(١) الطبيعةُ الإنسانيةُ ملتقَى الأضدادِ
من أهمِّ الاكتشافات التي يكتشفها الإنسان في حياته هو اكتشافه لعجزه عن فهم نفسه فهمًا دقيقًا تامًّا كاملًا شاملًا، وعجزه عن اكتشافِ الطبيعة الإنسانية وفهمِها فهمًا علميًّا تفصيليًّا. وإن كان بعضُ الناس لحظةَ تتحدث معه يخبرك أنه يعرفك بدقة وبالتفصيل، ويعرف كلَّ شيء في داخلك، وهو لا يدري أنك لا تعرف نفسَك إلى هذه الدرجة التي يزعمها هو.
ما أقسَى أن تكون نفسُ الإنسان غامضةً حتى لنفسه! ما لا يعرفه الإنسانُ عن نفسه أكثر مما يعرفه عنها. يعجزُ الإنسانُ عن معرفة كثيرٍ مما يحجُبه عالمُه الباطني بشكلٍ واضح ودقيق؛ لذلك يبوحُ له كلُّ منعطفٍ حادٍّ في حياته بشيءٍ يُثير دهشتَه مما تُخفيه نفسُه عنه، ويظل في رحلةِ اكتشافٍ لنفسه ما دام حيًّا، يلتقط في هذه الرحلة كلَّ مرة شيئًا مما يغوصُ في أعماقه. يرى محيي الدين بن عربي: «أن الإنسان بنفسه هو الطلسم الأعظم والقربان الأكرم، الجامع لخصائص العالَم»، بصيرةُ محيي الدين تتكشف فيها بعض الأسرار المختزنة في طبيعة الإنسان. وقبله نبَّه أبو حيان التوحيدي إلى ذلك بقوله: «إنَّ الإنسانَ أشْكل عليهِ الإنسانُ.»
يكونُ الإنسانُ أعجزَ لو حاول معرفةَ غيره، إذ تتعذر عليه معرفةُ كلِّ شيء في أعماق الشخصية الإنسانية وما يكتنفها من غموض وخفاء. أكثرُ الناس يحاول أن يعلن عن شخصيته بكيفيةٍ تُخفِي أكثرَ مما تُعلِن، وتُضمِر أكثرَ مما تُظهِر، وتتجلى هذه الحالةُ بشكلٍ أوضح في المجتمع الذي يتعرَّض فيه الإنسانُ منذ ولادته لتربيةٍ غير سليمة، ويتعلم على وَفْق نظامٍ تعليمي غير مؤسَّس على أسسٍ علمية صحيحة، وتسود محيطَه الاجتماعي قيمٌ محلية متشدِّدة ومعاييرُ مزدوجة، وتتحكم في حياة الناس ومصائرهم تقاليدُ عشائرية مغلقة، وسلطةٌ سياسية قمعية، في مثل هذا المجتمع يضطر الإنسانُ إلى أن يختفي خلفَ أقنعة ينتقيها بعناية لنفسه، لئلا يُفتضحَ ما في داخله، وتتعرض مصالحُه للضياع، وربما حياتُه للخطر.
الطبيعةُ الإنسانيةُ مركبةٌ عميقةٌ
الإنسانُ كائنٌ مركَّبٌ غامضٌ، ما يجري من قوانين في الطبيعة لا تنطبق كلُّها عليه. تظل الطبيعةُ الإنسانية عصيةً على فهم كلِّ طبقاتها بشكلٍ واضح، حتى على الخبراء المتخصصين.
لا يُمكِن أن ينتهي علمُ النفس إلى مواقفَ نهائيةٍ حاسمة في الكشف عن كلِّ أسرار الطبيعة الإنسانية، وذلك ما يؤشِّر إليه الاختلافُ الواسع الذي يصل حدَّ التناقض في بعض الحالات في مدارسِ علم النفس المتعدِّدة، ومواقفِها المتنوِّعة في تفسيرِ سلوك الإنسان واكتشافِ الدوافع الخفية لمواقفه في مختلف أحواله.
