(٤) السؤالُ الميتافيزيقي سؤالٌ فلسفي

مَنْ لا يعرفُ الإنسانَ لا يعرفُ الله. مَنْ يعرفُ شيئًا عن غرابة ‏الإنسان وغربته الوجودية وفقره وهشاشته، ويعرفُ شيئًا من الطبيعة الإنسانية، يمكنه أن يصلَ إلى الله. ‏معرفةُ الطبيعةِ لا تكفي لمعرفة الله.

يتنكرُ بعضُ المثقفين للميتافيزيقا وما وراء الطبيعة، على الرغم من أنه لا يعرف عنها شيئًا، وينفي وجودَ الله، لأنه لم يصل إليه بأدوات العلم التجريبي التي يثق بها فقط، ولا يثق بسواها. يجزم بالنفي من دون أن يتواضعَ ويكشفَ عن إخفاق عقله في إدراك ما لم يتمكن هو من إدراكه. لا يدري هؤلاء بأن البحثَ في الميتافيزيقا وما وراء الطبيعة خارجَ أدوات العلم، وخارجَ وسائل اكتشاف العالَم الفيزيقي وقوانينه.

يُعلِن بعضُهم بصرامة بأنه لا يؤمن بوجود الله، ويقطع بعدم وجود ما وراء الطبيعة، بلا تأمُّل وتدبُّر وتبصُّر، وينسَى بأن الميتافيزيقا وعالَم ما وراء الطبيعة هو الموضوع الأثير للفلسفة منذ بدايات التفلسف حتى اليوم، وأن سؤالَ الإيمان والإلحاد ليس سؤالًا علميًّا، وأن أسئلةَ الميتافيزيقا وعالَم ما وراء الطبيعة أسئلةٌ فلسفية. كلُّ سؤالٍ وجوابٍ خارج عالَم الطبيعة سؤالٌ وجوابٌ فلسفي. إعلانُ الإلحاد ضربٌ من الجواب الميتافيزيقي، الإلحادُ يعكسُ ضراوةَ القلق الوجودي، وأقصى مدَيَات ‏حَيْرة الجواب الميتافيزيقي. لحظةَ يعلن أحدٌ عن إلحادِه ينتقل من التفكير العلمي إلى التفكير الفلسفي دون أن يتنبَّه لذلك. نفيُ عالَم ما وراء الطبيعة كإثباته، الإثباتُ حكمٌ فلسفي، والنفيُ حكمٌ فلسفي. التفكيرُ في ماهية العلوم الطبيعية وماهية أيِّ علمٍ هو تفكيرٌ فلسفي، العلمُ لا يُفكِّر في ماهيته، التفكيرُ في ماهية العلوم خارجَ مجال العلوم، كلُّ تفكيرٍ من هذا النوع تفكيرٌ فلسفي.

في مقابلةٍ تلفزيونية على إحدى الفضائيات العربية مع معماري عراقي مثقَّف واسع الاطلاع، تحدَّث فيها عن إلحاده بصراحة.١ وُلِد ونشَأ المهندس المعماري رفعت الجادرجي في محيطٍ تقليدي ببغداد، أبوه كامل الجادرجي كان سياسيًّا ومثقفًا غير تقليدي، وهو من أبرز روَّاد الديمقراطية ودعاتها في العراق. سمعتُ الحوارَ كلَّه بتأمُّل أكثر من مرة، رأيتُه يفسِّر الدينَ والمقدَّسَ، وحاجةَ الإنسان للصلة بوجودِ الله تفسيرًا سيكولوجيًّا وسوسيولوجيًّا وأنثربولوجيًّا. لا يغور رفعت الجادرجي فلسفيًّا ليرى الأبعادَ العميقةَ للحاجة إلى الدين في وجود الإنسان، ولا يذهب تفكيره بعيدًا ليُطلَّ على الميتافيزيقا وعالَم ما وراء المادة. حاجةُ الإنسان للصلة بوجودٍ مطلَق يفرضها نوعُ وجوده، ونتيجةً لها يفرض الدينُ حضورَه الأبدي، وينتقم لنفسه كلَّ مرة تجري إزاحتُه فيها ليعود عاصفًا، مهما كانت محاولاتُ بعض الفلاسفة والمفكِّرين لرفضِه، والكشفِ عن بؤس تمثُّلاته وتطبيقاته العملية. الحاجةُ الوجودية لله أسعدَت كبارَ ملهمي الروح المعلِّمين في إطار الأديان المعروفة وغيرَهم ممن عاشوا مُتيَّمين بحُبِّ الله، وأشقت بعضَ البشر، عندما زجَّتْهم في صراعٍ مع أنفسهم والناس والعالَم من حولهم.

لا أريد أن أحكم على تفسيرِ رفعت الجادرجي وشعورِه وتعبيرِه الصريح عن موقفه؛ لأن كلَّ تفسيرٍ لا يُمكِن أن يتحرَّر كليًّا من بصمةِ الذات، وكيفيةِ نشأتها وتربيتها، وتكوينِها المعرفي، والبِنى اللاشعوريَّة الغاطسة فيها، واحتياجاتِها المتنوِّعة.

