(١) الاستعبادُ أبشعُ انتهاكٍ للكرامة الإنسانية

الاستعبادُ إكراهُ إنسانٍ بما يفوق طاقتَه بفرض العبودية عليه. معنى الاستعبادِ واحدٌ، كما أن معنى الكرامةِ واحدٌ؛ فمهما كانت مهمةُ المُستعبَدِ ومهنتُه، فالاستعبادُ يهتك كرامتَه. كلُّ الحضارات والمجتمعات في التاريخ تورَّطَت بالاتجار بالرقِّ، وخصَّصَت أسواقًا لبيع وشراء البشر كالحيوانات، واستغلَّت الرقيقَ في مختلف الأعمال الشاقة.

الرقُّ أقسَى أنماطِ احتقارِ البشر؛ لأنه احتقارٌ للإنسان وهتكٌ لكرامته. لا تتحققُ إنسانيةُ أيةِ ثقافةٍ أو أيديولوجيا أو عقيدةٍ أو ديانةٍ إلا بتبني المساواةِ بين الإنسان وأخيه الإنسان، وتجسيدِها في مختلف المواقف والأفعال والسلوك، بغضِّ النظرِ عن الدين والثقافة والجنس والنسب واللون والطبقة.

«الاستعبادُ» غيرُ «العبوديةِ الطوعيةِ». أكثرُ ما يتفشَّى في المجتمعات «العبوديةُ الطوعية»؛ إذ يرضخُ الناسُ أحيانًا باختيارهم لبشرٍ يستعبدونهم، والأمثلة على ذلك متنوعة، نراها في السياسة والدين، وحتى في الثقافة والأدب والفن.

فرضُ العبودية على الإنسان يتخذُ أشكالًا متعدِّدة، تارة تكون «مقنَّعة»، وأخرى تكون «مكشوفة». أشهرُها وأوضحُها الرقُّ الذي شاع في مختلفِ المجتمعات منذ فجرِ التاريخ. الرقُّ أقبحُ أشكالِ نزعات التسلط وامتهانِ الإنسان لأخيه الإنسان، وأقسَى صور هَتْك الكرامة البشرية، إنه ظاهرةٌ بشعةٌ مزمنةٌ في الحياة، لم يتورط فيها كائنٌ آخر غير الإنسان. تفشَّى الرقُّ وبيعُ البشر في المجتمعات على طول التاريخ، ولم تصدُر قراراتٌ صارمةٌ تُلغي تشريعَه بكلِّ الأشكال حتى القرنِ التاسعَ عشَر، وهذه القراراتُ وإن استطاعت تحريَمه والقضاءَ عليه، لكنها عجزَت عن استئصال جذوره ومنابعه المزمنة، فاختفَى شكلُه القديم، غير أنه واصَل حضورَه بعنواناتٍ وأشكالٍ بديلة.

العبودية المقنَّعة

الرقُّ غيرُ مستهجنٍ عند أكثر الناس الذين يمارسونه، ربما هناك حاجةٌ نفسيةٌ مختبئةٌ لاسترقاقِ البشر وامتهانهم لدى كثيرٍ من الناس، الذين يتلذَّذون بالتسلط على غيرهم وإذلالهم، مضافًا لحاجتهم للخدمة والعمل. مجتمعاتُ التخمة اليوم تمارسُ الاستعبادَ بمُسمَّياتٍ بديلة. الرقُّ يُستنسَخ في المجتمعات اليوم بأقنعةٍ جديدة، من أبشعها ظاهرةُ «الخدَم»، المتفشِّيةُ في مجتمعاتِ التمييزِ واحتقارِ الإنسان. العبوديةُ تختبئ في الكلَماتِ، تشي كلمةُ «الخدَم» بحمولةٍ سلبية، تحطُّ من كرامة الإنسان الذي كرَّمه اللهُ تكوينًا.

