(٢) الكرامةُ وعيُ الإنسان بالحريَّة

الكرامة أسمى قيمة لتقدير الذات

الكرامة هي القيمة المركزيَّة في حياة الكائن البشري. الإنسانُ الأصيل يضحِّي بحياته من أجل أن تُخلِّد ذاكرةُ الوجود كرامتَه. الكرامةُ مكوِّنٌ لكينونة الإنسان الوجوديَّة، عنوانُ تكريم خلق الإنسان هو كرامتُه لا شيء آخر سواها؛ لأن انتهاكَ الكرامة يفضي إلى انتهاك كلِّ حريات الإنسان وحقوقه.

إن الكرامةَ والحريةَ من أوضح تجليات رحمة الله بالإنسان، الذي خلقه اللهُ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، (التين، ٤). وجعل التكريم بصمةً وجودية يختصُّ بها الإنسانُ دون سواه في الأرض، وأوكَل إليه مهمةً استثنائية وهي خلافتُه في الأرض، واستأمَنَه على مخلوقاته المتنوِّعة، ووضعَها تحت تصرُّفه عندما سخَّرها جميعَها له.

اللهُ لم يكرِّم بني آدم إلا بوصفهم النوعي العام الذي يصدُق على كلِّ إنسان، لا يتخلَّف أو يختلف استحقاقُ الإنسان للكرامة مهما اختلفَت طبقاتُ الناس في المجتمع وأجناسُهم وألوانُهم ومِهنُهم وثقافاتهم وأديانهم، كلُّ إنسان مكرَّم بغَضِّ النظر عن أيَّة صفة أو إضافة أو هُويَّة أو إثنيَّة أو جنس أو لون، أو عنوانٍ آخر له يصطنعه المجتمع له أو تفرضُه عليه ظروفُ حياته وأقداره الحتمية.

الإنسانُ يرفضُ بطبيعته الاستعباد؛ لأنَّ جوهرَ إنسانيَّة الإنسان كرامتُه، وجوهرُ الكرامة الحرية، وجوهرُ الحرية المسئولية. الكرامةُ وعيُ الإنسان بالحريَّة، لا يرضى أيُّ إنسانٍ عاقلٍ سَويٍّ غيرِ مدجَّنٍ التنازلَ عن حريته. الاستعبادُ يُهدِر الكرامةَ، ويستلب كلَّ أشكال الحريَّة، إهدارُ الكرامة والحرية نفيٌ لمسئولية الإنسان حتى عن نفسه. ليس هناك إنسانٌ يقبل بسلب كرامته وحريته ومسئوليته عن نفسه، إلا إن كان مُدَجَّنًا على الطاعة العمياء. الإنسانُ وَفْقًا لطبيعته البشرية توَّاقٌ للكرامة، توَّاقٌ للحرية، توَّاقٌ للمسئولية. لا قيمةَ سامية تعلو على قيمةِ الكرامة، هتكُ الكرامةِ والاحتقار يثيرُ الفزعَ في كيان أيِّ كائنٍ بشري، مهما كان بَلِيدًا وأبْلَهَ في نظر البعض. هتْكُ الكرامةِ والاحتقار يُنتِجُ عملياتِ الثأر العنيفة، وكلَّ الثورات، والأشكالَ المتنوِّعة للمقاومة، جميعُها ليست إلا مساعيَ لاستردادِ الكرامة، وإن أخطأت مراميها أحيانًا.

ولو غضَضْنا النظرَ عن الموقف الأخلاقي والديني والقانوني من الانتحار، وحاولنا أن نفهمه من منظورٍ مختلف؛ نرى ‏بعضَ من يُقدِم على الانتحار تبلغ لديه قيمةُ الكرامة حدًّا لا ترقَى إليه أيةُ قيمة، حتى قيمة الحياة يشعُر أنَّ كرامتَه أغلى منها؛ لذلك يُضحِّي بحياته من أجل أن يحميَ كرامتَه، ومن أجل تقدير ذاته، ومن أجل أن يعترفَ الناسُ به. لستُ هنا في مقام بيان الموقف من الانتحار، ولا بيان أسبابه المختلفة والمعقَّدة، وأعمقُها اشتعالُ القلق الوجودي والاكتئاب إلى درجة تحترق فيها كينونةُ الإنسان ويتحول باطنُه إلى رماد، ويغرقه الشعور بعبثية كل شيء في الحياة، ولاجدوى العيش فيها.

