(٤) حقُّ الخطأ وتشكُّلُ مفهوم الفرد
من أسوأ أخطاء التربية التوبيخ على الخطأ
سألَتني «أبرار» وهي مندهشةٌ عن رفضِ المعلِّمة واستهجانِها لمحوِها أخطاء ابنتها!
فقلتُ لها: أعظمُ الأخطاء في التربية الحديثة منعُ الأبناء من الوقوع في الخطأ، وإشعارُهم وهُم بهذا العمر أن الخطأ عاهة، وتخويفُهم من آثاره الوخيمة عليهم. هذا التخويفُ يتراكَم ويترسَّب بالتدريج في اللاشعور، فيكبِّل تفكيرَهم، ويجعلُهم حَذِرين متردِّدين قلقين في الإعلان عن أيِّ سؤالٍ أو رأيٍ مهما كان. تربيةُ الطفلِ على أن لكلِّ إنسانٍ الحقَّ في الوقوع بالخطأ ضرورةٌ تفرضها.
تنشُد العمليةُ التربوية إيقاظَ عقل التلميذ، وتحريرَ وعيه من الأغلال المبكِّرة، وتحفيزَه على ابتكارِ الأسئلة، وطرحِها من دون وجلٍ مهما كانت، وتنميةَ قدرته على التفكير بكلِّ شيء. من الخطأ أن ننبِّه «ألينا» على الخطأ، أو نَمحُوَه ونكتُبَ لها الصواب، ومن أسوأ الأخطاء توبيخُها على خطَئِها.
تدجينُ الطفلِ على تحصيلِ اليقين السريع بلا حوار ونقد يقيِّدُ عقلَه ويغلقُ تفكيرَه، ويُضعِف قدرةَ ذهنه على توليد الأسئلة الخلَّاقة، ويجعله مولَعًا بمحاكاة غيره واستنساخه. كلُّ محاكاةٍ تكرار، وكلُّ تفكيرٍ خلَّاق اختلاف. الطفلُ مكتشِفٌ يقِظ للعالَم، يتطلع لاكتشافِ كلِّ شيء، ينمو ويتسع وعيُه بنموِّ واتساعِ آفاق اكتشافاته. عندما تكتشف «ألينا» الخطأَ تتحول بالتدريج إلى مكتشفة لحياتها ولما حولها، تبدأ اكتشافاتِها برصد أخطائِها الصغيرة وتتطوَّر خبرتُها بالتدريج لرصد الأخطاء الكبيرة. الكائنُ البشري يتعلم بفعله هو وممارساته هو، ولا يتعلم هذا الكائنُ عندما ينوبُ عنه غيرُه بالفعل والممارسة.
التربية والتعليم عملية تنشُد إيقاظَ الذهن، وتوليدَ الأسئلة الذكية، وتغذيةَ المخيِّلة وتنميتَها وإثراءَها. لا يقين إلا ببرهان، التشديد على ترسيخ اليقين بلا دليل، وتفشِّي التلقين، يُفسِد التربية والتعليم. تسلُّط التلقين، واتساع فضاء اليقين، يعطِّل الأسئلة الكبرى، ويُميت المخيِّلة، ويبلِّد الذهن.
مهمةُ المعلِّم إيقاظُ العقل وتنميته، كي يكتشف التلميذُ الأخطاء، ويهتدي إلى الصواب بنفسه، لا أن يقتاده الأهلُ كأعمى؛ لأن ذلك ينتهي إلى سُباتِ عقله، وعجزِه عن التفكير النقدي، وتعطيلِ مَلَكَة الخيال والإبداع لديه. المعلِّمُ الناجح هو من يكتشف نوعَ موهبة تلميذه، ويحفِّز الطاقاتِ العقليةَ والنفسيةَ المختبئةَ داخله، ويمكِّنه من بنائها وتنميتها واستثمارها.
كلُّ من يفكِّر يُخطئ، من لا يفكِّر لا يُخطئ. لا يتحرَّر التفكيرُ من الخطأ إلا بعد وقوع الإنسان فيه. نرجسيةُ الإنسان وتوهُّمه بكماله تدعوه للتنكُّر لأخطائه. ولم تكفُل ثقافتُنا حقَّ وقوع الكائن البشري في الخطأ، والأسوأ من ذلك نرى بعضَ الناس يتعامل مع الخطأ الذي يرتكبه شخصٌ وكأنه فضيحة، وربما يتعرَّض من يقع في الخطأ أحيانًا للسخرية والتهكُّم والازدراء؛ لذلك يرتبكُ أكثرُ الناس في مجتمعنا ويغمُره الخجلُ والشعورُ بالعجز لو اعترف بخطئه.
