(٣) الحقُّ في الاختلافِ وتشكُّل مفهوم الفرد
سألني أحدُ تلامذتي النابهين، ممن يريدون إحياءَ حزبٍ شرقي استنزفَ أكثرُ قادته في السلطة ما كان يمتلكه لحظةَ تأسيسه من إخلاص ورصيدٍ وطني، ممن يجهلون وفريقُهم المساعد أسسَ بناء الدولة الحديثة، ولا يعرف لهم المواطنُ إلا الحكمَ بمنطق القبيلة، والاستحواذَ على ثروات الوطن بوصفها غنيمة.
هذا الحزبُ يوشكُ على الموت، بعد أن تعذَّر عليه مراجعةُ أدبياته ونقدُها، والتحولُ إلى رؤيةٍ بديلة للدولة، تُخلِّصُه من المفاهيم المبسَّطة المحنَّطة في أدبياته المكرَّرة، والإصغاءُ لِمَا يفرضه عليه الواقعُ بكلِّ ما فيه من وقائعَ جديدة، وحتى مباغتاتٍ، وبناءُ مفاهيمَ تتناغم والإيقاع السريع المتغيِّر للواقع. إكرامًا لتاريخه ورحمةً بتضحياتٍ صادقة لرجاله الأوائل، أقترحُ إراحتَه بتهيئة الظروف المناسبة للإعلانِ عن وفاته قبلَ فوات الأوان. لفَرْط حرصِ تلميذي يريد إنقاذَ المحتضَر الذي صار فريسةً، وتبعثَر وتمزَّق في مافياتٍ مالية ومجموعاتٍ مناطقية وكياناتٍ عائلية منغلقة على نفسها، بعد إخفاق قيادته في الوصول إلى تسوية لتقاسُم غنيمة السلطة والثروة. يعمل تلميذي على إعادة كائن يفترسه موتٌ دماغي وروحي وأخلاقي ووطني وسياسي للحياة بكلِّ وسيلةٍ ممكنة، أظن أنه لم تعُد هناك وسيلةٌ مجدية لإنقاذِ مصابٍ بكلِّ هذه الأمراض المميتة وبعثِ الحياة فيه.
سأل تلميذي: لماذا تتشظَّى أحزابُنا وتتفكَّك بالانشقاقات المتواصلة، وأحيانًا تسقط في فخِّ المنطقة والعائلة ومافيات المال، كأنها منذ تأسيسها منقسمةٌ على ذاتها، سواء أكانت دينيةً، أو غير دينية كالأحزاب القومية واليسارية، وقلَّما نرى ظاهرةَ الانشقاقات المتواصلة في الأحزاب الديمقراطية، سواء أكانت دينيةً أو غيرَ دينية، على الرغم من أن بعضَها مضى على تأسيسه أكثرُ من قرن، ومع ذلك لم تسقُط في إغواء السلطة ومغانمها، ولم تتآكل بالانقسامات المتوالية.
كان جوابي: كلُّ حزبٍ مرآةُ مجتمعه، أحزابُنا مرآةُ مجتمعنا، ترتسم فيها كلُّ خصائص المجتمع ومعتقَداته وقِيَمه وأعرافه وتقاليده وثقافته ومشكلاته وأمراضه المزمنة. الحزب الشيوعي السوري افترسَتْه عائلةُ خالد بكداش، الذي لبث بمنصب الأمين العام للحزب حتى وفاته سنة ١٩٩٥م، ثم خلفَته زوجتُه وصال فرحة بكداش بهذا المنصب.
أعمق عوامل هذه الانقسامات المزمنة لأحزابنا تنشأ من أن مجتمعاتِنا فقيرةٌ بمنابع تغذية روافد التعدُّد والتنوُّع والتفكير الحرِّ وترسيخها، والتي لا تنشأ وتتكرَّس إلا عبْر:
-
(١)
التربية على الحقِّ في الاختلافِ.
-
(٢)
التربية على الحقِّ في الخطأ.
-
(٣)
التربية على الحقِّ في الاعترافِ والاعتذار.
-
(٤)
تحرير الفرد من الإذعان والخضوع والعبودية الطوعية.
هذه أسسٌ يبْتَني عليها كلُّ قول بالتنوُّع والتعدُّد والتفكير الحرِّ. كلُّ مجتمع لا يعرف معنًى للاختلاف لا يُطيق التنوُّعَ والتعدُّدَ بكلِّ أشكاله؛ لأن أيَّ تفكير أو رأي أو موقف لا يكرِّر ما هو معروف ومفروض سلفًا لا يكتسب أيةَ مشروعية في مثل هذا المجتمع، بل غالبًا ما يُعَد مارقًا.
