(٣) البِنيَة الفقهية للأخلاق
لما كانت بِنيةُ الأخلاق كلاميةً، والرؤيةُ الكلامية للفقيه هي المرجعيةُ المضمَرةُ لتفكيرِه، تَحَرَّكَ هذا التفكيرُ المنبثقُ من رؤيةٍ كلاميةٍ في أُفقِ مفاهيم لا تتبصَّر ما هو أخلاقي لتضعه معيارًا حاكمًا في استنطاقِ الآيات والروايات التي يوظِّفها في الاستنباط.
يحرص التفكيرُ الفقهي على مراعاةِ القواعدِ الراسخة لأصول الفقه، والأدواتِ المتوارَثة في فهم الآيات والروايات التي يتمسَّك بها الفقيهُ، ليحدِّد في ضوئها فتوى تقرِّر موقفًا حيالَ واقعةٍ حياتية.
تكمُن المفارقةُ في أن الأخلاقَ على وَفْق ما يحكمُ به العقلُ العملي، والأخلاقَ على وَفْق ما يحكمُ به الفقهُ لا يترادفان، بمعنى ألا ضرورةَ في منطق التفكير الفقهي لأن تتطابق الفتاوى والأحكامُ الفقهية مع أحكامِ العقل الأخلاقي، والمعايير القِيَمية الإنسانية المتفق عليها بين العقلاء، مثل حقوق الإنسان بوصفه إنسانًا، بل المهم في منطق التفكير الفقهي أن تكون النتائجُ الفقهية حاكيةً عن مقدِّماتها من القواعدِ الأصولية والفقهية، وغيرِها من الأدوات المستعملة في عملية استنباطِ الأحكام، بشكلٍ تتطابق فيه النتائجُ مع المقدِّمات، وإن كانت مفارقةً في مضمونها لمقاصدِ الشريعة وأهدافِ الدين وقيَمِه الروحية ومعاييرِه الأخلاقية.
تتنوَّع مصاديقُ القِيَم الكلية على وَفْق تنوعِ العصور، وتطورِ مستوى وعي الإنسان للحقيقة القيَمية؛ لأن هذه الحقيقة يدركها الإنسانُ بالتدريج عبْر التاريخ؛ فمع تقدُّم الزمن تتضح رؤيةُ الإنسان وتتكامل، تبعًا لتطورِ وعيه، وتعددِ تجاربه، وتراكمِ خبرته، وتكاملِ مناهج وأدوات العلوم والمعارف التي يوظفها في الفهم. ففي العصر الإسلامي الأول لم تكن العقوباتُ البدنية، كقطع اليد والجَلْد والرجم مثلًا، تتنافَى ومفهومَ العدالة وقتئذٍ، لكنها تتنافَى اليوم ومفهومَ العدالة. ولم يكُن امتلاكُ البشر والتسرِّي بالإماء واسترقاقُ الأسرى مستهجَنًا، بل كان متعارَفًا وشائعًا ومقبولًا، لكنَّ كلَّ ذلك لم يعُد متعارَفًا ولا شائعًا ولا مقبولًا اليوم، بل أضحى مستهجَنًا؛ لأنه ينتهك كرامةَ الإنسان، ولا يتوافق مع مبادئ الحقوق والحريات في الإعلان العالَمي لحقوق الإنسان.
نحتت الرؤيةُ التوحيديةُ للمتكلمين صورةً لله تجعل الإنسانَ عبدًا مُسْتَرَقًّا مستلَبَ الحقوق، ولا ترى له أيَّ حقٍّ خارجَ حدود التكليف. كلُّ شيء في حياته، فعلًا أو تركًا، يخضع لتوجيهٍ فقهي، حتى التخيير بين الفعل والترك هو تخيير يحكُم به الفقه بالإباحة، بمعنى حتى ما يكون الإنسانُ حرًّا في فعله أو تركه يحدِّده حُكمٌ فقهي بالإباحة، بعد أن تمدَّدَت مساحةُ الفقه لتستوعب كلَّ شيء في حياة الإنسان، بنحوٍ دخل الفقهُ معه في دائرة ما أباحه اللهُ له من حرية؛ ما يعني أنَّ الإنسانَ بما هو إنسان لا تخرج حياتُه في أقواله وأفعاله عن حدود الأحكام الفقهية، ولا يتمتع بأية حرية خارج حدود ما يحكم به الفقه.