‏ الظواهرُ الدينية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، ‏وكلُّ تمثُّلات الدين المجتمعية، تدرُسها علومُ الإنسان والمجتمع الحديثة، ‏مثل: سوسيولوجيا الدين، أنثربولوجيا الدين، سيكولوجيا الدين، وغير ذلك. التفسيرُ السيكولوجي والسوسيولوجي والأنثربولوجي والاقتصادي والسياسي والتاريخي للظواهر الدينية شديدُ الأهمية؛ لأننا لا يُمكِن أن ندرُس تمثُّلاتِ الدين وتعبيراتِه في حياة الفرد والجماعة من دونه، غير أن هذا التفسيرَ لا نستطيع أن نرى بأدواته منشأَ الحاجة الوجودية لله، ولا يُسعِفنا في اكتشاف الجذرِ العميق لهذه الحاجة؛ لأنه يقف خارجَ فضاء الميتافيزيقا.

جذرُ هذه الحاجة وأصلُها لا تتمكَّن من الغوص في مدَيَاته إلا الرؤيةُ الفلسفية؛ لأنها يُمكِن أن تُطِلَّ على الميتافيزيقا. التفكيرُ في حقيقة الأشياء وماهياتِها تفكيرٌ فلسفي. ماهيةُ الدين لا يُمكِن التفكيرُ فيها خارجَ السؤال الفلسفي، أعمقُ سؤالٍ فلسفي السؤالُ الميتافيزيقي، لا يستطيع العقلُ أن يفكِّر في العالَم الميتافيزيقي بلا منظارٍ فلسفي. ولا يحضر جوهرُ الدين الروحي إلا باستبصاراتِ العُرفاء وإشراقاتِ تجاربهم المضيئة الآسرة.

اللهُ، الوحيُ، النبوةُ، الآخرةُ، وغيرُ ذلك من عوالم الغيب، يبحثها علم الكلام في الإسلام، واللاهوت في الأديان الكتابية في ضوء منهجه. وتبحثها فلسفةُ الدين في ضوء منهجها، لأنها تُحاوِل أن تغوصَ فيما هو ميتافيزيقي. كما تبحث فلسفةُ الدين كيفيةَ تجلي الإلهي في البشري،‏ وكيفيةَ شهود البشري للإلهي، ونمطَ ‏الحالة الروحية والعاطفية لحظةَ شهود البشري للإلهي.

ليس هناك منهجٌ واحد يخضع له العلمُ والدينُ والفن في معرفة الحقيقة، لأن الحقيقةَ ليست واحدةً في كلِّ شيء، الدينُ والفنُّ والعلمُ لكلٍّ منها حقيقتُه الخاصة بحسبه. لوجود الحقيقة أنماطٌ، نمطُ الحقيقة في الدين على شاكلته، نمطُ الحقيقة في الفن على شاكلته، نمطُ الحقيقة في العلم على شاكلته؛ أي إنَّ للدين حقيقتَه وحقلَه، وإنَّ للعلم حقيقتَه وحقلَه، وهكذا للفن حقيقتُه وحقلُه.

يُفهَم الدينُ من داخله، وإن كانت تمثُّلاتُه في الحياة البشرية تُفهَم من خارجه. الدينُ حياةٌ في أُفُق المعنى،٢ الحياة الروحية والأخلاقية والجمالية هي الأُفقُ الذي يتحقَّق فيه الدين، وهي لا تتطابق مع المادة التي تتحقَّق وتنكشف فيها العلومُ وقوانينُها.

الفهمُ البشري سواء كان في حقل الدِّين أو الفن تحضُر فيه الذات، بوصف هذا الفهم يمثِّل طورًا من أطوار وجودها، وَفْقًا لما شرحه غادامير تبعًا لأستاذه هيدغر. في فهم الدِّين تتحقَّق الذاتُ بما يتناغم مع الدين، وتتحقَّق الذاتُ في الفن بما يتناغم مع الفن. الدِّينُ والفن كلٌّ منهما يمثِّل شكلًا من أشكال تجربة الحقيقة.

البحثُ في الميتافيزيقا ليس كالبحث في الرياضيات والفيزياء ‏والكيمياء، أو العلوم البحتة والطبيعية والتطبيقية. السؤالُ الميتافيزيقي سؤالٌ مفتوح، ليستْ له إجاباتٌ نهائية أبدية، ‏وذلك ما يكشفُ عنه تعدُّدُ الأديان وتنوُّعُها، ‏وتعدُّدُ وتنوُّعُ الإجاباتِ الفلسفية واللاهوتية على السؤال الميتافيزيقي.

العلومُ الطبيعية والبحتة والتطبيقية وعلومُ الإنسان والمجتمع لها مدَيَاتٌ قصوى تقف عند تُخومها ولا تتخطاها، إنها تظلُّ مقيمةً في آفاق الزمان والمكان والحركة والمادة وأبعادها وخصائصها وشيونها. يقول علي عزت بيغوفيتش: «إن علمَ الحفريات، وعلمَ هيئة الإنسان، وعلمَ النفس، كلَّها علومٌ تصفُ من الإنسان فقط الجانبَ الخارجي الآلي الذي لا معنى لهُ … إننا لا نستطيعُ تفسيرَ الحياةِ بالوسائل العلمية فقط؛ لأن الحياةَ معجزةٌ وظاهرة معًا. الإعحابُ والدهشةُ هما أعظمُ شكلٍ من أشكال فَهمِنا للحياة.»

