(٥) حقُّ الاعترافِ بالخطأ وتشكُّلُ مفهوم الفرد
التربيةُ على الخوف من الخطأ والتنكُّر له تُضعِف قدرةَ الإنسان على اكتشاف نفسه، والتعرُّفِ على التضادِّ في طبيعته الإنسانية، ومواطنِ ضعفه وهشاشته، وتنسيه حالاتِ عجزه في شيخوخته ومرضه وموته. التنكُّرُ للخطأ يرسِّخ الغرورَ والطغيانَ والتكبُّر والتجبُّر عند كثيرٍ من الناس. اكتشافُ مواطن ضعف الكائن البشري ضرورةٌ يفرضها الفهمُ الواقعي لكيفيةِ بناء صِلاته بما يحيط به، وتحديدِها في ضوء طبيعته البشرية، وبِنْيته السيكولوجية، وطبيعة تكوينه، وليس وَفْقًا لِمَا يتمنَّاه، وتُمليه عليه رغباتُه، وتقديرُه الموهوم لمواهبه، وما يخلعه على نفسه من قدراتٍ واستعداداتٍ زائفة.
الإذعان والانقياد والطاعة العمياء
في مجتمعنا الحاكمُ المستبدُّ يعملُ على تنويم عقلك، كي تسمعَ وتنفِّذَ كلَّ ما يأمرُ به ويقررُه، قائدُ الحزب يريدك أن تكون صدًى لكل ثرثراته وقرارته، وإلا فسيحرمك المكاسب المجانية لأتباعه، أبوك وأمك يربِّيانك على السمع والطاعة، شيخُ القبيلة يفرضُ عليك الانقياد والخضوع فإن ناقَشْتَه يحرمك حماية قبيلته، داعيةُ الأيديولوجيا يفرضُ عليك قناعاتِه الجَزْميةَ الجاهزة، وعندما تُناقِشه ينزعج وربما يلجأ لاتهامك بالخيانة، الواعظُ يُملي عليك مواعظهَ ويحرصُ على تلقينك كلَّ ما يقوله وإن كان لامعقولًا، فإن تساءلتَ يتشبث بالمقدَّس ليُسكِتَك. الكلُّ يريدُ أن تكون هو، وألا تكون أنت. الكلُّ يريدُ ألا يستفيق وعيُك.
في مجتمعنا الفردُ غالبًا لا يُفكِّر، الجمهورُ يُفكِّر نيابةً عنه. المسئوليةُ الفرديةُ مُستلَبة، أنت مسئولٌ عن الكلِّ من دون أن تكون مسئولًا عن نفسك، والكلُّ مسئولٌ عنك من دونِ أن تكون مسئولًا عن نفسك. منذ أن يبتدئ مشوارُ الحياة مع الإنسان يمتدح الناسُ طاعتَه لاختيارات غيرِه له في: ما يأكله وما يلبسه، ما يحبُّه وما يَكْرهُه، ما يريده وما لا يريده. يريدون منه: أن يفكِّر لغيره، أن يفهَم لغيره، أن يشعُر لغيره، أن يتألَّم لغيره، أن يفرَح لغيره، أن يُحب لغيره، أن يَكْره لغيره، أن يتذكَّر لغيره، أن ينسَى لغيره، أن يُنجز لغيره. كلُّ ما يفعله الفرد في حياته هو إعادةُ إنتاجه لصورة غيره.
لا معنى لمجتمعٍ تعدُّدي من دون بناءٍ لمعنى الفرد. عندما يتحقَّق معنى الفرد في أيِّ مجتمع يتحقَّق معنى التعدُّد والتنوُّع والاختلاف. يتشكَّل معنى الفرد بعد أن تترسَّخ تقاليدُ الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه. ما لم ينشأ ويتشكَّل وينضَج مفهومُ الفرد في مجتمعنا، يظلُّ المجتمعُ يفتقرُ لأشخاصٍ يمتلكون فرادةً في التعبيرِ عن مواهبِهم الخلَّاقة، والإعلان عن قدراتِهم على الإبداع والابتكار، وتميُّزًا في مواقفهم المغايرة للتفكير اللامنطقي، والسلوك اللاأخلاقي.
في مجتمعنا تتجذَّر تقاليدُ الإذعان والخضوع والطاعة العمياء، المشتقَّة من:
-
(١)
قِيَم البداوة والتقاليد القبَلية المتغلغِلة في البِنية العميقة لمجتمعنا.
-
(٢)
نمط تديُّنٍ كلامي فقهي راسخ، يضمحلُّ فيه حضورُ مقاصد الشريعة وقِيَمها المركزية، ولا يهتمُّ كثيرًا بأهدافِ الدِّين المِحْوَرية، ورسالتِه في تكريس الحياة الروحية والأخلاقية.
-
(٣)
استبداد مقيم، متجذِّرٌ ومُتراكِم عبْر تاريخنا البعيد والقريب. الاستبدادُ عدوُّ معنى الفرد، الفردُ يستمدُّ معناه من الاختلاف، الاستبدادُ يستمدُّ معناه من التطابق. يبدأ الاستبدادُ بمختلف أنماطه حين تنشُد التربيةُ والتعليمُ محوَ الملامح الخاصة للكائن البشري.
الاستبدادُ يشدِّد على الإذعان والانقياد والطاعة العمياء. كلُّ استبدادٍ ينشُدُ إنتاجَ نُسخٍ متماثلةٍ للكائن البشري. لا يُنجِز الاستبدادُ أهدافَه إلا بمحو الفردية.