تغلُّب السُّنَّة على مرجعية القرآن الكريم
لو أحصينا طُرقَ المَرْوي في جوامع الصحاح وكتب السُّنن والمصنَّفات والمستدركات والمستخرجات والمسانيد والمعاجم، ومدوَّنات الحديث لدى كل فرق ومذاهب الإسلام، بتعدُّد سلاسل السند والطرق الواردة فيها الأحاديث، نجد ثروة لا تضاهيها كميةُ النصوص الدينية لأي دينٍ إبراهيمي، وربما لكلِّ دين. تمثِّل ثروة الأحاديث هذه ما نقلَه الصحابة عن النبي الكريم (ص)، وما احتفظَت به ذاكرةُ عدة أجيال من الرُّواة في القرون الأولى؛ الأول والثاني والثالث، بطُرقهم المتنوِّعة إلى من يَرْوون عنهم، وما أُضيف بمرور الأيام، استجابةً لما حفلَت به حياتُهم من احتياجاتٍ متنوِّعة، ووقائعَ ومطامحَ مختلفة، ومشكلاتٍ وصراعاتٍ وحروبٍ مؤلمة؛ بحيث صار الحديث مرآةً انطبعَت فيها صورٌ لكلِّ ما عاشوه في حياتهم. كان الحديثُ مرآةً انعكسَت عليها طبيعةُ حياة الصحابة ومَن جاء بعدهم، والخلفاءُ والولاة، فتجلَّت فيها رؤيتُهم للعالَم وبيئتُهم وثقافتُهم ومصالحُهم، ونزاعاتُهم الدامية على الاستئثار بمشروعية الحكم والسلطة والثروة.
أصبحَت السُّنَّةُ غطاءً يُضْفي المشروعيةَ على سلوكِ الصحابة والتابعين وتابعيهم، والخلفاء والولاة مهما كان، وتبرير مواقفِهم المختلفة، ونزاعاتِهم السياسية، وصراعاتِهم المسلَّحة، بل صار كلُّ شيء في الخلافة والسلطة، والحياة الفكرية والثقافية، والاقتصادية، والعلاقات الاجتماعية، لا يجد مشروعيتَه إلَّا عبْر حضوره في السُّنَّة.
إن اتساع عمليات الوضع وتنوُّعها تبعًا لتنوُّع دوافعها الدينية والسياسية والثقافية، وتعبيرها عن شبكاتِ مصالحَ متضادة، أحدث مشاكلَ كثيرة، من أبرزها اتساعُ حدود النصِّ المقدَّس كميًّا وكيفيًّا، وتبعًا لذلك اتساعُ حدود الفقه، واستيعابُه لكلِّ مجالات الحياة.
في الإسلام القرآن الكريم هو الكتاب المقدَّس المتفق عليه بين المسلمين. أما السُّنَّة الشريفة فقد اختلط تدوينها، المتأخر نسبيًّا، بعمليات وضعٍ لأحاديثَ كثيرة، ألفَّ فيها المتقدِّمون والمتأخرون كتبًا متنوِّعة، وابتكروا طرائقَ متعدِّدة للتثبُّت من صحة صدور الحديث، عبْر دراسة السند، والتعرُّف على رواته، واكتشاف مواقفهم، وتمحيص آثارهم، والتدقيق في سلوكهم، وعدالتهم ونزاهتهم عن الكذب والتزامهم الأخلاقي. مضافًا إلى دراسة متن الحديث، وتفحُّص دلالاته، واختبار مدى انسِجامِها أو تعارُضِها مع دلالات آيات القرآن الكريم، والأهداف الكلية للدين.
وكان مآلُ السُّنَّة، بوصفها المصدرَ الثاني للتشريع، أن تتغلَّبَ بالتدريج على مرجعية القرآن الكريم، مع أنه المصدرُ الأول المهيمن على سواه، وتحجبَ دورَه في التشريع، على وَفْق معايير صنعَها أصولُ الفقه، أعلَت من مكانة السُّنَّة، وجعلَتها مرجعيةً في فهم الكتاب، وقدَّمَت دلَالَتَها على دلَالَة الكتاب، وخصَّصَت فيها ما هو عامٌّ في الكتاب، وقيَّدَت ما هو مطلَقٌ فيه، وفرضَت فهمَها المحدَّد لدلالة كثيرٍ من آياته.
