(٦) إنسانيَّةُ الدِّين تختصرُها نظرتُه للكرامة

أشرنا في حديثنا عن الرؤية للعالَم في الإنسانيَّة الإيمانية، وكيف أنها تبتني على مركزية الله في الوجود، ومركزية الإنسان في الأرض، بالمعنى الذي لا تتنافي فيه المركزيَّتان؛ فمركزيةُ الإنسان في إطار مركزية الله، وليست مستقلةً عنها. مركزية الإنسان تقع في سلسلة مراتب الوجود الذي خلقه الله، مرتبة وجود الإنسان تقع في تسَلسُل تلك المراتب، وهي تمثِّل الذروةَ فيها وأرفعها وأشرفها. وجود الإنسان يمثِّل أسمى هذه المراتب وأكملها؛ لذلك اختصه اللهُ بأعظم وأشد وأشق مهمة وهي الاستخلاف في الأرض، استخلاف الله للإنسان في الأرض، هو ما نعنيه بمركزية الإنسان في الأرض، وهي مهمةٌ لن يُطيقَها سواه من المخلوقات لافتقارها لمتطلَّبات هذه المهمة العظمى؛ إذ الاستخلافُ أعلى مراتبِ تكريم الله للإنسان.

كرامةُ الفرد تسبق كلَّ كرامة

الكرامةُ وعيُ الإنسان بالحرية، كلُّ رسالةٍ تحرريةٍ في التاريخ البشري تستمدُّ قيمتَها ومشروعيتَها من قدرتها على استرداد الكرامة البشرية المهدورة. المعيارُ الكلِّي لاختبار إنسانيَّة أيِّ دينٍ هو كيفيةُ تعاطيه وإعلائه للكرامة الإنسانية، والموقعُ الذي تحتلُّه الكرامةُ في منظومة القِيَم لديه. إنسانيَّةُ الدين تختصرُها نظرتُه للكرامة بوصفها القيمةَ التي تستحضر كلَّ قيمةٍ إنسانيَّة، قيمةٍ تتسع لكلِّ الحقوق الأساسية،١ وتضع الحريةَ غايةً تتطلَّع لاستردادها على الدوام كاملةً غيرَ منقوصة، والخلاص في تعاليمها وشريعتها من أيَّة محاولةٍ لتسويغ العبودية المعلَنة أو المقنَّعة، والإكراهية أو الطوعية، والحرص على حماية الخصوصية الشخصية من الانتهاك، أو تجاهُل الفردية، أو إهدارها تحت ذريعة المصالح العليا للأمة والجماعة.

الكرامةُ قيمةٌ أصيلةٌ، إنها أحدُ مقوِّمات وجود إنسانيَّة الإنسان، حضورُها يعني حضورَ إنسانيَّة الإنسان، وغيابُها يعني غيابَ إنسانيَّة الإنسان. لا تعني الكرامةُ عدمَ الإهانة فقط، عدمُ الإهانة أحدُ الآثار المترتبة على حضورِ الكرامة، وثمرةٌ من ثمرات تحقُّقها في الحياة البشرية.