كلُّ تفكير ورأي وموقف خارج ما تقوله الشعاراتُ المتصلبة والأدبياتُ المغلَقة للجماعات الأيديولوجية والسياسية يُعَدُّ خروجًا عليها وخروجًا منها. الجماعاتُ السياسية في مجتمعنا تتحدث كثيرًا عن الاختلاف والتنوُّع والتعدُّد، لكن لا أحدَ منها يُطيق الإصغاءَ إلا لمن يستمع لصدى شعاراته في صوته، وينزعج وينفر عندما لا يرى صورتَه ماثلةً بكلِّ ملامحها في آراء ومواقف وسلوك المختلِف في المعتقَد أو الثقافة أو الانتماء الأيديولوجي والسياسي.
لا معنى لمجتمعٍ تعدُّدِيٍّ من دون بناءٍ لمعنى الفرد
أن تكون مختلفًا يعني أن تقولَ «لا» عندما يقولُ أكثرُ الناسِ «نعم». لا يتكرَّس الانتماء الإنساني بوصفه مشتركًا بشريًّا من دون قَبول الاختلاف والتنوُّع بين الناس. لا معنى لمجتمعٍ تعدُّدي من دون بناءٍ لمعنى الفرد، الحقُّ في الاختلاف هو الفضاءُ الطبيعي لتشكُّل وتطوُّر مفهوم الفرد، كلُّ مجتمعٍ يتأسَّس على معتقدات وثقافة وتقاليد تتنكَّر للاختلافات بين البشر، يُجهَض فيه أيُّ مسعًى لبناء مفهوم الفرد قبل أن يُولَد. لا يمكن تشكُّل مفهوم المواطن من دون تشكُّل مفهوم الفرد.
الاختلافُ قانونٌ كوني مشتركٌ بين كلِّ البشر. الإنسانُ ليس صخرةً أو شيئًا ماديًّا أو آلةً ميكانيكية، الإنسانُ ليس حيوانًا أو نباتًا أو كائنًا حيًّا، الإنسانُ إنسانٌ لا غير، إنه كائنٌ مختلفٌ عن كلِّ ما خلقَ اللهُ في العالَم. البشرُ مختلفون في كثيرٍ من تكوينهم النفسي والتربوي والثقافي والاعتقادي والجسدي، إلى الحدِّ الذي نرى فيه كلَّ إنسان نسخةً فريدة ذاتَ بصمةٍ خاصة لن تتكرَّر أبدًا في العالَم، منذ أول إنسان إلى اليوم، وإذا لبث الناسُ على تكوينهم الوراثي المعروف، ولم تتلاعب في هذا التكوين هندسةُ الجينات، يظل كلُّ إنسان غيرَ قابل للتطابق مع غيره مهما كانت قرابةُ الدم بينهما، حتى آخر فرد في هذا العالَم.
طلبُ الاعتراف أهمُ حافز للإنجاز في حياة الإنسان. كلُّ صراع يحيل إلى الحاجة للاعتراف. تكمنُ في عدم الاعتراف بالآخر جذورُ التعصُّب والعدوان. لا اعترافَ من دون الإقرار بمشروعية التنوُّع والاختلاف. لا وحدةَ حقيقية إلا في إطار قَبول مشروعية التنوُّع والاختلاف.
كلُّ حزبٍ سياسي يتأسَّس على تقاليد تغيب فيها المراجعاتُ النقديَّة، تترسَّخ تقاليدُ استبدادٍ في بنيته اللاواعية؛ لذلك يظلُّ عُرضةً لانقساماتٍ لا متناهية، ريثما يتفكَّك ويتلاشَى، إلا إن كان ذلك الحزبُ يقع تحت وصاية مستبدٍّ، كما في الاتحاد السوفييتي سابقًا، والصين وكوريا الشمالية اليوم، وإن كان سرعان ما يتقوَّض كلُّ شيء لحظةَ هلاك المستبدِّ. لم يتفكَّك أيُّ حزب يقع كلُّ شيء فيه تحت سقف النقد، ويُواصل تحديثَ خطابه ومفاهيمه وأساليب عمله في ضوء الواقع.
