(٥) حقُّ الاعترافِ بالخطأ وتشكُّلُ مفهوم الفرد

تاريخُ العلمِ سلسلةُ اكتشافات للأخطاء. تاريخُ تطور وعي الإنسان هو تاريخُ وعيه بأخطائه وتجاوزها، اكتشافاتُ الإنسانِ للأخطاء الكبرى هي منعطفاتُ وعيه الكبرى. يقول باشلار: «وبتعبيرٍ أمعن في الفلسفة؛ يمكننا التأكيد على أن الفكر تتبدَّل صورتُه إذا ما تبدَّلَ موضوعُه … فإذا نحن قَبِلنا حقًّا أن الفكر العلمي في جوهره يعني إنشاء الموضوعيَّة؛ وجب أن نستخلص أن مستنداتِه الحقيقيَّة هي التصحيحات وتوسيع الشمول … فالمفهوم [العلمي] يحظى بمعنًى أكبر، في تلك اللحظة التي يتغيَّر فيها معناه.»١ ويكتب محمد عابد الجابري: «لقد وصف باشلار فلسفته بأنها فلسفةُ النفي؛ الفلسفةُ المؤسَّسة على العلم الحديث، والتي ترفض الآراءَ العاميَّة، والتجربةَ الابتدائيَّة، والوصفَ المبنيَّ على مجرد الخبرة؛ إنها الفلسفةُ التي تقول لا لعلم الأمس وللطرق المعتادة في التفكير … كلُّ مقالٍ في المنهج [العلمي] هو دومًا مقالٌ ظَرفيٌّ؛ مقالٌ مؤقَّت لا يصفُ بناءً نهائيًّا للفكرِ العلميِّ، بل فقد بِنَاء يُبْنَى على الدوام، ويُعَادُ فيه النظرُ باستمرار. ولذلك كان العلمُ وتاريخُ العلم لا ينفصلان؛ باعتبار أن العلمَ محاولةٌ دائبة للكشف عن الحقيقة، وأن تاريخَ العلم هو تاريخُ أخطاء العلم.»٢
الحياةُ لا تُعلِّم إلا من يعترف بأخطائه، مَنْ لا يعترف بأخطائه لا يتعلم، التعلُّمُ هو فنُّ الإصغاء والاستيعاب والتفكير، والاعتراف بالأخطاء بلا شعورٍ بالخوف. كلُّ مَنْ لا يعترف بأخطائه ستُرغمه الحياةُ على تَكرارِ فشله. الأخطاءُ أعظم معلِّمٍ في الحياة لمن يمتلك شجاعةَ الاعتراف بالخطأ. مَنْ لا يمتلكُ شجاعةَ الاعتراف بالخطأ لا يمتلكُ أيةَ قدرةٍ على تغيير ذاته، ولا يمتلكُ أيةَ قدرةٍ على تغيير العالَم، مَنْ يعجزُ عن ‏تغيير ذاته يعجزُ عن ‏تغيير العالَم. خوفُ الإنسان من التغيير خوفٌ مِن اعترافه بأخطائه. مَن يخطئ يصل إلى الحقيقة. يكتب دوستويفسكي: «أنا إنسان لأنني أخطئ. ما وصل امرؤ إلى الحقيقة إلا بعد أن أخطأ أربع عشرة مرة أو ربما مائة وأربع عشرة مرة، وهذا في ذاته ليس فيه ما يعيب. لك أن تقول آراءً جنونية، ولكن لتكُن هذه الآراء آراءك أنت، فأغمُرك بالقُبل. لَأَن يخطئ المرء بطريقته الشخصية، فذلك يكون خيرًا من ترديد حقيقة لقَّنه إياها غيرُه. أنت في الحالة الأولى إنسان، أما في الحالة الثانية فأنت ببَّغاء لا أكثر.»٣