لم يجد علمُ النفس إجاباتٍ نهائية للأمراض والاضطرابات النفسية، إلا أنه كأيِّ علمٍ ما يزال يُواصِل تنقيباتِه، ليكتشف المزيدَ مما هو مختبئ في النفس، ويعمل باستمرارٍ على نقد نظرياته وتمحيص آراء العلماء والمختصِّين ويُغربِلها ويُعلِن أخطاءَها ويرمِّم ثغراتِها، ويُواصِل بجدِّية أبحاثَه ونتائجَه الجديدة.
ويحاول اليوم علمُ الأعصاب أن يفتحَ نافذةً علمية لدراسة وظائف الدماغ والشبكات العصبية، والكشفِ عن دَورِها في عمليات الإدراك والتفكير وتكوين المعرفة، وعلى فاعليات النفس وانفعالاتها المختلفة، وآثارها في التربية والتعليم والذاكرة والنسيان، والحالات المتنوِّعة للوعي في حياة الإنسان. عِلمُ الأعصاب ما زال في بداية الطريق، وعلى الرغم من أنه يَعِد بالكثير غير أنه لم يُنجِز إلا القليلَ حتى الآن.
مشكلات الإنسان تعود للفشل في اكتشاف حقيقة الإنسان. إنَّ اكتشاف الكائن البشري في غاية الصعوبة؛ ففي كلِّ شخصٍ بسيطٍ عمقٌ لا نراه، وفي كلِّ شخصٍ عميقٍ صوت طفلٍ لا نسمعه. تختبئ في أعماق الأشخاص الذين نعيش ونتعامل معهم كلَّ يومٍ أشياء من أشخاصٍ لم نكتشفهم. كلُّ شخصٍ نكتشفته، ما زالت لديه أبعادٌ غاطسةٌ لم نصل إليها، وربما لن نصل إليها ما دمنا أحياء. يمكِنُنا أن نتصيَّد أحيانًا ما يكشف عن المضمر لديهم، ممَّا يؤشِّر إليه ما يصدر عنهم، من: الهفوات، وفلتات اللسان، والنسيان، والرغبات المتضادَّة، والآراء المتهافتة، والمواقف المتناقضة. الكائن البشري تجتمع في ذاته التناقضات. ليس هناك شخصيةٌ ساكنةٌ قارَّةٌ كالصخرة، إلا إن كانت من نوع الحجر لا البشر. كلما اشتدت حيويَّة الذات ومواهبها اشتدَّت تناقضاتُها. تبدو هكذا، أي إنَّها تناقضاتٌ تبعًا لمعايير الأعراف والتقاليد والأديان والأيديولوجيات، لكن هل الإنسانُ إلا تلاقي الأضداد؟ أليس ضعفنا جزءًا من طبيعة الحياة؟ أليس التضادُّ هو ما تتحقَّق به صيرورةُ الحياة ويتواصل تدفقُها؟
الروحُ والعقلُ
الطبيعةُ الإنسانية ملتقَى الأضداد، معادلةُ الروح والعقل معادلةٌ حرجة، الحدودُ ضبابيةٌ دقيقة، احتياجاتُ الروح غير احتياجات العقل، العقلُ اليقظ متسائلٌ مشكِّك مشاكس، الروحُ تطلبُ السكينةَ، تساؤلاتُ العقل الحائرة تعبثُ بسكينة الروح. التوازنُ بينهما صعب جدًّا، وربما يتعذر على بعض الناس. بعضُ الناس يدعون لبناء الروح ونسيان العقل، وآخرون يدعون إلى بناء العقل ونسيان الروح، كلٌّ منهما يختزلُ الإنسان في بعد واحد، الأُحاديةُ الصارمةُ أنهكت الإنسان. لا يمكن تعطيل متطلبات الروح حتى يكتمل بناء العقل، أو تعطيل متطلبات العقل حتى يكتمل بناء الروح. حين ينسى الإنسانُ الروحَ يستبدُّ العقل، وينتهي ذلك إلى انطفاء جذوة المعنى الروحي للحياة. تعطيلُ العقل ينتهي إلى شيوع وطغيان اللامعقول والخرافة. كثيرٌ من دعاة العقل يرفضون الروح، كثيرٌ من دعاة الروح يرفضون العقل، ذلك هو المأزق. لا يمكن تعطيل الروح ريثما يستفيق العقل، لا يمكن تعطيل العقل ريثما تستفيق الروح. الإنسان لا يعيش ويبني حضارة بالروح وحدها، ولا يتحقق معنى لحياته بالعقل وحده. المعادلة حرجة، التوازن بينهما هو ما يجعل عيش الإنسان أسهل، وحياته أجمل.