إن كان البعضُ يلتمس مبرِّراتٍ للرقِّ في التاريخ، فإن اسئنافَ الرقِّ بأقنعةٍ بديلةٍ في مجتمعات اليوم لا يمكن تبريرُه أبدًا. في «العبودية المقنَّعة» نرى شاباتٍ وشبابًا يعملون في المنازل، يتعامل معهم أهلُ المنزل باستخفافٍ وإذلالٍ ومهانة، حتى الكلاب والقطط والطيور يهتمون بها في الغالب أكثرَ منهم. يُسكِنونهم في أقفاصٍ ضيقةٍ كأنها زنزاناتٌ مُوحِشة كئيبة، يأكلون أحيانًا فضلاتِ أصحاب المنزل، وغالبًا ما يُلبِسونهم ثيابًا غيرَ ثيابهم، لا يكترث أحدٌ بمشاعرهم وعواطفهم وحساسياتهم وانفعالاتهم كبشر.

هؤلاء بشرٌ لهم ذاتٌ إنسانية، كلُّ ذاتٍ منفردة لا تتكرَّر فيها ولا تتطابق معها أية ذاتٍ أخرى منذ ظهور أول إنسان على الأرض إلى آخر إنسان يعيشُ على الأرض، كلٌّ منهم إنسانٌ مختلف في شخصيته وعقله وعواطفه الفريدة. إنه إنسانٌ وليس شيئًا أو سلعةً تُباع وتُشترى. يقول جيمس جويس: «كلُّ إنسان جزيرةٌ متوحِّدة لا ترتبط بالجزر الأخرى إلا بأمواج من الأصوات. وحتى في هذه الجزيرة المتوحِّدة ثمَّة شيءٌ مفقود دائمًا، جنَّة مفقودة لا نراها إلا حينما نُغمِض أعيننا، كاتصال وانفصال المتصوِّفة.»١

«الخدم» يفكِّرون ويشعُرون مثل كلِّ البشر. هؤلاء بشرٌ كرام، كرامتُهم هبةُ الخالقِ لهم، كرامتُهم مكوِّنٌ لهُويَّتهم الوجودية، بعضُهم أذكى وأنبلُ ممن يستخدمهم، أكرهَتْهم الفاقةُ والحرمانُ والجوعُ وانعدامُ فرص العمل الكريم على زجِّ أنفسِهم في هذا النوع من العمل المُزْرِي الذي يمتهنُهم. هؤلاء بشر؛ ينفعلون، يتألمون، يحزنون، يكرهون، يحبون، يشعُرون بالسعادة، وتنزف قلوبُهم أسًى لحظة يتعرضون لإهانةٍ واحتقار وتنكيل، لكن مع ذلك يتعامل أكثرُ من يستخدمهم معهم وكأنهم محكومون باكتئابٍ وأسًى أبدي.

هؤلاء بشرٌ؛ لديهم احتياجاتٌ جسدية وروحية وأخلاقية، يحتاجون الحياةَ العاطفيةَ والجنسيةَ مثلما يحتاج كلُّ كائنٍ بشري، يحتاجون الضحكَ والبكاء مثلما يحتاج كلُّ كائنٍ بشري، يحتاجون الفرحَ والحبَّ والحنانَ مثلما يحتاج كلُّ كائنٍ بشري، يحتاجون الاعترافَ بهم وبمنجَزهم مهما كان مثلما يحتاج كلُّ كائنٍ بشري، يحتاجون الاحترامَ والشكرَ والتبجيل والتكريمَ مثلما يحتاج كلُّ كائنٍ بشري، وأحيانًا يحتاجون التأوُّه والتوجُّع والاستغاثة والصُّراخ مثلما يحتاج كلُّ كائنٍ بشري يقعُ ضحيةَ احتقار وإهدار لكرامته. هؤلاء ضحايا محرومون من كلِّ ذلك غالبًا؛ لأن أكثرَ مَنْ يستخدمونهم لا يشعُرون بضراوة الألم الذي يكابدونه في باطنهم.