الكرامةُ قيمةٌ للفرد، تبدأ الكرامةُ بالفرد لتنتهي بكرامة الأمة، لا كرامة لأمة بلا كرامة لأفرادها. الجماعاتُ اليسارية والقومية والأصولية تورَّطَت في مفارقة استغفلَت فيها المجتمعات معها، عندما شدَّدَت على كرامة الأمة وتجاهلَت كرامة الفرد. أشاعت هذه الجماعاتُ ثقافةً مضادَّة، صارت الكرامةُ فيها تبدأ بالأمة لتنتهي بالفرد، فتفشَّت في أدبياتها مفاهيمُ تتقدَّم فيها كرامةُ الأمة على كرامة الفرد، وحرياتُ الأمة على حريات الفرد، وحقوقُ الأمة على حقوق الفرد. وفي مرحلةٍ لاحقة تم اختزال كرامة الأمة بكرامة الزعيم وحده، وحرية الأمة بحرية الزعيم وحده، فلم تعُد هناك كرامة لمواطن، مهما كانت مكانته، ولم تعُد هناك حرية لأي إنسانٍ مهما كان مقامه، بل لم تعُد هناك كرامة للوطن والدولة والمجتمع. كلُّ مصاديق الكرامة اجتمعَت في الزعيم، الذي اختزل الكلَّ في واحد، كلُّ ما سواه فداءٌ له، المواطن فداءٌ للزعيم، الأمةُ فداءٌ للزعيم، الوطنُ فداءٌ للزعيم. كلُّ ما سواه لا كرامةَ له، كرامةُ المواطن كرامةُ الزعيم، ولو فرضنا ظفَر مواطن بشيء من بقايا كرامة فهي انعكاسٌ لكرامة الزعيم ومكرمةٌ منه. كلُّ الأنظمة المسمَّاة بالثورية في بلادنا غذَّت مقررات التربية والتعليم بهذه المفاهيم، وعمَّمَت شعاراتٍ تدعو للموت من أجل الزعيم، واستخدمَت وسائل الإعلام وأجهزة الدعاية بمهارة، ورسَّخَتها في الثقافة والفنون والآداب، وتمرَّسَت في تعبئة وتجييش الجماهير وتدجينها على ذلك؛ لذلك سرعان ما تُولَد الأصنام البشرية في بلادنا.٢

كرامةُ الدولة والوطن والمجتمع والهوية تبدأ بتكريم الفرد، عندما تُنتهَك كرامةُ الفرد تحت أية ذريعة، فلا كرامةَ لأحد. كلُّ مجتمع تكون كرامةُ الأفراد الشخصية فيه مستلبةً هو مجتمعٌ مستلَبُ الكرامة. ليس هناك أي تضادٍّ في الكرامات، أو تضادٍّ في الواجبات، هناك سببيةٌ وتكامُل، كرامةُ الفرد هي العلة لكرامة المجتمع والوطن والدولة، ولكلِّ كرامة. كرامةُ الدولة والوطن والمجتمع كلُّها نتيجةٌ طبيعية لكرامة الفرد. ما دام الفرد مُهانًا فلا كرامة لمجتمعه أو وطنه أو دولته.

إن انتهاكَ كرامةِ أي كائنٍ بشري هو انتهاكٌ يطالُ كرامةَ غيره من البشر أيضًا. الكرامةُ قيمةٌ كونيةٌ، لكلِّ إنسانٍ نصابُهُ فيها؛ لذلك يفرضُ الضميرُ الأخلاقي على الكلِّ حمايتها، كلٌّ حسب موقعه، ووَفْقًا لإمكاناته وقُدرته.