ما دامت مناهجُ وأدواتُ ووسائل العلم تجريبيةً فهناك قصورٌ ذاتي في هذه المناهج والأدوات والوسائل عن أن تُطِلَّ على عوالم الميتافيزيقا؛ لذلك يعجزُ العلمُ عن عبور فضاء المادة وأحوالها وما يتصل بها، ولا يُمكِنه الكشفُ عن ماهية الأشياء وجوهرها، كما لا يُمكِنه الجواب عن السؤال الميتافيزيقي. ما يتناوله العلمُ يلبث في حدود المادة، بخلاف الفلسفة واللاهوت التي بوسعها إدراكُ شيءٍ من أبعاد الميتافيزيقا وعوالمها وشئونها. وفي العرفان تنكشف مواطنُ أشواق الروح البشرية وأحوالها واحتياجاتها العميقة، لحظة يعلن جوهرُ الدين عن حضوره المُضِيء باستبصارات العُرفاء وإشراقاتِ تجاربهم المُبهِجة.

علَّق هيدغر على عبارته المشهورة: «العلم لا يفكِّر» (بقوله: «إن هذه العبارة التي خلَّفَت كثيرًا من الضجيج إثْر نُطقي بها، تعني أن العلم لا يشتغل في إطار الفلسفة، إلا أنه، ومن غير أن يعلم، ينْشَدُّ إلى ذلك الإطار. فعلى سبيل المثال: إن الفيزياء تشتغل على المكان والزمان والحركة. إلا أن العلم، بما هو كذلك، لا يُمكِنه أن يحدِّد ما الحركة، وما المكان، وما الزمان.» العلمُ إذن لا يفكِّر، بل إنه لا يُمكِن أن يفكِّر في هذا الاتجاه باستخدام وسائله. لا يُمكِنني على سبيل المثال أن أقول ما الفيزياء باتِّباع مناهج الفيزياء. ماهية الفيزياء لا يُمكِنني أن أفكِّر فيها إلا عن طريق سؤالٍ فلسفي).٣ وكما يقول فتحي المسكيني: «الفلسفةُ شيء لا علاقةَ له بالعلم. وبعبارة واحدة لهيدغر: العلم لا يفكِّر. والقصد هو لا يفكِّر بشكلٍ كوني في الكينونة، رغم أنَّه ينتج معرفةً كلية بالكائن.»

تتوقف التفسيراتُ العلميةُ للدينِ عند معاينةِ حضورهِ الفردي والمجتمعي، ودراسةِ وتحليل آثاره المتنوِّعة في حياة الإنسان ومختلف تعبيراته، لكنها تُخفِقُ في البحث عن المدَيَات الأعمق لأصل الحاجةِ للصلة بالله في الكينونة الوجودية العميقة للكائن البشري. تقودُ هذه التفسيراتُ بعضَ الناس أحيانًا إلى نفي الحاجةِ للدين، ويتمادى بعضُ مَنْ يتبنَّاها ليقولَ بنفي وجود الله، من دونِ أن يسُوقَ أيَّ برهانٍ على هذا النفي. ويزعمُ أناسٌ آخرون أنَّ الإيمانَ مجردُ شعورٍ نفساني، تفرضُه على الإنسان سيكولوجيتُه وبيئتُه وتربيتُه وثقافتُه، وهي محاولةٌ أخرى لنفي وجودِ الله بلا دليلٍ.

الإنسانُ ليس عقلًا محضًا، الإنسانُ كائنٌ تتحكَّم فيه المشاعرُ والإنفعالاتُ والمصالحُ أكثرَ من العقل، الإنسانُ كائنٌ عاطفي قبل أن يكون كائنًا عقلانيًّا. أسرف التنويرُ الغربي في الإعلاء من مكانة العقل والعلم، وتجاهُلِ العواطف والمشاعر والأحاسيس والانفعالات، والمتخيَّل والأسطورة والذاكرة، بنحوٍ تسيَّد العقلُ والعلمُ واستبدَّا، فصادرَا كلَّ شيء خارج حدودهما، وصار كلُّ شيء لا يصدُق عليه عقل وعلم منسيًّا. قراراتُ ووقائعُ حياة الإنسان تكذِّب ذلك؛ لأن الشعرَ والفنَ، والمتخيَّل والأسطورة والذاكرة، ومكاشفاتِ الروح وإشراقاتها، لا يصدُر كثيرٌ منها عن العقل. القراراتُ المصيرية في حياة الإنسان تصدُر أحيانًا لحظةَ انفعال عاطفي، وطالما اتَّخذ الإنسانُ فردًا وجماعةً مواقفَ تغيب فيها حساباتُ العقل والعلم تمامًا.