التربيةُ على الخوف من الخطأ والتنكُّر له تُضعِف قدرةَ الإنسان على اكتشاف نفسه، والتعرُّفِ على التضادِّ في طبيعته الإنسانية، ومواطنِ ضعفه وهشاشته، وتنسيه حالاتِ عجزه في شيخوخته ومرضه وموته. التنكُّرُ للخطأ يرسِّخ الغرورَ والطغيانَ والتكبُّر والتجبُّر عند كثيرٍ من الناس. اكتشافُ مواطن ضعف الكائن البشري ضرورةٌ يفرضها الفهمُ الواقعي لكيفيةِ بناء صِلاته بما يحيط به، وتحديدِها في ضوء طبيعته البشرية، وبِنْيته السيكولوجية، وطبيعة تكوينه، وليس وَفْقًا لِمَا يتمنَّاه، وتُمليه عليه رغباتُه، وتقديرُه الموهوم لمواهبه، وما يخلعه على نفسه من قدراتٍ واستعداداتٍ زائفة.

الإذعان والانقياد والطاعة العمياء

في مجتمعنا الحاكمُ المستبدُّ يعملُ على تنويم عقلك، كي تسمعَ وتنفِّذَ كلَّ ما يأمرُ به ويقررُه، قائدُ الحزب يريدك أن تكون صدًى لكل ثرثراته وقرارته، وإلا فسيحرمك المكاسب المجانية لأتباعه، أبوك وأمك يربِّيانك على السمع والطاعة، شيخُ القبيلة يفرضُ عليك الانقياد والخضوع فإن ناقَشْتَه يحرمك حماية قبيلته، داعيةُ الأيديولوجيا يفرضُ عليك قناعاتِه الجَزْميةَ الجاهزة، وعندما تُناقِشه ينزعج وربما يلجأ لاتهامك بالخيانة، الواعظُ يُملي عليك مواعظهَ ويحرصُ على تلقينك كلَّ ما يقوله وإن كان لامعقولًا، فإن تساءلتَ يتشبث بالمقدَّس ليُسكِتَك. الكلُّ يريدُ أن تكون هو، وألا تكون أنت. الكلُّ يريدُ ألا يستفيق وعيُك.

في مجتمعنا الفردُ غالبًا لا يُفكِّر، الجمهورُ يُفكِّر نيابةً عنه. المسئوليةُ الفرديةُ مُستلَبة، أنت مسئولٌ عن الكلِّ من دون أن تكون مسئولًا عن نفسك، والكلُّ مسئولٌ عنك من دونِ أن تكون مسئولًا عن نفسك. منذ أن يبتدئ مشوارُ الحياة مع الإنسان يمتدح الناسُ طاعتَه لاختيارات غيرِه له في: ما يأكله وما يلبسه، ما يحبُّه وما يَكْرهُه، ما يريده وما لا يريده. يريدون منه: أن يفكِّر لغيره، أن يفهَم لغيره، أن يشعُر لغيره، أن يتألَّم لغيره، أن يفرَح لغيره، أن يُحب لغيره، أن يَكْره لغيره، أن يتذكَّر لغيره، أن ينسَى لغيره، أن يُنجز لغيره. كلُّ ما يفعله الفرد في حياته هو إعادةُ إنتاجه لصورة غيره.

في مجتمعنا يُعاد استنساخُ صورٍ متشابهة للبشر، تُستلَب فيها فرديةُ الكائن البشري ومسئوليتُه. يتحدَّث القرآنُ الكريم عن الفرد والمسئولية الفردية في آياتٍ متعدِّدة، وردَت في سياقاتٍ متنوِّعة، منها: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ،٤  وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى،٥  وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى،٦  مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ،٧  وَخَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ.٨

لا معنى لمجتمعٍ تعدُّدي من دون بناءٍ لمعنى الفرد. عندما يتحقَّق معنى الفرد في أيِّ مجتمع يتحقَّق معنى التعدُّد والتنوُّع والاختلاف. يتشكَّل معنى الفرد بعد أن تترسَّخ تقاليدُ الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه. ما لم ينشأ ويتشكَّل وينضَج مفهومُ الفرد في مجتمعنا، يظلُّ المجتمعُ يفتقرُ لأشخاصٍ يمتلكون فرادةً في التعبيرِ عن مواهبِهم الخلَّاقة، والإعلان عن قدراتِهم على الإبداع والابتكار، وتميُّزًا في مواقفهم المغايرة للتفكير اللامنطقي، والسلوك اللاأخلاقي.