الكرامةُ هي الأصل

يحتاجُ الإنسانُ إلى: الحبِ، والأمانِ، والحريةِ، والمساواةِ، والاهتمامِ، والعنايةِ، والاعترافِ، والمكانةِ، والشهرةِ، والنفوذِ، والسلطةِ، لكن احتياجَ كلِّ إنسانٍ للكرامةِ يختصر كلَّ هذه الاحتياجات ويتقدَّم عليها. الكرامةُ قيمةٌ أنطولوجيةٌ يتطلَّبها وجودُ الإنسان من حيث هو إنسان. كلُّ رسالةٍ تحرريةٍ في التاريخ البشري تستمدُّ مشروعيتَها من قدرتها على استرداد الكرامة الإنسانية المهدورة؛ لذلك كانت وما زالت أقسَى العقوبات وأشدُّها مرارةً على النفس، هي: الظلمُ، والإذلالُ، والاحتقار، والإهانةُ، والإهمالُ، والتجاهلُ، وكلُّ كلمةٍ أو موقفٍ أو سلوكٍ يُشعِرُ الآخرَ بانعدام كرامته وقيمته.٣
الكرامةُ وعيُ الإنسان بالحرية، القرآنُ الكريم يتحدَّثُ عن الحرية في عدَّة آيات، لكنَّ فهمَ أكثرِ المفسِّرين انتهى إلى نفي الحرية في هذه الآيات، وأهدَر معناها لصالح آيةٍ واحدة، اشتُهرَت تسميتُها بآية السيف.٤ حريةُ الاعتقاد هي أصلُ الحريات الأخرى؛ إذ لا حريةَ لمُكرَه على دين. من الآيات التي تتحدَّث عن حريةِ الاعتقاد: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ،٥  إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ،٦  وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ،٧  وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ،٨  ‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.٩ أما الآياتُ القليلة المعارِضة لهذه الآيات في مدلولها مثل آية السيف، فنفهم الأحكامَ فيها بوصفها حالةً خاصةً بعصر البعثة؛ إذ إن هذه الأحكامَ فرضَتْها ضروراتٌ آنيَّة على الدعوة النبوية؛ فلو لم تتعامل الدعوةُ بالمثل مع الآخرين في بعض المواقف التي كان فيها تعاملُ غير المسلمين تعاملًا عنيفًا، لأُجهضَت الدعوةُ وهي في مرحلة الولادة. ولو كانت الأحكامُ في تلك الآيات أبديةً، بمعنى أنها تتسع لكل زمانٍ ومكانٍ وإنسان، للزم انكفاءُ المسلمين على أنفسهم، وفشلُهم في التعايش مع المختلف في الدين، وعجزُ الإسلام عن الحضور في مجتمعاتٍ متعدِّدة الأديان والثقافات.
في المجتمعاتِ التي يتوطنُ فيها الاستبدادُ طويلًا تُنسَى الحرية، وتشحُّ الكرامةُ، إلى الحدِّ الذي يتلاشَى تقديرُ الذات لدى كثيرٍ من الأشخاص. الاستبدادُ يشتغلُ على إهدارِ كرامةِ الكائن البشري، واحتقاره، ومحوِ الملامح الخاصة لشخصيته. يعجزُ الشخصُ المهدورُ الكرامةِ عن تقديرِ قيمةِ كرامته، وهكذا يعجزُ عن تقديرِ قيمةِ كرامةِ غيرِه، فتراه يتعاملُ مع الكلِّ وكأنهم أشياءُ ماديةٌ، من دون اهتمامٍ بالكرامة الإنسانية التي يفرضها وجودُ الإنسان بوصفه إنسانًا.١٠

كرامةُ الإِنسَان في القرآن مقامٌ وجودي

الوجهُ الآخر ﻟ «الإنسان القرآني» يتمثَّلُ في خلقِه فِي أَحْسَنِ صورةٍ يمكن أن يُخلَق فيها مخلوق، كما تقول الآية: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ.١١ وينفردُ الإنسانُ في أنه الكائنُ الوحيد الذي نفَخ اللهُ فيه من روحه عند خلقه، فصارت هذه الروحُ مكوِّنًا أساسيًّا لهُويَّته الوجودية، مما تسامى بمقامه إلى مرتبة لن يبلغَها مخلوقٌ سواه في مكانته، وبذلك استحق الإنسانُ أن تسجد له الملائكةُ: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ.١٢ كما ينفرد الإنسان في تكريمِه وتشريفه وتفضيله على ما سواه من الخَلْق كما جاء في الآية: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وفَضَّلْنَاهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا.١٣ التكريمُ هنا تكريمٌ عامٌّ يتسع لكلِّ بني آدم، وهو مقامٌ وجودي؛ أي أنه مكوِّنٌ ذاتيٌّ للكينونة الوجودية للإنسان مطلقًا، بغَضِّ النظر عن جنسه ولونه ومعتقَده، وغيرِ ذلك مما هو خارج كينونته الوجودية. وهو غيرُ التكريمِ العرَضيِّ المُضاف الذي هو استحقاقٌ يناله الإنسانُ بعملهِ وسعيهِ للكمال، وجهودهِ الخيِّرة من أجل إسعاد الناس، والمساهَمةِ في إثراء القِيَم وترسيخها، وخلقِ عالَمٍ أجمل للعيش.