من أخطاء التربية منعُ الأبناء من الوقوع في الخطأ، وإشعارُهم وهم بهذا العمر أن الخطأ عاهة، وتخويفُهم من آثاره الوخيمة عليهم، وتعنيفُهم أحيانًا. التخويفُ والتعنيفُ يتراكمُ ويترسبُ بالتدريج في اللاشعور، فيكبِّل تفكيرَهم، ويجعلهم مذعورين متردِّدين في الإعلان عن أيِّ سؤالٍ أو رأي. تربيةُ الطفلِ على أن لكلِّ إنسانٍ الحقَّ بالخطأ ضرورةٌ تفرضها. لا يتحرر الإنسانُ من الخطأ غالبًا إلا بعد وقوعه فيه. مَنْ يمتلك شجاعة الاعتراف بالخطأ، يمتلك القدرةَ على تغيير ذاته. الخوفُ من الاعتراف بالخطأ خوفٌ من التغيير.
تربيةُ الناشئة على عدم الوقوع في الخطأ خطيئة، هي أسوأُ أشكال تنميط الشخصية الذي يميت منابعَ الإبداع، ويصيِّر الكائنَ البشري كأنه ممثلٌ على مسرح، تختفي ملامحُ شخصيته الحقيقية. المعلِّمُ الناجح يُوقِظ إرادةَ التلميذ وثقتَه بنفسه كي يتصرَّف كما هو، ويحميه من ممارسة الخداع وإخفاء شخصيته بأقنعةٍ جاهزةٍ زائفة.
من يمتلكُ شجاعةَ الاعتراف بالخطأ يمتلكُ القدرةَ على تغييرِ ذاته وتكاملها. الخوفُ من التغيير خوفٌ من الاعترافِ بالخطأ. لا تنجز التربيةُ والتعليم وعودَها إلا بمنح الحرية في ارتكاب الأخطاء. حريةُ ارتكاب الخطأ ضرورةٌ للتعلُّم، مَنْ لا يرتكب الخطأ لا يتعلِّم.
حقُّ الوقوع في الخطأ ركيزةٌ أساسيةٌ تقوم عليها التعدُّديةُ وقَبولُ التنوُّع والاختلاف، وترسيخُ التفكير الحرِّ. عندما نسلب هذا الحقَّ من الكائن البشري يتحول المجتمعُ إلى كائناتٍ متماثلةٍ متطابقة، تفتقر إلى كلِّ ملامحها الشخصية المتنوِّعة والمختلفة، وتختفي صورةُ الفرد في مثل هذا المجتمع، ويصير الناسُ كأنهم روبوتاتٌ متشابهة، وهذا ما تفعله وتتأسَّس عليه وترسِّخه كلُّ الأنظمة الشمولية المُستبدَّة.
لا معنى لمجتمعٍ تعدُّدي متنوِّع من دون بناءِ مفهومٍ راسخٍ للفرد، ولا معنى لمفهومِ الفردِ من دون ترسيخِ مفهومِ الاختلاف، ولا معنى لمفهومِ الاختلاف من دون حقِّ الفرد في الوقوع في الخطأ.
قلَّما تكفُل القِيَم السائدة في مجتمعنا حقَّ الكائن البشري في الخطأ. بعضُ الناس يتعامل مع الخطأ الذي يرتكبه شخصٌ ما وكأنه فضيحة، وربما يتعرض مَنْ يقع في الخطأ للسخرية والتهكُّم والازدراء، وربما تتحول بعض الأخطاء إلى اسمٍ تهكمي بديل يُلصَق بالإنسان، كما هو متعارف في المناطق الشعبية؛ لذلك يرتبك أكثرُ الناس في مجتمعنا ويغمُره الخجلُ والشعورُ بالعجز والخوف لو اعترف بخطئه.
التربيةُ لدينا في العائلة والمدرسة والمجتمع لا تتفهَّم حقَّ الوقوع في الخطأ وتتقبَّله إلا في حالاتٍ خاصة. ولا تتأسس التربيةُ والتعليمُ في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا بمختلف مراحلها وأنواعها على الحق في الوقوع بالخطأ. كلُّ فلسفةٍ تربوية وتعليمية لا تعتمد حقَّ الوقوع في الخطأ كأحد ركائزها تُولَد ميتة.
أتحدثُ عن حقِّ الوقوع في الخطأ بوصفه مفردةً في العملية التربوية الشاملة، المبنية على فلسفة للتربية تعتمد المكاسب الجديدة في الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع. أما في بلادنا فليست هناك فلسفة للتربية، هناك عادات وتقاليد وأعراف راسخة تعتمد التلقين والتكرار المُمِل، وهي على الضد من فلسفة التربية؛ فلا يمكنك أبدًا أخذ هذه المفردة لوحدها وتوريط الطفل المسكين بها؛ لأنها تكون بمثابة ما لو قطعت أصابعَ أو يد فتاةٍ حسناء، وعرضتَها للناس لوحدها، فسيكون منظر الجزء المقطوع من الجسم بشعًا.