نرى التضادَّ بين الروح والعقل بوضوح في آراء الإنسان ومواقفه وقراراته وسلوكه، فعندما يتحدث العقلُ تصمت الروحُ، وعندما تتحدَّث الروحُ يصمت العقلُ؛ إذ لا تستفيق الروحُ إلا عندما يصمت العقل، ولا يستفيقُ العقلُ إلا عندما تصمت الروحُ. ما دام الإنسانُ مقيمًا في العقل فلن تمتلئ الروح، وما دام الإنسانُ مقيمًا في الروح فلن يمتلئ العقل. عندما يتوهَّج العقلُ تنطفئ الروح، وربما تصير رمادًا، وعندما تتوهَّج الروحُ ينطفئ العقل، وربما يخمد ويغرق في سُباتٍ أبدي. عندما يغيب العقلُ يغرق المرءُ في كهوف ظلام الوَهْم والخُرافة والضَّياع.
لا يُمكِن أن يستغني الإنسانُ بالروح ويُهدِر العقلَ فيضيع في متاهات الحياة المظلمة، ولا يمكن أن يستغني الإنسانُ بالعقل ويهدر الروحَ فيضيع في متاهات القلق وكوابيس اللامعنى، آثارُ العرفاء المُلهِمة تحدثنا عن حاجات الروح وأشواقها وإشراقاتها. لو حاول الإنسانُ أن يعيش حياةً تتحدث فيها الروحُ للعقل ويتحدث فيها العقلُ للروح يصعب عليه ذلك، وربما يتعذر أحيانًا على الإنسان الجمعُ بينهما.
تُخفِقُ محاولاتُ الجمع بينهما في: وعاءٍ واحد، وآنٍ واحد، وموقفٍ واحد، لامتناعِ السير في طريقين متوازيين في آن واحد. عقلُ الفيلسوف يدله على طريق، وحججُ اللاهوتي تدله على طريق، لا يلتقي بالضرورة مع طريقِ الفيلسوف، وللعارف طريقٌ آخر، استبصاراتُه فيه تمكِّنه من تذوُّق بعض الحقائقِ عبْر شهوده لها. وذلك ما يحكيه الاختلافُ والتنوُّعُ في آراءِ ومواقفِ الفلاسفة واللاهوتيين والعرفاء في كلِّ الأديان.
يشعُر الإنسانُ بمشقة الحياة، وكلَّما تقدم عمرُه اشتدَّ شعورُه بمرارات الحياة ومواجعها، وتضخمت كوابيسُ الموت لديه. ينشغلُ بتأمينِ عيشه، وتأمينِ أمنه الشخصي، تأمين العيش يتطلب بناءَ علاقات مع الناس والتعاملَ مع مختلف أصنافهم، وأحيانًا يضطر للتعامل حتى مع الذين لا يُطاق التعاملُ معهم. وتأمينُ الأمنِ الشخصي والسلامُ الباطني يتطلبان الكفَّ عن التعامل مع الناس، لأن مراراتِ الحياة ومواجعَها تأتي غالبًا من هذا التعامل. يتمنى الإنسانُ الموتَ أحيانًا للخلاص من هذه المفارقات، وإن كان الموتُ يقلقه وكوابيسُه تزداد كلَّما تقدم عمرُه، فيفزَع لأنه يجهلُ مصيرَه بعد الموت، وكلُّ مجهولٍ مخيف. هذه نماذجُ للمفارقات التي تفرضها الحياةُ على الإنسان رغمًا عنه.