تكريمُ الإنسان أحد تعبيرات اختصاص الإنسان بمقامٍ وجودي لا يرقَى إليه مخلوقٌ غيره. وهو يعكس أسمى تعبيرٍ عن محبة الله للإنسان، ومنحِه مكانةً استثنائية بتكريمِه وجعلِه خليفتَه الوحيد في الأرض، واختصاصِه بأنه المستأمن على كل مخلوقاته وتسخيرها له.

التكريمُ بوصفه مقامًا وجوديًّا استحق به الإنسانُ أن يسخِّر اللهُ له كلَّ ما في السمواتِ والأرض: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً.١٤
تعليمُ آدم الأسماء من الآثار الوجودية لهذا التكريم، وهو ما نصَّت عليه الآية: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ١٥ تعليمُ آدمَ الأسماءَ تعبيرٌ عن كمالٍ وجودي أفاضه اللهُ على الإنسان؛ لأن سياقَ ذِكْر الأسماء في الآية يدلُّ على أن هذه الأسماءَ ليست الألفاظَ والكلمات المتداولة في اللغة، بل هي أمورٌ وجودية، وأن تعلُّمَ الإنسان لها يعني اتصافَه الذاتي بها؛ لذلك يرتقي مقامُ الإنسان ويسمو في مراتب الوجود على أثَر اتصافه بهذه الأسماء.
وهذا الضربُ من التكريمِ الوجوديِّ هو الذي استحق الإنسانُ بسببه أن تُناط به مسئوليةٌ عظمى، وهي حملُ الأمانة الإلهية، التي هي مهمةٌ لا يقوى عليها إلَّا الإنسان كما تقول الآية: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا.١٦ الآية تجعل من الإنسان الاستثناءَ في العالَم لحمل هذه الأمانة، على الرغم من أنها مهمةٌ لا تُطاق، وتعقيبُ الآية بالإشارة إلى ظلمِ الإنسان وجهلِه يدلُّ على أنه الوحيدُ في السموات والأرض القادرُ على حملها، ويشي مضمونُ الآية بأن من يتصف بالجهل يتصف بالعلم، ومن يتصف بالظلم يتصف بالعدل؛ لأن «الظلمَ والجهلَ في الإِنسان، وإن كانا بوجهٍ ملاك اللومِ والعتاب، فهما بعينهما مصحِّح حمله الأمانة والولاية الإِلهيَّة. فإن الظلمَ والجهلَ إنما يتصف بهما مَن كان مِن شأنه الاتصافُ بالعدل والعلم؛ فالجبال مثلًا، لا تتَّصف بالظلم والجهل، فلا يُقال: جبلٌ ظالمٌ أو جاهلٌ، لعدم صحَّة اتِّصافه بالعدل والعلم، وكذلك السموات والأرض لا يُحمل عليها الظلم والجهل، لعدم صحة اتصافها بالعدل والعلم، بخلاف الإِنسان.»١٧