وكنتيجةٍ لذلك انحسر عبْر الزمن حضورُ المعنى الأخلاقي القرآني في تفكير المسلم وسلوكه، بعد أن تسيَّد علمُ الكلام معتقداتِه، والفقهُ أفعالَه، وتأطَّرَت بمقولات المتكلمين وفتاوى الفقهاء آفاقُ تفكيره وسلوكه.
وتحوَّلَت هذه الثروة بالتدريج إلى منجم يُمِدُّ علمَ الكلام بما تتطلَّبه صياغةُ مقولات المتكلمين الاعتقادية من: أدلة ودفاعات، تبرِّر انتماءَها للوحي وانبثاقها منه، فترسم صورةً لله وصفاته وأسمائه، وَفْقًا لما تعبِّر عنها اجتهاداتُ المتكلمين وآراؤهم المشتقَّة من كيفيةِ رؤيتهم لله، واختلافِ اتجاهاتهم وأحوالهم وثقافاتهم وأزمنتهم.
ولما كانت مرجعيةُ الفقيه في الاستنباط أغلبها تعتمد الروايات الواردة في كتب السُّنَّة، وهي كثيرةٌ ومتنوعةٌ، ويشي بعضُها بأحكامٍ مختلفة ومتعارضة، تعدَّدَت وتنوَّعَت مواقفُ الفقهاء تبعًا لاختلافِها، ولكيفيةِ معالجة تعارُضها، على وَفْق اختلافِ المباني الأصولية، وطرائق الفهم والتفسير التي تفرضها رؤيةُ الفقيه للعالَم وعقيدتُه، وسيكولوجيتُه، ونمطُ ثقافته؛ إذ ليس هناك فهمٌ وتفسيرٌ خارج معادلاتِ ذاتِ الإنسان ورؤيتِه للعالَم وثقافته. الكثيرُ من فقهاء الإسلام تخضع رؤيتُهم للعالَم لما صنعه علمُ كلامِ الفِرقةِ الاعتقاديةِ التي ينتمون إليها، حتى باتت آراؤهم مرتهنةً لرؤية المتكلم، هي تتحكَّم بالفتوى، وتحدِّد ترجيحاتِ الفقيه، وتوجِّه اختياراتِه عند تعارُض الروايات واختلافها.
كان لغزارةِ المدوَّنة الحديثية في الإسلام أثرُها البالغُ في نُموِّ المدوَّنة الفقهية وتضخُّمِها، وابتلاعِها لكلِّ ما يتصل بالدين في حياة المسلم الفردية والاجتماعية. إذ تضخَّمَت المدوَّنةُ الحديثية بعد اشتداد حركة الوضع في الحديث في عصر التابعين وتابعيهم، لتأخرِ التدوين عن عصرِ البعثة لأكثر من جيل، وتحوُّلِ السُّنَّة إلى الدليل الثاني من أدلة التشريع بعد وفاة النبي الكريم (ص). تمادت حركةُ الوضع واستبدَّت بها وجهةٌ تنزع إلى التحريمِ والتأثيمِ لكلِّ ما كان على الضدِّ من مصالحِ الصحابة والتابعين وأتباعهم، والخلفاء والولاة، أو إلى الإلزامِ بالفعل وفرضِه إن كان يستجيب لمصالحهم، مما شكَّل أرشيفًا هائلًا حفلَت به الصِّحاحُ والمسانيدُ والمجاميعُ الحديثية، يتسع لاستيعابِ مواقفَ متباينةٍ ومتعارضة، وينتج آراءً فقهية متضادَّة، اضطَرَّ ذلك علماءَ الأصول لوضعِ قواعدَ تعالج ذلك التعارُض، فاتسعَت وتمدَّدَت مباحثُ التعارض في أصول الفقه.
الفقهُ قانونٌ غرضه تنظيم العبادات، وكلِّ شئون الحياة الخاصة والعامة، ولا يدخل في غرضه الأساسي إنتاجُ المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي الذي ينشُده الدين. كانت ثروة الأحاديث ينبوعًا يَرفِد الفقه بما تتطلَّبه عملية الاستنباط من أحكامٍ متنوِّعة، تُجيب عن أسئلة حياة الفرد والمجتمع والسلطة الكثيرة.
