(٧) صورةُ الإنسان كما ترسمها آياتُ
القرآن
صنع علمُ الكلام رؤيةَ معظم المسلمين للعالَم،
بعد أنْ تسيَّدَت الرؤيةُ التوحيديةُ للمتكلمين
مبكرًا الحياةَ الدينيةَ في عالم الإسلام، واستولَت
بالتدريج على شعورِ المسلم ولاشعورِه، وصاغت أشكالَ
علاقته بذاته والآخر، وتشكَّلَ في سياقها منطقُ
التفكير الديني في الإسلام، وظهرَت بصمتُها في
تدوينِ علومِ الدين ومعارفِهِ المختلفة. وانتهت إلى
ضربٍ من الاغترابِ الوجوديِّ للمتديِّن عن عالَمِهِ
الذي يعيشُ فيه.
في لاهوتِ المتكلِّمين يغتربُ الإنسانُ وجوديًّا
عن الله؛ لأن ذلك اللاهوتَ يبرعُ في نحتِ صورةٍ لله
تُحاكي علاقةَ السيد بالعبد المكرَّسةَ في مجتمعات
الأمس. الله في هذا اللاهوت تسلطيٌّ كما الملوك
المستبدِّين، نمطُ علاقته ﺑ «الإنسان» كأنها علاقةُ
مالكٍ برقيقه؛ فهو يمتلك الناسَ كما يمتلك الأسيادُ
الرقيقَ، ويمتلك أقدارَهم، ويمتلك التصرُّفَ بكلِّ
شيء في حياتهم. وقد وُلدَت عقيدةُ الجبر في أُفق
هذه الرؤية مبكرًا، وأصبحَت منبعًا لشرعنة الأشكال
المتنوِّعة للاستبداد في تاريخ الإسلام الذي
تشكَّلَت مفاهيمُ تربويةٌ في آفاق رؤيته غايتُها
ترويضُ الكائن البشري وتدجينُه. على الرغم من أن
ترويضَ الكائن البشري وتدجينَه غيرُ تربيته. تنشدُ
التربيةُ تفعيلَ وبعثَ الطاقةِ الكامنةِ في روحِ
وقلبِ وعقلِ الإنسان، فيما ينشدُ الترويضُ تدجينَه
وتنميطَ شخصيته. التربيةُ تبتني على فلسفةٍ ترى
كلَّ فردٍ من الناسِ نسخةً فريدة، تمتلكُ طاقةً
ذاتيةً ينبغي أن تنبعثَ، كي تتحقَّقَ هويتُه
الوجودية، وتُولَد شخصيتُه المستقلة، وهذا هو
التجسيد لاحترام كرامة كل إنسان. أما الترويضُ
فيبتني على موقفٍ يرى الناسَ كأنهم أشياءُ تأخذ
شكلَ القالبِ الذي تنسكبُ فيه؛ لذلك يوظِّف كلَّ ما
يمكنه بغيةَ تحقيق ذلك، ولا يتردَّد في اللجوء
للعنف من أجل أن يصيرَ الكلُّ بمثابة نسخةٍ واحدةٍ،
متماثلة ملامحُها، متحدة مواصفاتُها، مشتركة
خصائصُها، متشابهة أفكارُها، متطابقة
مشاعرُها.
إن الصورةَ التي صاغها المتكلِّمون لله في
كتاباتهم لا يتجلَّى فيها شيءٌ من رحمته، بل تظهر
قاسيةً شديدةً؛ إذ عَمِل المتكلِّمُ على رسم صورةِ
الخالق بوصفه مُعاقِبًا لخلقه عقابًا مريرًا،
ومعذِّبًا لهم عذابًا مريعًا، ومتسلِّطًا عليهم،
يراقب كلَّ زلَّةٍ أو خروجٍ عمَّا فرضَتْه تلك
الصورةُ من أوامرَ ونواهٍ تتَّسع لكلِّ صغيرة
وكبيرة في حياتهم. وتغلَّبَت صورةُ الالهِ المرعبِ
وتغلغلَت في آثار المتكلمين، حتى طمسَت ما يشي
بمحبةِ اللهِ خلقَه، ورحمتِه، وعفوِهِ وتوبتِهِ
ومغفرتِهِ لهم. من هنا نشأ جدلٌ واسعٌ بين
المتكلِّمين حولَ مصير فاعل الكبيرةِ، حتى قال
بعضُهم بخلوده في النارِ. ولم تشأ تلك الصورةُ
قبولَ التنوُّع والاختلاف الطبيعي بين البشر، حتى
ذهب بعضُ المتكلمين إلى القول بأن اللهَ لا يكفُل
حقَّ تَكرار الخطأ للكائن البشري، ولم تقبل صورةُ
الله التي نحتوها إلَّا النموذجَ الواحدَ الذي صاغه
علمُ الكلام، وهو نموذجٌ يجب أنْ يتماثلَ فيه كلُّ
الناس الذين يعيشون في الأرض أمسِ واليومَ وغدًا.
