(١) الطبيعةُ الإنسانيةُ ملتقَى الأضدادِ

من أهمِّ الاكتشافات التي يكتشفها الإنسان في حياته هو اكتشافه لعجزه عن فهم نفسه فهمًا دقيقًا تامًّا كاملًا ‏شاملًا، وعجزه عن اكتشافِ الطبيعة الإنسانية وفهمِها فهمًا علميًّا تفصيليًّا. وإن كان بعضُ الناس لحظةَ تتحدث معه يخبرك أنه يعرفك بدقة وبالتفصيل، ويعرف كلَّ شيء في داخلك، وهو لا يدري أنك لا تعرف نفسَك إلى هذه الدرجة التي يزعمها هو.

ما أقسَى أن تكون نفسُ الإنسان غامضةً حتى لنفسه! ما لا يعرفه الإنسانُ عن نفسه أكثر مما يعرفه عنها. يعجزُ الإنسانُ عن معرفة كثيرٍ مما يحجُبه عالمُه الباطني بشكلٍ واضح ودقيق؛ لذلك يبوحُ له كلُّ منعطفٍ حادٍّ في حياته بشيءٍ يُثير دهشتَه مما تُخفيه نفسُه عنه، ويظل في رحلةِ اكتشافٍ لنفسه ما دام حيًّا، يلتقط في هذه الرحلة كلَّ مرة شيئًا مما يغوصُ في أعماقه. يرى محيي الدين بن عربي: «أن الإنسان بنفسه هو الطلسم الأعظم والقربان الأكرم، الجامع لخصائص العالَم»، بصيرةُ محيي الدين تتكشف فيها بعض الأسرار المختزنة في طبيعة الإنسان. وقبله نبَّه أبو حيان التوحيدي إلى ذلك بقوله: «إنَّ الإنسانَ أشْكل عليهِ الإنسانُ.»

يكونُ الإنسانُ أعجزَ لو حاول معرفةَ غيره، إذ تتعذر عليه معرفةُ كلِّ شيء في أعماق الشخصية الإنسانية وما يكتنفها من غموض وخفاء. أكثرُ الناس يحاول أن يعلن عن شخصيته بكيفيةٍ تُخفِي أكثرَ مما تُعلِن، وتُضمِر أكثرَ مما تُظهِر، وتتجلى هذه الحالةُ بشكلٍ أوضح في المجتمع الذي يتعرَّض فيه الإنسانُ منذ ولادته لتربيةٍ غير سليمة، ويتعلم على وَفْق نظامٍ تعليمي غير مؤسَّس على أسسٍ علمية صحيحة، وتسود محيطَه الاجتماعي قيمٌ محلية متشدِّدة ومعاييرُ مزدوجة، وتتحكم في حياة الناس ومصائرهم تقاليدُ عشائرية مغلقة، وسلطةٌ سياسية قمعية، في مثل هذا المجتمع يضطر الإنسانُ إلى أن يختفي خلفَ أقنعة ينتقيها بعناية لنفسه، لئلا يُفتضحَ ما في داخله، وتتعرض مصالحُه للضياع، وربما حياتُه للخطر.

الطبيعةُ الإنسانيةُ مركبةٌ عميقةٌ

الإنسانُ كائنٌ مركَّبٌ غامضٌ، ما يجري من قوانين في الطبيعة لا تنطبق كلُّها عليه. تظل الطبيعةُ الإنسانية عصيةً على فهم كلِّ طبقاتها بشكلٍ واضح، حتى على الخبراء المتخصصين.

لا يُمكِن أن ينتهي علمُ النفس إلى مواقفَ نهائيةٍ حاسمة في الكشف عن كلِّ أسرار الطبيعة الإنسانية، وذلك ما يؤشِّر إليه الاختلافُ الواسع الذي يصل حدَّ التناقض في بعض الحالات في مدارسِ علم النفس المتعدِّدة، ومواقفِها المتنوِّعة في تفسيرِ سلوك الإنسان واكتشافِ الدوافع الخفية لمواقفه في مختلف أحواله.

الطبيعةُ الإنسانيةُ عميقةٌ مركبةٌ متضادَّة،١ تختزن الأسرارَ حتى لدى أولئك الناس الذين نحسبهم سذَّجًا؛ إذ: «ليس من شخص، وإن كان زريًّا قميئًا، إلا وفيه سرٌّ كامنٌ لا يشركه فيه أحدٌ»، كما يقول أبو حيان التوحيدي. ما هو غاطسٌ في الإنسان أعظمُ وأشدُّ وأخطر مما هو ظاهر. الإنسانُ كائنٌ يحتل اللاشعورُ دورًا أساسيًّا في تشكيل فهمه ومواقفه وسلوكه، لا تستقلُّ مشاعرُ الإنسان عن عقله، ولا يستقلُّ عقلُه عن مشاعره. يرى علمُ النفس التحليلي أن: «كلَّ شخص هاوية، ستُصاب بالدُّوار لو أنك نظرتَ إلى أعماقه»، كما يقول مؤسِّسه فرويد.

لم يجد علمُ النفس إجاباتٍ نهائية للأمراض والاضطرابات النفسية، إلا أنه كأيِّ علمٍ ما يزال يُواصِل تنقيباتِه، ليكتشف المزيدَ مما هو مختبئ في النفس، ويعمل باستمرارٍ على نقد نظرياته وتمحيص آراء العلماء والمختصِّين ويُغربِلها ويُعلِن أخطاءَها ويرمِّم ثغراتِها، ويُواصِل بجدِّية أبحاثَه ونتائجَه الجديدة.

ويحاول اليوم علمُ الأعصاب أن يفتحَ نافذةً علمية لدراسة وظائف الدماغ والشبكات العصبية، والكشفِ عن دَورِها في عمليات الإدراك والتفكير وتكوين المعرفة، وعلى فاعليات النفس وانفعالاتها المختلفة، وآثارها في التربية والتعليم والذاكرة والنسيان، والحالات المتنوِّعة للوعي في حياة الإنسان. عِلمُ الأعصاب ما زال في بداية الطريق، وعلى الرغم من أنه يَعِد بالكثير غير أنه لم يُنجِز إلا القليلَ حتى الآن.