احتاجت عمليةُ الاستنباط إلى قواعد تتحكم في فهم آيات الكتاب والسُّنة وتوجِّه بوصلةَ تفسيرها، وتغطي حالات الافتقار لآية أو رواية في الواقعة، أو عدم قناعة الفقيه بصدور الرواية عن النبي الكريم (ص)، فظهر علمُ أصول الفقه، ليشكِّل منهجًا يضبط عمليةَ التفكير الفقهي، ويُعلي من مكانة السُّنة، إلى الحد الذي صارت فيه السُّنة تتحكَّم في دلالات الآيات، تتقدَّم عليها، فتخصِّص ما هو عام، وتقيِّد ما هو مطلَق، وتضيِّق مساحة الإباحة الواسعة في الكتاب الكريم.
اتسع نطاق الفقه وتمدَّد ليستوعب كلَّ ما يتصل بأحوال الناس ومعاشهم، وذلك ما دعا الفقيهَ لأن يُجيب عن أسئلة الناس المختلفة، ويبحث عن حلولٍ فقهية لمشكلاتهم. يحتاج الخلفاء والسلاطين للفقه حاجةً شديدة، لخلع المشروعية على سلطتهم، وتسويغ سلوكهم في إدارة الحكم والسياسة وشئون المجتمع. منذ نشأة الفقه لم يكُن الفقيهُ بعيدًا عن الخلفاء في المدينة ودمشق وبغداد، وإن عاش خارج هذه المدن فيخضَع لرقابة ولاة الخلفاء الصارمة، الذين حرَصوا في كلِّ المراحل على دمج الفقه في مؤسَّسة السلطة بكلِّ الوسائل، وإن تمنَّع الفقيهُ يُسكِتونه بالإكراه، وإن قاوَم يُساق إلى السجن، كما حدث مع الفقيه أبي حنيفة (٨٠–١٥٠ﻫ)، الذي سجَنه أبو جعفرٍ المنصور حتى وفاته ببغداد؛ لأنه دعم ثورةَ محمد النفس الزكية، ولم يستجب لرغبة المنصور في تولِّي القضاء. وقبل ذلك أيَّد أبو حنيفة ثورةَ زيد بن علي، فسجَنه والي الكوفة يزيد بن عمر بن هبيرة، الذي رفض أن يعمل في جهازه.
ترسخَت صلةُ الفقه بالسلطة، وتفاعلَت في مختلف الأزمنة، فانعكَس ذلك على الفقه، باتساع مساحة التحريم، وضيق مساحة الإباحة. وجدَت السلطة في الفقه ذريعةً تسوِّغ لها التحكُّم في الحياة الخاصة والعامة للناس، عبْر آلية التحريم، الذي عمل على تقليص حدود الحريات. ضاق فضاء المعنى في الدين، وأُهدرت دلالات أكثر آيات القرآن الكريم التي تتحدث بوضوح عن الحقوق والحريات، وأمثالها من آيات تتضمن المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي، ونُسيَت دلالاتُ أحاديثَ كثيرة تتحدث عن ذلك.
استحواذ الفقه على الدين
آياتُ الأحكام لا تشكل إلَّا نسبةً محدودة، مقارنةً بما استوعبه القرآنُ من عددٍ كبير لآيات تتنوع موضوعاتُها وتتعدَّد بعدد المعاني التي ترمي إليها رسالةُ القرآن الروحية والأخلاقية والإنسانية. فقد بلغ عددُ آيات القرآن ستةَ آلاف ومائتَين وستًّا وثلاثين آية، من دون البسملات، ولو دخلَت البسملات مع الآيات، كما هو رأيٌ معروف عند جماعة من علماء التفسير وعلوم القرآن، لأصبح عددُ آياته ستةَ آلاف وثلاثَمائة وثمانيةً وأربعين آية.
الفقهُ أهدرَ معاني أكثر آيات القرآن القِيَمية، ولم يهتمَّ إلَّا بنسبةٍ قليلة جدًّا منها. وتسيَّد الفقهُ المعرفةَ الدينية في الإسلام، وتسلَّط عليها كلِّها، فتحكَّم فيها وفرض سطوتَه عليها، وأخضَعها لمنطقه في التفكير؛ بحيث صار كلُّ شيء تحت وصاية العقل الفقهي، بنحوٍ يُمكِن معه أن يفرض عليه هذا العقلُ أن يكفَّ عن التفكير خارج الحدود التي يرسمُها له، وعند الممانعة يُشهِر ضدَّه سلاحَ التحريم الشامل لكلِّ شكلٍ من أشكال تداوُل هذا اللون من المعرفة، ويُعلِن تحريمَ تعلُّمه والاهتمامِ به والكتابةِ فيه وتداوُلِ كتبه.
