر من ٢٥ موردًا نرى عرضًا مدهشًا لغُربة الإنسان وغرابته في العالَم، وقصوره ووهنه.٣٠ وبموازاة ذلك يرشدنا القرآن على أنه لا يمكن أن يتخلص الإنسانُ من قصوره ووهنه، وغُربته واغترابه الوجودي إلا بالإيمان. القرآنُ ينبوعٌ لن يجفَّ، يتدفقُ كالشلَّال ليستمدَّ منه الإيمانُ جذوتَه الحية، إنه أحدُ أغزر منابع المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي، لمن يمتلك مفاتيح اكتشاف كنوز المعنى فيه، لا تنضبُ طاقة قِيَم القرآن، ولا تنتهي حاجة الإنسان إليها.لو توفَّرت كلُّ حاجاتِ الإنسان المادية والبيولوجية، مثل حاجته للهواء والماء والطعام، والنوم والجنس وكل الأشياء الأخرى المماثلة، كما نرى في حياة الأثرياء المتخَمين بتكديس الأشياء والإفراط في استهلاكها، فإن كلَّ هذا الاستهلاك لا يضمن لهم توفيرَ طمأنينةِ القلب وسكينةِ الروح، ويظلُّ الإنسانُ محتاجًا إلى ما يؤمِّن له سلامًا داخليًّا، ولن يتحقَّقَ ذلك إلا ببناء صلةٍ وجودية بالله. القرآنُ مفتاح بوابة العبور إلى عوالم الملكوت وبناء صلةٍ وجوديةٍ يقِظة بالله.
ما لم يتحسَّس الإنسانُ صوتَ الله في داخله فلن يتخلَّص من الاغتراب الوجودي، عندما يموتُ صوتُ الله داخل الإنسان يموت الإنسانُ. وإن كانت «هناك فكرةٌ شائعة، ليس فقط عند عامة الناس بل عند الكثير من العلماء أيضًا، مفادها أنَّ الإنسان هو آلةٌ تعمل طبقًا لشروط بعينها؛ فهناك الجوع والعطش والحاجة للنوم وللجنس ولأشياءَ أخرى. لا بد إذن من تلبية الحاجيات الفيزيقيَّة والبيولوجية. وإذا لم تُشبَع هذه الحاجات فإن الإنسانَ يصبح عصابيًّا أو يموتُ كما هو الشأن في حالة الجوع، وإذا أُشبعَت فإن كلَّ شيء يكون على ما يُرام. والظاهر أن هذا غير صحيح؛ فقد يحصل أن تُشبَع كلُّ الرغبات الفيزيقية والبيولوجية، وعلى الرغم من ذلك لا يشبع الإنسان، بمعنى أنه لا يعيش في سلامٍ مع نفسه، بل يكون لظروفٍ معينة جدًّا مريضًا، حتى وإن كان يمتلك ظاهريًّا كل ما هو في حاجة إليه. ما ينقُصه إذن هو منشِّط يُمكِن به إيقاظ نشاطه.»٣١يخبرنا القرآنُ أن طبيعةَ الكائن البشري ما دامت بهذا الشكل من الضعف والعجز والافتقار فهي لن تستغني بذاتها مهما كانت، إنها محتاجة للإيمانِ، وبناءِ صلةٍ وجوديةٍ بالله. وذلك ما يتحدَّث عنه الحضورُ الواسعُ المهيمنُ لله في القرآن. إن خلاصةَ رسالة القرآن، تتمثَّل في بيان حاجة الإنسان للدين، من خلال الكشف عن فقره الوجودي، مقابل الحديث التفصيلي عن كمالات الله، واستغنائه عن كلِّ شيء، ومنحِه الإنسانَ ما يفتقر إليه من حاجةٍ وجودية، لا يستطيع بعقله وخبراته وتجاربه وحدها تأمينَ تلك الحاجة أبدًا، وذلك ما بحثتُه في كتاباتي المتنوِّعة.٣٢عند مراجعة الكتابات العربية حول النزعة الإنسانيَّة في الإسلام نراها تنسَى كلَّ آيةٍ تشير إلى الإخبار عن هشاشة الكائن البشري، وغالبًا ما تُهمِل آياتٍ تتحدَّث عن طبائعِ الإنسان وأحوالِه، وحالاتِ ضعفه وعجزه وغروره وطغيانه، فيما تنتقي تلك الكتاباتُ آياتٍ أخرى تتحدَّث عن مزايا الإنسان وحقوقِه وتكريِم الله له ومسئولياتِه.