الجهلُ بالطبيعة الإنسانية وأخطاءُ التربية
الإنسانُ البسيطُ لا يستطيعُ أن يكتشفَ الإبهامَ والغموضَ في شخصية الكائن البشري، ويعجزُ عن التوغلِ في اكتشاف شيءٍ من الطبقات بعيدةِ الغورِ في داخله. يرى مثلُ هذا الإنسان الواقعَ رؤيةً مسطَّحة، ويفهمُ الحياةَ فهمًا ساذجًا، يحسبُ الحياةَ شديدةَ الوضوح وكلَّ ما فيها مكشوفًا، وهو لا يدري أن الحياةَ تجربةٌ عمليةٌ لا تتكشَّف للإنسان إلا بالعيشِ فيها والصبر على اختباراتها القاسية، وخوضِ مساراتها الوعرة، والوقوفِ على محطاتها المختلفة، والتغلُّبِ على منعطفاتها الشاقة، والنجاةِ من مباغتاتها المريعة. الحياةُ توجد بالتجارب والاختبارات والممارسات والأفعال والمواقف، وليس بالتساؤلات الساذجة والإجابات المبسَّطة والتوصيات الجاهزة، ولا بالتمنيات المعلَّبة، والرغبات والأحلام، والكلمات الرخوة. لا يُمکِن اختزالُ الإنسان وتعقیدات عيشه في الحياة بإجابات ونتائج سريعة واضحة. الإنسانُ خليطٌ من عناصر وصفات وخصائص وحالات متناقضة.
التعرفُ علميًّا على الطبيعة الإنسانية بمنطقٍ واقعي هو البدايةُ الصحيحة لكلِّ ما يرمي إليه الإنسانُ من: التربيةِ، واكتشافِ كيفيةِ بناء علاقات إنسانية سلمية في إطار التنوع والاختلاف، وكيفيةِ العمل من أجل صناعة عالَم أجمل، وكيفيةِ فهم الدين وتفسيرِ نصوصه بالشكل الذي يصير فيه الدينُ مُلهِما للعيش في أفق المعنى. مَنْ يجهل الطبيعةَ الإنسانيةَ يجهل الطريقةَ المريحة للعيش في الأرض، ويجهل كيف يمكنه التغلبُ على متاعبِ وآلامِ حياته.
الفهمُ الواقعي للطبيعة الإنسانية يكشفُ للإنسان عن شيء من أسرار ذاته المجهولة لديه، مضافًا إلى أنه يصوِّب أحكامَه على الغير، ويجعل مواقفَه من مفارقات مواقفهم منصفة، ورأيه في ثغرات سلوكهم أكثر موضوعية. ولا يُمكِن تحقُّق هذا الفهم إلا بالتمسُّكِ بالعقلانية النقدية، واعتمادِ مناهج التفكير العلمي ومعطياته الفائقة الأهمية، لأن العقلانيةَ تتميز بنقدِها لطرائق تفكيرها، وتمحيصِها المتواصل لما تعتمده من المناهج، وما تنتهي إليه من النتائج، وغربلتِها كلَّ مرة، واختبارِها المتكرر لصلاحية أدواتها. تفضح العقلانيةُ النقدية أخطاءَ التفكير العلمي، وتكشف عن هناته وثغراته على الدوام، وذلك ما يدعو كلَّ عاقل للوثوقِ بإمكاناتها، واعتمادِ فهمها في تفسيرِ طبيعة الكائن البشري، وفهمِ حقائق الحياة.
