(١) المصيرُ المشترك يفرض قِيمًا واحدة
انهيارُ الحدود المكانيَّة في العالَم اليوم، واختزالُ الزمان فيه إلى ما يقترب من الصفر، يُصَيِّر هذا العالَمَ الكبيرَ صغيرًا جدًّا. تحدياتُ العالَم اليوم، وتعدُّدُه وتنوُّعُه واختلافُه وتعقيدُه ومشاكلُه وأزماتُه، بحجم العالَم الكبير جدًّا، لكنَّ تحولاتِ هذا العالَم ومنعطفاتِه وإيقاعَ الأحداث فيه بحجم العالَم الصغير جدًّا. العالَمُ اليوم يجد نفسَه فجأةً وكأن الأرضَ انكمشَت به فضاقت، بشكلٍ أمسَى ينتظر الكلُّ فيه مصيرًا مشتركًا محتومًا؛ لذلك يمكن أن يسقطَ الكلُّ في جائِحَةٍ تغطي العالَمَ كلَّه، لحظةَ حدوث وباءٍ مباغت، أو كارثةٍ جسيمة تهشِّم البِنى الأساسيةَ لمجتمعٍ من المجتمعات، فما يؤذي مجتمعًا يؤذي العالَمَ كلَّه، وما يُوهِنُ مجتمعًا يُوهِنُ العالَمَ كلَّه، وما يُنهِك مجتمعًا يُنهِك العالَمَ كلَّه، وما يُزعزِع أمنَ مجتمعٍ يُزعزِع أمنَ العالَم كلِّه.
توحَّدَت مصائرُ المجتمعات واقترنَت مآلاتُها بما لم تتوحَّد وتقترن به من قبلُ، وكأن كلَّ شيءٍ فيها أمسَى يجد صداه في كلِّ شيء. لم تعُد جغرافيا التحديات التي تواجه الإنسانية اليوم خاصةً بما هو مَحَلِّيٌّ، بعد أن اضمحلَّت الحدودُ المحلية، وامتدَّ فضاءُ حضور الكائن البشري فأضحى مواطنًا عالميًّا، ترتبط مصائرُه بمصائر الإنسان بوصفه إنسانًا. المصيرُ المشترك للكلِّ يفرض على الكلِّ قِيمًا مشتركة.
تقدِّم هندسةُ الجينات للإنسانية الكثير من المكاسب الفائقة الأهمية، مثل إمكانية التحكُّم بالجينات المسئولة عن الأمراض الوراثية، والخلاص من لعنة هذه الأمراض المتوطِّنة لدى العائلات والسُّلالات البشرية. والخلاص من مشاكل العقم، وتطوير التلقيح الاصطناعي وإنتاج الأجنة، وتحديد جنس المواليد، والعمل على انتقاء وتحسين صفاتهم الوراثية. كذلك تَعِدنا هندسةُ الجينات بمضاعفة الإنتاج النباتي والحيواني، وتحسين أنواعه وتطوير كيفية أصنافه، بدرجةٍ تقضي فيها البشرية على النقصِ الحادِّ في كل أنواع الموادِّ الغذائية اللازمة لعيش الإنسان، وتجد حلًّا لأزمة المجاعات في البلدان الفقيرة، والخلاص من مشكلات تلوُّث البيئة عبْر المعالجة البيلوجية. هذه بعضُ المكاسب المهمة لهندسة الجينات.