القرآنُ كتابٌ إلهيٌّ لا يرسمُ صورةً مثاليةً للإنسان، كما تفعل بعضُ النصوص، ولا ينظرُ له وكأنه ملاكٌ كله محبة ورحمة وخير وحق وعطاء وسلام، وإنما يتعاطى مع الإنسان كما هو، ويتحدَّث عن طبيعته كما هي، يصفها بمختلف أبعادها، ولا يختزلها في بُعدٍ واحد. لا يرسمُ القرآنُ صورةً زائفةً للإنسانِ، ولا يريدُ أن يُهملَ طبيعتَه البشريةَ المتنوِّعة الأبعاد. القرآنُ كتابُ هداية، وهذه الغايةُ الكبيرةُ لا تتحققُ إلَّا بالتعرُّفِ على حقيقةِ الإنسان كما هي، والإفصاحِ عمَّا لا يُظهِره الإنسان، أو يتعمَّد إخفاءَه من مواقفَ متضادَّة أحيانًا.
-
(ب)
إنسانٌ قرآني: مخلوقٌ في أحسن تقويم، نفخَ اللهُ الروحَ فيه، وأمر الملائكة بالسجود له، ونصَّ على تكريمه، وسخَّر له ما في الأرض والسماء، وعلَّمه الأسماء، وحمَّله الأمانة، وأناط به مسئولية الاستخلاف. وهذه صورةٌ أخرى يقترن فيها ذِكرُ الإنسان في القرآن بحالات وإمكانات وخصائص تكشف عن أنه المتفوِّق على كل مخلوق؛ حيث يتفرَّدُ الإنسانُ في القرآن بما يلي:
-
(١)
يتفرَّدُ الإنسانُ في خلقِه فِي أَحْسَنِ صورةٍ يُمكِن أن يُخلَق فيها مخلوق، كما تقول الآية: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. التين، ٤.
-
(٢)
يتفرَّدُ الإنسانُ في أنه الكائنُ الوحيد الذي نفخ اللهُ فيه من روحه عند خلقه، فصارت هذه الروحُ مكوِّنًا أساسيًّا لكينونته الوجودية، مما تسامى بمقامه إلى مرتبة لن يبلغها مخلوقٌ سواه في مكانته، كما تقول الآية: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ. (ص، ٧٢).
-
(٣)
يتفرَّدُ الإنسانُ في أنه الكائنُ الوحيد الذي استحق أن تسجد له الملائكة، كما تقول الآية: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ. (ص، ٧٢).
-
(٤)
يتفرَّدُ الإنسانُ في تكريمِه وتشريفه وتفضيله على ما سواه من الخلق، كما جاء في الآية: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ. (الإسراء، ٧٠).
-
(٥)
يتفرَّدُ الإنسانُ في تسخير الله له كلَّ ما في السَّمواتِ والأرض، وذلك من الآثار الوجودية لتكريم الإنسان، وهو ما نصَّت عليه الآية: سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ. (لقمان، ٢٠).
-
(٦)
يتفرَّدُ الإنسانُ في تعليم آدم الأسماء، وذلك من الآثار الوجودية لتكريم الإنسان، وهو ما نصَّت عليه الآية: وَعَلَّمَ ءَادَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا. (البقرة، ٣٠).
-
(٧)
يتفرَّدُ الإنسانُ في تعليمه البيان، وذلك من الآثار الوجودية لتكريم الإنسان، وهو ما نصَّت عليه الآية: خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ. (الرحمن، ٤).
-
(٨)
يتفرَّدُ الإنسانُ في أنه الوحيد الذي لديه إمكانية حمل الأمانة الإلهية، وهذا الضربُ من التكريمِ الوجوديِّ هو الذي استحق الإنسانُ بسببه أن تُناط به مسئوليةٌ عظمى. حملُ الأمانة الإلهية مهمةٌ جسيمة لا يقوى عليها إلَّا الإنسان، كما تقول الآية: وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا. (الأحزاب، ٧٢).
-
(٩)
يتفرَّدُ الإنسانُ في أنه الوحيد الذي لديه إمكانية الخلافة الأرضية نيابةً عن الله، وذلك من الآثار الوجودية لتكريم الإنسان، وهو ما نصَّت عليه الآية: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. (البقرة، ٣٠).
-
(١)
للإنسان في القرآن الكريم بُعدان
أكثرُ الكتابات تخلطُ بين الإنسان بوصفه كينونةً وجودية لا تتغير، وهو الإنسانُ بالمعنى الأنطولوجي الفلسفي، الإنسانُ خارج المعنى الفيزيائي والأنثربولوجي. هذا البُعد في الإنسان هو ما يكون موضوعًا للقِيم والأخلاق الكونية.
البُعدُ الآخر في الإنسان هو الإنسانُ بوصفه هويةً متحولة، الإنسانُ بالمعنى الفيزيائي والأنثربولوجي المتغيِّر. وهذا البُعد في الإنسان هو ما يكون موضوعًا للأحكام الظرفية المتغيِّرة.