أقرأ كتاباتٍ، تدعو للعيش في «الآن» فقط، وتشدد على أنَّ مَنْ يريد أنْ يعيش سعيدًا ما عليه إلا أن يتخذ قرارًا بذلك. ويتكرر فيها القول: مَنْ يريد أن يعيش سعيدًا ما عليه إلا مغادرة الماضي والشطب عليه تمامًا، وغلق التفكير بالأمس، والخلاص من كوابيسه بشكل نهائي، وحذفِه من الشعور واللاشعور. مَنْ يريد أن يعيش سعيدًا عليه الكفُّ عن النظر للمستقبل، وصرف النظر عن أي شيء مُقْلِق يتصل به بشكل كلي، وغلقِ التفكير بالغد، والتحرر من الانهمام بالمصير. هذه الكتاباتُ بليدةٌ تجهل أبسط الحقائق العلمية عن طبيعة الإنسان، حين تنظر إليه وكأنه كائنٌ ميكانيكي مادي، ليس عليه إلا أن يلتزم بلائحة توصيات جاهزة ويطبِّقُها بحذافيرها إنْ أراد أن يمتلك السعادة.
ثغراتُ وأخطاءُ التربية وعقدُها وجروحُها وآثارُها المؤلمة يعود كثيرٌ منها إلى الجهل بطبيعة الإنسان. الإنسانُ ليس بوسعه أن يفعلَ إلا ما بوسعه أن يفعلَه، الإنسانُ لا يستجيب إلا إلى ما يمكنه الاستجابة له. طبيعةُ الإنسان لا تخضع لقرارات يفرضها على نفسه بهذه الكيفية الساذجة. القراراتُ والمواقفُ التي تفوق قدرةَ الإنسان لا يطيقها، ولا يمكنه أن ينفذها إلا أن تُفرَض عليه بالإكراه والعنف والتعذيب. الإنسانُ لا يطيق إلا ما تستجيب له بنيتُه النفسية، وطاقتُه العصبية، ونمطُ تربيته، ومستوى وعيه للحياة، وقدراتُه المتنوعة، وأهمها قدرته على التحكم بإرادته، وقدرته على تحمل ما يتنكر له استعدادُه الشخصي.
الطبيعةُ الإنسانيةُ مركبةٌ، طبقاتُها متعددةٌ، لا يمكن اكتشافُ ما يختبئ في أعماقها بتفكيرٍ تبسيطي يقف عند السطح. أكثرُ كتابات ما يسمى ﺑ: «التنمية البشرية»، أو «تطوير الذات»، أو «علم الطاقة»، مفاهيمُ غير علمية، وعباراتٌ متعجِّلة مبسَّطة، وشعاراتٌ سطحية مكرَّرة، تتلاعب بمشاعر الناس. أضحى ركامُ هذه الكتابات مبتذلًا، يأكلُ وقتَ القُراءِ غيرِ الخبراء، وتستنزفُ توصياتُها الواهنة تفكيرَهم، ولغتُها الرَّثَّة بيانَهم. تفشَّت هذه الكتاباتُ التي تجهل الطبيعةَ الإنسانيةَ كالوباء بين القراء في السنوات الأخيرة، وأوهمَت عددًا منهم بأنها تعالج كلَّ متاعبهم النفسية. أكثرُ هذه الكتابات هزيلٌ، لا يقع في فتنتها إلا الناسُ الذين لا يفكِّرون بتأملٍ ورويةٍ وتدقيق، ولا يُمكِن أبدًا أن تُغويَ العقولَ الحكيمة اليقظة.
