(٥) منشأ الحاجة للدين

الكائنُ البشري هو الكائنُ الوحيد من الكائنات الذي لا يكتفي بوجوده الخاص، دائمًا يعمل على تكثيف هذا الوجود كيفيًّا، وإثرائه وتمديده كميًّا، وتجريده من المادة وما يُلازِمها من زمان ومكان. إنه الكائنُ الوحيد من الموجودات الذي تختنق روحُه في سجنها المادي. الفقرُ في كينونة الكائن البشري يدعوه لطلب الكمال ما دام حيًّا. الفقرُ نقص، النقصُ أمرٌ عدمي، وذلك يعني أن الكمالَ الذي يطلبه هذا الكائن لابدَّ أن يكون وجوديًّا. ولما كان أصلُ الحاجة هو الفقر الوجودي، واختناقات الروح في سجنها المادي، فهي تضعف وتشتدُّ عند البشر، تبعًا لمختلف العوامل الفاعلة والمؤثرة في حياتهم إثباتًا ونفيًا، مضافًا إلى أنها تتنوع بتنوع طبائع البشر وثقافاتهم وإثنياتهم، وفي ضوء ذلك يُمكِننا فهمُ تنوُّع وتعدُّد الأديان، ويُمكِننا أن نهتدي لمعرفة وظيفة الدين في حياة الفرد والجماعة، وكيف يكون الدينُ ترياقًا تسكن فيه الروحُ ويطمئن فيه القلبُ ويستفيق فيه العقلُ، عندما تتكرَّس وظيفتُه بتحقيقِ الكمال، وتحريرِ الكائن البشري من الاغتراب الوجودي، وكيف يكون الدينُ سمًّا مميتًا عندما ينسَى وظيفتَه، وينشغل بالصراعات العبثية على المال والثروة والسلطة.

حاجةُ الإنسانِ للدين نابعةٌ من كونه إنسانًا، أحيانًا الحاجة للدين تتخفَّى بالتنكُّر لها، حتى الإلحاد يستبطن موقفًا متنكرًا للحاجة للدين، وإلا فلو لم يشعر الملحدُ بذلك لأهمل الإيمانَ والإلحاد، ولم يتخذ موقفًا إنكاريًّا. يقول شارل بودلير: «لو فُقِد الدين من هذا العالم، لَوُجِد في قلب مُلحد». الحاجةُ للدين وجوديةٌ بوصفها حاجةً لوجود الإنسان، وأعني بذلك الفقرَ الذاتي للكينونة الوجودية للإنسان، بالمعنى الفلسفي للكينونة الوجودية، وليس بالمعنى الفيزيائي، أو السيكولوجي، أو السوسيولوجي، أو الأنثربولوجي. إن الكينونةَ الوجودية للإنسان هشةٌ ضعيفةٌ خاويةٌ بطبيعتها، لذلك تظلُّ هذه الهويةُ تعيش قلقًا ووحشةً واغترابًا عن سجنها المادي في هذا العالَم، تفزع من الاغتراب المقيمِ فيها، والمتغلغلِ في كلِّ أبعادها، فتطلب بإلحاحٍ حمايةً وأمنًا يخلِّصها من القلق والهشاشة الوجودية، وقيود المادة المَحْبُوسة في أغلالها. أما من أين تنبع هذه الهشاشة، فهي رديفةٌ لتكوينِ هذا الكائن وطبيعةِ وجوده البشري، ومواجهتِه المريرة للموت، بوصفه قدَرًا حتميًّا يقضي على الوجودِ الدنيوي لهذه الطبيعة. يظلُّ يغذِّي هذه الهشاشةَ ويُفاقِمها حضورُ الموت ومداهمتُه المباغتة للكائن البشري. ولا يُسعِف الكينونةَ الوجودية لهذا الكائن ويُفيضُ عليها الأمنَ والطمأنينةَ والسكينةَ إلا الاتصالُ بالوجود المطلَق، الغني عن الكلِّ، المكتفي بذاته عن كلِّ شيء سواه، القادرُ على إفاضة الوجود على كلِّ موجود فقير وإثرائه، بنحوٍ يتسامى بالاتصال به الكائنُ البشري، فتبلغ ذاتُه مرتبةَ غنًى يخفضُ كثيرًا من قلقه ووحشته واغترابه وحَبْسه في أغلال المادة، وفي حالاتٍ معيَّنة يسمو بروحه ويُنزلُه ذروة المقامات الوجودية السامية.