هؤلاء بشرٌ؛ لديهم حياتُهم الباطنية. الذات البشريَّة بطبيعتها باطنيةٌ، داخليةٌ، عميقةٌ، تنطوي على أسرارها، وتتخصَّب وتغتني بمنابع إلهامها، وديناميَّتها الجُوَّانية، وتتحقَّق على الدوام حين تشعُر بوجودها وتجاربها وحياتها الخاصَّة. لا يُمكِن لنا اختراق هذه الحياة واكتشاف مدَيَاتها، إلَّا بحدود ما تبوح هي به. يُولَدُ الإنسان بمفرده، ويحيا بمفرده، ويموت بمفرده، ويتألَّم بمفرده، ويَمرَض بمفرده، ويشعُر بالخطيئة بمفرده، ويستفيق ضميرُه بمفرده، ويؤمن بمفرده، ويُلحِد بمفرده. ويجتاحه بمفرده أيضًا: القلق، واليأس، والاغتراب، والضجَر، والسأَم، والألم، والحزن، والغثَيان، وفقدان المعنى، وذبول الروح، وانطفاء القلب، والعدَمية، والعبثيَّة، والجنون.٢

تفشَّى استيرادُ «الخدم» بين كلِّ العوائل في مجتمعاتِ التُّخمة، يندُر أن تعثرَ على عائلةٍ تستغني عنهم في المنزل، أو تأمينِ خدماتهم خارجَ المنزل. اتخذ هذا الاستعبادُ صيغةَ عبودية بقناعٍ جديد؛ لأن هؤلاء البشر، وإن لم تَجرِ عليهم أحكامُ الرقِّ في الفقه أو القانون، لكن النظرةَ الاجتماعيةَ لهم، وأساليبَ التعامل معهم، وطريقةَ استخدامهم، لا تختلف كثيرًا عن تلك التي كانت مع الرقيق.

حذَّرَت كتاباتٌ كثيرةٌ من شيوع هذه الظاهرة، وتهديدِها لنظام القِيَم، وللأمنِ الأسري والمجتمعي، وآثارِها الاقتصادية والسياسية والتربوية والثقافية والأمنية والديمغرافية الخطيرة. لكن أغلب هذه الكتابات تسكُت عن أنين الضحية، وما يكابده من نزيف القلب، واكتِئاب النفس، ووجع الجسد. قلَّما نقرأ كتاباتٍ تدعو لتحريرِ الضحيةِ من هذه «العبودية المقنَّعة»، واستردادِ كرامته المهدورة، والاعترافِ به كبشر، وحمايةِ حقوقه وحرياتِه.

الاستعبادُ أبشعُ انتهاكٍ للكرامة الإنسانية، تفشِّي ظاهرة «الخدم» المقيتة استعبادٌ مهين وهتكٌ لكرامة الإنسان. أشعرُ بالألم والقرف عندما أجدُ إنسانًا أكرهَتْه ظروفُ عيشهِ المريرةُ للعمل بخدمة إنسانٍ آخرَ، فيستغلُّ احتياجاته ويستعبده بلا شفقة. أرى فتياتٍ يخدمن فتياتٍ، ونساءً يخدمن نساءً، وشبابًا يخدمون شبابًا، وكهولًا يخدمون كهولًا، وأحيانًا أرى عجائزَ يخدمن فتياتٍ، وكهولًا يخدمون شبابًا، أو العكس.

الثقافةُ الاستهلاكية مولَعةٌ بالكمِّيات والأرقام والإحصاءات، تُسرِف في استهلاك كلِّ شيء بحثًا عن معنى الحياة. المولعُ بالاستهلاك كشارب ماء البحر، كلما غرقَ في الاستهلاك أكثر ضاع معنى حياته أكثر. يتلهَّف المولَعُ بالاستهلاك لعالَم المعنى لكنه يخطئ الطريق إليه، يحجبه عنه هشاشة القِيَم الأخلاقية الموجِّهة لمواقفه وسلوكه، وتبلُّد شعورُه بألم الإنسان الآخر وعذابه وحزنه ونزيف قلبه. يقول زيجمونت باومان: «ففي عالَمنا، الذي تستحوذ عليه الإحصاءاتُ والمتوسطاتُ والأغلبياتُ، نميل إلى قياس لاإنسانية الحرب بعدد الضحايا، نميل إلى قياس الشر والقسوة والعدوان وبشاعة الظلم بعدد ضحاياه. ولكن في عام ١٩٤٤م، في وسط أبشع الحروب السفَّاكة للدماء، قال لودفيدغ فيتغنشتاين: «لا صرخة من العذاب أشد من صرخة إنسانٍ واحد، ولا عذاب أشد مما يُمكِن أن يُعانيَه إنسانٌ واحد، ولا معاناة الكوكب بأَسْره أشد من عذاب روحٍ واحدة».»٣