مشكلات الإنسان تعود للفشل في اكتشاف حقيقة الإنسان. إنَّ اكتشاف الكائن البشري في غاية الصعوبة؛ ففي كلِّ شخصٍ بسيطٍ عمقٌ لا نراه، وفي كلِّ شخصٍ عميقٍ صوت طفلٍ لا نسمعه. تختبئ في أعماق الأشخاص الذين نعيش ونتعامل معهم كلَّ يومٍ أشياء من أشخاصٍ لم نكتشفهم. كلُّ شخصٍ نكتشفته، ما زالت لديه أبعادٌ غاطسةٌ لم نصل إليها، وربما لن نصل إليها ما دمنا أحياء. يمكِنُنا أن نتصيَّد أحيانًا ما يكشف عن المضمر لديهم، ممَّا يؤشِّر إليه ما يصدر عنهم، من: الهفوات، وفلتات اللسان، والنسيان، والرغبات المتضادَّة، والآراء المتهافتة، والمواقف المتناقضة. الكائن البشري تجتمع في ذاته التناقضات. ليس هناك شخصيةٌ ساكنةٌ قارَّةٌ كالصخرة، إلا إن كانت من نوع الحجر لا البشر. كلما اشتدت حيويَّة الذات ومواهبها اشتدَّت تناقضاتُها. تبدو هكذا، أي إنَّها تناقضاتٌ تبعًا لمعايير الأعراف والتقاليد والأديان والأيديولوجيات، لكن هل الإنسانُ إلا تلاقي الأضداد؟ أليس ضعفنا جزءًا من طبيعة الحياة؟ أليس التضادُّ هو ما تتحقَّق به صيرورةُ الحياة ويتواصل تدفقُها؟

هذه التناقضات يؤشِّر إليها في الكائن البشري اجتماعُ: الضعف والقوَّة، الكراهيةِ والحُبِّ، القسوة والرحمة، وغير ذلك. لكنَّنا لا نتنبه إلى أنَّه لولا الفشل لم يكُن النجاح، ولولا الضعف لم تكُن القوَّة، ولولا الكراهية لم تكن المحبَّة، لولا القسوة لم تكن الرحمة. كلُّها يُمكِن أن نعثر عليها في منجم الذات البشرية.٢
أثرُ عواطف الإنسان ومشاعره وانفعالاته أساسيٌّ في قراراته ومواقفه. أحيانًا يتخذ الإنسانُ قراراتٍ هو لا يعرف نتائجَها، ‏ويتكلم كلماتٍ هو لا يدري لماذا تكلمها، ‏ثم سرعان ما يندم عليها، لكنه لحظةَ الندم يعجز عن تدارك آثارها وارتداداتها المؤذية عليه وعلى مصالحه وعلاقاته وحياته. يمكن أن يرتكب الإنسانُ جريمةَ قتلٍ في لحظة غضب عنيفة من دون عداوة سابقة أو أسباب معروفة، بعضُ الناس يفتقد عقلُه القدرةَ على التحكم بإرادته ومواقفه لحظات الانفعال الهائجة، فيتخذ قراراتٍ حمقاء، ومواقف شريرة٣ رعناء، تُصادِر عليه مصيرَه، وتُفسِد عيشَه، وتدمِّر حياتَه.
يصوِّر جلال الدين الرومي في المثنوي التنازُع في ذات الإنسان بين الشرِّ والخير، في حديثه عن موسى بوصفه يرمُز للإرادة الخيِّرة، وفرعون بوصفه يرمز للإرادة الشريرة، بقوله: «إن موسى وفرعون في وجودك، ينبغي أن تبحث عن هذين الخصمين في وجودك.»٤ «لا أحدَ منا كاملٌ، كلُّنا على بعد خطوة من أن نكونَ وحوشًا، وعلى بعد خطوة من أن نكونَ ملائكةً»، تقول جانيت والز:٥ اكتشفَ بعضَ خفايا الطبيعة الإنسانية علمُ النفس وعلومُ الإنسان والمجتمع ومختلفُ العلوم الحديثة، وما زالت تتواصلُ اكتشافاتُها، لأن الطبيعةَ الإنسانية تختزن الأسرارَ التي أودعها اللهُ في الإنسان. ذلك ما يقوله الفلاسفةُ والخبراء في النفس البشرية، ويتكشف شيءٌ منه في استبصاراتِ العرفاء الحاذقة. يشير محيي الدين بنُ عربي إلى طبيعةِ الإنسان وما ينطوي عليه، وكيفيةِ خلقه من الأضداد، بقوله: «واعلم أن الإنسان شجرةٌ من الشجرات، أنبتها اللهُ شجرةً لا نجمًا؛ لأنه قائمٌ على ساق، وجعله شجرةً من التشاجر الذي فيه؛ لكونه مخلوقًا من الأضداد، والأضدادُ تطلبُ التخاصمَ والتشاجرَ والمنازعةَ.»٦ ويقول محيي الدين في محلٍّ آخر: «لا شيء أوسَع من حقيقة الإنسان، ولا شيء أضيَق منها.»٧ وينقل ابن عربي جوابَ أبي سعيد الخرَّاز عندما «قيل له: بمَ عرفتَ الله؟ فقال: بجمعه بين الضدَّين؛ لأنه شاهد جمعهما في نفسه، وقد علم أنه على صورته، وسمعه، يقول: هو الأولُ والآخر، والظاهرُ والباطن، وبهذه الآية احتجَّ في ذلك، ثم نظرَ إلى العالَم فرآهُ إنسانًا كبيرًا في الجِرْم، ورآه قد جمعَ بين الضدَّين، فإنه رأى فيه: الحركةَ والسكون، والاجتماعَ والافتراق، ورأى فيه الأضدادَ، وهو أيضًا على صورة العالَم، كما هو على صورة الحق فانظر.»٨
ليس هناك تمايزٌ وانفصالٌ بين الأضداد في وجود الإنسان، وجودُه يختزن إمكاناتِ الإثبات والنفي معًا، إمكاناتِ الشر والخير معًا، يُمكِن أن يكون أحدَهما في أية لحظة، ويُمكِن أن ينقلب إلى ضده في لحظةٍ أخرى. يكتب كيركغورد عن التنازع بين القطبَين أو التناقضَين في ذات الإنسان، وكيف أن الإنسانَ في حالة صيرورة، و«ليس في حالة كمال، بل إنه في حالة تطورٍ دائم، وفي حركةٍ وجودية بين قطبَين أو تناقضَين»، وأن الإنسانَ «في حالة معاناة وعذاب، ليس لأن الأمر محتوم ومفروض، بل لأن الإنسانَ في وضع مفارقة؛ فعلى الرغم من أنه يختار الخير، فإنه في اللحظة التالية يُعيد بذر الشر في العالَم، ويُزيح الخير عن سلطته.»٩ و‏يكتب ألكسندر سولجنيتسين:١٠ «‏إنه بدلًا من وجود أناسٍ أخيار وأناسٍ أشرار، فإن العالم يتكوَّن من أشخاصٍ معقَّدين بشكلٍ مدهش، وأحيانًا متناقضين حتى مع أنفسهم، كلٌّ منهم قادرٌ على إتيان الخيرِ والشرِّ. لو كان فقط كلُّ شيء بهذه البساطة، لو كان هناك أناسٌ أشرار فقط في مكانٍ ما، يرتكبون بمكرٍ أفعالًا شرِّيرة، لكان من الضروري فصلُهم فقط عن بقيِّتنا ‏وتدميرهم. لكن الخطَّ الذي يفصل بين الخيرِ والشرِّ يخترق قلبَ كلِّ إنسان، ومن ذا الذي يرغب في تدمير قطعة من قلبه؟»١١ ما دامت وسائلُ الخيرِ والشرِّ كامنةً في باطن كلِّ إنسان وهي موجودةٌ بوجود كلِّ إنسان، فيُمكِن أن ينقلب مَنْ نراه خيِّرًا إلى شرِّير في أية لحظةٍ يمتلك ما يمكِّنه من العدوانية والتوحُّش. عندما يتمكَّن أحدٌ من السلطة في بلادنا غالبًا ما يستبدُّ ويطغى ويتحوَّل إلى كائنٍ مفترس، وكأنه ينقلب على ما يعرفه الناسُ من أخلاقه قبل السلطة. إنه لم ينقلب على أخلاقه؛ لأن تلك الأخلاق الاجتماعية استخدمها سفينةً لعبوره إلى كرسي السلطة، عندما كان ضعيفًا محتاجًا، وبمجرد عبوره انبعث الوحشُ المختبئ داخله فاستبدَّ وطغى، كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى.١٢
اللافت أن الأبحاث البيولوجية تشير إلى تفاعلِ وتداخُلِ عناصرَ متباينة في تكوين الإنسان لا تنتمي إلى جنسٍ واحد؛ فقد أخذَت نيلسون من جامعة واشنطن مع وليام تشان من جامعة ألبرتا في إيدمونتون الكندية: «شرائحَ من نسيج دماغ امرأة، وفحَصَا محتواها الوراثي بحثًا عن كروموسوم «واي» فكان قرابة ٦٣ في المائة من النسيج يضُم خلايا ذكرية، «لم نجد فقط مادةً وراثية ذكرية في خلايا دماغٍ بشري لامرأة في عملية رصد عامة، ولكننا اكتشفنا وجودها في مناطقَ متعدِّدة من الدماغ»، حسبما قال تشان.»١٣