الإيمانُ مرآةٌ تكشف عن الاحتياج الأنطولوجي للكائن البشري لصلة وجودية بالله، أصلُ الحاجة للإيمان والدين تكمنُ في سعي الإنسان للكشف عن معنى وجوده وتفسير لغز الحياة والموت، وتلهُّفِ وجوده هذا الكائن للاتصال بالوجود المطلق المستغني بذاته عن كلِّ شيءٍ.

الدينُ يحمي الإنسانَ من مأزقِ الواقع وثقلِه وشدَّةِ وطأته عندما يأخذه للمتخيَّل، الفن ينجز شيئًا من هذه المهمة أيضًا. كلٌّ من الدين والفن ينقل الإنسانَ من مضايق الواقع واختناقاته، عندما يرحله لعالَم المتخيَّل، المتخيَّل ملاذٌ لذيذٌ يستريح فيه الإنسانُ من كآبة الواقع ووحشته ومراراته، يفعل ذلك كلٌّ من الدين والفن، كلٌّ منهما على شاكلته وبطريقته الخاصة. الدينُ لا يتوقفُ عند ذلك، بل يعزِّزُه بإشباع حاجة الإنسان للخلود، لذلك لن تموتَ الأديانُ إلا أن يموتَ الموتُ.

يظلُّ الإنسانُ غريبًا عن وجوده، روحُه غريبةٌ عن قفصها المادي، عبءُ هذا الوجود وقيودُ الزمان والمكان هي أغلالُ الكائن البشري، إنها أقسَى من طاقة هذا الكائن على تحمُّلها. الإنسان لا يُطيقُ ما يواجهه من آلام في هذه الحياة، وطالما شعرَ بالملل والسأم والضجر واللاجدوى وفقدان كلِّ معنًى. لا يُطيقُ الإنسان تحمُّلَ آلام الوجود المادي الذي يختنق فيه، ويُنهِك روحَه، ويبدِّد طاقاتِه، ويعبثُ بسلامه الباطني. وذلك ما يدعوه للخلاصِ من أعباءِ وجوده المادي المُوحِش الكئيب، وإنقاذِ روحه من ضيقِ عالَم المحسوسات وضغطها الشديد، وحصارِ الزمان والمكان، وكلِّ ما يُصادرُ أمنَه النفسي، ويحدُّ من تَوْق روحه للخلاص من ظلام المادة وأغلالها. يقول إريك فروم: «إن الإنسان الذي يحاول أن يعيش دون اعتقاد (إيمان) يصبح عقيمًا دون أمل، وخائفًا في أعمق وجوده … لكي يعيش، يحتاج الإنسان للإيمان العقلي. ويمكن للإيمان العقلي الضروري أن يتطوَّر في النظام المجتمعي؛ حيث تتحقَّق المثل الديمقراطية أكثر فأكثر.»٤ ويصنِّف فروم الاعتقاد إلى نوعَين؛ اعتقاد لاعقلي، واعتقاد عقلي. الأول يكون مضمونُ موضوعِ الإيمان فيه: «مؤسَّسًا على الخضوع الأعمى اللاواعي واللاعقلاني لشخص أو لشيء»، وأما الثاني «فله علاقةٌ بالاقتناع العقلي والنفسي بمضمون موضوع الإيمان، الذي لا يكون مؤسَّسًا على الخضوع والخوف اللاواعيَين، بل على الثقة المنطقية في كفاءة الشخص أو الشيء موضوع الإيمان.»٥

الإنسانُ كائنٌ استثنائي

من أجلى مظاهر غربة الإنسان في العالَم أنه استثنائي في وجوده، هو الكائن الوحيد في الأرض الذي لا يتماثل معه أيُّ كائن آخر ولا يتماثل هو مع أيِّ كائن آخر. لا نجد دينًا عالميًّا يرى وجودَ الإنسان شيئًا كالأشياء المادية أو كائنًا كالكائنات الحية. الإنسانُ وجوديًّا كائنٌ استثنائي، يستحق التكريم الإلهي في حياته وبعد موته. لا يمكن أن ينال المكانةَ الوجودية للإنسان أو يسمو إليها أيُّ شيء آخر خلقه اللهُ في العالَم. وجودُ الإنسان ينفرد بكونه مرآة لوجود الله. أودع اللهُ في كلَّ إنسان روحًا منه، إلا أنَّ هذه الوديعةَ تحتجب متى احتجب الإنسانُ عن الله.

ما أقبحَ أن ينحطَّ الإنسانُ فيتعامل مع ذاته وغيرها من الناس على أنها أشياء. واحدةٌ من خطايا المجتمعات الغارقة في الاستهلاك أنها ‏تتعامل مع الإنسان كشيء. الإنسانُ إنسانٌ وكفى، لا يشبه وجودُ الإنسان أيَّ شي، ولا يشبهه وجودُ أيِّ شيء من الخلق.