كلُّ تعدُّديةٍ دينية وثقافية وسياسية لابدَّ أن تبدأ بتشكيل مفهوم الفرد، وتعمل على تجذيره تربويًّا ونفسيًّا وأخلاقيًّا وثقافيًّا. بناءُ ثقافةٍ تقوم على الحقِّ في الاختلاف هي الأساسُ الذي يُولَد في فضائه ويتشكَّل مفهومُ الفرد.
لا معنى لمجتمعٍ تعدُّدي متنوِّع من دون بناء مفهومٍ راسخ للفرد، ولا معنى لمفهوم الفرد من دون تبجيل الكرامة الإنسانية وتكريسها بوصفها قيمةً مرجعيةً عليا تعلو على كلِّ قيمة.
يضمحلُّ معنى الفرد في كلِّ مجتمع تسودُ حياتَه رؤيةٌ واحدةٌ للعالَم، ومعتقَدٌ واحد، وفهمٌ واحد للحياة، ونمطٌ واحد للتفكير، وسلوكٌ واحد. مثلُ هذا المجتمع كأن الكلَّ فيه مرايا تعكس صورةً واحدة، ينطمسُ فيها كلُّ اختلاف وتنوُّع. وينتهي ذلك إلى حجبِ المواهبِ وضمورِها، وانسِدادِ منابع إلهام العطاء الخلَّاق والابتكار والإبداع، الذي لا يترسَّخ إلا بالتفكير المختلف. تفكيرٌ لا يكرِّرُ الإيقاعَ المشترك للكلِّ، ولا يكون صدًى لصوتٍ واحد.
مفهومُ الفرد غير مفهوم الفردانيَّة المطلقة
أعني بمفهوم الفرد المفهومَ الذي يقابل إلغاءَ الفرد ومحوَه بشكلٍ مطلق، وتجريدَ الإنسان من سماتِه الذاتية الخاصة، وملامحِه الشخصية، وفرادتِه كإنسان، كما نراه ماثلًا في مجتمعاتٍ يسودها التسلطُ والاستبدادُ في العائلة ومؤسَّسات المجتمع والدولة، والقضاءُ على أيِّ نمطٍ لوجود الذات بوصفها ذاتًا متفرِّدة، والتعاملُ مع الإنسان بوصفه جزءًا من ماكنةٍ كبيرة هي الجماعة، وكأنه في قطيع يسوقه راعٍ كما يسوق أغنامَه.
مفهومُ الفرد غير مفهوم الفردانيَّة المطلَقة التي يتحلَّلُ فيها الفردُ من أية مسئوليةٍ أخلاقيَّة نحو مجتمعه، ويعيش متوحِّدًا لا صلةَ له بغيره. الفردانيَّة المطلَقة حالةٌ مضادَّة لِمَا نعنيه بمفهومِ الفرد، الفردانيَّةُ المطلَقة تفضي إلى اللامسئولية، وأخيرًا تنتهي إلى تَبَرُّمٍ ومَلَلٍ وسأَمٍ مُنهِك، وشعورٍ مَرَضي بلاجدوى كلِّ شيءٍ وعبثيته.
الفردانيةُ المطلقة ضدَّ طبيعة الإنسان بوصفه كائنًا اجتماعيًّا عاطفيًّا، صِلاتُه الأصيلة بغيره تحقِّق وجودَه وتُثريه، وتمنح حياتَه معنًى. الإنسانُ يشقَى عندما يعيش منكفئًا على ذاته، لا يتصل بأحد، ولا يتصل به أحدٌ من الناس، لا يُشعِرُه أحدٌ بمحبتِه الصادقة وعطفِه، واعترافِه بأفعاله ومواقفه ومنجَزاته. ويكشف التهافتُ على وسائل التواصل، وكثافةُ النشرِ في تطبيقاتها، حاجةَ الإنسانِ الشديدةَ للغير.
الفردانيةُ المطلَقة ليست قيمةً إنسانية؛ لأنها تنتهي إلى مواقفَ أنانية لا مسئولة حيالَ قضايا الإنسان الأخلاقية العادلة. الفردانيةُ المطلَقة تضيعُ معها القِيَمُ السامية للمحبة والتراحُم والعطاء والإحسان والإيثار والوفاء والتكافُل والتضامُن، وهي قِيَمٌ تتفسَّخُ العلاقاتُ الاجتماعية بفقدانها، وتضمحلُّ كلُّ المعاني الجميلة المُلهمة في الحياة باختفائها. باختفائها يختفي تقديرُ الإنسان لذاته، عندما لا يجدُ مَنْ يقدِّره أو يعترفُ به أو يعطف عليه، ويتبدَّد كلُّ معنًى يُمكِن أن يمنحَه بناءُ مفهوم الفرد للإنسان.