استعباد فاطمة الإريتيرية

تعرَّفتُ على فاطمة، وهي فتاةٌ إريتيرية مهذَّبة، تعمل ممرضةً عند سيدةٍ من الأرحام، تحبُّها هذه السيدةُ وتكرمها، وتتعامل معها كما لو كانت ابنتَها. حدَّثَتني هذه السيدةُ عن الماضي القريب لفاطمة قبل مجيئها لبيتها، فقالت: أكرهَت فاطمةَ الفاقةُ وظروفُ العيش القاسية على أن تترك طفلَها الصغير في حضانة أمها في وطنها، وتهاجر بمعية زوجها، لتعمل «خادمة» في منزل عائلةٍ ثريَّة، ويعمل زوجُها لدى عائلةٍ مماثلة في بلادٍ أخرى، وجد الزوجان نفسَيهما فجأة بعيدَين عن بعضهما، طفلُهما يعيش بمعية جدَّته بعيدًا عنهما. لم تمضِ مدةُ عامين على زواجهما حتى انطفأَت كلُّ الأحلام الجميلة، وتلاشت كلُّ وعود أيام العشق الرومانسِية قبل الزواج، بعد أن احترقَ الكوخُ الذي تزوَّجا فيه في قريتهما، واستحال كلُّ شيءٍ فيه إلى رماد، ومنها مدَّخراتٌ نقدية تراكمَت لدَيهما بمرور الأيام.

تعلمَت فاطمةُ التمريضَ في عمرٍ مبكر، عملَت ممرضةً في قريتها المحرومة، كانت تتكفل كلَّ ما يتصل بتطبيب الناس الذين تفتك بهم الأمراضُ المتوطِّنة في قريتها، قبل أن يفرض عليها شقاءُ الأيام مغادرةَ موطنها.

فجأةً انقلب كلُّ شيء في حياتها، فوجدَت فاطمةُ نفسَها «خادمةً» في بيت عائلةٍ مترفة. العائلةُ تعيش في بيتٍ يتسع لعدة غرف، مجهَّزة بكلِّ وسائل الراحة. غرفةُ فاطمة كزنزانةٍ كئيبة، بلا وسائلِ راحة، تفتقر حتى لسريرٍ للنوم، كانت تُضطَرُّ للنومِ على فِراشٍ قديم، وتلتحف أغطيةً عتيقة. يبدأ يومُ فاطمة أولَ الصبح، تتولى تحضيرَ كلِّ شيءٍ لإفطارِ العائلة، تُواصِل القيامَ بتدبيرِ المنزل، وتأمينِ متطلَّباتِ الأبناء الذين يذهبون لمدارسهم. تظلُّ فاطمةُ تدور كلَّ اليوم، لا تنفِّذ طلبًا إلا ويستجدُّ طلبٌ من الأبوَين وابنتَيهما وابنَيهما، الذين يعتمدون عليها في تأمينِ كلِّ شيء، في شئونهم الخاصة، وتدبيرِ المنزل. لا يهتمُّ أحدٌ بطعامها وراحتها، يتعامل الكلُّ معها وكأنها روبوت بلا مشاعرَ وأحاسيسَ بشرية. تجتمع العائلةُ على مائدةِ الطعام، مهمةُ فاطمة الوقوف بجوار المائدة، تترقَّب طلباتِهم. بعد فراغِهم تتولى تنظيفَ المائدة والأواني، أما ماذا تأكل ومتى، فلا يكترث أحدٌ بذلك. لا خيارَ أمامها إلا أن تأكلَ فضلاتِ الطعام، عليها دائمًا أن تتعجَّلَ، لئلا تتخلَّفَ عن تلبية الطلباتِ المتلاحقة. لا يتحدَّثون معها إلا بالأوامر الحادَّة، أو كلماتِ السخرية، لا تتلقَّى كلمةَ شكر، أو ترى تعبيرًا على وجه أحد أفراد العائلة يشي بالامتنان، تعبيراتُ وجوه العائلة مُكفهِرَّة، أثناء النظر إليها والتعامُل معها، تُشعِرها بعدم الرضا، نادرًا ما ترى ابتسامةً أو نظرةَ رضًا تصدُر عن الشخص الذي ينظُر إليها.