أما ما يُمكِن أن تُحدِثَه من نتائجَ سلبية وآثارٍ غامضة، فيتمثَّل في إمكانية أن تُعيد هندسةُ الجينات تشكيلَ الخارطة الجينية للإنسان، وربما تنتهي إلى تغييرٍ لافت للطبيعة الإنسانية تبعًا لتحوير الجينات، وخطَر التلاعب بها، بشكلٍ تظهر آثارُه المثيرة في الأجيال القادمة، وما قد تُحدثه من اختلافاتٍ واختلالاتٍ في طبيعة تكوين البشر بيولوجيًّا وما يتركه ذلك من آثارٍ مباشرة على دماغه وجهازه العصبي، وآثارٍ مخيفة على تكوينه العقلي والسيكولوجي والعاطفي والروحي. مضافًا إلى ما يُمكِن أن ينتجه ذلك من اختلافٍ فاحش بين الناس، ينتهي إلى تمايزٍ طبقي غريب، يضع البشر في تراتُبيةٍ هرمية، يجلس فيها عمالقةٌ استثنائيون بكل شيء على القمة، وتتسع الفجوة بينهم ومَن يقع تحتهم بصورةٍ مذهلة، لو تفوَّق هؤلاء العمالقة على غيرهم بيولوجيًّا بدماغهم وذكائهم المدهش، وقدرتهم الفائقة على مقاومة الأمراض، وقوَّتهم البدنية التي لم يشهد لها تاريخ الإنسانية مثيلًا من قبلُ، وعدم تراجُع قواهم بمرور الزمن، وامتداد أعمارهم، وتفوُّقهم في الجمال، وفي كل الصفات الإنسانية الأخرى، وغير ذلك من إمكاناتٍ استثنائية تَعِد بها هندسةُ الجينات، مما يُحدِث زلزالًا يعصف بالتوازن في إطار الاختلافات الطبيعية الموروثة للبشر، ويخلُق اختلافاتٍ مذهلة مباغتة، تضع أكثر البشر في مرتبةٍ دنيا، وتقفز بأقلية إلى مرتبة العباقرة المتفوِّقين في كل شيء مقارنةً بمن هم دونهم.
إن ما يقوم به خبراءُ الهندسة الجينية من تحويرٍ لجينات الكائنات الحية المتنوِّعة، وربما تلاعب البعض بها، قد يُنتِج هذا التلاعب آثارًا غريبة على طبيعة تكوين هذه الكائنات، وظهور تحوُّلاتٍ عجيبة في وظائفها الحيوية، واختلال التنوُّع الخلَّاق للكائنات الحية في الطبيعة، وحدوث مباغتاتٍ مزلزِلة في التوازن الحيوي في الطبيعة، يقضي على أنواعٍ معروفة ويخلق أنواعًا وسُلالاتٍ جديدة من الكائنات الحية، والبكتريا والفيروسات الوبائية الخطيرة.
تلك تحدياتٌ عظمي تواجه المستقبل البشري، وتهدِّد عند عدم ضبطها بمنظومات القِيَم بتحولاتٍ معقَّدة في التوازن الحيوي للأرض، وربما تغييرٍ عميق في الطبيعة الإنسانية. هذه التحديات تتدخَّل في اختياراتِ الإنسان الأخلاقية، ونمطِ وجوده في العالَم، وتؤثِّر على كلِّ مجالاتِ حياته العقلية والروحية والأخلاقية والجمالية، وعلومِه ومعارفه وثقافته وآدابه وفنونه، وأنماطِ علاقاته الاجتماعية؛ لأنها لا تختصُّ ببلد أو إثنية، بل تشمل الجغرافيا الإنسانية كلَّها. وإذا حدثَت مثل تلك التحوُّلات، تحتاج الإنسانية إلى منظومات قِيَمٍ مشتركة تضبط صلة الإنسان بالله، وتحدِّد استغلاله للطبيعة، وترسم إطارًا لعلاقته بغيره من البشر، يتناغم مع إيقاع تلك التحديات التي لا ندري ما تنتهي إليه غدًا.
إن ضروراتِ العيش في عالم أصبح فيه المسلمُ مواطنًا عالميًّا تفرض عليه قيمًا أخلاقية بسَعة العالَم الذي يعيش فيه، وبحجم مشكلات هذا العالَم الكبرى وتحدياته الهائلة؛ لأن من يصبح مواطنًا عالميًّا تتطلب حياتُه قِيمًا تتسع لما يفرضه عليه حضورُه الفاعلُ والمؤثِّر في العالَم.