مقامُ الخلافة مقامٌ استثنائي

مقتضى إناطةِ حملِ الأمانة ﺑ «الإنسان» تحميلُه المسئولية، وتحمُّلُ المسئولية يقتضي الحرية؛ إذ لا مسئوليةَ بلا حرية. وهذا المقامُ الوجوديُّ هو الذي استحقَّ به الإنسانُ أن تُناطَ به مسئوليةُ خلافةِ الله في الأرض، كما تقول الآية: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ.١٨ آدمُ في سياق هذه الآيات ليس آدمَ الشخصي، بل هو تعبيرٌ يرمز لنوع الإنسان بوصفه إنسانًا. ويشير جعلُ الخلافة في الآية إلى أن الجعلَ هنا تكوينيٌّ لا تشريعي، ولمَّا كان الجعلُ تكوينيًّا فإن مهمةَ الخليفة وجودية، يتولى فيها المُستخلَف (بفتح اللام) شئونَ المُستخلِف (بكسر اللام) في الأرض. وذلك يعني أن اللهَ عهد إلى خليفته في الأرض أن يتولى مسئوليةَ استثمار ما هو مُودَع فيها من قوانينَ طبيعية وثرواتٍ مادية، باعتمادِ عقلِه وقدرتِه على التفكير في اكتشافِ القوانين وتسخير الثروات، واستثمارها والإفادةِ منها في إعمار الأرض. بمعنى أن اللهَ فوَّض الإنسانَ تفويضًا كاملًا، بوصفه خليفتَه، القيامَ بكلِّ مهمةٍ يتوقف عليها إعمارُ الأرض، في كلِّ ما يتصل باستثمارِ موارد الطبيعة، وأنماطِ الإنتاج والتوزيع والتداول والاستهلاك، وبناءِ العلاقات، وتنظيمِ حياته وتدبيرِ شئون العيش المشترك في الاقتصاد والسياسة والإدارة والقضاء والثقافة، واكتشافِ الصيغة المتوازِنة لتحقيق المساواة والعدالة، وتكافؤ الفرص بين البشر، وحمايةِ كرامتهم وحقوقهم وحرياتهم.

وهذا يعني أن مقامَ الخلافة مقامٌ استثنائي اختصَّ اللهُ به الإنسان، لما تتمتعُ به طبيعتُه ووجوده الاستثنائي من قدرات ومواهب، تمكِّنه من دون غيره من مخلوقات أن يتكفَّلَ بكلِّ المهماتِ المطلوبة لاستثمار موارد الطبيعة، وبناءِ العالَم الذي يعيش فيه، ولم يعُد للمُستخلِف (بكسر اللام) وهو الله دَورٌ مباشر في إعمار الأرض وكلِّ ما يتصل باستثمارِ موارد الطبيعة، إلَّا بحدود الهداية وإثراء المتطلَّبات الروحية والأخلاقية والجمالية التي تفرضها الضروراتُ الوجودية لحياة المُستخلَف (بفتح اللام) وهو الإنسان، وهي متطلَّباتٌ يعجزُ عن تأمينها لوحده، باعتماد إمكاناته ووسائله هو.

ذلك هو المعنى الذي أشرنا إليه في حديثنا عن الرؤيةِ للعالَم في الإنسانيَّة الإيمانية، وكيف أنها تبتني على مركزية الله في الوجود، ومركزيةِ الإنسان في الأرض. بوصف وجود الإنسان يمثِّل أسمى هذه المراتب وأكملَها اختصَّه اللهُ بأعظم وأشد وأشق مهمة وهي الاستخلاف في الأرض، وهي مهمة لن يُطيقَها سواه مِن المخلوقات لافتقارها لمتطلَّبات الاستخلاف.

الإنسانُ هو الكائنُ الوحيد في الوجود الذي تتوفَّر فيه المتطلَّباتُ الضرورية للاستخلاف، الإنسانُ يمتلكُ ما لا يمتلكه غيرُه من إمكاناتٍ تؤهِّله لهذه المهمة الثقيلة الاستثنائية. الأرضُ كجزء من الكون تسيِّرها قوانينُ طبيعية استودعها اللهُ فيها، أما كيف يُنظِّم الإنسانُ علاقتَه بالطبيعة وقوانينها ويسخِّرها لصالحه، وكيف يستثمرُ الأرضَ ويعمُرها، وكيف يديرُ علاقتَه بغيره من البشر وبقية المخلوقات؟ كلُّ ذلك يتكفَّله الإنسانُ بما يتوفَّرُ عليه من عقل وإرادة وحرية اختيار وإمكانات وقدرات متنوعة. باستثناء بناء صلته بالغيب فإنها تظل محكومةً بما يهديه إليه اللهُ بالوحي والنبوة وخارطةِ السير التي يرسمُها له القرآنُ الكريم، ويتكفَّل القرآنُ تأمينَ المعنى الديني الذي يبني حياته الروحية والأخلاقية والجمالية.