قلَّما نقرأ في مؤلَّفات تفسير القرآن تمييزًا دقيقًا بين الإنسانِ بعنوان كونه يعيشُ في زمان ومكان وظروف وبيئة وثقافة عصر البعثة، الإنسانِ بالمعنى الفيزيائي والأنثربولوجي المتغيِّر، واتخاذه موضوعًا لبعض آيات الأحكام وغيرها. والإنسانِ بعنوانه الذي ينطبق على كل إنسانٍ بغَضِّ النظر عن الواقع الذي يعيش فيه، وبغَضِّ النظر عن مختلف الظروف المتغيِّرة باختلاف الزمان والمكان، وأعني به الإنسان بوصفه كينونةً وجودية جوهرية. وهذا البُعد في الإنسان لا يخضع لتغيُّر المحيط ونمَط العيش والثقافة، وهو الإنسانُ بالمعنى الأنطولوجي الفلسفي.
هناك مَنْ يتعاطى مع الإنسان بوصفه كائنًا لا يتغيَّر ولا يتحول أيُّ شيء فيه، وهناك مَنْ ينظر للإنسان بوصفه صيرورةً وتشكُّلًا مستمرًّا في كلِّ أبعاد وجوده، لا يرى كينونةً وجودية جوهرية ثابتة في الإنسان، كلُّ شيء فيه متغيِّر بتغيُّر مختلف الأحوال والظروف المتنوِّعة بتنوُّع المحيط والثقافة. وقد انتهى هذا الموقف إلى القول لدى بعض المفكرين بنسبية الحقيقية وكلِّ القيم والأخلاق، والارتياب في كلِّ شيء له صلة بالإنسان، ولم يعُد هناك شيءٌ ثابت، أو قيمةٌ روحية وأخلاقية وجمالية كونية حسب رأيهم. الثابتُ الوحيد هو عدمُ الثبات، الثابتُ الوحيد هو التغيُّر الكلي المستمر، وهذا ضربٌ من الارتياب والشك الذي ينتهي إلى نفي كلِّ شيء.
تختزل كلا النظرتَين الإنسانَ في بُعدٍ واحد، فهو إما ثابت لا يتغيَّر أبدًا مهما تغيَّرَت ظروف حياته، وهذا فهمٌ متحجِّر للإنسان، أو متغيِّر على الدوام لا شيءَ ثابت في وجوده، والمبالغة في هذا الفهم تنتهي إلى نسبية كلية. القرآنُ الكريم يتحدث عن بُعدين للإنسان، كلُّ بُعدٍ منهما يُتخَذ موضوعًا لنوع من أحكامه:
- الأول: الإنسانُ الذي يعبِّر عن هُويَّاته المتغيِّرة تبعًا لتغيُّر الواقع الذي يعيش فيه، الإنسانُ بالمعنى الفيزيائي والأنثربولوجي المتحول بوصفه صيرورةً وتشكُّلًا مستمرًّا في هُويَّاته المتغيِّرة، الإنسانُ الذي يخضع لتحوُّلات الظروف والأحوال وأنماط العيش. هذا البُعد للإنسان هو الموضوع الذي تدرُسه العلومُ الإنسانية، وتتحدَّث عن تغيُّره المستمرِّ تبعًا للتحولات في ظروف عيشه وأحواله. وهذا البُعد هو الموضوع للأحكام الخاصة بعصر البعثة الشريفة وامتداداته الظرفية في زمان الخلفاء وأزمنةٍ لاحقة مماثلة له، تشترك معه في مستوى تطوُّر العلم والمعرفة والثقافة ونمَط العيش ومختلف المعطَيات السائدة في الواقع.
- الثاني: الإنسانُ من حيث هو إنسانٌ أبديٌّ لا يتغيَّر في كلِّ الظروف والأزمنة والأحوال، الإنسانُ بغَضِّ النظر عن هُويَّاته المتغيِّرة. الإنسانُ خارج كلِّ الهُويَّات المجتمعية، الإنسانُ بوصفه كينونةً وجودية كونية لا تتغيَّر مهما تغيَّرَت الظروف والأحوال والأزمان، ومهما تغيَّر الواقع. بمعنى ما يكون به الإنسانُ إنسانًا بغضِّ النظرِ عن أي شيءٍ آخر يتدخل في تصنيفِه عرقيًّا أو جغرافيًّا أو اقتصاديًّا أو ثقافيًّا أو دينيًّا. يتحدث القرآن عن الإنسان بالنظر إلى كينونته الوجودية خارج المعنى الفيزيائي والأنثربولوجي المتغيِّر، الإنسانُ بهذا العنوان هو موضوعُ الكرامة والقيم الأخلاقية والروحية والجمالية الكونية المشتركة بين الناس كلِّهم.