هذه الكتابات والتوصيات تجهل التناقضات الذاتية في الإنسان، وتتعاطى معه كأنه كائنٌ ميكانيكي. يشبه هذه الكتاباتِ في الجهل بحقيقة الطبيعة الإنسانية أكثرُ التوصياتِ الجاهزة والعبارات المتداوَلة بين الناس. لا يكترث علمُ النفس الحديث كثيرًا بهذه التوصيات الغائمة لكتابات تشدِّد على نصائح وإرشادات، من قبيل: «لا تحزن»، «لا تكتئب»، «لا تقلق»، «لا تتشائم»، «لا تتألم»، «لا تنزعج»، «لا تغتمَّ»، «لا تتأرق في نومك»، «كُنْ حازمًا وجادًّا»، «تأقلَم مع الظروف بدلًا من تضييع الوقت بالتفكيرِ الزائد»، «استمتع باللحظة الحالية»، وأمثالِها من توصياتٍ ومواعظ غيرِ علمية. أحيانًا يكرِّرون مثل هذه التوصيات لأشخاصٍ يعانون من اضطراباتٍ نفسية، وحالاتِ إصابةٍ بأمراض، مثل: «الاضطرابات الوجدانية»، أو «اضطرابات الشخصية»، أو «اضطرابات القلق»، أو «الاكتئاب بأنواعه»، أو «الوسواس القهري»، أو «الشيزوفرينيا»، أو «الفصام»، أو «الهستيريا»، أو «البارانويا»، أو «الهلع»، وغير ذلك من أمراضٍ نفسية مختلفة، وتحتاج عياداتٍ يُديرها أطباءُ نفسانيون متمرِّسون ومعالجون حاذقون.
اختلطت كتاباتُ «التنمية البشرية»، أو «تطوير الذات»، أو «علم الطاقة» بشيء من خبرات الارتياض التأملي المعروف في الديانات والثقافات الهندية والآسيوية، وفُسِّرَت هذه الخبرات بطرائقَ متنوِّعة، ومُورِسَت بأساليبَ مغايرة، ومبتذَلة أحيانًا. لم أقرأ إلا قليلًا من هذه الكتابات التي توظِّف علمَ النفس الإيجابي، وإن كان بشكلٍ مبسَّط، وأقلَّ منها تلك التي توظِّفه بكفاءة علمية.
علم النفس الإيجابي
إن أيةَ محاولة لدراسة الطبيعة الإنسانية ينبغي أن تستوعبَ مختلفَ أبعادها، ولا تتعامل معها وكأنها ذاتُ بُعدٍ واحد. الطبيعةُ الإنسانية متعدِّدةُ الطبقات، متنوِّعةُ الأبعاد، يتطلَّب فهمُها تفكيرًا مُركَّبًا دقيقًا يتَّسع لأبعادها المختلفة، ويغُور في أعماقها كي يكتشفَ شيئًا من أسرارها. بموازاة مكامنِ القوة هناك مكامنُ ضعفٍ شديدة لدى كلِّ إنسان، نراها فيما يستبدُّ بالإنسان من خوفٍ وقلقٍ وألمٍ ويأسٍ ولاجدوى، وعجزٍ عن تقدير الذات، وغيابٍ لمعنى الحياة، تُنتِجها وترسِّخها عواملُ متنوِّعةٌ متفشِّية في الحياة. يتمكَّن الإنسانُ من خفض ضراوتها بالإيمان والمحبة وتنمية الإرادة والتربية، وغير ذلك من عواملَ تعمل على إيقاظِ وتعزيزِ قدراتِ مكامنِ القوة لديه، إلا أنه لا يتمكَّن من إطفائها وإخمادها على الدوام، في كلِّ أحواله وفي مختلف منعطَفات حياته، وتقلُّبات ومباغتات أيامه.