الوجهُ نافذةُ الدخول إلى مشاعر الناس، ابتسامةُ الوجه من شأنها أن تُضيءَ قلب مَن تتعامل معه، وتجعل حضورَك أبهَج في حياته. عندما تلتقي الإنسانَ أول ما تلتقي وجهَهُ قبلَ كلِّ شيء، الوجهُ ضوءٌ غالبًا ما يكون الأوضح تعبيرًا، والأشد تأثيرًا في العلاقات الإنسانية. الوجهُ مرآةٌ لا يُمكِن رؤية الإنسان والتوغُّل إلى عالمه الجوَّاني إلا من خلالها. أحيانًا يكون الوجهُ بلا ملامح، وأحيانًا يكون مظلمًا لدى بعض الناس الباطنيين أو العاجزين عن التعبير عن مشاعرهم. لا علاقةَ إنسانيَّة عميقة تبدأ خارجَ الوجه، ‏الحُبُّ الذي هو أجملُ وأغنى علاقةٍ إنسانية مفتاحُه الأول الوجهُ.

لم تكن ظروفُ زوج فاطمة، الذي يخدم في بلدٍ آخر، أفضل من ظروف زوجته. كان يتعرض للحرمان من الراحة، لا يتعامل معه أحدٌ باحترام، الكلُّ يرَونه جاهلًا بليدًا، يتعاملون معه بأساليبَ لا تخلو من العنف اللفظي والرمزي. كان زوجُها شاعرًا مرهفَ الإحساس، كتب قصائدَ عذبة في الحُبِّ، غير أنه ظل يتكتَّم على شاعريته، وهو يعيش حالةَ هوانٍ ينزف لها ضميرُه، بعد أن كان ضحيةَ أيامٍ شقية ورَّطَته ليخدم عائلةً بلا مشاعر.

لا تأوي فاطمةُ إلى الفِراش إلا وهي منهَكة، في ساعةٍ متأخرة، ريثما ينام الكلُّ. حيثما تكون كلَّ اليوم لا يهدأ نُواحُ قلبها لحظة، قلبُها ينزف حُزنًا لفراقِ ولدها، قلبُ الأم كقلبِ متصوفٍ عاشق لا تنطفئ لوعةُ اشتياقه. يبدأ فصلٌ جديدٌ كلَّ ليلةٍ في مضجعِ فاطمة، تحضر أطيافُ صغيرها فتغرق ببكاء لا يكفُّ إلا بعد أن تغدوَ حُطامًا، لتنام كقتيلة.

الحيوانُ لا يطيقُ الاستعبادَ

كنتُ في زيارةٍ رمضانيةٍ سنة ٢٠٢٠م لأحد الأحبَّة من تلامذتي المبدعين في بيِته المؤثَّث بجمالٍ آسر، تتشاكل فيه أفرشةُ الأرضية ببُسُطٍ وسجاجيدَ وكراسي وأشياء تراثية، منضَّدةٍ كلوحةٍ رسمها فنان. أظن أن شقيقَه الفنانَ الذي شاء ألا يعلن عن موهبتِه الفنية، ولا يكشف للناس الإبداعَ في لوحاته، هو مَن اقترح تشكيلَ أثاثِ المنزل، كلوحةٍ تتناغم ألوانُها، وتُصغي فيها أنغامُ كلِّ قطعةٍ للأخرى. فجأةً حضَرَت قطةٌ تمشي بهدوء، تتحرك بخطًى هادئة، تُلامِس ثيابَنا برفق، تُخفي نظرةً دافئةً مليئةً بالرقة، كنظرةِ عاشقة. سألتُه: من أين لك هذه القطة؟ أجابني بأنه اشتراها قبلَ أشهرٍ شفقةً بها؛ لأنه لحظةَ وقع نظرُه عليها في القفص أثارتْه نظراتُها المفجوعة، وجلجلتُها المدوية، وضجيجُها المستغيث، وكأنها تلتمس منه فكاكَ أغلالِها، وأسرِها داخل القفص الذي كادت تحطِّمه بغَيضِها. أشفقَ عليها فاشتراها من البائع كي يحرِّرها من الاستعباد، ويخلِّصها من سجنها الكئيب الذي كانت تُكابِد مراراتِه، وتتجرَّع آلامَه المُوجِعة، حتى أوشَك السجنُ أن يمزِّق كيانها.