الروحُ والعقلُ

الطبيعةُ الإنسانية ملتقَى الأضداد، معادلةُ الروح والعقل معادلةٌ حرجة، الحدودُ ضبابيةٌ دقيقة، احتياجاتُ الروح غير احتياجات العقل، العقلُ اليقظ متسائلٌ مشكِّك مشاكس، الروحُ تطلبُ السكينةَ، تساؤلاتُ العقل الحائرة تعبثُ بسكينة الروح. التوازنُ بينهما صعب جدًّا، وربما يتعذر على بعض الناس. بعضُ الناس يدعون لبناء الروح ونسيان العقل، وآخرون يدعون إلى بناء العقل ونسيان الروح، كلٌّ منهما يختزلُ الإنسان في بعد واحد، الأُحاديةُ الصارمةُ أنهكت ‏الإنسان. لا يمكن تعطيل متطلبات الروح حتى يكتمل بناء العقل، أو تعطيل متطلبات العقل حتى يكتمل بناء الروح. حين ينسى ‏الإنسانُ الروحَ يستبدُّ العقل، وينتهي ذلك إلى انطفاء جذوة المعنى الروحي للحياة. تعطيلُ العقل ينتهي إلى شيوع وطغيان اللامعقول والخرافة. كثيرٌ من ‏دعاة العقل يرفضون الروح، كثيرٌ من دعاة الروح يرفضون العقل، ذلك هو المأزق. لا يمكن تعطيل الروح ريثما يستفيق العقل، لا يمكن تعطيل العقل ريثما تستفيق الروح. ‏الإنسان لا يعيش ويبني حضارة بالروح وحدها، ‏ولا يتحقق معنى لحياته بالعقل وحده. المعادلة حرجة، ‏التوازن بينهما هو ما يجعل عيش الإنسان أسهل، وحياته أجمل.

التضادُّ بين الروح والعقل قدَرٌ فرضتْه على الإنسان طبيعتُه المخلوقة بهذه الكيفية، وهذا التضادُّ لا ينتهي، تتوالد من المواقف المتضادَّة باستمرار مواقفُ بديلة، وكأن الإنسانَ يظل محكومًا بهذه المعادلة التي شرحَها هيغل في ديالكتيكه، بقوله: الإنسانية الطبيعية هي «تناقُض لم يتمَّ حلُّه داخليًّا»،١٤ (فعبْر «وحدة الأضداد» و«نفي النفي» يضع هيغل قانونًا خاصًّا من قوانين الصيرورة التاريخية، كما تراها فلسفته. فالإرادة الإلهية، بالتغيير أو التدمير أحيانًا، هي القوة الكونية العاقلة الواعية التي تخلق سبب التغيير وفعله موضوعيًّا. وبهذا المعنى تحديدًا ينبغي تفسير موت وولادة الدول والأمم في فلسفته، كما في قوله: «من الموت تُولَد حياةٌ جديدة»).١٥

نرى التضادَّ بين الروح والعقل بوضوح في آراء الإنسان ومواقفه وقراراته وسلوكه، فعندما يتحدث العقلُ تصمت الروحُ، وعندما تتحدَّث الروحُ يصمت العقلُ؛ إذ لا تستفيق الروحُ إلا عندما يصمت العقل، ولا يستفيقُ العقلُ إلا عندما تصمت الروحُ. ما دام الإنسانُ مقيمًا في العقل فلن تمتلئ الروح، وما دام الإنسانُ مقيمًا في الروح فلن يمتلئ العقل. عندما يتوهَّج العقلُ تنطفئ الروح، وربما تصير رمادًا، وعندما تتوهَّج الروحُ ينطفئ العقل، وربما يخمد ويغرق في سُباتٍ أبدي. عندما يغيب العقلُ يغرق المرءُ في كهوف ظلام الوَهْم والخُرافة والضَّياع.

لا يُمكِن أن يستغني الإنسانُ بالروح ويُهدِر العقلَ فيضيع في متاهات الحياة المظلمة، ولا يمكن أن يستغني الإنسانُ بالعقل ويهدر الروحَ فيضيع في متاهات القلق وكوابيس اللامعنى، آثارُ العرفاء المُلهِمة تحدثنا عن حاجات الروح وأشواقها وإشراقاتها. لو حاول الإنسانُ أن يعيش حياةً تتحدث فيها الروحُ للعقل ويتحدث فيها العقلُ للروح يصعب عليه ذلك، وربما يتعذر أحيانًا على الإنسان الجمعُ بينهما.

