علمُ الكلام يمثِّل نظريةَ المعرفة في الإسلام؛
لأنه هو الذي ينتج منطقَ التفكير الديني، ومنطقُ
كلِّ عملية تفكير هو الذي يحدِّد طريقةَ التفكير
ونوعَ مقدِّماته ونتائجه. وذلك يعني أن أيَّةَ
بدايةٍ لتحديثِ التفكير الديني في الإسلام لا تبدأ
بعلمِ الكلام ومسلَّماتِه المعرفية ومقدِّماتِه
المنطقية والفلسفية، فإنها تقفز إلى النتائج من دون
المرورِ بالمقدِّمات.
بنيةُ الأخلاق في التراث كلاميةٌ، وعلم الكلام
ينشُد التدليلَ على عقيدة الفِرقة الحقَّة الناجية،
والردَّ على الفرق الباطلة، وينتهي في بعض الحالات
إلى تكفير من يتبنَّى آراءً اعتقادية غير مطابقة
لمعتقَد صاحب الفرقة.
التكفير مأزِق الأديان
التكفيرُ ضربٌ من العنف؛ لأن «التكفير حكمٌ
شرعي يرجع إلى: إباحة المال، وسفك الدم،
والخلود في النار.»
٢ فهو عنفٌ لفظي يتضمَّن قذفًا
وتشهيرًا وترهيبًا، وهو حكمٌ إقصائي يغترب
المكفَّرُ بسببه عن مجتمعه، عندما يحاصره
التكفيرُ ويجتثُّه من عالَمه.
لم يقتصر التكفيرُ على تكفيرِ غيرِ المسلم
فقط، بل اتسع ليستوعب المسلمَ المختلفَ في
عقيدته الكلامية ومذهبه الفقهي؛ فقد ذهب
متكلمون وفقهاء إلى إخراج كلِّ مسلم من الملة،
إن لم يكن على المذهب الذي يراه هو حقًّا من
دون سواه. وذلك ما نراه بوضوحٍ في كثيرٍ من
مؤلَّفات الفرق المعروفة؛ فمثلًا بعد أن يشير
البغدادي لفِرَق المعتزلة، لا يهتم بذكر آرائهم
الكلامية ومناقشتها، قَدْر اهتمامه ﺑ «فضائحهم»
على حدِّ تعبيره؛ إذ يقول: «سنذكر فضائح كل
فرقةٍ ما يكشف عن كفرها إن شاء الله.»
٣ وهذا المنهج الذي يشدِّد على
«الفضائح» تبناه أكثرُ مؤلِّفي الفِرَق؛
فباستثناء الفرقة الناجية «الأشاعرة»، ذهب
الإسفراييني إلى هلاك كلِّ الفرق الكلامية؛ إذ
جعل كتابَه «التبصير في الدين» في خمسة عشر
بابًا، كل باب يبتني على بيانِ المقالات
الاعتقادية لفرقةٍ من الفرق وبيانِ فضائحها.
٤ وفي حديثه عن «مذهب أهل الحق»،
يقول أبو إسحاق الشيرازي: «مَن اعتقَد غير ما
أشرنا إليه من أهل الحق، المنتمين إلى الإمام
أبي الحسن الأشعري رضي الله عنه، فهو كافر،
ومَن نسَب إليهم غير ذلك فقد كفَّرهم، فيكون
كافرًا بتكفيره لهم.»
٥ وبعد أن يتحدث البغدادي عن فِرَق
المعتزلة، يصرِّح بأن: «تكفير كل زعيمٍ من
زعماء المعتزلة واجبٌ من جميع الوجوه؛ أمَّا
واصل بن عطاء فلأنه كفَر في باب القدَر بإثبات
خالقين لأعمالهم سوى الله، وأحدَث القولَ
بالمنزلة بين المنزلتَين في الفاسق، ولهذه
البدعة طرَدَه الحسن البصري من مجلسه، وأمَّا
زعيمهم أبو الهذيل العلَّاف فإنه قال بفَناء
مقدورات الله تعالى، حتى لا يكون بعدَها قادرًا
على شيءٍ، وأمَّا زعيمهم النظَّام فهو الذي
نفَى نهاية الجسم.»
٦ و«أن أهل السنة يكفِّرون الجميع
بحمد الله ومنِّه.»