في هذا السياق تحوَّل كلُّ شيء في الإسلام إلى فقه، وخضَع كلُّ شيء للحرام والحلال، بما في ذلك العلومُ والمعارف، والأخلاقُ والآداب، وتم تقنينُ العلاقات الاجتماعية على وَفْق أحكامه، وأضحَت سلطةُ الفقه تتحكَّم بكلِّ تفكير المسلم ومعرفته وثقافته وتعبيره وسلوكه الفردي والمجتمعي، فلا يخرج أيُّ فعل أو قول أو فكرة عن الأحكام الفقهية المعروفة في تصنيف الفقهاء؛ فهو إما واجب أو محرَّم أو مستحبٌّ أو مكروه أو مُباح، وكأنَّ المسلم صار كائنًا ميكانيكيًّا مبرمجًا سلفًا، حتى الإباحة التي تسمح له أن يفعل أو يترك صارت حكمًا فقهيًّا، بمعنى أن حريَّته هنا حكمٌ بالحرية. الحريةُ في الإباحة مِنحةٌ يُمكِن تضييقُها وحتى استردادُها، إن لم تكن في إطار الحدود التي يرسمُها واهبُها، فلا يكون الإنسان حرًّا بوصفه إنسانًا، بالفعل أو الترك في بعض الموارد، بل هو حرٌّ بوصفه يحظى بحكم الإباحة الفقهي في هذه الموارد كما أشرنا لذلك؛ لأن كلَّ شيء يفعله أو يتركه لا يخرج عن حدود الفقه. صارت حدودُ الفقه حدودَ الحياة كلِّها، حيثما كان الإنسانُ، وحيثما كان قولُه وفعلُه.
الفقهُ معرفةٌ تفرضها رؤيةُ الفقيه للعالَم والإطار المرجعي لتفكيره؛ لذلك قد يستنبط الفقيهُ فتاوى لا تتطابق بالضرورة مع أحكامِ العقل الأخلاقي. فهمُ الفقيه للنصوص يلتبس بذاته كما تلتبس كلُّ عملية تفسير وفهم بذات المفسِّر، وتتحكَّم بهذا الفهم رؤيتُه للعالَم وثقافتُه. الكثيرُ من فقهاء الإسلام تنبثق رؤيتُهم للعالَم في أفق الرؤية الكلامية، وتأسِر آراءَهم مقولاتُ المتكلمين بوصفها مسلَّماتٍ تتحكَّم بتفكيرهم، وتحدِّد كيفيةَ استدلالهم، وتوجِّه اختياراتِهم عند تعارُض الروايات واختلافها.
وأفضَت هيمنةُ علمِ الكلام على معتقَدات المسلم، والفقهِ على حياته، واتخاذُهما مرجعيةً في التفكير والسلوك، إلى نُموِّ واتساعِ مدوَّنة علم الكلام أفقيًّا ورأسيًّا، وهكذا نمت واتسعت وتضخَّمَت مدوَّنةُ أصول الفقه، والفقه تبعًا لذلك، واستبدَّت بالفقه ظاهرةُ التكرار، فتراكمت المتونُ وشروحُها وشروحُ شروحها، وصار رجلُ الدين يستمدُّ مكانتَه من دراستِه وتدريسِه وكتابته في الفقه وأصوله، وأصبح يتحدَّد على أساسها مقامُه الديني والدنيوي، ومصيرُه الأخروي، وما تُمنَح له من حقوقٍ وامتيازاتٍ مادية وروحية ورمزية وعلمية.
وبموازاة ذلك أمست مدوَّنةُ الأخلاق في تراثنا هي الأفقر، مقارنةً بالفقهِ وأصوله وعلمِ الكلام والتفسيرِ والحديثِ، وغيرِها من معارف التراث. فقد ضمرَت المدوَّنةُ الأخلاقية في الإسلام، وشحَّ التأليفُ فيها، وقلَّما نجد مؤلَّفاتٍ مهمةً تبحث في فلسفةِ الأخلاق، أو كتابات تحدِّد ماهيةَ الأخلاق النظرية والعملية، وتحلِّل طبيعةَ صلة الدين بالأخلاق والأخلاق بالدين.