نصابُ الكرامة في القِيَم يتفوَّق على كلِّ ما سواه، كلُّ القيم تجد معناها في حمايتها للكرامة وصيانتها من كلِّ ما ينتهكها، الكرامةُ لا غير هي ما ترسِّخ الشعورَ بأهمية الحياة، وتجعل الحياة تستحق أن يعيشها الإنسان، وهي شرطُ تذوُّق معناها. الكرامةُ هي القيمةُ المركزيَّة العليا التي تَسْتَمِدُّ منها كلُّ قيمةٍ قيمتَها، حمايةُ كرامة الإنسان شرطُ وجود كلِّ قيمةٍ سامية، فلا حريةَ بلا كرامة، لا مساواةَ بلا كرامة، لا عدلَ بلا كرامة، لا إحسانَ بلا كرامة، لا احترامَ بلا كرامة، لا تواضعَ بلا كرامة، لا تهذيبَ بلا كرامة، لا محبَّةَ بلا كرامة، وهكذا الحالُ في كلِّ القِيَم الأخلاقية السامِيَة والحريَّات والحقوق؛ فإنها تنفي مضمونها عندما تُصادِر كرامةَ الإنسان. ‏الكرامة، الحريَّة، العدالة الاجتماعية؛ هي القِيَم الأساسية المحورية لكل دعوة أخلاقيَّة إنسانية ونظام ينشدُ سعادةَ ‏الإنسان.

‏ إنسانيةُ اليسارِ وأخلاقيَّته يعبِّر عنها في الحرص على العدالة الاجتماعيَّة، إنسانيةُ الديمقراطيةِ وأخلاقيَّتها تعبِّر عنها في الحرص على الحرية والكرامة. ‏انزلاق حكَّام الأنظمة اليسارية بمختلف أشكالها وتورُّطهم في القمع والاستبداد، سواء أكان اليسارُ ماركسيًّا أمميًّا، ‏أو ماركسيًّا قوميًّا، ‏أهدرَ معنى العدالة الاجتماعيَّة ‏بعد إهداره الكرامة الإنسانية والحريَّة. ‏استحواذُ الرأسماليةِ المتوحِّشة على الديمقراطيَّة أهدرَ العدالةَ الاجتماعية، وتبعًا لها تمَّت التضحية بالكرامة والحريَّة. كأن الديمقراطيةَ لاتتحقَّق إلا بوصفها خادمةً لكلِّ رأسمالٍ متوحِّش، ‏وكأن الإنسانَ مخلوقٌ من أجل جمع المال وتكديسه بيد رجال الأعمال.

لا كرامةَ بلا مساواةٍ بين البشر

الإنسانُ بوصفه إنسانًا لا غير، يستحق الكرامةَ والحريَّات والحقوق. الإنسانيةُ قيمةٌ كونية عابرة للإثنيات والثقافات والأديان، الكرامةُ هي الإطار الأخلاقي الذي تتوحَّد فيه قيمة الإنسان ومكانته وتقديره لذاته وتقدير الغير له. الكرامةُ تضمن إنسانيَّته، وتحميها من كل تمييز وتَعَصُّب واحتقار ينشأ على أساسٍ عِرقيٍّ أو ثقافيٍّ أو جغرافيٍّ أو دينيٍّ أو غير ذلك.

الكرامةُ أفعالٌ لا أقوال، في بلادنا كثيرٌ من الكلام عن الكرامة إزاءَ قليلٍ من المواقف العمليَّة. الزعماءُ الساسيُّون يتحدثون عن كرامة الأمة، قادةُ الأحزاب يتحدثون عن الكرامة الوطنيَّة، شيوخُ القبائل يتحدَّثون عن كرامة العشيرة، الوعاظُ يتحدَّثون عن كرامة الدِّين والمتديِّن. الكلُّ يتحدث عن الكرامة، لكن قلَّما نرى من يتبنَّى الكرامة بوصفها قيمةً كلية تتسع لاستيعاب الحريَّات الخاصة، وتحمي حقوق الإنسان الطبيعيَّة والمدنيَّة والسياسيَّة. وقلَّما نرى مَنْ يكُف عن الكلام وينتقل للفعل، فيُطبِّق الكرامةَ كبرنامج للعمل في المجتمع، ينشُدُ توفيرَ فرصٍ للعيش الكريم، وضمانَ احتياجاتِ الإنسان الأساسيَّة في التربية والتعليم والصحة، وتأمينَ الأمنِ والحماية القانونيَّة، ويحرص على تكافؤ الفرص وتحقيق المساواة بين الكلِّ.