اللهُ خلقَ قوانينَ تتحكم في الطبيعة، ونواميسَ للنفس وسُننًا للاجتماع، ومقتضى استخلاف الإنسان في الأرض هو العمل على اكتشاف هذه القوانين وتسخيرها. هذه القوانينُ مَنْ يتبعُها لن تخذُله، مَنْ يحاولُ معاندتها تعانده، مَنْ يحاول قهرها تقهره، مَنْ يحاول كسرها تكسره، مَنْ لا يكترثُ بها يتيه في الأرض، ويلبث في التيه متخبطًا كلَّ حياته.

يتعذَّر أن تُولَد الحريةُ من أيِّ نمطٍ للعبودية

عندما نتدبَّر ما يتحدَّث به القرآنُ عن: خلقِ الإنسان في أحسن تقويم، وتعليمِه الأسماء، وتكريمِه، وتفضيلِه على الخلق، وتشريفِه بحمل الأمانة الإلهية، وتفويضِه بالخلافة، نرى هذه المراتبَ الوجوديةَ الساميةَ للإنسان على الضدِّ من مفهوم العبودية، بالمعنى الذي أنتجَه المتكلمون المسلمون بمختلف فِرقِهم، وما انتهى إليه ذلك المفهومُ من سلبِ حرية الإنسان ومصادرةِ حقوقه التي كانت استحقاقًا إلهيًّا لوجوده من حيث هو إنسان.

من المفارَقات اشتقاق مفهوم الحرية من الاستعباد. يتعذَّر أن تُولد الحريةُ من أيِّ نمطٍ للعبودية، سواء كانت العبوديةُ لمستعبِدٍ ينتمي للسماء، أو لمستعبِدٍ ينتمي للآلهة الأرضية، أو لمستعبِدٍ من البشر. صورةُ الله كما يرسمُها المتكلمُ هي التي يُشتقُّ منها نمطُ التديُّن، إن كانت هذه الصورةُ شديدةً صارمةً قاسيةً مُستعبِدةً تنتج تديُّنًا متشدِّدًا صارمًا قاسيًا مُستعبَدًا، وإن كانت رحيمةً محبوبةً جميلةً تنتج تديُّنًا رحيمًا مُولَعًا بالحب والجمال. عبادةُ الله بوصفه الرحماني الأخلاقي تنتج تديُّنًا رحمانيًّا أخلاقيًّا. ما لم تتأسَّس الصلةُ بالله على المحبة والرحمة تنتهي إلى سلاسلَ من العبوديات الأرضية.

حدثَ التباسٌ نشأ من إسقاط الدلالات الاجتماعية والثقافية للغة العربية ومعانيها المتداوَلة في عصر البعثة، وجرى تفسيرُ آياتِ القرآن في ضوء المدلول الاجتماعي والثقافي للكلمات، ففَهِموا كلمةَ «عِبَاد» القرآنية مثلًا في سياقات مفاهيمِ الاستعباد وتفشِّي ظاهرة الرقِّ في المجتمع العربي في عصر البعثة، ولم يتنبَّهوا للفَرق بين عِبَاد وعَبِيد.١٩

يشدِّدُ أبو الأعلى المودودي على أن عبوديةَ الإنسان لله هي عنوانُ حريته؛ إذ يرى أن حريةَ الإنسان مشتقةٌ من عبوديته لله، وهو مفهومٌ استلَّه المودودي من ابن تيمية، ثم تلقَّفه سيدُ قطب وغيرُه من كتَّاب أدبيات الجماعات الدينية سنة وشيعة من المودودي، بعد أن أعاد الأخيرُ إنتاجَ مفهوم العبودية لله بنحوٍ جعله مرادفًا للعبودية للمستبدِّ، بنحوٍ أضحى مفهومُ العبودية لله استعبادًا رديفًا لاستعباد الطغاة للناس، وتشبَّعَت بهذا المفهوم الذهنيةُ الإسلامية حتى ترسَّب في البِنى اللاشعورية للمسلم.