وكان من نتائجِ الاختلالِ في نصابِ مدوَّنة الأخلاق، والانصرافِ للكتابة في الفقه وغيره، نموُّ بعض الظواهر التي لا صلةَ لها بالواقع في التفكير الفقهي، كما تنمو طفيلياتُ النبات التي لا جذور لها في التربة، مثل ظاهرة الافتراض الفقهي أو الفقه الافتراضي، الذي غرقَت فيه ذهنيةُ بعض الفقهاء، فراحوا يفترضون مسائلَ متخيَّلة لا صلة لها بالواقع، وعندما احتاروا في تبرير صلتِها بالواقع أو «ثمرتِها العملية» لجَئُوا إلى افتراضِ نَذرٍ غريب، حتى قيل: «النَّذرُ مطيةُ الفقهاء.» وربما تورَّط أحدُهم بافتراضاتٍ تثيرُ السخريةَ أحيانًا؛ فقد طالعتُ كتابًا في المسائل المستحدَثة، نشرَه فقيهٌ قبل نحو نصف قرن، يفترض لو أن إنسانًا نقلوا رأسَه إلى جسدِ حمار أو فعلوا العكس، فيتساءل: ما أحكامُ صلاتِه وصيامِه وعباداتِه وأحكامِه، وهل يتبعُ موضوعُ الأحكام الرأسَ أو الجسدَ؟!
التطبيق الميكانيكي لقواعد الاستنباط الفقهي
لم يهتم أصولُ الفقه وتبعًا له لم يهتم الفقهُ بالمنظومة الأخلاقية والمعايير القِيَمية ومجالاتها المحورية وروافدها المُلهِمة، ولم يدرُس أثرَ الضمير الأخلاقي في بناء الحياة الإنسانية الأصيلة، ولم يحدِّد موقعَ الأخلاق في الشريعة الإسلامية، على الرغم من أن المنظومةَ الأخلاقية والمعايير القِيَمية منبثةٌ في ثنايا الآيات القرآنية باختلاف موضوعاتها. كذلك أهمل أصولُ الفقه وتبعًا له أهمل الفقهُ الدلالاتِ القرآنيةَ للحياة الروحية، وتعبيراتِها العميقة، والروافدَ التي تستقي منها، ولم يحدِّد موقعَها في الشريعة الإسلامية، على الرغم من أنها تسري في فضاء الآيات باختلاف موضوعاتها، كالمنظومة الأخلاقية والمعايير القِيَمية. وهكذا تغلَّبَ العقلُ الأصولي على العقلِ الفقهي فصنعَ له بالتدريج قواعدَ صارمةً ومداراتٍ مقفلةً، تنسكبُ فيها أدلةُ استنباطِ الحكمِ كالرواياتِ وغيرها، بنحوٍ تقودُ معه تفكيرَ الفقيهِ لتفرض عليه نمطَ فهمٍ محدَّدةٍ نتائجُه سلفًا، وصار عقلُه أسيرًا لها لا يتمكَّنُ من عبورهِا أو تخطِّيها.
ومما كرَّس ذلك أن العربيةَ لم تكُن اللغةَ الأمَّ لجماعةٍ من كبار مفسِّري ومحدِّثي وفقهاء الإسلام، ومن يتعلم لغةً غيرَ لغته الأم لا يستوعب بالضرورة كلَّ الفضاءَ الدلالي لهذه اللغة، ولا يستحضر كلَّ ما تشي به الكلمات من مجازات وكنايات لا تتبادر مباشرةً عند الاستعمال، ولا تكونُ السياقات العُرفية مرتكزةً في لاشعوره اللغوي، ولا يتذوَّق سحرَ بيان اللغة وتعبيراتها، والدلالاتِ الحافَّة بكلماتها وعباراتها؛ لذلك تطلَّبَ تعاطي هؤلاء المفسِّرين والمحدِّثين والفقهاء مع آيات القرآن والروايات قواعدَ أصولية، وقوانينَ وأدواتٍ لغوية ونحوية وبلاغية نهائية لإنتاج فهمها، وغلقِ باب إعادة النظر فيها، أو الدعوة لتجديدها، في ضوء ما يستجدُّ من أحوال المسلمين ومعاشهم، والمتطلبات التي تفرض عليهم فهمًا للكتاب والسُّنَّة يتناغم مع علومِ ومعارف زمانهم ونمطِ ثقافتهم ورؤيتِهم للعالَم.