بكاءُ الأرض
تشير بعضُ التقديرات إلى نفوقِ أكثر من مليار حيوان في حرائق أستراليا ٢٠١٩ -٢٠٢٠م، وتحوُّلها إلى رماد، واحتراق نحو ١٠٫٧ ملايين هكتار من الغابات، إثر الانبعاثات الحراريَّة والاحتباس الحراري الذي تحدِثه فضلاتُ الدول الصناعيَّة الكبرى، وخنقها للكائنات الحيَّة في الأرض، وفتكها بالبيئة. ومنذ سنوات تحدث حرائقُ لغابات البرازيل، فقد اندلعَ نحو ٧٤١٥٥ حريقًا فيها في المدَّة الواقعة من الشهر الأول حتى الشهر الثامن سنة ٢٠١٩م. وتتكرَّر هذه الحرائقُ بمدَيَاتٍ مختلفة سنويًّا، وتشتدُّ في بعض السنوات لتُبيد مساحاتٍ شاسعة من الغطاء الأخضر الذي يزوِّد الكرةَ الأرضيَّة بما تحتاجه من الأوكسجين.
وباءُ كورونا يحكي بكاءَ الأرض، بعد أن استباحها الإنسانُ فبدَّد غطاءَها الأخضر، وأنهك مواردَها الوفيرة، في عبث لا مسئول، وأجهَز بلا ضمير على التنوُّع الحيوي فيها، من دون مراعاة للتوازن الطبيعي، ولإمكانات الأرض المتاحة. استُنزِفَت مواردُها في تلبية احتياجاتٍ غريبة، تفتعلها باستمرار نزعاتُ استهلاك شرهة لسلعٍ غير أساسيَّة، لا تقف عند حدٍّ.
«كلما تقدَّم التاريخ خطوتَين إلى الأمام رجع خطوةً إلى الوراء، كي يلتقط أنفاسه، ويهضم التقدُّم الذي تجرَّأ عليه وأنجزه.» يقول المؤرِّخ الفرنسي الشهير فرنان بروديل. لم يكن في حسابنا أن يعبث كورونا بالأمن الصحي بهذا الشكل المخيف، وتبعًا لذلك يهدِّد حياتنا شبحُ انهيارٍ اقتصادي مريع. كورونا تهديدٌ جِدِّي للإنسان في الأرض، بدأنا نتلمَّس انعكاسَ آثاره على كلِّ شيء في حياتنا، وهو يُواصِل تفشِّيَه المقلق وتَوَالُد سلالاتٍ جديدة من الفيروس. إنه يمثِّل منعطَفًا حاسمًا بدأ يضع عالَمنا في مسارٍ مختلف، تُغرِق العالَم فيه تحولاتٌ عميقة في معادلات الاقتصاد والسياسة والثقافة والقيم والتديُّن، لتُعيد رسمَ الجغرافيات السياسيَّة، وتشكيلَ منظومات القِيم، وأنماط التديُّن، والثقافات، والآداب والفنون، والعلوم والمعارف، بنحوٍ لم يعرفه عالَمُنا من قبلُ.
استفاقت كلُّ المجتمعات البشريَّة فجأةً على أن الكلَّ في سفينةٍ كونيَّة واحدة، إن غرقَت تغرق معًا، وإن نجت تنجو معًا. وباء كورونا وضع الكلَّ للمرَّة الأولى في مواجهة شكلٍ مختلف من الموت العابر لكلِّ الحدود الجغرافيَّة والزمانيَّة والطبقيَّة. لم يكن هذا الوباء كالأوبئة السابقة، ولا حتى الحروب المدمِّرة، التي لَبثَت كلَّ التاريخ تتحكَّم فيها الجغرافيا فتفرضُ عليها مكانَها الخاص؛ ففي الحربَين العالميَّتَين الأولى والثانية في القرن العشرين، لم يتخطَّ تمدُّدُهما أوروبا وآسيا وأفريقيا، ولَبثَت أمريكا الشماليَّة والوسطى والجنوبيَّة وأستراليا والقارَّتان القطبيتان بمنأًى عن نيرانهما.