تُخفِقُ محاولاتُ الجمع بينهما في: وعاءٍ واحد، وآنٍ واحد، وموقفٍ واحد، لامتناعِ السير في طريقين متوازيين في آن واحد. عقلُ الفيلسوف يدله على طريق، وحججُ اللاهوتي تدله على طريق، لا يلتقي بالضرورة مع طريقِ الفيلسوف، وللعارف طريقٌ آخر، استبصاراتُه فيه تمكِّنه من تذوُّق بعض الحقائقِ عبْر شهوده لها. وذلك ما يحكيه الاختلافُ والتنوُّعُ في آراءِ ومواقفِ الفلاسفة واللاهوتيين والعرفاء في كلِّ الأديان.

ذلك هو أحدُ أقدار الإنسان الوجودية، وما فرضَتْه عليه طبيعتُه. لحظةَ اجتياز هذا الامتحان العسير بنجاحٍ يصل الإنسانُ في سفره إلى طورٍ يستطيع فيه أن يعيش من دون أن يضحِّي بالعقل قربانًا للروح، أو يضحِّي بالروح قربانًا للعقل. وهو من أعسَر اختبارات المرء في الحياة وأشقِّها وأشقاها، إنه الاختبارُ الوجودي المزمن الذي يُولَد بولادتنا، إنه اختبارٌ يعيش معنا ونعيش معه ليلًا ونهارًا، إنه اختبارٌ يفشل فيه كثيرٌ من البشر، اختبارٌ لا ينجو منه أحد، ولن يظفر باجتيازه بنجاح إلا الأفذاذ. يقول إريك فروم: «أؤمن بأن طبيعةَ الإنسان هي تناقضٌ متأصلٌ في ظروف الوجود الإنساني، ويتطلب هذا التناقضُ البحثَ عن حلول تخلق بدورها متناقضاتٍ جديدة، وبالتالي تحتاج إلى الاستمرار في البحث عن حلول».١٦

يشعُر الإنسانُ بمشقة الحياة، وكلَّما تقدم عمرُه ‏اشتدَّ شعورُه بمرارات الحياة ومواجعها، وتضخمت كوابيسُ الموت لديه. ينشغلُ بتأمينِ عيشه، وتأمينِ أمنه الشخصي، ‏تأمين العيش يتطلب بناءَ علاقات مع الناس والتعاملَ مع مختلف أصنافهم، وأحيانًا يضطر للتعامل حتى مع الذين لا يُطاق التعاملُ معهم. وتأمينُ الأمنِ الشخصي والسلامُ الباطني يتطلبان الكفَّ عن التعامل مع الناس، لأن مراراتِ ‏الحياة ومواجعَها تأتي غالبًا من هذا التعامل. يتمنى الإنسانُ الموتَ أحيانًا للخلاص من هذه المفارقات، وإن كان الموتُ يقلقه وكوابيسُه تزداد كلَّما تقدم عمرُه، فيفزَع لأنه يجهلُ مصيرَه بعد الموت، وكلُّ مجهولٍ مخيف. ‏هذه نماذجُ للمفارقات التي تفرضها الحياةُ على الإنسان رغمًا عنه.

الجهلُ بالطبيعة الإنسانية وأخطاءُ التربية

الإنسانُ البسيطُ لا يستطيعُ أن يكتشفَ الإبهامَ والغموضَ في شخصية الكائن البشري، ويعجزُ عن التوغلِ في اكتشاف شيءٍ من الطبقات بعيدةِ الغورِ في داخله. يرى مثلُ هذا الإنسان الواقعَ رؤيةً مسطَّحة، ويفهمُ الحياةَ فهمًا ساذجًا، يحسبُ الحياةَ شديدةَ الوضوح وكلَّ ما فيها مكشوفًا، وهو لا يدري أن الحياةَ تجربةٌ عمليةٌ لا تتكشَّف للإنسان إلا بالعيشِ فيها والصبر على اختباراتها القاسية، وخوضِ مساراتها الوعرة، والوقوفِ على محطاتها المختلفة، والتغلُّبِ على منعطفاتها الشاقة، والنجاةِ من مباغتاتها المريعة. الحياةُ توجد بالتجارب والاختبارات والممارسات والأفعال والمواقف، وليس بالتساؤلات الساذجة والإجابات المبسَّطة والتوصيات الجاهزة، ولا بالتمنيات المعلَّبة، والرغبات والأحلام، والكلمات الرخوة. لا يُمکِن اختزالُ الإنسان وتعقیدات عيشه في الحياة بإجابات ونتائج سريعة واضحة. الإنسانُ خليطٌ من عناصر وصفات وخصائص وحالات متناقضة.

التعرفُ علميًّا على الطبيعة الإنسانية بمنطقٍ واقعي هو البدايةُ الصحيحة لكلِّ ما يرمي إليه الإنسانُ من: التربيةِ، واكتشافِ كيفيةِ بناء علاقات إنسانية سلمية في إطار التنوع والاختلاف، وكيفيةِ العمل من أجل صناعة عالَم أجمل، وكيفيةِ فهم الدين وتفسيرِ نصوصه بالشكل الذي يصير فيه الدينُ مُلهِما للعيش في أفق المعنى. مَنْ يجهل الطبيعةَ الإنسانيةَ يجهل الطريقةَ المريحة للعيش في الأرض، ويجهل كيف يمكنه التغلبُ على متاعبِ وآلامِ حياته.

الفهمُ الواقعي للطبيعة الإنسانية يكشفُ للإنسان عن شيء من أسرار ذاته المجهولة لديه، مضافًا إلى أنه يصوِّب أحكامَه على الغير، ويجعل مواقفَه من مفارقات مواقفهم منصفة، ورأيه في ثغرات سلوكهم أكثر موضوعية. ولا يُمكِن تحقُّق هذا الفهم إلا بالتمسُّكِ بالعقلانية النقدية، واعتمادِ مناهج التفكير العلمي ومعطياته الفائقة الأهمية، لأن العقلانيةَ تتميز بنقدِها لطرائق تفكيرها، وتمحيصِها المتواصل لما تعتمده من المناهج، وما تنتهي إليه من النتائج، وغربلتِها كلَّ مرة، واختبارِها المتكرر لصلاحية أدواتها. تفضح العقلانيةُ النقدية أخطاءَ التفكير العلمي، وتكشف عن هناته وثغراته على الدوام، وذلك ما يدعو كلَّ عاقل للوثوقِ بإمكاناتها، واعتمادِ فهمها في تفسيرِ طبيعة الكائن البشري، وفهمِ حقائق الحياة.