الوجود المطلَق المستغني بذاته عن كلِّ شيء سواه هو الله أو الإله أو الرب أو الروح الكلِّي أو روح العالَم، وغير ذلك، بمختلف تسمياته المتنوِّعة بتنوُّع الأديان واللغات والثقافات والإثنيات. هو الله في الأديان الإبراهيمية، بتنوُّع تصوراته في اليهودية والمسيحية والإسلام، تبعًا للاختلاف في رسم صورة الله لدى فِرَقِها اللاهوتية والكلامية.

تختلف التسمياتُ وتتعارض تصوُّراتُ الآلهة في الأديان، بنحوٍ نرى فيها أحيانًا صورًا متضادَّة للآلهة، لا يجمعها إلا القولُ بوجودٍ مطلقٍ غني بذاته، يستلهم منه وجودُ الكائن البشري المحدود الهشِّ الفقير كثافةَ وجوده وغناه. كلُّها تعبِّر عن تلك الحاجةِ العميقة التي تشي بالقصورِ الذاتي لوجود الكائن البشري، ما يجعله ضحيةَ اغترابٍ ميتافيزيقي مُنهِك، وظمأ أنطولوجي لا يرتوي إلا بالاتصال بوجودٍ كامل. الاتصالُ الذي أعنيه هنا هو ضربٌ من الاتصال الوجودي. لا أنفي أن تمثُّلاتِ الدين في الواقع تخضع للخوف والجهل والفقر والصراع الطبقي، وبسببها يمكن أن يُستغلَّ الدينُ ويتحقَّق بأشكالٍ بائسة، ويُمكِن أن تُوظِّف كلَّ ذلك وتستثمره بأوضاعٍ مأساوية مختلفُ المعتقَدات والأيديولوجيات والهُويات في النزاعات والحروب وكلِّ أشكال الشرِّ. كلما اشتدَّ جهلُ الإنسان اشتدَّت هذه الحاجةُ وتفاقمَت في كيفيتها؛ لذلك لا يكتفي الكائنُ البشري أحيانًا ‏بالارتباط بالإله المجرَّد من المادة وآثارها، بل يشعُر بحاجته إلى مزيدٍ من الآلهة المحسوسة القريبة منه في الأرض. لا يُشبِع حاجةَ الإنسان أحيانًا للإله ‏وجودُ الآلهة أو الإله المجرَّد في السماء، ‏يحتاج الإنسانُ ليُشبِع حاجتَه إلى إلَهٍ مجسَّد في الأرض أو شيءٍ أرضي مقدَّس يرمز للإله المجرَّد. الغلوُّ في كلِّ الأديان والتجسيدُ المادي للإله وتقديسُ الكائنات الأرضية كلُّها تعبِّر عن هذه الحاجة، لا ينجو كثيرٌ من أتباع الأديان المعروفة عن الحاجة الماسة لحضور مقدَّس حسِّي في الأرض.

إذا غابت العقلانيةُ النقديةُ تملَّك المقدَّسُ مشاعرَ الناس، واستحوذَ على عواطفِهم، واستعبدَ عقولَهم. عندئذٍ يتفشَّى الجهلُ في المجتمع، وتنهارُ التربية والتعليم، وتجفُّ روافدُ العلم والمعرفة، ويتضخَّمُ المقدَّسُ ويتغوَّل، ويتمدَّدُ أُفقيًّا وعموديًّا، وتترسَّخُ سطوتُه بشدة على الحياة، فيستنزف المقدَّسُ طاقاتِ الفرد والمجتمع. يزحف المقدَّسُ على ما هو دنيوي فتتقدَّسُ أشياءُ وأيامٌ وأماكنُ وكائناتٌ غيرُ مقدَّسة بمرور الزمان، ويطمسُ المقدَّسُ الزائف ما هو أخلاقي في الدين، وتنضبُ منابعُ إلهام الروح فيه. وتتفشَّى ظاهرةُ تقديسِ أشخاصٍ لا يمتلكون الحدَّ الأدنى من طهارةِ الروح وسلامةِ القلب وصحوةِ الضميرِ الأخلاقي.١

الدينُ قدَرُ الإنسان، مهما تنكَّر له الإنسان وتمادى في تمرُّده عليه فإنه يفرضُ حضورَه بأشكالٍ مضمَرة وظاهرة، بوصفه مكوِّنًا أنطولوجيًّا للكينونة الوجودية للإنسان، وبنيةً لاشعوريَّةً غاطسةً في شخصية الفرد والمجتمع. الإنسانُ في عطشٍ لصوتِ الله في الضمير، وإشراقاتِ أنواره في القلب، وتجلياتِ جماله في الوجود. الإنسانُ في عطشٍ للحياة الروحية وللمعنى الأخلاقي والجمالي، لأنه يعيش في عالَم يشحُّ ‏فيه هذا المعنى.