الحريةُ نمطُ وجودٍ يُعيد تشكيلَ كينونة الكائن، ويتسامى بها إلى الحدِّ الذي يجعل الحياةَ ترتسم له بصورةٍ باهِرة. تحدَّث لي تلميذي عن طبائع القطة، بعد أن تحرَّرَت من الاستعباد، وكيف أعادت الحريةُ بناءَ نمط وجودها في العالَم، فصارت كائنًا مختلفًا بطبائعه وسلوكه. كان يتلذَّذ بالحديث عن مشيتها وسلوكِها، وما تُفيضه على فضاءِ البيت من سكينة، وما يتحسَّسه هو من أطيافٍ فاتِنةٍ للحياة تتدفَّق من حضورها الجذَّاب. تأمَّلتُ عباراتِه وهو يتحدَّث عنها، وبهجتَه لحظةَ يصفها بكلماتٍ أخَّاذة. تساءلتُ: لماذا يفضِّل كثيرٌ من الناس أن يستضيفَ الطيورَ والبلابلَ والببغاواتِ والقططَ، وغيرَها من الحيوانات الأليفة، لتعيشَ معه تحت سقفٍ واحد، وينفقَ عليها ويهتمَّ بطعامِها ونظافتِها وتطبيبِها، خاصةً عندما يعيش المرءُ وحدَه، في حين لا يبادر لاستضافةِ البشر للعيش معه في البيت؟! وأجبتُ تساؤلي: إن البشرَ مهما يكن لا يتخلَّص من استعدادٍ لفعلِ الشرِّ، ولا يخلو من لؤمٍ وخبثٍ أحيانًا، مترسِّبٍ في أعماقه. الحيوانُ كائنٌ يخلو من الشرِّ، حتى الحيواناتُ المفترسةُ عندما تشبع لا تفترسُ الحيواناتِ الأخرى، لا تهتم بوجودِها حولَها، ولا تتحرَّش بها. يقول دوستويفسكي: «يُقَال أحيانًا: إن الإنسان حيوانٌ كاسر، ألا إن في هذا القول إهانةً للحيوان لا داعي إليها؛ فالحيوانات لا تبلُغ مبلغ البشر في القسوة أبدًا، وهي لا تتفنَّنُ في قسوتها تَفَنُّنَ الإنسان. النمر يكتفي بتمزيق فريسته والتهامها، إنه لا يَمْضي إلى أبعدَ من ذلك، ولا يخطُر بباله يومًا أن يُسَمِّرَ أحدًا من أذنَيه بسياج، ولو قدرَ على ذلك.»٤ الشرُّ في الحيوان بدرجةِ الصفر، وذلك ما يدعو الناسَ الذين لا يطيقون الوحدةَ إلى تفضيل الحيوانِ على البشرِ للعيشِ بمعيتهم، لشعورِهم بالأمانِ التامِّ مع الحيواناتِ الأليفة. وأنا أتحدثُ معه تذكَّرتُ سَجْنَ الببغاءِ وإذلالَه، في الحكايةِ الشيقة من حكاياتِ المثنوي لجلال الدين الرومي، الناطقةِ بالحكمةِ والمتلألئةِ بالبصيرةِ المُلهِمة، وكيف كان الببغاءُ يتلهَّف للحريةِ من سجنه المظلم واستعبادِه في القفص، الذي حاول البعضُ تأويلَه بسجنِ الجسد للروح، وإن كنتُ أراه سجنًا للجسد قبلَ الروح؛ لأن كلَّ سجنٍ استعباد، وسجنُ الجسد ينخر الروحَ ويجرحها، فتظل تنزف حتى تتبدَّد طاقتُها وتنضب. يرسم جلالُ الدين صورةً مفجعةً للغمِّ الذي كان يعيشه الببغاءُ إثر شعوره بالاستعباد، ويصف غمَّه بشَجَن ملتاع، عندما يتحدث على لسانِ الببغاء السجين عن تَوْقِه للطيران بحريَّة، وهو يخاطب رفاقَه من الببغاواتِ الحرَّةِ في الغاباتِ من محَبسه قائلًا:

«أيليق أن أُسلمَ الروح شوقًا إليكم، وأموتَ هنا مفترقًا عنكم؟

وهل يجوز أن أكونَ أسيرَ القيد الثقيل، وأنتم حينًا فوق المروج، وحينًا على الأشجار؟!