وضع وباءُ كورونا البشريَّة كلَّها أمام مصيرٍ واحد، وفضحَ هشاشةَ العالَم، وأعلنَ عن الحاجاتِ العميقة للقِيَم في الحياة، وضرورتِها الأبديَّة لحماية مصيرِ البشريَّة المشترك. تنبَّهَت البشريَّةُ في لحظة ذُعر إلى أنَّ إعادةَ بناءِ نظام القِيَم الروحيَّة والأخلاقيَّة هو الضمان لتحقيق درجةٍ عالية من الشعور بالمسئوليَّة حيال الخَلْق، وبناء أسسٍ راسخة لتضامنٍ إنساني يكفُل احتياجات الناس، وإشاعة روح التراحُم في الحياة.
الأرض تنتقم لنفسها بعدَّة أشكال، وتواصل انتقامَها حتى يعود الإنسانُ لنظام القِيَم الذي يضبط عمليَّة الإنتاج وتوجيهها إلى ما ينفع الإنسان، ويشعره بالسكينة والأمان، ويرسِّخ العدالةَ في التوزيع، بشكل يُضيِّق فجوةَ التفاوت الفاحش بين الطبقات، ويُرشِّد الاستهلاك، ويحمي حياةَ الإنسان بأنظمةٍ عادلة تضمن الأمنَ والسلمَ والعيشَ الكريم والتعليم والصحةَ للفقراء، وتهتمُّ بتأمين احتياجاتهم الأساسيَّة. وتشريع قوانين تفرض ضرائبَ عالية على الإثراء الفاحش، وتحدُّ من الشره اللامحدود لدى رجال الأعمال، المولَعين بتكديس الثروات، وعدم استثمارها في تأمين الاحتياجات الأساسية للبشريَّة. وتوظيف أكثر هذه الضرائب في البناء والتنمية الشاملة، وإعادة بناء نُظمٍ علميَّة حديثة للتربية والتعليم والصحَّة والبحث العلمي، وتحرير البشريَّة من الفاقة والحرمان في أفريقيا وغيرها من البلدان التي يعيش الإنسانُ فيها محرومًا من أبسط احتياجاته الأساسيَّة.
أفرز وباءُ كورونا عدَّةَ ظواهر عملَت على مضاعفة وطأة هذا الوباء على الناس. من هذه الظواهر الخوفُ الذي تفشَّى وأقلق كثيرًا من الناس، إلى درجةٍ عاش البعضُ حالةَ هلع من الوباء، بنحوٍ أمسَى الخوفُ المصاحب لتفشِّي كورونا أخطرَ من كورونا.
الخوفُ أعمق العوامل المولِّدة للتفسيرات غير العلميَّة للظواهر الطبيعيَّة، وإعطاب الأمن النفسي، وإهدار الشعور بالطمأنينة. بعضُ المفكِّرين والباحثين والإعلاميِّين أربكهم الخوفُ من كورونا، فبدَءُوا يتحدَّثون أحيانًا كالمنجِّمين والمشعوِذين. في كلِّ أزمة حضاريَّة ينشط المتنبِّئون والعرَّافون والمشعوذون، وكلٌّ منهم يرسم صورةً للمستقبل على شاكلة مُتَخَيَّلِهِ وأوهامه. وهو لا يعلم أنَّ المستقبلَ تبتكره سلسلةٌ من العوامل المتنوِّعة والمتشعِّبة والمتداخلة، مثلما ترسمه الأقدارُ والمفاجآت غير المتوقَّعة؛ لذلك يخطئ في التنبُّؤ به كثيرٌ من الباحثين، والأكثر خطأً هم الزعماء السياسيُّون الذين كشف هذا الوباءُ عن جهلهم وتخبُّطهم وتهافُت أقوالهم.