لا يُمكِن أن يتشكَّل معنى الفرد في مجتمعٍ يفرض على الإنسان الخضوعَ والانصياعَ لكلِّ تقاليده وأعرافه، وألا يخرج على النموذج الواحد المشروع، الذي يمثِّله: «الخليفة/السلطان/الزعيم»، وإن كان لا يصلُح عقليًّا وأخلاقيًّا وسلوكيًّا أن يكون قدوةً ومثالًا يُحتذى. «الخليفة/السلطان/الزعيم» يعزِّز حضورُه وسطوتُه جهلَ المجتمع واستعداده للعبودية؛ لذلك يرضَخ أكثرُ الناس له بشكلٍ طوعي. يريد من الكلِّ أن يرَوا ما يراه، ويفكِّروا بما يفكِّر فيه، ويشعُروا بما يشعُر فيه، ويستسلموا لقراراته مهما كانت، قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى.٩ مثلُ هذا المجتمع تسود حياتَه رؤيةٌ واحدةٌ للعالَم، ومعتقَدٌ واحد، وفهمٌ واحد للحياة، ونوعٌ واحد يتكرَّر من المواقف، وسلوكٌ واحد الكلُّ فيه يكرِّرُ الكلَّ.

في مجتمعنا تتجذَّر تقاليدُ الإذعان والخضوع والطاعة العمياء، المشتقَّة من:

  • (١)

    قِيَم البداوة والتقاليد القبَلية المتغلغِلة في البِنية العميقة لمجتمعنا.

  • (٢)

    نمط تديُّنٍ كلامي فقهي راسخ، يضمحلُّ فيه حضورُ مقاصد الشريعة وقِيَمها المركزية، ولا يهتمُّ كثيرًا بأهدافِ الدِّين المِحْوَرية، ورسالتِه في تكريس الحياة الروحية والأخلاقية.

  • (٣)

    استبداد مقيم، متجذِّرٌ ومُتراكِم عبْر تاريخنا البعيد والقريب. الاستبدادُ عدوُّ معنى الفرد، الفردُ يستمدُّ معناه من الاختلاف، الاستبدادُ يستمدُّ معناه من التطابق. يبدأ الاستبدادُ بمختلف أنماطه حين تنشُد التربيةُ والتعليمُ محوَ الملامح الخاصة للكائن البشري.

الاستبدادُ يشدِّد على الإذعان والانقياد والطاعة العمياء. كلُّ استبدادٍ ينشُدُ إنتاجَ نُسخٍ متماثلةٍ للكائن البشري. لا يُنجِز الاستبدادُ أهدافَه إلا بمحو الفردية.

١  باشلار، غاستون، الفكر العلمي الجديد، ترجمة: عادل العوا، مراجعة: عبد الله عبد الدائم، ص٥٥، الطبعة الثانية، ١٩٨٣م، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت.
٢  الجابري، محمد عابد، مدخل إلى فلسفة العلوم: العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي، ص٣٧، الطبعة الخامسة، ٢٠٠٢م، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.
٣  دوستويفسكي، الجريمة والعقاب.
٤  المدثر، ٣٨.
٥  فاطر، ١٨.
٦  الأنعام، ١٦٤.
٧  فصلت، ٤٦.
٨  الجاثية، ٢٢.
٩  غافر، ٢٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