التربيةُ لدينا تعتمدُ التلقينَ والتكرار المقرِف. التلقينُ المستمر يصنعُ الأصنامَ الذهنية؛ إذ يشُلُّ التلقينُ العقلَ ويُعطِّلُ التفكيرَ، ويُطفئ الروحَ ويُميتُ الإيمانَ الحر. بالتلقين والتكرار تتحول الأوهامُ إلى حقائق. الحقيقةُ ما يحسبها ذهنُنا حقيقية، وما تبدو لنا حقيقية وإن لم تكن حقيقية في الواقع. معظمُ الصراعات والحروب والمجازر البشرية سبَّبَتها أوهامٌ وأصنامٌ خلقَتها الأذهان.
الاعترافُ بالخطأ هو البدايةُ الصحيحة للتربية وللتعلُّم والصفح والعفو والغفران. مَنْ لا يعترف بخطئه لا يتعلم، ولا يغفر، ولا يعفو، ولا يصفح. أظن تعود تقاليد الخوف من الاعتراف بالخطأ في حياتنا إلى جذورٍ لاهوتيةٍ دينية. القديس أغسطينوس، أحد آباء الكنيسة المعروفين، كتب اعترافاته في القرن الخامس الميلادي، ولم أقرأ مثل هذه الاعترافات الصريحة في تراثنا الديني، إلا لدى بعض المتصوِّفة المنبوذين دينيًّا ومجتمعيًّا. أتحدث هنا عن الاعتراف بالخطأ، وهو غير الذنب والمعصية بالمعنى الديني، وغير القُبح بالمعنى الأخلاقي. الاعتراف بخطأ الإنسان تجاه نفسه أو الناس، غير الاعتراف بالذنب والمعصية أمام الله. الاعتراف بالذنب والاعتذار والتوبة لله، سواء كان تعدِّيًا على حق الله أو حق الناس أو النفس، غير الاعتراف والاعتذار وطلب العفو من الناس، أو تقويم النفس وتهذيبها بالتخلُّص من الأخطاء، عبْر تربية النفس على عدم الخوف من الاعتراف بخطئها، الإصرار على الخلاص منه.
الخطأ يرادفُ الطبيعةَ البشرية، الضمير الأخلاقي يفرضُ علينا أن نعترف بأخطائنا، ونعمل باستمرار على كشفها، كي نستطيعَ تقويمها ومعالجتها والخلاص منها. لو كان الزوجُ والزوجةُ والأبناءُ والأقارب والأصدقاء يمتلكون شجاعةَ الاعتراف بالخطأ لَمَا انهارت عوائلُ كثيرة، ولَمَا تمزَّقَت علاقاتُ رحمٍ قريبة، ولَمَا تهشَّمت صداقاتٌ حميمة. لو كان المعلِّمُ والتلميذ يمتلكان شجاعةَ الاعتراف بالخطأ لَمَا تقوَّضَت العملية التربوية في أوطاننا. لو كان السياسي في بلادنا يمتلكُ شجاعةَ الاعتراف بالخطأ، ويعملُ على الخلاص منه، بصدق وجدِّية ومثابرة، وبالاعتماد على الخبراء المتمرِّسين في بناء الدولة الحديثة، لَمَا تردَّت أوضاعُنا من السيِّئ إلى الأسوأ، ولَمَا انهارت بعضُ الدول، ولَمَا ضاعت بعضُ الأوطان. لو كان المثقفُ يمتلكُ شجاعةَ الاعتراف بالخطأ لَمَا طغت النرجسيةُ والعجرفةُ والتملقُ في كتاباتِ مَنْ يزعمون أنهم مثقَّفون. لو كان الناس يمتلكون شجاعة الاعتراف بالخطأ لَمَا شَهِدَت كثيرٌ من العلاقات الاجتماعية أزماتٍ حادَّة، ولتَراجَع الكذب والنفاق والنميمة في المجتمع، ولَعاشَ كثيرٌ من الناس بسلام.
لا يسود الحقُّ في الخطأ تربيتَنا، على الرغم من أن الإسلامَ والأديانَ تُشدِّد على الغفرانِ والتوبةِ والعفو، وتغتني بمفاهيمَ مماثلةٍ للتسامح مع الخطأ، ذلك ما نقرؤه في القرآن الكريم والكتب المقدَّسة. يستعرض القصصُ القرآني أخطاءَ الأفراد والمجتمعات المتنوِّعة، ولا يُهمِل الأخطاء والخطايا الصغيرة عندما تتضمَّن عبرةً وتَشي بخبرةٍ هادية. يتحدث القرآنُ عن المغفرة والتوبة والعفو واليسر؛ فقد وردَت كلمةُ المغفرة ومشتقاتُها ٢٣٤ مرةً في القرآن، تكرَّر ذِكْر كلمة الجزاء ١١٧ مرة، والمغفرة ضعف هذا العدد؛ أي ٢٣٤ مرة، وكلمةُ التوبة ومشتقَّاتُها ٨٧ مرة، وكلمةُ العفو ومشتقَّاتُها ٢٧ مرة، وكلمةُ اليسر ٣ أضعاف كلمة العُسر، فذُكِر اليُسر ٣٦ مرة والعُسر ١٢ مرة.