لم تعد حياةُ إنسان اليوم سعيدةً، لأنه يضيعُ في الإثارة بحثًا عن البهجة، وفي اللذات الحسية بحثًا عن السعادة، وفي الامتلاك بحثًا عن الوجود،٦ وفي الاستهلاك بحثًا عن معنى الحياة، وفي وسائل التواصل الجديدة بحثًا عن ذاته. إنسانُ اليوم يترقَّب كلَّ شيء مما يمتلكه من أشياء، لكنه بدلًا من أن يمتلك الأشياءَ تمتلكه هي، وبدلًا من أن يستعملها تستعمله، وبدلًا من أن يستهلكها تستهلكه، وبدلًا من أن يتحكَّم بها تتحكَّم هي به، إلى أن تصير هي أصنامُه التي تستنزف روحَه وقلبَه وعقلَه. يقول إريك فروم: «إن مشكلتنا الأخلاقية هي عدم مبالاة الإنسان بنفسه. إنها تكمُن أساسًا في أننا فقدنا الإحساس بأهمية الفرد وفرادته، وأننا جعَلْنا أنفسَنا أدواتٍ لمقاصد خارج ذاتنا، إننا نُعامِل أنفسنا على أنها سلع، وأن قدراتنا قد أصبحَت مغتربة عن أنفسنا، أصبحنا أشياء، وأصبح جيراننا أشياء، والنتيجة أننا نشعُر بالعجز.»٧

حين يُختَزل الإنسانُ ويُنظر إليه وإلى كلِّ شيء يتصل بوجوده وعقله وروحه ومشاعره كشيء من الأشياء يُنحَر الإنسانُ داخلَ الإنسان. احتياجاتُ الإنسان: للمعنى، للإيمان، للمحبَّة، للجمال، لسكينة الروح، لطمأنينة القلب، لتقدير الذات، للاعتراف، للعطاء، للتضامن الإنساني، لا ترويها الأشياءُ المادية مهما غرق الإنسانُ في استهلاكها، ومهما كانت قيمتُها السوقية. مَنْ يعجز عن تأمين الاحتياجات الروحية والأخلاقية والإنسانية يعيش خواءً روحيًّا وقلقًا وجوديًّا يسلبُ سكينتَه الباطنية، ويحجُب عنه معاني السعادة.

بؤس الذائقة الاستهلاكية

مثلما تُعلِنُ العنصريةُ عن حضورها عبر الدم والنسب والقبيلة والقومية والمعتقد والجغرافيا والثقافة وغير ذلك، يُعلِنُ الاستهلاكُ المبتذل عن عنصريته عبر الغرابة والشذوذ فيما يستعمله ويتناوله الإنسان. الذي يتناولُ اللحمَ المطلي بالذهب يُعلِنُ أنه الاستثناء في استعلائه على الناس في الأرض، لا يستحقُ هذه المكانةَ غيرُه هو وحده المؤهل للتويج بها. أثار قرفي واشمئزازي خبرٌ نشرته قناةُ العربية يوم ١٢ ديسمبر ٢٠٢١م على صفحتها في الإنستغرام يتحدث عن: (فندق في فيتنام يقدِّم لزواره فرصة شراء قطعة لحم «توماهوك» مغطَّاة بالذهب، مقابل ١٣١٩ دولارًا للقطعة). لفَرْط دهشَتي بعثتُ الخبر إلى ولدي محمد باقر المقيم في أستراليا، فبادَر هو وأرسل رابطًا لصفحة أحد الطبَّاخين المشهورين على الإنستغرام في إحدى الدول، يُعلِن هذا الطباخُ عن أسعار وجباته من اللحوم فيكتب: إن مطعمه يبيع قطعة اللحم المطلية بالذهب، بوزن ٦٨٠ غرامًا، بسعر يصل إلى ٢٠٠٠ دولارٍ أمريكي.» أسوأ ما رأيتُ مقطع فيديو يصوِّر لقاءَ أصدقاء في أحدِ مجتمعات التُّخمة العربية، وهم يشربون نوعًا خاصًّا من الشاي، يُعلِنون فيه للمشاهد أن ثمنَ الكيس الواحد منه، الذي يعمل إبريقًا واحدًا للشاي لا يكفي إلا لبضعة أشخاص، أكثر من ٣٧٠٠ دولار. الغريب أنهم كانوا يتبجَّحون في الإعلان عن ذلك بوقاحة وصفاقة تُشعِر المشاهد كأنهم يحتفلون بوليمةٍ بهيجة. وليمةٌ ماتَ فيها الإنسانُ داخلَ الإنسان وانطفأ لديه الضميرُ الأخلاقي. لحظةَ شاهدتُهم، وهم يتفاخرون بهذا السلوك المُنحَط، تَقَزَّزتُ من هذا المحفل المُرِيع للإفلاس الأخلاقي. بعضُ الذين يُمارِسون هذا السلوك الذي ينكأ جراحَ الجياع ويرقُص على مواجعهم ممَّنْ يُصلُّون الجمعة، وكأنهم لا يعلمون أن التديُّنَ الأخلاقي لا يحضرُ إلا حيثما تحضرُ الغَيرةُ على الإنسان ويتحسَّس المتديِّنُ عذابات الناس.