ومن هذه الظواهر تفشِّي أكاذيب وشائعات ودعايات، تنتجها جيوشٌ إلكترونيَّة متفرِّغة لذلك، كلٌّ منها يبتغي تحقيقَ هدفٍ اقتصادي أو سياسي أو ديني أو غير ذلك، ومن أخطر هذه الأكاذيب على الرأي العام تلفيق أخبار وتقارير علميَّة مختلقة، ونسبتُها إلى جامعات عريقة كهارفرد وغيرها، أو مراكز أبحاث شهيرة، أو دوريَّات أكاديميَّة رصينة، أو صحف شهيرة وذات مصداقيَّة جيدة. وعندما نعود للمواقع الإلكترونيَّة لهذه المؤسَّسات المنسوبة إليها التقارير المختلَقة، لا نعثُر على مثل هذه الأخبار والتقارير.
ومن هذه الظواهر الاتِّهاماتُ المتبادلة بين الدول العظمى، خاصَّة الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة والغرب من جهة، والصين من جهة أخرى. والانقسامُ الذي استتبع ذلك في الرأي العام، خاصَّة في بلادنا، فالمُولَعون بالصين من اليسار الماركسي والقومي والديني يدافعون عن مواقف الصين في تعاطيها مع الوباء وإدارتها للأزمة، أشدَّ من دفاع الصين عن نفسها، وينفُون كلَّ اتِّهام موجَّه إليها بنشر الوباء والتكتُّمِ على منشأ الفيروس، والليبراليُّون يدافعون عن المواقف الغربيَّة، ويكرِّرون اتِّهاماتِ الولايات المتَّحدة المتنوِّعة للصين، أشدَّ من دفاع هذه الدول عن نفسها.
وبدأنا نسمع ونقرأ عن التلاعُب بالجينات نقلًا عمَّن يقولون بذلك، ويكرِّرون كلَّ يوم هذه الحكاية بلا أدلة تُطَمْئِن مَن يطَّلع عليها. على الرغم من أنه ليست لدينا معطياتٌ علميَّة موثوقة تؤكِّد أو تنفي ذلك حتى اليوم، ويشدِّد آخرون على إمكانيَّة حدوث طفرةٍ وراثيَّة للفيروس.
لا يُمكِن الوثوقُ التامُّ بأي خبر يتَّهم الآخرَ حول كورونا، مما تبثُّه وسائلُ الإعلام الأمريكيَّة والغربيَّة والصينيَّة والروسيَّة وغيرها اليوم، إلا بعد التحقُّق والتدقيق، وهذه قضيَّة لا يُمكِننا التحقُّقُ العلمي منها؛ لذلك يتساوى فيها النفي والإثبات؛ فكما تمتلك أمريكا مصانعَ بيولوجيَّة وأسلحةً جرثوميَّة، روسيا والصين تمتلكان مصانعَ بيولوجيَّة وأسلحةً جرثوميَّة، ويقول لنا خُبراءُ الأحياء المِجْهريَّة إن التلاعبَ بجينات الفايروسات لا يتطلَّب تقنياتٍ بايولوجيَّة نادرة واستثنائيَّة ومتقدِّمة جدًّا، بل يُمكِن أن يقوم بها الخبراءُ في مختلف بلدان العالم، ومعروفٌ أن السلاحَ الجرثومي كحزام المتفجِّرات الناسف الذي يرتديه الانتحاري؛ فكما يَقتُل فيه الانتحاري غيرَه، يُقتَل هو فيه أيضًا.