الإنسانُ بطبيعته يعيشُ: القلقَ والطمأنينةَ، الاضطربَ والسكينةَ، الخوفَ والأمانَ، التعبَ والراحةَ، الضجرَ والتسليةَ، السأمَ والابتهاجَ، الاكتئابَ والانشراحَ، البكاءَ والضحكَ، الانقباضَ والانبساطَ، الحزنَ والفرحَ. افتراضُ إنسان يفرحُ ولا يحزنُ، يبتهجُ ولا يسأمُ، يضحكُ ولا يبكي، افتراضٌ غير واقعي لا يشبه الإنسانَ في الأرض. كما أن افتراضَ إنسان يعيش في كل حالاته «اللحظة الآنية»، وينفصل بشكلٍ تام عن ماضيه ومستقبله، افتراضٌ غيرُ واقعي أيضًا. الماضي مكوِّن وجودي لحاضر الإنسان، مضافًا إلى أنه مكوِّنٌ سيكولوجي، اللاشعورُ مكوِّنٌ عميقٌ لشخصية كلِّ إنسان لن يختفي ما دام حيًّا. يتعذَّر على الإنسانِ أن يغيِّب المستقبلَ نهائيًّا من شعوره، أحيانًا يفرضُ التفكيرُ بالمستقبل حضورَه بقوة كأفقٍ مظلم أو مضيء في لحظة الإنسان الآنية. حياةُ الإنسان خليطٌ من حزن وفرح، وضعفٍ وقوة، وإقدامٍ وتراجع، وغيرها من الأضداد. يقول أورتيغا:١٧ «الحياة هي أسى، وحماس، وبهجة، ومرارة، وأشياء أخرى».

أقرأ كتاباتٍ، تدعو للعيش في «الآن» فقط، وتشدد على أنَّ مَنْ يريد أنْ يعيش سعيدًا ما عليه إلا أن يتخذ قرارًا بذلك. ويتكرر فيها القول: مَنْ يريد أن يعيش سعيدًا ما عليه إلا مغادرة الماضي والشطب عليه تمامًا، وغلق التفكير بالأمس، والخلاص من كوابيسه بشكل نهائي، وحذفِه من الشعور واللاشعور. مَنْ يريد أن يعيش سعيدًا عليه الكفُّ عن النظر للمستقبل، وصرف النظر عن أي شيء مُقْلِق يتصل به بشكل كلي، وغلقِ التفكير بالغد، والتحرر من الانهمام بالمصير. هذه الكتاباتُ بليدةٌ تجهل أبسط الحقائق العلمية عن طبيعة الإنسان، حين تنظر إليه وكأنه كائنٌ ميكانيكي مادي، ليس عليه إلا أن يلتزم بلائحة توصيات جاهزة ويطبِّقُها بحذافيرها إنْ أراد أن يمتلك السعادة.

ثغراتُ وأخطاءُ التربية وعقدُها وجروحُها وآثارُها المؤلمة يعود كثيرٌ منها إلى الجهل بطبيعة الإنسان. الإنسانُ ليس بوسعه أن يفعلَ إلا ما بوسعه أن يفعلَه، الإنسانُ لا يستجيب إلا إلى ما يمكنه الاستجابة له. طبيعةُ الإنسان لا تخضع لقرارات يفرضها على نفسه بهذه الكيفية الساذجة. القراراتُ والمواقفُ التي تفوق قدرةَ الإنسان لا يطيقها، ولا يمكنه أن ينفذها إلا أن تُفرَض عليه بالإكراه والعنف والتعذيب. الإنسانُ لا يطيق إلا ما تستجيب له بنيتُه النفسية، وطاقتُه العصبية، ونمطُ تربيته، ومستوى وعيه للحياة، وقدراتُه المتنوعة، وأهمها قدرته على التحكم بإرادته، وقدرته على تحمل ما يتنكر له استعدادُه الشخصي.

الطبيعةُ الإنسانيةُ مركبةٌ، طبقاتُها متعددةٌ، لا يمكن اكتشافُ ما يختبئ في أعماقها بتفكيرٍ تبسيطي يقف عند السطح. أكثرُ كتابات ما يسمى ﺑ: «التنمية البشرية»، أو «تطوير الذات»، أو «علم الطاقة»، مفاهيمُ غير علمية، وعباراتٌ متعجِّلة مبسَّطة، وشعاراتٌ سطحية مكرَّرة، تتلاعب بمشاعر الناس. أضحى ركامُ هذه الكتابات مبتذلًا، يأكلُ وقتَ القُراءِ غيرِ الخبراء، وتستنزفُ توصياتُها الواهنة تفكيرَهم، ولغتُها الرَّثَّة بيانَهم. تفشَّت هذه الكتاباتُ التي تجهل الطبيعةَ الإنسانيةَ كالوباء بين القراء في السنوات الأخيرة، وأوهمَت عددًا منهم بأنها تعالج كلَّ متاعبهم النفسية. أكثرُ هذه الكتابات هزيلٌ، لا يقع في فتنتها إلا الناسُ الذين لا يفكِّرون بتأملٍ ورويةٍ وتدقيق، ولا يُمكِن أبدًا أن تُغويَ العقولَ الحكيمة اليقظة.

هذه الكتابات والتوصيات تجهل التناقضات الذاتية في الإنسان، وتتعاطى معه كأنه كائنٌ ميكانيكي. يشبه هذه الكتاباتِ في الجهل بحقيقة الطبيعة الإنسانية أكثرُ التوصياتِ الجاهزة والعبارات المتداوَلة بين الناس. لا يكترث علمُ النفس الحديث كثيرًا بهذه التوصيات الغائمة لكتابات تشدِّد على نصائح وإرشادات، من قبيل: «لا تحزن»، «لا تكتئب»، «لا تقلق»، «لا تتشائم»، «لا تتألم»، «لا تنزعج»، «لا تغتمَّ»، «لا تتأرق في نومك»، «كُنْ حازمًا وجادًّا»، «تأقلَم مع الظروف بدلًا من تضييع الوقت بالتفكيرِ الزائد»، «استمتع باللحظة الحالية»، وأمثالِها من توصياتٍ ومواعظ غيرِ علمية. أحيانًا يكرِّرون مثل هذه التوصيات لأشخاصٍ يعانون من اضطراباتٍ نفسية، وحالاتِ إصابةٍ بأمراض، مثل: «الاضطرابات الوجدانية»، أو «اضطرابات الشخصية»، أو «اضطرابات القلق»، أو «الاكتئاب بأنواعه»، أو «الوسواس القهري»، أو «الشيزوفرينيا»، أو «الفصام»، أو «الهستيريا»، أو «البارانويا»، أو «الهلع»، وغير ذلك من أمراضٍ نفسية مختلفة، وتحتاج عياداتٍ يُديرها أطباءُ نفسانيون متمرِّسون ومعالجون حاذقون.