في ضوء فهمنا لهذين البُعدين يكون الإنسان موضوعًا لنوعَين من الأحكام في القرآن:
-
(١)
الإنسان بوصفه كائنًا تاريخيًّا متغيِّرًا: يعبِّر عنه عنوانُ الإنسان باعتبار هُويَّاته المتغيِّرة، الإنسان منظورًا إليه هنا بوصفه إنسانًا عاش في زمان ومكان وبيئة وثقافة وواقعٍ خاص، ومأخوذة كلُّ هذه الأحوال في كونه موضوعًا للأحكام. في ضوء هذا المفهوم للإنسان تتغير الأحكام بتغير الأحوال والظروف والأزمان؛ لأن الموضوع فيها مأخوذ بنحو القضية الخارجية.٣٣
هذا هو الإنسانُ التاريخي الذي يقع موضوعًا لآيات الأحكام الخاصة بذلك الزمان، ومن أوضَحها مصداقًا آياتُ الرق وغيرها من أحكام معاملات أمضاها الإسلام مؤقتًا لضروراتٍ فرضَها الواقع، وعقوبات بدنية وغيرها، كلُّها تمثل عصر البعثة الشريفة.
أحكامُ الرقِّ مثلًا ليست منسوخةً، لا حكمًا ولا تلاوة، ومع ذلك نسخَها تغيُّرُ الزمان والمكان والبيئة والواقع. تضمَّن القرآن الكريم آياتٍ تتحدث عن أحكام الرق، لا يعمل بها أحدٌ اليوم، مثل: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ واللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، النساء:٢٥. وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، (المؤمنون: ٥-٦). وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ واللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، (القصص، ٣). أحكام الرق مثالٌ لمواردَ متنوِّعة من آيات أحكام المعاملات الخاصة بذلك العصر وأمضاها القرآن مؤقتًا، وعقوبات متنوعة؛٣٤ الحكم فيها يتغيَّر حين يتغيَّر العصر. -
(٢)
الإنسان بوصفه إنسانًا لا يتغير: يعبِّر هذا المعنى عن الإنسان بعنوان كونه فردًا، إنسانٌ ينطبق على حقيقة الإنسان الفرد الوجودية، الإنسانُ في الحياة الدنيا وبعد الموت في الحياة الآخرة. هذا هو البُعد الذي يعبِّر عن كينونةٍ وجوديَّة جوهريَّة لا تتغيَّر في الإنسان. كما يعبِّر هذا المعنى عن الإنسان بعنوان كونه إنسانًا كليًّا، إنسانٌ كلي ينطبق على كل إنسانٍ موجود، كينونةُ الإنسان القديم ووجوده هي ذاتها كينونة الإنسان ووجوده اليوم، لا اختلاف في صدق مفهوم الإنسان عليها مهما اختلف الواقع وتغيَّرَت أنماطُ العيش والثقافة والأحوال. كما أشرنا سابقًا، نعني به الإنسانَ بوصفه ذلك الجوهر الواحد الذي يشتركُ فيه كلُّ كائنٍ بشري مع غيره، والمتمثِّل فيما يصيِّر كلَّ إنسانٍ إنسانًا.
الموضوع هو كينونة الإنسان ووجوده العابر للزمان والمكان والظروف والبيئة والثقافة والواقع، موضوع الأحكام مأخوذٌ فيه هو عنوان الإنسان بنحو القضية الحقيقية. هذا العنوان للإنسان هو موضوع القِيم الأخلاقية والروحية والجمالية في الآيات القرآنية. وهو الموضوع الذي تخاطبه آياتُ القرآن في حديثها عن الله والتوحيد والغيب وكلِّ القِيَم الكونية المشتركة.
على هذا الأساس يبتني تصنيفُنا لمضامين آيات القرآن، واعتماد ذلك معيارًا في اكتشاف المعنى الديني الذي ينشُده القرآن في الظرف الخاص بعصر البعثة، والمعنى الروحي والأخلاقي والجمالي الذي يتسع لكلِّ عصر، وفي ضوء ذلك نفهم ما هو ثابتٌ وما هو متغيِّر، وَفْقًا لما يلي:
-
(١)
آيات تتضمن أحكامًا وتشريعاتٍ تعكس واقعَ مجتمعِ عصر البعثة. مثل آيات الرق، وغيرها من آياتٍ تتحدث عن معاملاتٍ متنوِّعة، وعقوباتٍ بدنية وغيرها مختلفة. وهي أحكامٌ ليست كونية، ولا تستوعب كلَّ العصور.
-
(٢)
آيات تتضمن قِيمًا إنسانيةً كلية، قِيمًا أبدية، قِيمًا يحتاجها الإنسانُ بوصفه إنسانًا، في كل زمان ومكان، قِيمًا غايتُها أن يعيش الإنسان في أُفق المعنى، قِيمًا تنشُد بناء الحياة الروحية والأخلاقية والجمالية.