إن تلك القواعد الأصولية، والقوانين والأدوات اللغوية والنحوية والبلاغية أنتجتها ضروراتٌ زمنية، وأملتها ظروفٌ خاصة كان يعيشها من وضعوها. وذلك أحدُ أسباب تضخُّم أصولِ الفقه وعلوم اللغة العربية، وتوغُّلِ الصناعة الأصولية وعلوم اللغة في تفسيرِ القرآن وفهمِ الروايات لدى الفقهاء.
ولو قرأ خبيرٌ كيفيةَ تشكيل مدونة الفقه في الإسلام لوجد اهتمامَ الفقيه يتركز في استنباطه للفتوى على الوفاء لأصول الفقه ولأدوات الاستنباط، والمهارة في استعمالها في مواردها؛ لذلك يقبل المجتهدُ على الدوام الفتوى الناتجةَ عن التطبيق الذكي لهذه الأدوات في فهم الآيات والروايات، بغَضِّ النظر عن مضمون الفتوى الأخلاقي، ونتائجها العملية في حياة الفرد والمجتمع.
منطقُ الفقه الذي يعرفه كلُّ خبير بمدونته لا ينظرُ للأخلاقِ ولا يعتمدُ العقلَ الأخلاقي مرجعيةً، بل لا يتنبهُ حين يكون على الضدِّ منها أحيانًا. المهمُ عند اختبار مكانة الفقيه العلمية في الاستنباط هو براعتُه في التطبيق الميكانيكي للقواعد الأصولية وغيرها في عملية الاستنباط، وكأنه بمثابة الخبير بالرياضيات، الذي تُختبَر براعتُهُ في استيعاب المعادلات والقواعد وتطبيقها لحلِّ مختلف المسائل الرياضية المعقَّدة. وقد انتهى ذلك إلى أن بعضَ الآراء في مدونةِ الفقه الإسلامي كانت على الضدِّ من أحكامِ العقل العملي «الأخلاقي».
نتيجةً لهيمنةِ الفقه على الحياة، واتخاذِه مرجعيةً في التفكير والسلوك، اندمَج معنى الأخلاق بالفقه في عالَم الإسلام، بل تسيَّد فهمٌ لدى المسلم يختصرُ كلَّ ما هو أخلاقي بما هو فقهي؛ بحيث اقترن، في الضمير الإسلامي، الواجبُ بالمعنى الفقهي بمفهوم الحُسْن بالمعنى الأخلاقي، واقترن المحرَّمُ بالمعنى الفقهي بمفهوم القُبح بالمعنى الأخلاقي، مع أن الحُسْنَ والقُبحَ من أحكام العقل العملي «الأخلاقي»، وأحكام هذا العقل لا تتطابق دائمًا مع أحكامِ الواجب والمحرَّم في الفقه الإسلامي.
لقد تصدَّعَت الأخلاقُ في مدوَّنة الفقه الإسلامي، ولم تكترِث هذه المدوَّنةُ بالنزعة الإنسانية في الدين، بعد أن ربطَت كلَّ معنًى أخلاقي وإنساني بالفقه، وشدَّدَت على الصلة العضوية بينهما، وكأنْ لا أخلاقَ خارجَ المدوَّنة الفقهية، حتى صارت هذه القضيةُ واحدةً من المسلَّمات المضمَرة في العقل الفقهي، وذلك ما ضيَّع شيئًا من معاني الأخلاق. ولم يقتصر ذلك على الفقهاء، بل لم يتخذ متكلِّمو الإسلام ومحدِّثوه ومفسِّروه من العقلِ الأخلاقي مرجعيةً في فهمهم للإسلامِ وتفسيرهم لآيات الكتاب الكريم.
وقادَ غيابُ مرجعيةِ العقلِ الأخلاقي للعقلِ الفقهي إلى أن يحدث شيءٌ من الخلط لدى العقل الفقهي بين الفقه وأعراف وتقاليد الجماعة التي ينتمي الفقيهُ إليها، بنحوٍ أضحت فيه الأعرافُ والتقاليدُ تُشكِّل أحدَ عناصر الإطار المرجعي لتفكير الفقيه، وتفرض عليه أنماطَ فهمها وقِيَمها.