الدينُ حياةٌ في أُفق المعنى الذي يوقظ الروحَ والقلبَ والعقل. الدينُ نظامٌ لإنتاج معنى روحي وأخلاقي وجمالي لوجود الإنسان، تفرضه حاجةُ الكائن البشري الأبديةُ للمعنى في حياته الفردية والمجتمعية. الدينُ الذي يمنحُ حياةَ الإنسان معناها الوجودي هو الدينُ الذي يتجلَّى في حياة الفرد والمجتمع بتديُّنٍ عقلاني روحاني أخلاقي، تُعلِن الغَيرةُ على الله حضورَها فيه من خلال الغَيرةِ على الإنسان.

لمَّا كان الدينُ حياةً في أُفق المعنى، فكلُّ مسعًى لتجديد رسالة الدين لا ينشُدُ ‏اكتشاف ‏المعنى ‏الروحي والأخلاقي والجمالي الذي يُلهِمُه الدينُ للإنسان يُخطئ الطريق، وكلُّ ما يتعارض مع إنتاج ذلك المعنى ليس من الدين في شيء؛ أي إن كلَّ ما ورد في النصوص الدينية مما يتعارض مع ذلك المعنى ينبغي تأويلُه وقراءتُه في سياقاته التاريخية الظرفية؛ لأن تأبيدَ ما هو ظرفي لكلِّ زمان ومكان ينقُض الغرضَ الأساسي للدين.

التديُّنُ العقلاني الروحاني الأخلاقي قليلُ الحضور في الحياة، إلا أنه التديُّنُ الوحيد الذي يُحدِث أثرًا بالغًا بإثراءِ الحياةِ بالقيَمِ وبتكريسِ حالة الاعتدال والتوازن في بناء الشخصية وترشيدِ سلوكها، وخفضِ الآثار المريرة للقلق الوجودي والألم والملَل والضجَر في حياة الإنسان. وإن كان لا يمكِن للإنسان أن يتخلَّص نهائيَّا من الألمِ الذي يعبثُ بحياته، على الرغم من كلِّ الجهود العظيمة للأديانِ والثقافاتِ والفنون وقيَمِها السامية في خلقِ طريقة عيشٍ أمثل للإنسان.

الدينُ ليس بديلًا عن الطب والعلاج النفسي. الدينُ ليس بديلًا عن العلم واكتشافاته واختراعاته، الدينُ ليس بديلًا عن العقل وتفكيره الخلَّاق، الدينُ ليس بديلًا عن الفلسفة وأسئلتها العميقة وأجوبتها التي تتوالد منها على الدوام أسئلةٌ جديدة، الدينُ ليس بديلًا عن الإبداع الأدبي والفني. كلُّ هذه الأشياء خارج حدود الدين، وإن كان الدينُ يتأثَّر ويؤثِّر فيها، كلٌّ منها بحسبها وعلى وَفْق كيفيةِ فهم الدين وطريقةِ قراءة وتفسير نصوصه. كلُّ ما يحتاجُه الإنسانُ سواء أكان فردًا أو جماعةً، ويُمكِن أن يلبي حاجتَه إليه العلمُ والعقلُ والتفكير والإبداعُ الأدبي والفني وتراكُم الخبرات، فهو خارج الحدود الخاصة للدين. أما ما يمنحُ حياةَ الإنسان معناها الوجودي، ولا يستطيعُ الإنسانُ تلبية حاجته إليه بالعقل والتفكير والإبداع الأدبي والفني والخبرات البشرية فيكون منبعه الدين.

لا يعرف الحاجةَ للدين إلا من يعرف شيئًا من تعقيد الطبيعة الإنسانية وتضادِّها الداخلي العميق. أقرأ وأسمعُ كلماتٍ ومواقفَ إنكارية لكلِّ شيء ينتمي للدين، ممن يتكلمون ويكتبون في كلِّ شيء بلا تخصُّص في علوم الدين والفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع. هذه المواقفُ والكلماتُ لا تصدُر عن تفكيرٍ متأمِّل عميق، بل يتكشَّفُ فيها في الغالب تفكيرٌ تبسيطي متعجِّل، وتعكس تجاربَ شخصيةً قاسية عاشها هؤلاء في مجتمعاتٍ دينية مغلَقة في بعض محطات حياتهم. أتحدَّث عن أولئك الذين يكتبون ويتكلمون عن كلِّ شيء من دون معرفةٍ دقيقة بشيء، أولئك الذين يُنكِرون الدينَ بوصفه ظاهرةً أبدية في الحياة، بلا تفكيرٍ هادئ صبور، وبلا أيِّ دليل.

١  الرفاعي، عبد الجبار، مقدمة في علم الكلام الجديد، ص٧٨-٧٩، ٢٠٢١م، دار التنوير، بيروت، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