ومن هذه الظواهر ازدراءُ البعض في بلادنا للعلم الحديث، وتحميلُ التقدُّم العلمي مسئوليَّة الكوارث الطبيعيَّة وتفشِّي الأوبئة. وكأنَّ من يقول بذلك لا يعلم أن مشاكلَ العالَم لا يحلُّها إلا العلم، ولم يمكِّن الإنسانَ من الطبيعة، واكتشاف قوانينها وتسخيرها واستثمارها في إعمار الأرض، وجعل حياة الإنسان أسهل، إلا العلم، ولم يمكِّن الإنسانَ من التحكُّم بالآثار الفتَّاكة للكوارث الطبيعيَّة، والأمراض المُمِيتة والأوبئة، وكل ما يُفسِد الأرض، إلا التطوُّرُ العلمي، والذكاءُ الصناعي، وبناءُ مجتمع المعرفة.
العلمُ هو مَنْ يكتشف لقاحات الأوبئة، العلمُ هو مَنْ ينتج الأدوية لمختلف الأمراض.
لسنا هنا بصدد الحديث عن أخلاقيَّات العلم، والقِيَم الضابطة للتقدُّم العلمي، والآثار الجانبيَّة السلبيَّة للتكنولوجيا، مثل: الانبعاثات الحراريَّة الفتَّاكة على المناخ، وتدمير الأرض، وإبادة التنوُّع الحيوي، والتلاعب بالجينات، وغيرها. حضورُ القِيَم الأخلاقيَّة الموجِّهة للتقدُّم العلمي، وتفادي الآثار السلبيَّة الجانبيَّة للتكنولوجيا، ضرورةٌ تفرضها حماية الإنسان والبيئة والأرض من آثارها المدمِّرة.
عندما تَمرَض الأرضُ يَمرَض كلُّ شيء فيها. أتمنَّى ألا تكون البشريَّة هذه اللحظة على أعتاب نمطِ وجودٍ مختلف في العالَم، يتباطأ فيه التقدُّمُ العلمي، أو يتقهقر فيفشل في إنجاز وعوده، التي كنَّا نحلم بأن تجعلَ معاشَنا أسهلَ وحياتَنا أجمل.
القِيمُ ضرورةٌ لأنسنة الإنسان
القِيمُ ضرورةٌ لأنسنة الإنسان، الإنسانُ بلا قِيَم يخرج من إنسانيته ويتحوَّل إلى كائنٍ متوحِّش مخيف. القيمُ مُثُلٌ سامية يتطلع ويسعى الإنسانُ للتحقُّق بها، لتتكاملَ شخصيتُه، ويثري حياتَه بالمعنى، ولن يبلغ مدَياتِها القصوى إلَّا الأفذاذُ من البشر. القِيمُ ضرورةٌ للحياة الإنسانية، وهي شرطٌ لوجود كلِّ مجتمع حيوي خلَّاق.
الكرامةُ والكونيةُ هما المعيارُ الذي تتحدَّد على أساسه القيمُ الأخلاقية، بمعنى أن هذه القيمَ شاملةٌ، وأنها قانونٌ كلِّي يصلح للتعميم لكلِّ الناس الذين تتوحد مصائرهم في الأرض، فمهما كان الإنسانُ فإنه يحتاجُ الكرامة؛ لأن الكرامةَ تتحقَّق بها إنسانيتُه، يحتاجها كلُّ إنسان بوصفه إنسانًا، بغَضِّ النظر عن دينه وإثنيته وثقافته وعصره. كما يحتاجُ الإنسانُ مهما كان: الصدقَ والمساواةَ والحريةَ والعدلَ والأمانةَ، وهي كلُّها تكرِّس الكرامةَ وتحميها من الانتهاك. الكرامةُ والحرية والمساواة والعدل والصدق والأمانة كغيرها من القِيَم الإنسانية الكونية، لم يُولَد الوعي بمفهومها واكتشاف مصاديقها دفعةً واحدة، بل تَطَلَّبَ وصولُ الإنسانية إلى وعيها بمعانيها المعروفة اليوم، والتعرفُ على حدودها وتطبيقاتها ومصاديقها عبورَ عدة محطاتٍ موجعة، وهي تقطع مسارًا طويلًا مريرًا شاقًّا عبْر التاريخ. وذلك ما انتهى إليه الإعلانُ العالَمي لحقوق الإنسان، فلم تعُد حقوقُ الإنسان الكونية قِيَمًا ترتبط عضويًّا بالثقافة المحلية والهوية المجتمعية؛ ذلك أن بعضَ الثقافاتِ المحلية والهوياتِ المجتمعية يتمايزُ فيها البشرُ وتتفاوتُ حدودُ مكانتهم ومساحةُ حقوقهم وحرياتهم تبعًا لجنسهم ومعتقدهم وإثنيتهم.