وكان من نتائج تسيُّد صورة الله هذه، بناءُ علاقةٍ
عدائيةٍ بين الله والإنسان؛ لأن رسمَ صورةٍ مرعبةٍ
لله تقود الإنسانَ للنفور منه، والإنسانُ بطبيعته
ينفر من كلِّ ما هو مرعب، ولا ينجذب إلَّا لما كان
محبوبًا جميلًا. قادتْ تلك الصورةُ المكفهرَّةُ
الإنسانَ للهروب من الله بسبب ما أثارَتْه من قلق،
وذعر، وكآبة، وربما اشمئزاز. فإنه لا يُمكِن أن
يحبَّ الإنسانُ عدوَّه، أو يظلَّ محايدًا حياله، بل
عادةً ما يلجأ لمقاومته، فإنْ لم يستطع لجأ
للاحتماء بالاختباءِ والغيابِ عنه تمامًا. وعندما
يحتجب الإنسانُ عن الله يحتجب اللهُ عنه. عندئذٍ
ينتهي الحالُ ﺑ «الإنسان» للسقوطِ في الاغترابِ
الوجودي أو «الاغتراب الميتافيزيقي».
١
نحاول أن نكتشفَ ملامحَ صورةِ الإنسان كما ترسمها
لنا آياتُ القرآن في حديثها عن المراتبِ الوجودية
السامية للإنسان بوصفه إنسانًا، وطبيعةِ الإنسان،
وأصلِ خَلقِ الإنسان، وكينونةِ الإنسان، وطبائعِ أو
أحوال الإنسان، والسياق الذي وردت فيه كلمةُ
«عِبَاد»، والسياق الذي وردَت فيه كلمة «عَبِيد»؛
فإن هناك فرقًا بين «عَبِيد» و«عِبَاد» في لغة
القرآن، ﻓ «عَبِيد» مشتقَّةٌ من: عُبُودِيَّة.
ومرادفاتُها: اسْتَعْباد، رِقٌّ. ومقابلها:
حُرِّيَّة، عِتْق، إِعْتاقٌ، تَحَرُّرٌ، تَسْريحٌ،
حُرِّيَّةٌ. أما «عِبَاد» فمشتقَّة من: عِبادَة.
ومرادفاتُها: اعْتِكَاف، تَعَبُّد، نُسْك.
ومقابلها: إِبَاحيَّةٌ، تَهَتُّكٌ، خَلَاعَةٌ،
دَعَارَةٌ، عُهْرٌ، فُجُورٌ، فِسْقٌ، مُجونٌ.
٢
القرآنُ يشير إلى «عِبَادِ» بمعنى أحرار، لا
بمعنى أقنان مستلَبين مجبَرين مكرَهين:
فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ
يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ
أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ
اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو
الْأَلْبَابِ.
٣ الحُرُّ هو المقابِل للعَبْد. عَبِيد
جمع عَبْد. الجاحِدُ هو المقابِل للعَابِد. عِبَادِ
جمع عَابِد. يستعمل القرآنُ كلمةَ عِبَادِ كثيرًا،
فيما يستعمل أقلَّ من ذلك بكثير كلمةَ عَبِيد
٤ فقد وردَت كلمةُ «عِبَاد» و«عِبَادي»
٩٦ مرة في القرآن، ووردَت كلمةُ «عَبِيد» ٥ مرات
فقط.
وجاء في نهج البلاغة عن الإمام علي بن أبي طالب
«ع» ما يؤكِّد هذا المعنى الذي أشرنا إليه: «إِنَّ
قَوْمًا عَبَدُوا الله رَغْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ
التُّجَّارِ، وإِنَّ قَوْمًا عَبَدُوا الله
رَهْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْعَبِيد، وإِنَّ
قَوْمًا عَبَدُوا الله شُكْرًا فَتِلْكَ عِبَادَةُ الأَحْرَارِ.»
٥