لا كرامَة بلا مساواةٍ بين البشر، كلُّ تمييزٍ موروث يُولَد بولادة الإنسان، ويظل بصمةً لتميُّز هذا الإنسان وشعوره بالتفوُّق على سواه مِن الناس، هو ضد المساواة، سواء أكان ذلك الشعور بالتفوُّق على أساسٍ عِرقي أو ثقافي أو جغرافي أو ديني أو طائفي أو غيره. أيُّ مسعًى لتحقيق العدالة اليوم بلا تحقيق المساواةِ لا تتحقَّق به عدالةٌ ولا يحمي كرامة الإنسان. يقول جان جاك روسو: «القضاة الذين يعلنون بجسارة أن ابن العبد ولِد عبدًا، يقرِّرون بكلماتٍ أخرى أن الإنسان لم يُولَد إنسانًا.»١

أتحدث عن التمييز ظلمًا، الذي يتأسس على ما يَرِثه الإنسان من انتماءاتٍ يمتلكها من العِرق واللون والدين والمذهب والثقافة والطبقة والهُويَّة والجغرافيا التي يُولَد فيها، فتُشعِره بالتفوُّق على غيره. أما ما يكتسبه الإنسان بجهوده من أخلاقٍ وقيمٍ فاضلة وأدب وسلوكٍ مهذَّب ومواقفَ نبيلة وعطاءٍ كريم، وعلوم ومعارف وثقافة وآداب وفنون ومهارات، فينبغي أن يُكرَّم كلُّ إنسان بمقدار استحقاقه وعطائه، ويُوضَع في الموضع الذي يستحقُّه منجَزُه ومواقفُه وسلوكُه، ويُكافَأ بحجم ما يهَبه للحياة، على ألا يُلحِق ذلك حَيْفًا بغيره.

ليس هناك جماعةٌ بشرية تتفوَّق على غيرها، أو تمتلك الوصاية على سواها، أو هي استثناء من البشر، تستحقُّ أن تمنح التكريم والحريَّة والحقوق دون سواها. لا معنى لحريَّة أي إنسان من دون حريَّة الآخر. الحريَّة في التفكير والتعبير والحق في الاختلاف تتضمَّن بالضرورة حريَّة الآخر في التفكير والتعبير وحقه في الاختلاف. حقيقة الحرية واحدة، لا تتعدَّد ولا تتنوَّع بتعدُّد وتنوُّع الشعوب والمعتقَدات. تُختبَر أخلاقيةُ أية ديانة بما ترسِّخه من قيمة للكرامة والحرية والحقوق والحق في الاختلاف، وبجهودها من أجل تحرير الإنسان من الاستعباد، وقدرتها على حمايته من الإذلال والاحتقار.

المساواة وكلُّ حقوق الإنسان كونية، لا تختص بإثنية أو ديانة أو طائفة أو هُوية. خلقَ اللهُ الناسَ متساوين في إنسانيَّتهم؛ فليس هناك إنسانٌ كاملُ الإنسانية وآخر إنسانيَّته ناقصة، لا يتفوَّق إنسانٌ على غيره بدمه أو أي عنصرٍ إضافي يختص به في خَلْقه ووجوده دون غيره من الناس. إن «كلَّ فرد يحملُ بداخله الإنسانيَّة جمعاء؛ فالشروط الإنسانية فريدة ومتساوية لكلِّ الناس، على الرغم من الاختلافات الحتميَّة في الذكاء والموهبة واللون والطول … إلخ.»٢

‏لن تختفي العنصريةُ من الحياة إلا أن يختفي الشرُّ، ولن يختفي الشرُّ الأخلاقيُّ ما دام الإنسانُ إنسانًا. ربما تختفي العنصريَّةُ المعلنه، غير أن العنصريَّةَ المضمَرة يتعذرُ اختفاؤها، العنصريةُ كامنةٌ في اللغات والثقافات والآداب والفنون وتراث الأديان، لا يمكن محوُ كلِّ رموزِها وتمثُّلاتِها العميقة. لا يحمي الكرامةَ ويحقِّق المساواة إلا فضْحُ العنصريةِ المعلَنة والمضمَرة، والكشفُ عن تعبيراتها وتمثلاتها ورموزها في اللغات والثقافات والآداب والفنون وتراث الأديان، والعملُ على علاجها والخلاص منها.