إن تهديمَ الصلات الإنسانية، وعدمَ الشعور بأية مسئولية حيال القضايا الأخلاقية العادلة ينتهي إلى عزلةٍ وتشرُّد، لا يرى فيها الإنسانُ إلا ذاتَه الكئيبة، وهي تتخبَّط في تيهٍ لا ترى فيه أيَّ معنًى لوجودها. الفردانيةُ المطلَقة تعني أن ينفي الإنسانُ نفسَه بإرادته عن مجتمعه وعالَمه الخاص. الفردانيةُ المطلَقة تنتهي إلى أنانيةٍ مطلقة، الفردانيةُ المطلَقة تُنتِج اغترابًا اجتماعيًّا، الاغترابُ الاجتماعي يُنتِج اغترابًا وجوديًّا، في الاغتراب الوجودي يفتقد الإنسانُ الشعورَ بالأمان عندما يفتقرُ لِمَا يمنَحه معنًى لحياته.
بعضُ الناسِ يتهرَّب من أية مسئوليةٍ أخلاقية، يترقَّب تضحيةَ الكلِّ من أجله، من دون مكافأة أحدٍ حتى بكلمة شكر. التهرُّبُ من المسئولية تجاه الغير ضربٌ من خيانة الضمير الأخلاقي. تحمُّلُ المسئولية ضربٌ من التضحية، كلُّ تضحيةٍ تمنحُ الإنسانَ معنًى جديدًا لحياته لا يتذوَّقه خارجَها. التضحيةُ بكلِّ مستوياتها وأنواعها وتعبيراتها تُسعِد مَنْ يضحِّي، سواء كانت التضحيةُ بإنفاق المال أو الجهدِ أو الراحةِ أو الوقتِ أو الشفقةِ على أنين الضحايا والبؤساء والصبرِ الطويل على إغاثتهم ماديًّا وعاطفيًّا، أو غير ذلك من المبادرات الإنسانية لإسعاد الغير. تحمُّلُ المسئولية ينتقل بالإنسانِ إلى طورٍ أخلاقي أنبل؛ لأنه يتقاسمُ حياتَه مع إنسانٍ آخر، ويُساهِم بجعل العالَم الذي يلتقي فيه الجميع أجمل. تحمُّلُ المسئولية تجاه العائلة والمجتمع والوطن والطبيعة وغيرها من أسمَى ما تتجلى فيه إنسانيةُ الإنسان. ما يُواجِه الإنسانَ من متاعبَ وآلام من أجل إسعاد الغير لا يُرهقُه بل يُشعرُه بالرضا والغبطة.
شيوعُ الدعوة للفردانية المطلَقة لدى بعض المثقَّفين دعاهم للتشبُّث بأقوالٍ لفلاسفة ومفكرين وأدباء غربيين وتفسيرها كما يشاءون، صارت تجري مجرى الأمثال والمسلَّمات النهائية في ثقافتنا، بلا تأملٍ وتدقيقٍ وغربلةٍ وتمحيصٍ لمضمونها، ومنها قول جان بول سارتر: «الآخرون هم الجحيم»، الذي تفشَّت شعاراتُه وكتاباتُه كموضةٍ ثقافية في بلادنا منتصف القرن الماضي، بنحوٍ أضحى معبودًا عند بعض الأدباء والفنَّانين، وأسرف بعضُهم في التفسير المبسَّط لمقولاته، وتحويلها إلى شعاراتٍ مبتذَلة أحيانًا؛ يجري تطبيقها على غير مصاديقها. ربما يفعلون ذلك لأننا أمةٌ شاعرة، تتلذَّذُ بالفكرة التي تتخذُ من الشعار لافتةً، ينامُ خلفَها العقلُ ويخرسُ اللسان. لم يحضُر إيمانويل كانتْ الفيلسوف العميق والأخلاقي النبيل، ولم يحضُر مارتن هيدغر الفيلسوف الرؤيوي العميق في ثقافتنا، كحضورِ مقولات وشعارات سارتر الأديب الفيلسوف. أخطَئوا في فهم سارتر عندما نظروا إلى بُعدٍ واحد في العلاقات الإنسانية، نظروا إلى بُعد الشرِّ الأخلاقي الذي يصدُر عن الإنسان الآخر، لم يرَوا بُعد الخير، ولم يتنبَّهوا إلى أنهكما يصدُر الشرُّ عن الإنسان يصدرُ الخيرُ أيضًا.