٧
عندما نعود إلى آثار المتكلمين والفقهاء لا
نجد فرقةً واحدة تنفرد بتكفير المسلم، بل نجده
متغلغلًا في أكثر مؤلَّفات الفرق، نرى ابنَ
تيمية وغيرَه يكفِّرون كلَّ مسلم يختلف عنهم في
معتقده؛ إذ كفَّر ابنُ تيمية من المسلمين:
الفلاسفة، والمتصوِّفة، والجهمية، والباطنية،
والإسماعيلية، والنصيرية، والإمامية الاثنَي
عشرية، والقدَرية،
٨ وهكذا فعَل غيرُه.
يقول الفقيهُ الإمامي الأخباري يوسف
البحراني: «إنكَ قد عرفتَ أن المخالف كافر، لا
حظَّ له في الإسلام بوجه من الوجوه، كما
حقَّقْنا في كتابنا الشهاب الثاقب.»
٩ كما حكمَ بإخراج الفرق الشيعية من
غير الإمامية الاثنَي عشَرية من التشيُّع؛ إذ
يقول: «ينبغي أن يُعلَم أن جميعَ من خرجَ عن
الفِرقةِ الاثنَي عشَرية من أفرادِ الشيعةِ
كالزيدية والواقفية والفطحية ونحوها، فإن
الظاهر أن حُكمَهم حكمُ النواصب.»
١٠ وحُكمُ النواصب لديه هو إخراجُهم
من الملة على وَفْق نظره الفقهي.
استبدَّ التكفيرُ بعلم الكلام، وتفشَّى
تكفيرُ الفِرَق بعضِها للبعض الآخر، بنحوٍ أضحت
كما يقول الغزالي: «كل فرقة تكفِّر مخالفها،
وتنسبه إلى تكذيب الرسول؛ فالحنبلي يكفِّر
الأشعري زاعمًا أنَّه كذَّب الرسول في الاستواء
على العرش، والأشعري يكفِّره في إثبات الفَوْق
لله تعالى، والأشعري يكفِّره زاعمًا أنه
مُشبِّه، وكذَّب الرسول في أنه ليس كمثله شيء،
والأشعري يكفِّر المعتزلي في أنَّه كذَّب رسول
الله في عدم جواز رؤية الله، وفي نفي إثبات
العلم والقدرة والصفات، والمعتزلي يكفِّر
الأشاعرة زاعمًا أنَّ إثباتَ الصفاتِ تكثيرٌ
للقدماء، وتكذيبٌ للرسول في التوحيد، ولا
يُنجيك من هذه الورطة إلَّا أن تعرف حدَّ
التكذيب والتصديق، وحقيقتَهما فيه فينكشفَ لك
غُلُو هذه الفِرَق وإسرافها في تكفير بعضها بعضًا.»
١١
كلُّ فرق المسلمين بلا استثناء تورَّط بعضُ
متكلميها وفقهاؤها بتكفير إحداها الأخرى. وبلَغ
الإفراطُ في استعمال التكفير، بوصفه سلاحًا في
الاختلاف العقائدي، حالةً غريبةً تورَّط فيها
أحيانًا الأبُ ضدَّ ابنه، والابنُ ضدَّ أبيه،
فنجد مثلًا أنَّ «الجبائيَّيْنِ
المعتزليَّيْنِ؛ أبا علي — أستاذ الأشعري —
وابنَه أبا هاشم، لم يكن أحدُهما يتورَّع عن
قذف الآخر بالكُفر. كما أن أخت أبي هاشم لم
تكن، هي الأخرى، تتورَّع عن إلصاق نفس التهمة
بأخيها وأبيها معًا.»
١٢
يتنكَّر أكثرُ أتباع الأديان للتكفير في
أديانهم وتراثهم وتاريخهم، وينزعج كثيرون من
الحديث عن التكفير لدى الفِرَق والمذاهب في
تراثنا، وعادةً ما يُتهَم من يكشف ذلك بأنه
يُشهِّر بالدين والمذهب الذي ينتمي إليه.
وكأنهم لا يعلمون أن التكفيرَ يتفشَّى في
مؤلَّفات علم الكلام والفِرَق لكل المذاهب.