ألا يجدُر بنا أن نُسائل التراثَ الأخلاقي في عالَم الإسلام، لماذا عجز عن الوفاء ببناء ضميرٍ أخلاقي يحمي حياةَ الفرد والمجتمع من انتهاك الكرامة، وتضييع الحقوق، وتجاوز الخصوصيات الشخصية؟ لماذا كانت مدوَّنةُ الأخلاق شحيحةً، مقارنةً بمدوَّنات الحديث والرجال والتفسير والفقه والكلام واللغة وغيرها؟ لماذا يفتقر هذا التراث، على الرغم من سعته، إلى مقاربةٍ واقعية تتبصَّر طبيعةَ الكائن البشري في ضوء الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع والمعارف الحديثة، لئلا تُكرِه الإنسانَ وتُعنِّفه على فعلِ ما هو الضدُّ لطبيعته الإنسانية؟
إن ما نعنيه بافتقارِه لمقاربةٍ واقعية تتبصَّر طبيعةَ الكائن البشري بعمق: أنه تراثٌ يتسع لعناصرَ متضادَّة، وُلِدَت في سياقاتٍ متنوِّعة، تعود إلى مجتمعاتٍ إسلامية عاشت في أزمنةٍ مختلفة، وتنحدر من ثقافاتٍ متعدِّدة وإثنياتٍ متنوِّعة، وتُحيل إلى مرجعياتٍ ليست موحَّدة؛ لذلك أخفق هذا التراثُ في تأليفِ المختلِف، وتوحيدِ المتعدِّد، بالتعرُّفِ على مشتركاته واستخلاصِ جوهره الأخلاقي، وصياغةِ رؤيةٍ تكرِّس الحياةَ الأخلاقية، وتنشُد تحقيقَ معادلة تَوازُن تستجيب لاحتياجات مكوِّنات طبيعة الكائن البشري، وتُشبِعها في سياقٍ أخلاقي؛ لا يقدِّم الجسدَ قربانًا للروح، ولا يجعل العقلَ قربانًا للمشاعر والعواطف، ولا يختزل الكلَّ في واحد.
نعني بالأخلاقِ هنا ما يحكمُ به العقلُ العملي أو العقلُ الأخلاقي، وهي الأخلاقُ بالمعنى الفلسفي، ولا نعني بها الأخلاقَ بمعنى الأحكام على وَفْق التصنيف الفقهي، أو ما عرُف بالآدابِ الشرعيةِ في تراثنا، وهذه الآدابُ ضربٌ من الأحكامِ الفقهية، عندما أضحى مفهومُ الشريعةِ مطابقًا لمفهومِ الفقه؛ فبعد أن كان مصطلحُ الشريعةِ يتسعُ للعقيدةِ والأخلاقِ والفقهِ، صار مرادفًا للفقه فيما بعدُ؛ إذ اتسعَ مفهومُ الفقه ليستوعبَ كلَّ علومِ الدين، حتى اضمحلَّتْ دراسةُ علومِ الدين في الحَوْزاتِ والمدارسِ ومعاهد التعليم الديني والجامعاتِ الإسلامية في عالَم الإسلام بالتدريج، وأمسَى محورُها الفقهَ، وما تفرضهُ مقدِّماتُ دراستهِ وفهمهِ من مداخلَ في النحو والصرف والبلاغة والمنطق وغيرها.