والأعرافُ والتقاليدُ مفاهيم وأحكام تحكي السياقاتِ الراسخة لحياة الجماعة وثقافتها المحلية، وتشي بما خلصَت إليه في تجارب عيشها، وما يتمخَّض عنها من مفاهيم وأحكام تأخذ شكلَ تشريعٍ محلِّي. ولا تعبِّر الأعرافُ والتقاليدُ بالضرورة عن أهدافِ الدين أو مقاصدِ الشريعة أو أحكامِ العقل الأخلاقي.
تحويل القِيَم الأخلاقية إلى فتاوى فقهية
ضعفُ حضور المرجعية الأخلاقية في الاستنباطِ الفقهي أنتجَ بعضَ الأحكامِ التي تهدر كرامةَ الكائن البشري، ولا تهتم بحقوقِ الإنسان بوصفه إنسانًا، كما في أحكامِ الرِّق، وأحكامِ غير المسلم في مجتمعٍ مسلم. هؤلاء البشر لا تتساوى حقوقُهم الشخصية والمدنية والدينية مع المسلم الحر.
هذه الفتاوى ما زالت تُدرَّس في معاهد التعليم الديني، وتتسرَّب في بعض مقرَّرات التربية والتعليم في المدارس والجامعات في البلاد الإسلامية. على الرغم من أن الكلَّ يعرف أن هجرةَ المسلمين وفرارَهم من ديارهم لم تكن بطرًا، بل هي نتيجةٌ طبيعية للاستبدادِ والأنظمة الشمولية الحاكمة في أكثر بلدانهم، وقمعِها للحريات ومصادرتِها لحقوق المواطنة، وللفقرِ المقيم في أكثر هذه البلاد، وضيقِ فرص العيش. كما يهاجر آخرون للدراسة وطلب العلم، ويمكُث أغلبُهم هناك حتى نهاية حياتهم، غيرَ مكترثين بمثل هذه الفتاوى الغائبة عن العصر، لما تُتيحه لهم ديارُ الهجرة من حقوق وحريات، وأمن وفرص عمل وضمانٍ معيشي وصحي كريم، لا يجدونها في بلادهم، وتوفِّر بنيةً تحتية ومجتمعَ معرفةٍ وحرياتٍ أكاديمية للإنتاج العلمي، تفتقر إليها أغلبُ الجامعات ومراكزُ البحوث في بلادهم.
مثلُ هذه الفتاوى شائعة، صحيحٌ أنها ليست موردًا للإجماع، لكن يعرف كلُّ دارس للفقه بأنها لا ينفرد بها فقهاءُ مذهب أو جماعة، بل نجد نظائرَها في كتب الفقه لمختلف المذاهب.
عدمُ التطابقِ بين الصناعةِ الفقهية والعقل الأخلاقي، مضافًا إلى القراءة اللاتاريخية للأحكام الواردة في الآيات والروايات، هذه القراءة التي تتعاطى مع موضوعات الأحكام من دون ملاحظة الأحوال والظروف الاجتماعية السائدة في عصر النصِّ، والمتغيرة بتغيُّر الإنسان، والواقع الذي يعيش فيه وما يحفل به من تحوُّلات، وكلِّ ما كان يمثِّل عنصرًا من العناصر المكوِّنة لموضوعات الأحكام، كلُّ ذلك أدى إلى ظهورِ آراءٍ فقهية لا ترى حقًّا للكائن البشري في الاختلاف، وترفُض أن تمنحه الحريةَ في الاعتقاد.
هناك تأثيرٌ متبادَلٌ بين تفريغِ مفاهيم الوحي والنبوة والدين والقرآن من مضمونها الأخلاقي وتفريغِ الفتوى من مضمونها الأخلاقي، وتحويلِ القِيم الأخلاقية إلى فتاوى فقهية والفتاوى الفقهية إلى قِيم أخلاقية. وتسبَّب ذلك في تبديد الضمير الأخلاقي عند بعض المسلمين المتمسكين بحرفيةِ مثل هذه الفتاوى للفقهاء، ممن اعتمدوها موجِّهةً لسلوكهم ومواقفهم، حتى لو كانت تسوِّغ لهم ارتكابَ بعض المواقف اللاأخلاقية التي يرفضها الضميرُ الأخلاقي.