فضْحُ تراث التكفير ضرورةٌ لاستئناف حضور قِيَم
القرآن الكلية الروحية والأخلاقية والجمالية في
حياة المسلم، وتحرير ضمير المسلم من سجن التراث
التكفيري المظلم. التكفير يمزِّق كلَّ أواصر
العيش المشترك في المجتمع، ويزجُّ المجتمع
الواحد في حروبٍ مفتوحة.
تورَّطَت أكثرُ الأديان المعروفة في التكفير
في مرحلة من مراحل تاريخها، ولم ينفرد فيه دينٌ
واحد فقط، على تبايُن في درجة التكفير واختلاف
في أنواعه وآثاره وحدوده. التكفيرُ مأزِق
الأديان، التكفيرُ يُفشِّل كلَّ محاولة جادَّة
للحوارِ والتعايُش بين الأديان.
الحقُّ في الاختلاف يفرض بناءَ قِيَم
التنوُّع والتعدُّدية والعيش المشترك، لكن
يتعذر ذلك في مجتمع تتفشَّى فيه أحكامُ تكفير
المختلِف في المعتقَد. التكفير هو اللغم الأخطر
في التراث الذي يقوِّض كلَّ مسعًى للانخراط في
العصر، إنه عنصرُ الممانعة الأقسى والأعنف
لحضور المسلم الفاعل اليوم في العالَم.
التكفيرُ في علم الكلام والفقه يمنع المسلمَ من
التفاعل العضوي الخلَّاق داخل المجتمعات
المتنوِّعة الأديان والثقافات، كما يمنع ولادةَ
المواطنة بوصفها ركيزةَ بناء الدولة الحديثة،
لذلك يتعذَّر بناءُ الدولة الحديثة في البلاد
التي تعتمد الكلامَ والفقهَ مرجعيةً في
دساتيرها وتشريعاتها وقوانينها
وبرامجها.
تُهدَر كرامةُ الإنسان حيثما تُهدَر حريتُه،
التكفير يصادر كلَّ الحريات؛ إذ لا حريةَ
لمُكرَه على دين. في التكفير تفتقر أيَّةُ
محاولة للعيش المشترك إلى مضمونها الإنساني
والأخلاقي. التكفيرُ خطيئةٌ أخلاقية كبرى لكلِّ
الأديان التي تقول به وتتبنَّاه وتُرتِّب عليه
الآثار العملية، ويتعذَّر في عصر الحريات
والحقوق القبولُ بالتبريرات والمخارج الفقهية
والذرائع الكلامية المُلتوِية الموروثة للتقليل
من قوة التكفير التدميرية الفتَّاكة في تقويض
أسس بناء مجتمعٍ واحد ينتمي أفرادُه لعدة أديان
ومذاهب، ولا يُمكِن إرساءُ أسس الدولة في إطار
القبول بالحدِّ الأدنى من التكفير.
التكفيرُ لا يقبل أنصافَ الحلول ولا
التسويات؛ فإما أن نقبل التكفيرَ وما يترتَّب
عليه، فنخرج من العصر، أو أن نرفضَه بشجاعة،
ونعلنَ سقوطَ كلِّ نتائجه ومقدِّماته، فنحضُر
في العصر، ونمتلك قيمَه ومُثُلَه الإنسانية،
وأسماها الحقوق والحريات الممنوحة للإنسان
بوصفه إنسانًا، بغَضِّ النظر عن أيِّ توصيفٍ
إضافي له يتخطَّى إنسانيتَه، سواء كانت تلك
التوصيفاتُ دينيةً أو ثقافية أو إثنية أو جنسية
أو جغرافية.
كان التكفيرُ وما زال أحدَ أعمق عوامل تبديد
الضمير الأخلاقي في الدين. المتديِّن المتشبث
بعقيدة التكفير والولاء والبراء ينطفئ ضميرُه
الأخلاقي، فلا تأخذه الغَيرةُ على فجيعة أيِّ
إنسان ما لم يكُن من الشركاء له في المعتقد
الأخصِّ مذهبيًّا.
ضمورُ الإسلام القِيَمِيِّ وتسيُّدُ إسلامِ
علم الكلام والفقه عمل على تفشِّي التكفير.
وأعني بالإسلام القِيَمي ما تشي به دلالاتُ
الآيات القرآنية، وشيءٌ مما ورد في السُّنة،
وما تكشف عنه القراءاتُ الإنسانية لنصوص
التراث، من قِيَمٍ روحية وأخلاقية وجمالية.