اختلطت كتاباتُ «التنمية البشرية»، أو «تطوير الذات»، أو «علم الطاقة» بشيء من خبرات الارتياض التأملي المعروف في الديانات والثقافات الهندية والآسيوية، وفُسِّرَت هذه الخبرات بطرائقَ متنوِّعة، ومُورِسَت بأساليبَ مغايرة، ومبتذَلة أحيانًا. لم أقرأ إلا قليلًا من هذه الكتابات التي توظِّف علمَ النفس الإيجابي، وإن كان بشكلٍ مبسَّط، وأقلَّ منها تلك التي توظِّفه بكفاءة علمية.

علم النفس الإيجابي

لا أنفي أهميةَ الكتاباتِ العلمية، ولا أنفي أهميةَ «علم النفس الإيجابي» الذي اقترحه عالمُ النفس مارتن سليجمان،١٨ منطلِقًا من التفكير الإيجابي. آراءُ سليجمان تشدِّد على إيقاظِ مكامن القوة في الشخصية، والانهمامِ بما يبعَث ويغذِّي كلَّ طاقةٍ بنَّاءةٍ محتجبة، مثل: تقدير الذات والتفاؤل والأمل، والعطاء والقناعة والإيثار، والتسامح والصفح، وما يتناغم معها من صفات. علمُ النفس الإيجابي علمٌ جميل، غير أن تعاليمَه ليسَت وصفاتٍ سحريةً جاهزةً تنطبقُ على كلِّ إنسان، ولا يصحُّ أن نترقَّبَ من كلِّ شخصية أن تستسجيبَ لها. كثيرٌ ممَّنْ يعانون من اضطراباتٍ عاطفية، ومَنْ تعرَّضوا لاضطهادٍ وصدماتٍ وجروحٍ نفسية، يصعُب وربما يتعذَّر عليهم أن يكونوا إيجابيين. وهكذا الحال لدى مَنْ يفتقرون للذكاء العاطفي؛ فليس بالضروة أن يتفاعلوا مع ما يقوله علمُ النفس الإيجابي. كما لا يصحُّ أن نترقبَ النتائجَ ذاتها لعلم النفس الإيجابي عند تطبيقه في مجتمعٍ آخر غير المجتمع الذي نشأ فيه، مجتمع يتميزُ بثقافته وديانته وسياقاتِ تاريخه الخاصة، وقيمهِ الاجتماعية المُميَّزة، واقتصاده ونمَط عيشه المُغَاير. يتفقُ مجموعةٌ من الخبراء على نقدِ علم النفس الإيجابي، بقولهم: «إن الفكرةَ الرئيسية التي تدور حولها هذه الانتقادات هي أن علمَ النفس الإيجابي يعجزُ عن أخذ الاعتبار الكامل للسياق الثقافي الخاص؛ فهو يميلُ إلى القول والتوصية بالقيم الأخلاقية ومبادئ الصحة النفسية التي تعكس النزعة الفردية الأُحادية الجانب للمجتمع الامريكي، بتشديده على الاستقلال الشخصي والإنجاز الفردي. وعندما يتضمَّن قيمًا وأخلاقًا من تصوُّراتٍ أخلاقيةٍ أو روحيةٍ أخرى، فإنه يميل إلى عرضها كأمورٍ مفيدة؛ إذ إنها تُوظَّف غالبًا كوسائل تخدم تلك الغايات الفردية، وهذا المنطقُ الذرائعي ذاته يعكس تحيُّزات، قد يعتبرها البعض مصلحية وفردية للغاية، ثقافتنا. علمُ النفس يُعمِّم بتعجُّلٍ وشيءٍ من السذاجة تفضيلاتِه ومُثُلَه الثقافية الخاصة على أنها صالحة أو قابلة للتطبيق على كافة المجتمعات البشرية.»١٩
ليست هناك وصفةٌ جاهزةٌ تنطبق على كلِّ الناس، كلُّ إنسانٍ نسخةٌ خاصة لا تتطابق مع غيرها بشكلٍ تام. تتفاوت آثارُ علم النفس الإيجابي تبعًا للأشخاصِ وتكوينِهم النفسي والتربوي والتعليمي، ونمطِ حياتهم، والمعطياتِ المتنوِّعة في بيئات عيشهم؛ فربما تنتهي المبالغةُ في تقدير الذات إلى الغرور والشعور بالتفوُّق على الغير بصَلَفٍ، وقد يُنتِج الإفراطُ في التفاؤل والأمل الخلودَ إلى أوهام تتوالد من الرغبات والتطلعات والأحلام غير الواقعية، ويرسِّخها غيابُ الحساباتِ العقلانية في تقدير جَدْوى المواقف والأفعال، وانعدمَ الحذر والتفكير برَوِية للتعرُّف على ما يتمكَّن الإنسانُ من إنجازه، وما يتعذَّر عليه إنجازُه، لئلا يتورَّط في مطاردة أوهام لا صلةَ لها بالواقع، فتكون الحاجةُ إلى «التشاؤم الدفاعي»٢٠ أشدَّ لدى مثل هؤلاء الأشخاص. «التشاؤم الدفاعي» يعكس الحذرَ والتفكيرَ العقلاني الواقعي في الموقفِ قبل اتخاذه والفعلِ قبل الإقدام على فعله، ويُمكِن أن يجعلَ الإنسانَ أشدَّ يقظةً في حياته، ويقلِّل عليه خساراته؛ ففي زمن الأوضاع الطارئة والكوارث الطبيعية والحروب والأوبئة يحتاج الإنسانُ الحَيطةَ في قراراته ومواقفه، والنظرَ بدقَّة للمآلات والمصائر التي ربما تقوده إليها القراراتُ والمواقفُ الخاطئة، قبل أن تقعَ الأزمة.

إن أيةَ محاولة لدراسة الطبيعة الإنسانية ينبغي أن تستوعبَ مختلفَ أبعادها، ولا تتعامل معها وكأنها ذاتُ بُعدٍ واحد. الطبيعةُ الإنسانية متعدِّدةُ الطبقات، متنوِّعةُ الأبعاد، يتطلَّب فهمُها تفكيرًا مُركَّبًا دقيقًا يتَّسع لأبعادها المختلفة، ويغُور في أعماقها كي يكتشفَ شيئًا من أسرارها. بموازاة مكامنِ القوة هناك مكامنُ ضعفٍ شديدة لدى كلِّ إنسان، نراها فيما يستبدُّ بالإنسان من خوفٍ وقلقٍ وألمٍ ويأسٍ ولاجدوى، وعجزٍ عن تقدير الذات، وغيابٍ لمعنى الحياة، تُنتِجها وترسِّخها عواملُ متنوِّعةٌ متفشِّية في الحياة. يتمكَّن الإنسانُ من خفض ضراوتها بالإيمان والمحبة وتنمية الإرادة والتربية، وغير ذلك من عواملَ تعمل على إيقاظِ وتعزيزِ قدراتِ مكامنِ القوة لديه، إلا أنه لا يتمكَّن من إطفائها وإخمادها على الدوام، في كلِّ أحواله وفي مختلف منعطَفات حياته، وتقلُّبات ومباغتات أيامه.