الإنسانُ لا يطيق العيشَ من دون الآخر، الآخرُ يمكن أن يكونَ نعيمًا أحيانًا، مثلما يمكن أن يكونَ جحيمًا أحيانًا أخرى. الآخرُ النعيمُ يعبِّرُ عن حضوره بشفقة وعطف ومحبة وحنان وتراحُم وعطاء الآباء والأمهات والأبناء والازواج والعائلة، وتضامُن الأصدقاء الصادقين في علاقاتهم الإنسانية. من دون الآخر لا يتحقَّق تقديرُ الذات والاعترافُ والمحبة والرحمة والشفقة والعطف والتراحم والتضامن، ولا نتلمَّس حضورًا للقيم السامية في الحياة بمعناها الأخلاقي الجميل.
لا يمكنُ إنكارُ العواملِ الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية المتنوِّعة في نشأة وتمدُّد أية ظاهرةٍ مجتمعية أو تقلُّصها واضمحلالها. طغيانُ الفردية في المجتمعات الحديثة نشأ من تخطِّي هذه المجتمعاتُ للأنظمة الرعوية والإقطاعية والزراعية، القائمة على شيءٍ من التعاون والتكافل في المجتمع. في المجتمعات القديمة كانت القبائلُ والجماعاتُ والسلطات تقدِّم شيئًا من الحماية والكفالة للفرد، مقابلَ تنازله عن حقوقه وحرياته لصالح رئيس الدولة التسلطية أو السلطة الدينية أو السلطة القبلية. في المجتمعات الحديثة تتولى الدولةُ والمؤسَّساتُ المدنية تأمينَ الأمنِ والضمان الصحي والاجتماعي، وحماية الحقوق والحريات الشخصية للمواطن.
عندما نتأملُ طبيعةَ الإنسان بوصفه كائنًا مُركَّبًا عميقًا، نرى ضرورةً لحضور الفرد كأساس للتعدُّدية الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية، إلا أن التشديدَ على الفردية وطغيانها، وعدم تحمُّل أية مسئولية تجاه قضايا الخير والعدل والحق، وعدم الاكتراث بالتضامن المجتمعي، يعكسُ حالةَ تهرُّب من تحمُّل أيَّةِ مسئوليةٍ أخلاقية، وجفافَ المنابعِ العاطفية للتراحم، واضمحلالَ العائلةِ وشبكات العلاقات الإنسانية.
لا شيءَ نهائي ومطلَق بالنسبة للإنسان، ما دامت الطبيعةُ الإنسانيةُ ملتقَى الأضداد فإن تحقيقَ التوازن صعبٌ جدًّا بين العقل والروح والقلب، وبين مصالح وحريات وحقوق الفرد ومصالح وحريات وحقوق غيره. تطغى الفرديةُ، إن لم تنضبط بمعاييرَ أخلاقية، ولم يرسم لها القانونُ حدودًا تتحقَّق فيها عدالةٌ اجتماعية، تُضمَن فيها حقوقُ الفرد في إطار حقوق الكلِّ. غالبًا ما يُنتِج ترسيخُ مفهومِ الفرد وتجذيرُه فردانيةً مطلَقة، لا يكترث الفردُ معها بما يفرضه الضميرُ الأخلاقي عليه نحو الإنسان الآخر، عندما لا تضبط الفرديةَ القوانينُ العادلة. وذلك ما نراه في دولٍ غربية ترى حقوقَها، من دون أن ترى حقوقًا لناسٍ آخرين يعيشون على الأرض خارجَ حدودها، على الرغم من أن الكلَّ شركاءُ في كلِّ الحقوق الإنسانية. وهذا مثالٌ لِمَا تنطوي عليه طبيعيةُ الإنسان من أضداد تفرض مواقفَ متضادَّة.
بناءُ مفهوم الفرد يقعُ بين حدَّين متضادَّين؛ حدٌّ يضيعُ فيه الفردُ، إن تمادى في فردانيةٍ مطلَقة، يتحلَّلُ فيها من أية مسئوليةٍ أخلاقية حيالَ الإنسان الآخر. وحدٌّ يضيعُ فيه الفردُ إن تمَّ تذويبُ ذاته في غيره، والقضاءُ على شخصيته خارج إطارِ ما تراه العائلةُ والجماعةُ والسلطة، فيضيع تقديرُه لذاته وحرياتُه وحقوقُه الشخصية.