وهل يكون هكذا وفاء الأصدقاء؟ أنا في هذا الحبس، وأنتم في حديقة الورد؟

ألا فلتذكُروا — أيها الكرام — ذلك الطائر الذليل، بصَبوح بين المروج! فما أسعد الخليل إذا ذكره خلَّانه! فيا من تُنادِمون مِلاحَكُم الفاتناتِ الحسان! أنا ذا أشرب أقداحًا قد حفلَت بدمي. ألا فلتشربوا قدَحًا على ذكري، إذا كنتم تريدون أن تؤدُّوا حقي!

أين ذلك الطائر الضعيف البري‏ء، الذي تنطوي ذاته على سليمان وجيشه؟

فحين ينوح حزينًا — بدون شكر أو شكوى — تضجُّ لنُواحِه السموات السبع.»٥

هذه حكايةٌ طويلة تتضمَّن تفاصيلَ وحِكَمًا متنوعة، أوردَها جلالُ الدين في المثنوي بأسلوبه الباهِر في إنشاء الحكايات، لا نريد الِانسِياقَ وراءَ تفاصيلها، ومحطاتِ الحوار الشجيةِ فيها بين الببغاءِ وصاحبه. تتضمَّن الحكايةُ تحليلًا سيكولوجيًّا للتضادِّ في الطبيعة الإنسانية، ومفارقاتِ سلوك الإنسان، الإنسان في الوقت الذي يحُبُّ الببغاء يسجنه في القفص، ولا يكترثُ بأنين الببغاء وزفَراته التي لا تهدأ من عذابِ الاستعباد ومراراته. حُبُّ الإنسان ينطوي على مفارَقة؛ فهو في الوقتِ الذي يُحبُّ لا يكتفي بالحُبِّ، بل يعمل على الاستحواذِ والتملُّك، والاستحواذُ والتملكُ يئولان إلى الاستعباد.

الإنسان لا يتنبَّه إلى ما ينطوي عليه سلوكُه هذا من تضادٍّ؛ لأن الطبيعة الإنسانية ملتقَى الأضداد. وذلك ما يقود الإنسان لمفارقاتٍ غريبةٍ في مواقفِه وسلوكِه؛ فقلَّما نجد إنسانًا يتخلَّص بشكلٍ تام من الازدواجيةِ والمواقفِ المتضادَّةِ في كلِّ أقوالِه وأفعالِه.

إن الاستعبادَ لا يُطيقه حتى الحيوان، عندما يستنزفُه الشعورُ بأنه صار ضحيةَ إذلالٍ واحتقارٍ وامتهانٍ وإهانة، فكيف يكون حالُ الإنسان العاقل الذي تُشكِّل العواطفُ والمشاعرُ رصيدًا أساسيًّا في كيانه، إن كان ضحيةَ استعبادٍ يهتك كرامتَه ويمزِّق كيانَه الداخلي؟

١  نيازي، صلاح، «الشعر وصغار العقارب»، مقالة عن رواية جيمس جويس «صورة الفنَّان في شبابه»، الحوار المتمدن، ١٥-٥-٢٠١٥م.
٢  الرفاعي، عبد الجبار، الدين والظمأ الأنطولوجي، ص٢٧، ط٣، ٢٠١٩م، دار التنوير، بيروت، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد.
٣  أومان، زيجمونت، الحُبُّ السائل: عن هشاشة الروابط الإنسانية، ترجمة: حجاج أبو جبر، تقديم: هبة رءوف عزت، ص١٢١، ٢٠١٦م، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، منتدى الفقه الاستراتيجي، بيروت.
٤  دوستويفسكي، الإخوة كارامازوف، ترجمة: سامي الدروبي، الجزء الثاني، ص١٦٧، الطبعة الثانية، ٢٠١٥م، المركز الثقافي العربي، بيروت.
٥  مثنوي جلال الدين الرومي، تعريب: محمد عبد السلام كفافي، المكتبة العصرية، صيدا، ج‏١: ص٢٢١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