احترامُ الكرامة الإنسانية مقصدُ مقاصدِ الدين وأسمى أهدافه، وذلك يفرض أن يُعاد تفسير كلُّ نصٍّ ديني بما لا ينقُض الكرامةَ أو ينتقص منها. كلُّ نصٍّ يتعارض مع هذا المقصد الكلي، وينتهي إلى التمييز بين البشر، سواء كان آيةً أو رواية، مثل تشريع الرقِّ وما يُماثله يُطرح وينتهي العمل بأحكامه؛ لأنه ينتمي للتاريخ ويعكس ظروفَ عصر البعثة. تكريمُ الإنسان بوصفه إنسانًا واجبٌ أخلاقي وليس مِنَّةً أو تفضُّلًا من أيِّ أحد. الكرامةُ قيمةٌ إنسانيةٌ عليا، هي جوهرُ إنسانية كلِّ دين، معناها واحدٌ صريحٌ يتساوى فيه كلُّ الناس، بغَضِّ النظرِ عن دينهم وثقافتهم وجنسهم وموطنهم ولونهم ومهنتهم.

فضْحُ السلوكِ المتوحِّش الذي يضطهدُ الإنسانَ يفرضه الضميرُ الأخلاقي الذي يدعو الكلَّ لإشاعة وعيٍ مجتمعي ينشُدُ حمايةَ كرامة الناس بغَضِّ النظرِ عن جنسهم ومعتقدهم ولونهم. حمايةُ كرامة الناس معناه حمايةُ كرامتنا من الانتهاك؛ لأن الكرامةَ واحدةٌ لا تتجزأ.

كرامتُنا لا تتحقق من دون تكريم كلِّ إنسان. من لا يحترم كرامةَ الإنسان لا يحترمه اللهُ ولا يكرِّمه، الكرامةُ أسمى قيمةٍ وجودية وهبها الله لبني آدم، اللهُ يثأر من أولئك الذين يمارسون ضربًا من الاغتيال المعنوي للإنسان، عبْر هَدرِ كرامته وتجريدِه من إنسانيته واحتقاره واضطهاده.

إن اللهَ يتنازل عن حقوقه بالتوبة والمغفرة والعفو والرحمة مهما كانت؛ لأن رحمتَه وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، (الأعراف، ١٥٦). وكَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، (الأنعام، ٥٤). غير أن عدالةَ الله تقتضي ألا يتنازل عن الاعتداء على حقوقِ خلقه، ما لم يتنازَلوا هم عنها. لا يُمكِن أن يتغاضى اللهُ عن حقوق خلقه أو يغفرها لمن ضيَّعها أبدًا، الله يثأر ممَّن يحتقر الإنسان وينتهك كرامته، ويعاقب من ضيَّع حقوقَ خلقه عقابًا أليمًا. يأتي عقابُ كلِّ مَن ارتكَب انتهاكاتٍ لحقوق الخَلْق على شاكلة فعله القبيح.

تكريمُ الله يبدأ بتكريم الإنسان، احترامُ الله يبدأ باحترام الإنسان، الدفاعُ عن الله يبدأ بالدفاع عن كرامة الإنسان، حفظُ حقوق الله يبدأ بحفظ حقوق الإنسان، وصيانةِ حرياته. لا يمُر الطريق إلى الله إلا عبْر احترام الإنسان ورعايته وتكريمه.

١  تشومسكي، نعوم، غريزة الحرية: مقالات في الفلسفة والفوضوية والطبيعة البشرية، ترجمة: عدي الزعبي، مؤيد النشار، ص٢٢، ط٢، ٢٠١٨م، دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، دمشق.
٢  فروم، إريك، حب الحياة: نصوص مختارة، تقديم: راينر فونك، ترجمة: حميد لشهب، ص٦٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