مفهوم العبودية بمعنى الاستعباد الذي تشكَّل في التراث الكلامي، وترسَّخ بمرور الزمن، واستنسخَتْه بتبسيطٍ أدبيات الجماعات الدينية، ينتهي إلى انتفاء تكريم الله للإنسان، وانتفاء مهمة خلافة الإنسان لله في الأرض، وانتفاء حريته. في سياق معنى الإستعباد الذي يتحدثون عنه لا يمكن أن يكون العبدُ جديرًا بمقام التكريم والاستخلاف الوجودي الذي خصَّ الله به الإنسان وجعله مكوِّنًا لوجوده.

لم يتنبَّه أكثرُ المتكلمين إلى أن القرآنَ، بوصفه كتابًا مقدَّسًا، يؤسِّس قِيَمًا إنسانيةً كونيةً عابرةً للزمان والمكان تنظر للكينونة الوجودية للإنسان، مثلما يعالج القضايا المحليةَ الخاصةَ ﺑ «الإنسان» ومشكلاته في عصر البعثة. ذكرنا أن القرآنَ عندما يتحدثُ عن الإنسان تارةً ينظر للإنسان من حيث هُوياته الاجتماعية المتغيِّرة؛ أي الإنسان الذي عاش مع النبي (ص)، وأخرى يتحدثُ عنه لا بوصفه الزماني والمكاني والتاريخي الخاص بعصر البعثة، بل ينظرُ للإنسان بوصفه إنسانًا، يتحدث عن الإنسان بكينونته الوجوديه الذي يتسعُ لكل مصداق للإنسان في أيِّ زمان ومكان بغَضِّ النظر عن أية هُوية يكتسبها من المجتمع والثقافة والدين.٢٠

موضوع الأحكام في القرآن تارة يكون إنسان عصر البعثة المتغيِّر، وأخرى الإنسان بوصفه إنسانًا. موضوع الأحكام من النوع الثاني شاملٌ يتسع للانطباق على كل إنسان، والموضوع من النوع الأول محدود بحدود الإنسان الذي عاش في بيئةٍ خاصة، لكن حدثَ التباسٌ في فهم الأحكام الخاصة بعصر البعثة وتم تعميمُها لكلِّ الأزمان ومختلف الحالات، تم تعميمُ الأحكام الخاصة بالرقيق، والمرأة، والعقوبات البدنية، وغير ذلك.

القرآنُ كأيِّ كتابٍ مقدَّس عالَمي، استوعبَ ما هو محليٌّ ظرفي، خاصٌّ بالمجتمع في عصر التأسيس، ولا يمتدُّ كلُّ ما فيه لكلِّ الأزمنة اللاحقة. الكتابُ المقدَّسُ العالَمي يستوعبُ ما هو خاصٌّ بعصر البعثة، وما يؤسِّس لقِيَمٍ إنسانيَّةٍ كونيةٍ عابرةٍ للزمان والمكان، مضافًا إلى استيعابه لما هو محليٌّ خاصٌّ لا يتمدَّد خارج زمانه ومكانه. معظمُ مشاكل الأديان تنشأ من عدم التمييز بين المحليِّ الخاص والكونيِّ العام.

الكونيةُ هي المعيارُ الذي تتحدَّد على أساسه القِيمُ الأخلاقية، بمعنى أن هذه القِيمَ تصلح للتعميم لكلِّ الناس؛ لأن الحياةَ الأخلاقيةَ للإنسان بوصفه إنسانًا تتطلَّبها، بغضِّ النظر عن دينِ الإنسان وإثنيتِه وثقافتِه وعصرِه. لم تعُد حقوقُ الإنسان مثل: الكرامة والحرية والمساواة، قِيمًا محلية. منطقُ الهُوية والخصوصية والثقافة المحلية الذي يشدِّد عليه بعضُ المفكِّرين في الشرق والغرب، المعلَن فيه هو الأصالةُ وحمايةُ الخصوصية والهُوية والذاتية، لكن المضمرَ فيه هو رفضُ حقوق الإنسان بوصفه إنسانًا، وإعلانُ التفوُّق الديني والقومي والثقافي على الآخر.