ما دام الناسُ في مجتمعنا يستهجنون مراجعةَ الطبيب والمعالج النفساني، يتكاثرُ كلَّ يوم دعاةُ ما يُسمَّى ﺑ «علم الطاقة»، ويتفشَّى حضورُ المُشعوِذين والأفَّاكين والمحتالين والمُخادِعين والنَّصَّابين، كمعالجين للأمراض النفسية، والوهَن الروحي، والقلَق الوجودي الذي يكابده الناس. أخطرُ هؤلاء وأشدُّهم سطوةً على مشاعر الناس، وأبرَعُهم في إغوائهم وخداعهم، مَنْ يزعمون أن لهم صلةً مباشرة بالغيب، وأن علاجَهم الذي يقدِّمونه يعتمد على المقدَّس، ويستعين بأسبابٍ ميتافيزيقية في شفاء هذه الأمراض.

الغريبُ أن الناسَ في مجتمعنا لا يستهجنون مراجعةَ هؤلاء المُشعوِذين وأمثالِهم، في حين يستهجنون مراجعةَ الأطباء النفسانيين والمعالجين المختصين، ويحذرون من ذلك إلى الحدِّ الذي يمنع أكثر المصابين بهذه الأمراض من زيارة العيادات النفسية، على الرغم من حاجتهم الماسَّة لذلك، لئلَّا يُفتضَحوا ويُنعَتوا بالجنون في المحيط الذي يعيشون فيه. تؤشِّر الاستطلاعاتُ الجادَّةُ للصحة النفسية إلى أن مجتمعَنا من أكثر المجتمعات المتوطِّنة فيها الأمراضُ النفسية، والمفارَقة أنه من أفقر المجتمعات بعدد الأطباء النفسانيين والمعالجين والعيادات المختصة.٢١

كثيرون يتحدَّثون ويكتبون جهلًا، لكنَّ المشكلةَ في جاهلٍ يفرضُ نفسَه مُعلِّمًا للناس، بصدقٍ وحُسنِ نية. حُسنُ النيةِ والصدقُ وحدَهما لا يبرِّران ترويجَ الجهل، وأن يكونَ الجاهلُ مُعلِّمًا للعالِم. مشكلةُ بعض مَن يكتبون عن الإنسان والدين جهلُهم بالفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع الحديثة، وعدمُ معرفتهم بعلم الأديان.

التكاملُ وصراع الشرِّ والخير

خلقَ اللهُ العالَم ليكون مسرحًا للصيرورة والتطوُّر والتكامُل، لا تتحقَّق تلك الصيرورةُ بلا وجودِ الشرِّ مقابل الخير، والنقصِ مقابل الكمال؛ فلولا الجهلُ لَمَا اكتسب الإنسانُ العلمَ، ولولا الحربُ لَم يصنع الإنسانُ السلامَ، ولولا المرضُ لَمَا ابتكر الإنسانُ ما يحفظ به صحتَه، وهكذا. يُنسَب إلى شيخ الإشراق السهروَردي المقتول نحو ٥٨٦ هجرية القول: «لولا التضادُّ ما صحَّ دوامُ الفَيضِ من المبدأ الجوادِ.»٢٢ العالَم مخلوقٌ ناقصٌ ينشُد الكمال، الخيرُ المحض غايةُ ونهايةُ الكمال، لو بلَغه الإنسانُ والعالَم لتعطَّل التطورُ وتوقفَت حركةُ التاريخ. حركةُ التاريخ صيرورةٌ موجعة تُبيد الأزهارَ اليانعةَ الجميلةَ العطرة، مثلما تُبيد الأشواكَ الموجعةَ الخشنة. التضادُّ في الطبيعة الإنسانية قدَرُ الإنسان الأبدي، وفي ضَوء فهمِنا لهذا التضادِّ يُمكِننا تفسيرُ الصراعِ بين الشرِّ والخيرِ في حياة الإنسان، وكيفية توالُد صراعٍ من هذا الصراع، ولن ينتهي ذلك ما دام هناك إنسانٌ في الأرض، وما دامت الطبيعةُ الإنسانيةُ ملتقَى الأضدادِ.

تهدف القيمُ والأخلاق والأديان والثقافات إلى معالجة الشرِّ الأخلاقي الذي يُسبِّبه الإنسان، وتجفيف منابعه في الحياة، وإن لم تتمكَّن من ذلك، فعلى الأقل تخفضُ وتيرةَ الصراع بين الشرِّ والخير، إلى الحدِّ الذي يستطيعُ معه الإنسانُ من الإبداعِ والبناءِ والعملِ الخلاق، وتأمينِ متطلباتٍ جيدة لحياته في الأمن والعيش الكريم.

ما نعيشه من تذبذُبٍ في مواقفنا واضطرابٍ في سلوكنا الشخصي يصل حدَّ التضادِّ أحيانًا، وما نراه في مواقفِ وسلوكِ مَن نتعامل معهم، ينشأ من العجز أو ضعف القدرة على التحكُّم بالتضادِّ في الطبيعة الإنسانية، وإدارةِ التضادِّ بالشكل الذي يجعل مواقفَ الإنسان وسلوكَه يصدُران عن الأخلاق والقيم الفاضلة، وينضبطان بالقوانين العادلة، ويتحكَّم فيهما كلُّ ما يحمي علاقات الإنسان بغَيرِه من الكراهية والعنف بكلِّ أشكاله، ويرسِّخ الاعترافَ والاحترامَ المتبادل، بالشكل الذي يتمكَّن معه الإنسانُ من العيش بأمنٍ وسلام.

يُمكِن أن يكونَ الحُبُّ علاجًا للشرِّ الأخلاقي في الحياة، الحُبُّ لا يقضي على الشرِّ؛ لأن الشَّر الأخلاقي مما لا يُمكِن القضاءُ عليه ما دامت الطبيعةُ الإنسانية ملتقَى الأضداد، إلا أن الحُبَّ يكفُل تخفيفَ آثارِ الشرِّ الموجعة إلى أدنى حدٍّ، بنحوٍ يتمكَّن معه الإنسانُ من العيش بسلام.