الإنسان الأخلاقي هو مَنْ يتحسَّسُ عذاباتِ الناس ويُشفِق عليهم ويسعى بحدود إمكاناته لتخفيفِ آلامهم. الجوعُ من أقسَى ألوان العذاب، الجوعُ يفتكُ بعددٍ كبير من المجتمعات والأفراد، وتُضافُ للجياع كلَّ يومٍ أعدادٌ مريعة، خاصة بعد جائحة كورونا. «وبحسب تقرير منظمة الفاو، يستمر الجوعُ في العالم العربي بالارتفاع، مع زيادة بنسبة ٩١٫١ في المائة منذ عام ٢٠٠٠م … وفي عام ٢٠٢٠م، كان ٢٠٫٥ في المائة من الأطفال دون سن الخامسة في المنطقة يعانون من التقزُّم، و٧٫٨ في المائة يعانون من الهزال.» ويشير تقرير منظمة الفاو الصادر في أكتوبر ٢٠١٩م إلى: «أن الآثار المجتمِعة للأزمة الغذائية والاقتصادية قد دفعَت بأعداد الجوعى في جميع أنحاء العالم إلى حدودٍ قياسية عُليا أرست سابقةً تاريخية، بعدما تجاوَز عدد الجياع رقم المليار.» وقرأتُ خبرًا مُوجِعًا على صفحة‏ منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة يقول إن: «عددَ الجياع في المنطقة العربية وصل إلى ٦٩ مليون شخص عام ٢٠٢٠م.»

‏ تَذَوُّقُ الإنسانِ للطعام يختلفُ عن تذوُّق الحيوان للطعام. تذوُّقُ الإنسانِ حالة تلذُّذ أعمق من أن تنحصر بالحواسِّ، إنها أبعدُ مدًى مما هو مادِّي؛ لأنها تعبِّر عن المشاعر والأحاسيس الإنسانية والرؤية الجمالية للعالَم أيضًا. الاستعلاءُ والتباهي والغطرسة والتبختُر في الاستهلاك ضربٌ من خيانة الضمير والمرض الذوقي والأخلاقي الذي يُهدِرُ إنسانيةَ الإنسان، ويبذِّرُ حقوقَ الفقراء والجياع في الأرض، بافتعال احتياجاتٍ مفارقة لاحتياجات الإنسان الأساسية والثانوية، ويبدِّدُ الثرواتِ والمواردَ الطبيعية المشتركة لتأمين احتياجات كلِّ البشر بسفاهةٍ وحُمق.

بطَرُ الذائقة في الاستهلاك وانْحِبَاسُها فيما هو مادي؛ حالةُ تشوُّه مَرَضية سامَّة، تفتكُ بأخلاقية الإنسان، وتُميتُ غيرتَه وشفقتَه ورحمتَه بأخيه الإنسان. يتوحشُ الإنسانُ حين يُختَزل ويُنظر إليه وإلى كلِّ شيء يتصل بوجوده وعقله وروحه ومشاعره كشيءٍ من الأشياء. هذه واحدةٌ من خطايا رأسمالية السوق المتوحِّشة، وتعاملها مع كلِّ شيء حتى الإنسان كبضاعةٍ تجارية ومنتَجٍ استهلاكي يُباع ويُشترى.

كثيرٌ من الناس في المجتمعات الغارقة في الاستهلاك التفاخري، سواء كانت غربيةً أو شرقية، يكابدون الاضطراباتِ النفسية والقلقَ وفقدانَ السكينة والأرقَ والمللَ والضجرَ والاكتئاب. يعيشُ أكثرُ هؤلاء الناس بلا شعورٍ بالأمن والسلام في داخلهم، وإن كان معظمُ هؤلاء يحاولون التنكُّرَ لتعاستهم ويتظاهرون بالسعادة، إعلانُ السعادة صار وسيلةً مخادِعة تتيح للإنسان الحضورَ الاجتماعي والتأثيرَ في الناس الذي ينشُده التظاهرُ بالسعادة تشجِّع عليه كتاباتٌ ساذجة تتكتَّم على بواعث مواجع الإنسان العميقة، وتُلهيه عن البحث عن اكتشاف عِلَلها الكامنة في داخله والسعي لإشباع احتياجاته الطبيعية.

في مجتمعِ الاستهلاك التفاخري يصير كلُّ شيء سلعة، حتى الإنسانُ يُنظر إليه كأنه سلعة، ويجري تقديرُ قيمة كلِّ شيء بمعيار الربح والخسارة بالمعنى الاقتصادي، وتقدَّر قيمتُه بمقدارِ ما يُسهِم فيه من إنتاج، وبنوعِ ما يتسوَّقه ويستهلكُه. تحديدُ قيمة الإنسان بنوعِ ما يتسوَّقه ويستهلِكُه أَحَدَثَ تحولاتٍ في منظومة القيم، وخلق مفاهيمَ جديدة للسعادة والرضا وتقدير الذات والاعتراف، ولكلِّ ما يصنع للإنسان حضورًا لافتًا ومكانة وتأثيرًا في المجتمع.