١  كان المفكر الإيطالي جيوفاني بيكو ديلا ميراندولا (١٤٦٣–١٤٩٤م) أول من ألَّفَ كتابًا في الفكر الغربي يتحدث عن الكرامة بعنوان، «خطاب في كرامة الإنسان»، سنة ١٤٨٦م، وقد أمر البابا إنوسنتيوس الثامن (١٤٣٢–١٤٩٢م) بإقامة محكمة تفتيش لإكراه بيكو على التراجُع عن أفكار كتابه الجديد.
٢  عبارات مثل: «بالروح بالدم نفديك يا صدام»، «إذا قال صدام قال العراق»، «نموت نموت ويحيا العراق».
٣  هناك صلة مباشرة بين العنصرية والاكتئاب؛ فكل مَن يتعامل معه المجتمع بعنصرية واحتقار، وتُنتهَك كرامته، يتحول إلى شخصيةٍ محبَطة، ويعيش حياةً ضنكة؛ فقد كشف أحد الباحثين في دراسة تناول فيها العلاقة بين النظرة العنصرية للآخر وإصابته بالإحباط، أن «الأفارقة الأمريكيين الذين يتجاوز دخلهم ٨٠ ألف دولار سنويًّا يتعرَّضون للاكتئاب أكثر من غيرهم، ممن لا يتجاوز دخلهم ١٧ ألف دولار سنويًّا، مما يجعل بعضَهم يتوقَّف عن الإنجاز والسعي نحو التميُّز بشكلٍ مفاجئ.» راجع، Racism Is Depressing … Literally. Madison Salters.
٤  آية السيف هي الآية الخامسة من سورة التوبة، فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وعلى الرغم من أن كلمة السيف لم ترِد في القرآن، لكنَّ المفسِّرين سمَّوا الآية بهذا الاسم. والغريب أن معظم المفسِّرين ادَّعى أنها ناسخةٌ للكثير من الآيات التي تدعو للسلم والعفو والصفح والغفران والرحمة، والكفِّ عن قتال المشركين، وتؤسِّس لعلاقةٍ سلمية مع المختلِف في العقيدة.
٥  البقرة، ٢٥٦.
٦  القصص، ٥٦.
٧  يونس، ٩٩.
٨  الكهف، ٢٩.
٩  المائدة، ١٠٥.
١٠  راجع الحديث عن الاستبداد في الفصل السادس.
١١  التين، ٤.
١٢  سورة ص، ٧٢.
١٣  الإسراء، ٧٠.
١٤  لقمان، ٢٠.
١٥  البقرة، ٣١-٣٢.
١٦  الأحزاب، ٧٢.
١٧  الطَّباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج١٣، ص١١١.
١٨  البقرة، ٣٠.
١٩  الرفاعي، عبد الجبار، الدين والاغتراب الميتافيزيقي، ص٢١٧–٢١٩.
٢٠  بدأ منذ القرن الأول الهجري بناء مقولات علم الكلام، وفي القرن الثاني وُلِد أصول الفقه، وعلوم القرآن والتفسير، وصار كلُّ ذلك يشكِّل قواعدَ أساسيةً لاستنطاق آيات القرآن وفهم الحديث. وعلى أساسها تم تعميم ما هو ظرفيٌّ محلي لكلِّ زمان ومكان. وتأبَّدَت هذه القواعد ولم يتعامل معها مَن جاء في زمانٍ لاحق بوصفها آراءً بشرية، خضعَت كأي رأيٍ بشري لعقلانية العصر الذي وُلدَت فيه ومشروطياته الثقافية وغيرها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