الحُبُّ يغيِّر ما دام متوهِّجًا. في الحُبِّ يتجلَّى أجملُ ما في الإنسان، وتتفجَّرُ منابعُ الخير المودَعةُ في أعماقه. في العملية التربوية والتعليمية الحُبُّ يغيِّر، يوقظُ العقلَ، ويبعث المواهبَ، ويطوِّر المهاراتِ، ويفجِّر الطاقاتِ الكامنة الخلَّاقة. في العلاقاتِ الإنسانية الحُبُّ يغيِّر، الحُبُّ يتكفَّل حمايةَ الإنسان من الشرِّ الأخلاقي. عندما تتحدثُ لغةُ الحُبِّ تصمُتُ لغةُ الشر.

١  التضاد والتناقُض ليس بالمعنى المعروف في المنطق والفلسفة، أعني بالتضاد والتناقض هنا ضربًا من المفارقة.
٢  الرفاعي، عبد الجبار، الدين والظمأ الأنطولوجي، ص٣٢-٣٣، ط٣، ٢٠١٨م، دار التنوير، بيروت، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد.
٣  هناك تصنيفاتٌ متنوعةٌ للشرِّ عند الفلاسفة واللاهوتيين الذين تعمَّقوا في دراسته. يصنفُ الفيلسوفُ الألماني لايبنتس الشرَّ إلى: ميتافيزيقي منشؤه عدم الكمال، وفيزيقي منشؤه الألم، وأخلاقي منشؤه الخطيئة. المقصودُ بالشرِّ الذي نتحدث عنه الشرُّ الأخلاقي، وهو كلُّ اعتداءٍ وظلمٍ يصدُر من الإنسان تجاه غيره، مثل اعتداءِ الإنسان وظلمِه للإنسان، واعتداءِ الإنسان على الكائنات الحية، واعتداءِ الإنسان على الطبيعة، واستنزافِها بالشكل الذي ينتهي إلى اختلالِ التوازن الحيوي، والاحتباسِ الحراري، وغير ذلك من آثار فتاكة على مصير الأرض ومَنْ عليها.
٤  الرومي، جلال الدين، المثنوي، ترجمة وشرح: إبراهيم دسوقي شتا، ج٣، ص١٢٥١، ٢٠١٧م، المركز القومي للترجمة، القاهرة.
٥  مؤلِّفة أمريكية وصحفية، مؤلِّفة كتاب «قلعة الزجاج» مذكِّرات طفولتها، صدر ٢٠٠٥م، تُرجم الكتاب إلى ٢٢ لغة، وتحوَّل إلى فيلم ٢٠١٧م، وبيعَت منه أكثر من مليونَي نسخة.
٦  ابن عربي، الفتوحات المكية، باب ٣٣٦، في المنازل، ج٣: ص١٣٧.
٧  المصدر السابق، ج٢، ص٥١٥.
٨  ابن عربي، محيي الدين، الفتوحات المكية، ج٢، ص٥١٢. نسخة على الإنترنت.
٩  كيركغورد، سورين، مفهوم الفزَع، ترجمه عن الدنماركية وقدَّمه: قحطان جاسم، ص١٩، ط١، ٢٠٢١م، دار الرافدين، بيروت.
١٠  أديب ومعارض روسي، حائز على جائزة نوبل في الأدب سنة ١٩٧٠م، اشتُهر بروايتيه: «أرخبيل غولاغ» و«يوم في حياة إيفان دينيسوفييتش».
١١  ‏جوندرمان، ريتشارد، «كينونة في حالة عدم اليقين: ‏مفهوم جون كيتس عن القدرة السلبية»، ‏ترجمة جمال جمعة، ‏جريدة الصباح، بغداد، ١٧ آذار ٢٠٢١م.
١٢  العلق، ٥–٦.
١٣  روبسون، ديفيد، هل هناك إنسان آخر يعيش بداخلك؟، موقع «بي بي سي»، بتاريخ ٢ أكتوبر/تشرين الأول ٢٠١٥م.
١٤  هيغل، المحاضرات، ٣: ٩٢.
١٥  هنداوي، حسين، الشر ومفاجئات الديالكتيك الهيغلي، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، ع٧٣–٧٤، ٢٠٢١م.
١٦  فروم، إريك، حب الحياة: نصوص مختارة، تقديم: راينر فونك، ترجمة: حميد لشهب، ص٥٧.
١٧  خوسيه أورتيغا إي غاسيت (١٨٨٣–١٩٥٥م) فيلسوف إسباني. راجع: خوسيه أورتيغا إي غاسيت، موسوعة ستانفورد للفلسفة، ترجمة: كوثر فاتح، مراجعة: محمد الرشودي، منشور في مجلة حكمة، نسخة إلكترونية.
١٨  مارتن إلياس بيت سيليغمان، رئيس جمعية علماء النفس الأمريكيين عام ١٩٩٨م، تولى سيليغمان منصب أستاذية عائلة زيلرباخ في علم النفس في قسم علم النفس في جامعة بنسلفانيا، وعمل مديرًا لمركز علم النفس الإيجابي فيها. صنَّف استقصاءُ استعراضٍ لعلمِ النفسِ العامِّ في سنة ٢٠٠٢م سيليغمان في المرتبة الحادية والثلاثين من بين أكثر علماء النفس استشهادًا في القرن العشرين. ألَّف عدَّة كتبٍ منها: «الإيجابية المكتسبة»، و«الإيجابية الأصيلة»، و«ازدهر». وأصدر سيليغمان عام ٢٠١٨م كتابه الأخير تحت عنوان: «جولة الأمل: رحلة عالمٍ نفسي من العجز إلى التفاؤل».
١٩  كريستوفر، جون، وفرانك ريتشارد، وبرنت سلايف، التفكير من خلال علم النفس الإيجابي، ترجمة: خولة العقيل، منشور في مجلة حكمة، نسخة إلكترونية على شبكة الإنترنت.
٢٠  التشاؤم الدفاعي هو الاستراتيجية المعرفية التي حدَّدَتها نانسي كانتور وطلابُها في منتصف الثمانينيات. يستخدم الأفرادُ التشاؤم الدفاعي كاستراتيجيةٍ للتحضير للأحداث أو العروض المثيرة للقلق. عند تطبيق التشاؤم الدفاعي يضع الأفراد توقُّعاتٍ منخفضة لأدائهم، بغَضِّ النظر عن مدى حُسنِ أدائهم في الماضي. نظرًا لأن المتشائمين الدفاعيين فكَّروا في هذه المشكلات يُمكِنهم الاستعداد بشكلٍ مناسب لمواجهة التحديات المقبلة. ويكيبيديا.
٢١  راجع بعض الإحصائيات في مجتمعاتنا عن الأمراض النفسية المذكورة في الفصل الثالث من هذا الكتاب.
٢٢  زاده آملي، حسن، النَّفس من كتاب الشِّفاء لابن سینا، ج٢، ص٣٥٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