في مجتمعِ الاستهلاك التفاخري تتحدَّدُ قيمةُ الإنسان ومكانتُه المجتمعية بنوعِ ما يمتلكُ ويستهلكُ من الأشياء الفاحشة الثمن، يقولُ ماركيوز: «يتعرفُ الناسُ على أنفسهم في السلع، يجدون روحَهم في السيارة، وفي بيتهم الدوبلكس، وأجهزة المطبخ.» تزدهرُ نزعةُ التباهي بتبجُّح في هذا المجتمع، وتتسيَّد فيه حالةُ التفاخر بما يقتنيه الإنسان، ينظر الناسُ للتسوُّق والامتلاك والاستهلاك بوصفه وسيلةً للاستعلاء، يجري استثمارُها في تنمية الرصيد الاجتماعي للفرد، خاصةً وسط الطبقة المترفة الغارقة في الأضواء، المتهافتة على إظهار استعلائها على غيرها. تُسرِف هذه الطبقةُ بشراء السيارات الفخمة، وماركات الملابس الباهظة الثمن، والألماس والمجوهرات النادرة، وغيرها من السلع التي تُقاس قيمتُها بارتفاع ثمنها، وليس بإشباعها المباشر للحاجة الحقيقية، بل تُستعمل لغرض الظفر بالإعجاب والثناء؛ لذلك كلَّما غلا ثمنُها تضاعف شغفُ المترفين فيها.

في مجتمع الاستهلاك التفاخري تُفتعَل احتياجاتٌ هامشيةٌ وحتى عبثية، ويختل سُلَّمُ الاحتياجات، فربما يُمسِي ما هو ضروريٌّ هامشيًّا، وما هو هامشيٌّ ضروريًّا. تُنسى الاحتياجاتُ العميقة، وتحتجب حاجةُ الإنسان للمعنى وللقِيَم السامية، ويتدجَّن الإنسانُ ويُدمِن على النمط الاستهلاكي المادي المنطفئة فيه جذوةُ الحياة الأصيلة، وتزدهر حالةُ التباهي، ويتسيَّد التبجُّحُ والزهو بما يقتنيه الإنسانُ من أشياءَ مادِّية، ينظر الناسُ في هذا المجتمع للتسوُّق والاستهلاك بوصفه وسيلةً للتفوُّق على الآخرين، يجري استثمارُها في تنمية الرصيد الاجتماعي للفرد، خاصةً وسط الطبقة المُترَفة الغارقة في الأضواء، المتهافتة على إظهار استعلائها على غيرها بشتى الأساليب المبتذلة. تُسرِف هذه الطبقةُ في شراء السيارات الفخمة، وماركات الملابس الباهظة الثمن، والألماس والمجوهرات النادرة، والساعات الفاحشة السعر، وغيرها من المقتنيات التي تُقاس قيمتُها بارتفاع ثمنها، وليس بإشباعها المباشر لحاجةٍ حقيقية، بل تُستعمَل لغرض الظفر بإلفات نظر الغَير وطلب المزيد من الإعجاب والاهتمام، لذلك كلَّما غلا ثمنُها تضاعف شغفُ المترفين وتهافتُهم عليها، بغَضِّ النظر عن قيمتها الاستعمالية، وما يُمكِن أن تؤديَه من إشباع حاجةٍ أساسية أو ثانوية.

تمادى نمطُ الاستهلاك التفاخري فشُغف هؤلاء بأرقام السيارات، وأرقام الهواتف، وأشياء أخرى غريبة، صارت سلعًا تُعرَض في مزاداتٍ خاصة. وأضحت وسائلُ التواصل أداةً لتعويض الافتقار للمشاعر الإنسانية الصادقة، وابتُذلَت العواطف وتنمَّطَت وتجمَّدَت، وابتُلي الناسُ بالإدمان على الحضور المكثَّف في وسائل التواصل، واشتدَّ التلهُّفُ والتسابُقُ على الفوز بعددٍ أكبر من المعجبين، كتعويضٍ عن فقدان المشاعر الصادقة الحميمية.

في هذا المجتمع يكبتُ الإنسانُ احتياجاتِه العميقة، ويفتعل احتياجاتٍ يتطلبها حضورُه في المجتمع الذي ينتمي إليه. يتحوَّل الإنسانُ إلى ممثلٍ يستعير شخصيةً غريبة عن طبيعته، وبالتدريج يطمس احتياجاتِه الإنسانية، ويدمن على التلبُّس بهذه الشخصية المستعارَة. في المجتمع الغارق في التباهي المتغطرِس بالاستهلاك يُصبِحُ الإنسانُ السويُّ غريبًا، بل كأنه شاذٌّ.

في مجتمع الاستهلاك التفاخري كلُّ شيء سلعة، كلُّ شيء معروضٌ للبيع والشراء والتسوُّق والاستهلاك والربح التجاري والعَرض والطلَب. الإنسانُ بعد موته يُستعمَل كسلعة، ما دام كلُّ شيء في الحياة سلعةً استهلاكية؛ لذلك يُمكِن للورثة التصرُّف برُفَاته كيفما يشاءون، ومعاملتُه كشيءٍ مادي، واستخدامُه على الضد من تميُّز وفرادة الهوية الوجودية للكائن البشري، المتعالية على كل مخلوق في الأرض. عندما ينحطُّ الإنسانُ يرى ذاتَه شيئًا ماديًّا، وهو لا يدري أنه مهما كانت القيمةُ المادية لهذا الشيء فإنها لا يُمكِن أن تُضاهيَ المكانةَ الوجودية ‏للإنسان فضلًا عن أن تُماثِلها. لن يُدركَ الحقيقةَ الوجودية للإنسان إلا ذوو البصائر، ولن يتذوَّقَ صورةَ هذه الحقيقة بوصفها تجليًا للوجود الإلهي إلا مَنْ يعيش تجربةً روحية تُشرِق بنورٍ إلهي.