وهذا الفهم القِيَمي للإسلام لا يتعارض مع
الحريات والحقوق الإنسانية الكونية، بل يعمل
على ضمان تطبيقها وترسيخها، وحمايتها من
انتهاكات القراءات اللاإنسانية المغلَقة للنصوص الدينية.
١٣
لا تتنكَّر القيمُ الأخلاقية الكونية للحقِّ
في الاختلاف، والحقِّ في الاعتقاد، والحقِّ في
التفكير، والحقِّ في التعبير، والحقِّ في إبداء
النظر المختلف. التكفيرُ يصادر كلَّ هذه الحقوق
ويتنكَّر لها؛ لأنه لا يرى إلا وجهًا واحدًا
للحقيقة، ولا يعتقد إلَّا بوجود صورةٍ واحدةٍ
لله، وتصوُّرٍ واحد لصفاته، وطريقٍ واحد إليه،
وقوالبَ جَزْميةٍ للاعتقاد به، وكلماتٍ أبديةٍ
في التعبير عنه.
من مشاكل الإسلام في العصر الحديث حذفُ
الذاكرة المريرة لكلِّ البؤس الذي أنتجَتْه
مقولاتُ التكفير المنبثَّةُ في آثار المتكلمين
وفتاوى الفقهاء، وغضُّ النظر عن كلِّ تلك
الآلام التي عاشها المسلم أمسِ، من استعباد
الخلفاء والسلاطين المستبدِّين، بذرائعِ فقه
الطاعة العبودي
١٤ الذي ترسَّخ وتجذَّر في البنية
اللاشعوريَّة للفرد والمجتمع، وتجاهلُ تكفير
المسلم المختلف في مذهبه، فضلًا عن الآخر
المختلِف في دينه، والتكتُّمُ المتعمَّدُ الذي
مارسه الخبراءُ بتراث الفِرَق والمذاهب على
المظالم والعذابات التي عاشها الضحايا والبؤساء
في تاريخنا، والتواطؤُ والإصرارُ على تناسي
كلِّ ذلك التاريخ المرير الذي أفضى لجهل الشباب
المسلم بتراثه وتاريخه، فسقَط في غواية أدبيات
الجماعات الدينية التي افتعلَت لوحةً
رومانسِيةً فاتنةً لكلِّ شيءٍ في
الماضي.
تحوَّلَت مقولةُ «الولاء والبراء» بوصفها
رديفةً للتكفير إلى سلطةٍ تغَلغلَت في ضمير
المسلم المُعتنِق لها، بنحوٍ كان معه وما زال
المسلمُ الذي يتبنَّاها عاجزًا عن بناء ضميرٍ
أخلاقي إنساني حرٍّ، يسمَح له ببناء علاقاتٍ
إنسانية إيجابية مع أتباع الأديان الأخرى، بل
كثيرًا ما عجز المسلم المعتنِق لها عن بناء
علاقات ثقة مع المسلم الذي ينتمي لمذهبٍ آخر؛
لأن عقيدة «الولاء والبراء» تفرض عليه أن يتخذ
موقفًا عدائيًّا مع الغَير، وهو ما يشدِّد عليه
بعضُ الفقهاء بقوله: «واعلم أنه لا يستقيم
للمرء إسلامٌ ولو وحَّد الله وتَرَك الشرك، إلا
بعداوة المشركين.»
١٥
لا يُمكِن بناءُ حياة روحية وأخلاقية أصيلة
في مجتمع تتفشَّى فيه ثقافةٌ يحضُر فيها
التكفير وإلزام المسلم بمقاطعة الغير، ولا
يستطيع قلبٌ يمتلئ بكراهية الإنسان المختلِف في
المعتقد، وروحٌ لا تشعر بالانتماء للعالم،
وعقلٌ ينهكه التشاؤمُ والاغترابُ والارتيابُ من
الآخر، أن يؤسِّس لحياةٍ روحية وأخلاقية
حقيقية، تُشفِق على المعذَّبين، وتتضامن مع
الضحايا، بغَض النظر عن أديانهم ومعتقداتهم
وثقافاتهم وإثنياتهم، وتتصالح مع العقل والحق
والخير والسلام والجمال في الحياة.
١٦