ما دام الناسُ في مجتمعنا يستهجنون مراجعةَ الطبيب والمعالج النفساني، يتكاثرُ كلَّ يوم دعاةُ ما يُسمَّى ﺑ «علم الطاقة»، ويتفشَّى حضورُ المُشعوِذين والأفَّاكين والمحتالين والمُخادِعين والنَّصَّابين، كمعالجين للأمراض النفسية، والوهَن الروحي، والقلَق الوجودي الذي يكابده الناس. أخطرُ هؤلاء وأشدُّهم سطوةً على مشاعر الناس، وأبرَعُهم في إغوائهم وخداعهم، مَنْ يزعمون أن لهم صلةً مباشرة بالغيب، وأن علاجَهم الذي يقدِّمونه يعتمد على المقدَّس، ويستعين بأسبابٍ ميتافيزيقية في شفاء هذه الأمراض.
كثيرون يتحدَّثون ويكتبون جهلًا، لكنَّ المشكلةَ في جاهلٍ يفرضُ نفسَه مُعلِّمًا للناس، بصدقٍ وحُسنِ نية. حُسنُ النيةِ والصدقُ وحدَهما لا يبرِّران ترويجَ الجهل، وأن يكونَ الجاهلُ مُعلِّمًا للعالِم. مشكلةُ بعض مَن يكتبون عن الإنسان والدين جهلُهم بالفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع الحديثة، وعدمُ معرفتهم بعلم الأديان.
التكاملُ وصراع الشرِّ والخير
تهدف القيمُ والأخلاق والأديان والثقافات إلى معالجة الشرِّ الأخلاقي الذي يُسبِّبه الإنسان، وتجفيف منابعه في الحياة، وإن لم تتمكَّن من ذلك، فعلى الأقل تخفضُ وتيرةَ الصراع بين الشرِّ والخير، إلى الحدِّ الذي يستطيعُ معه الإنسانُ من الإبداعِ والبناءِ والعملِ الخلاق، وتأمينِ متطلباتٍ جيدة لحياته في الأمن والعيش الكريم.
ما نعيشه من تذبذُبٍ في مواقفنا واضطرابٍ في سلوكنا الشخصي يصل حدَّ التضادِّ أحيانًا، وما نراه في مواقفِ وسلوكِ مَن نتعامل معهم، ينشأ من العجز أو ضعف القدرة على التحكُّم بالتضادِّ في الطبيعة الإنسانية، وإدارةِ التضادِّ بالشكل الذي يجعل مواقفَ الإنسان وسلوكَه يصدُران عن الأخلاق والقيم الفاضلة، وينضبطان بالقوانين العادلة، ويتحكَّم فيهما كلُّ ما يحمي علاقات الإنسان بغَيرِه من الكراهية والعنف بكلِّ أشكاله، ويرسِّخ الاعترافَ والاحترامَ المتبادل، بالشكل الذي يتمكَّن معه الإنسانُ من العيش بأمنٍ وسلام.
يُمكِن أن يكونَ الحُبُّ علاجًا للشرِّ الأخلاقي في الحياة، الحُبُّ لا يقضي على الشرِّ؛ لأن الشَّر الأخلاقي مما لا يُمكِن القضاءُ عليه ما دامت الطبيعةُ الإنسانية ملتقَى الأضداد، إلا أن الحُبَّ يكفُل تخفيفَ آثارِ الشرِّ الموجعة إلى أدنى حدٍّ، بنحوٍ يتمكَّن معه الإنسانُ من العيش بسلام.
الحُبُّ يغيِّر ما دام متوهِّجًا. في الحُبِّ يتجلَّى أجملُ ما في الإنسان، وتتفجَّرُ منابعُ الخير المودَعةُ في أعماقه. في العملية التربوية والتعليمية الحُبُّ يغيِّر، يوقظُ العقلَ، ويبعث المواهبَ، ويطوِّر المهاراتِ، ويفجِّر الطاقاتِ الكامنة الخلَّاقة. في العلاقاتِ الإنسانية الحُبُّ يغيِّر، الحُبُّ يتكفَّل حمايةَ الإنسان من الشرِّ الأخلاقي. عندما تتحدثُ لغةُ الحُبِّ تصمُتُ لغةُ الشر.