التعاطي مع الإنسان كشيء في هذا المجتمع جعلَ البعضَ يوصي بإحراق جثته بعد الموت. رفاتُ الميت صار ضحيةً، بوصف الميِّت شيئًا لا قيمةَ له في نظر بعضهم؛ لذلك ينبغي أن تتخلَّصَ الأرضُ ومَنْ عليها من رُفاته، أو يُبادر ذووه أحيانًا فيحرقونه، بغيةَ تحويل رماده إلى ألماس أو جواهرَ نادرة، كي يكتسب هذا الرمادُ قيمةَ الألماس والجواهر المادية. بعد أن خسر الإنسانُ حياتَه صار لا قيمةَ له كما تفرض ذلك معاييرُ السوق. الإنسانُ بوصفه منتَجًا استهلاكيًّا لا قيمةَ له خارج جسده المادي؛ لذلك تُعيره الجواهرُ قيمتَها السوقية بعد أن خسر قيمتَه كسلعة بعد موته. لا أعني بذلك أديانًا تُمارِس حرقَ جثة الميت بوصفه طقسًا دينيًّا، وتعتقد بأن حرقَ الميت يعمل على تسامي روحه وخلاصها من وحشة عالم المادة وأدرانها، لتعود الروحُ إلى أصلها متحرِّرةً من ظلمات المادة. النار في اعتقاد هذه الديانات مطهِّرة كما يطهِّر الماء في دياناتٍ أخرى.

الإنسانُ يُنظر إليه كأنه سلعة، ويجري تقديرُ قيمة كلِّ شيء بمعيار الربح والخسارة بالمعنى الاقتصادي، وتقدَّر قيمتُه بمقدارِ ما يُسهِم فيه من إنتاجٍ مادي، وبنوعِ ما يتسوَّقه ويستهلكه. تحديدُ قيمة الإنسان بنوعِ ما يتسوَّقه ويستهلكه أحدَث تحولاتٍ في منظومة القيم، وخلَق مفاهيمَ زائفة للسعادة والرضا وتقدير الذات والاعتراف، ولكلِّ ما يصنع للإنسان حضورًا ومكانةً وتأثيرًا في المجتمع.

مكانةُ الإنسانِ لا يُحدِّدُها نوعُ ما يتسوَّقه من أشياءَ ماديَّة ولا نمطُ ما يستهلكه. الإنسانُ هذا الكائنُ اللغز المدهش المستودَع لأسرار الخلق، هو الوحيد الذي تجلَّت فيه أجملُ صورةٍ لله في العالَم. الإنسانُ جوهرُ الخلق، وأجلَى مَظهَر ارتسمَت فيه أكملُ صورةٍ لله، لا يُمكِن أن يُضاهِيَه الألماسُ أو يُساويَه أيُّ شيء من الجواهر في العالَم، مهما كانت قيمتُها المادية. الإنسانُ محترمٌ مكرَّمٌ في حياته محترمٌ مكرَّمٌ بعد موته أيضًا، الموتُ ليس فناءً، الموتُ في مفهوم الدين طَورٌ جديد لوجود الإنسان؛ لذلك ينبغي تكريمُ الإنسان بعد موته كما ينبغي تكريمُه في حياته.

١  يقول رفعت الجادرجي: «أنا ملحد بكل ما للكلمة من معنًى.» ويضيف «أن لديه وصيةً مكتوبة بأن تُحرَق جثَّته بعد موته ولا يُدفَن ولا يُصلَى عليه.» في مقابلة أجراها معه الإعلامي ريكاردو كرم، متاحة على اليوتيوب.
٢  ذا هو تعريفُنا للدين.
٣  عبد السلام بنعبد العالي، «العلم هل يفكِّر؟ كل ما يمكن أن يصبح ممكنًا تقنيًّا لا يمكن السماح به»، مجلة الفيصل، ١ يناير ٢٠٢١م.
٤  فروم، إريك، حب الحياة: نصوص مختارة، تقديم: راينر فونك، ترجمة: حميد لشهب، ص٤٧، ٤٩، ٢٠١٦م، جداول، بيروت.
٥  فروم، إريك، المصدر السابق، ص٤٨.
٦  يميِّز إريك فروم بين نمط الحياة الوجودي ونمط الحياة الامتلاكي. ويشرح ذلك في كتابه: «الامتلاك أو الوجود: الأسس النفسية لمجتع جديد»، ترجمة: حميد لشهب، ٢٠١٩م، جداول للنشر والترجمة والتوزيع، بيروت.
٧  فروم إيريك، الإنسان من أجل ذاته: بحث في سيكولوجية الأخلاق، الطبعة الأولى، ترجمة: محمود منقذ الهاشمي، ص٢٧٦، ٢٠٠٧م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