(٢) الحاجة للكراهية
عندما أنظرُ إلى أعماقِ النفس الإنسانية بمِجهرِ علماء النفس، لا أرى في الكائن البشري ما يُغويني بمحبَّته، وعندما أنظرُ إلى روح الإنسان بمِجهرِ العُرفاء أرى شيئًا من النور يُغويني بمحبَّته. لا أثق بالطبيعة الإنسانية كما هي، لا أثق بها إلا إذا تفاعلَت بماهيتها كيمياءُ المحبَّة والرحمة والشفَقة على الخَلْق، ومن دون ذلك يُمكِن أن يصدُر عنها مختلفُ أشكال الشرور الأخلاقية. الإنسانُ بطبيعته كائنٌ يثيره أيُّ نجاحٍ يحقِّقه غيرُه، وأكثرُ الناس يحزن في أعماقه من أيِّ منجَزٍ يُنجِزه غيرُه، وإن كان أحيانًا يُظهِر خلافَ ما يُبطِن. وربما يتفاقم حزنُه فيتحوَّل إلى مواقفَ مثيرة، تضجُّ بالحقد والبغضاء والضغينة، وتورِّطه في غدر ودسائس ومكائد لأقرب الناس المتفوِّقين من الأقرباء والأصدقاء، غير أنه يظل يحرص على إخفاء كلِّ ذلك والتستُّر عليه. كلَّما كان الإنسانُ أذكى كان أبرعَ في تمويهِ سلوكه، وتحويلِ أكثر كلماتِه ومواقفِه إلى أكثفِ أقنِعتِه إبهامًا وغموضًا، النفسُ الإنسانية مولَعةٌ بإخفاء ما يُنفِّر الناسَ منها بذكاء.
أحيانًا يعيش شخصان سنواتٍ طويلة معًا، من دون أن يعرفَ أحدُهما الغائص والمختبئ في أعماق شريكه، خاصة إن كان أحدُ الشريكين كتومًا بطبيعته.
أقنعةٌ تغطِّي وجوهَ أغلب الناس
في نهاية ستينيات القرن الماضي اشتركتُ في الامتحان الوزاري الشامل للسادس الابتدائي، الذي نسمِّيه في العراق «بكالوريا»، يُجْرَى هذا الامتحانُ لأبناء الريف في المدينة، كانت قلعةُ سكر أقربَ مدينةٍ لقريتنا، تبعد عنها ١٥ كم تقريبًا، أسكنونا في إحدى المدارسِ المعطَّلة، كان كلٌّ منا يحمل فِراشًا بسيطًا للنوم جلَبه من أهله، منحتنا مديريةُ التربية مبلغًا زهيدًا لطعامنا، مشهدُنا في المدينةِ يُثيرُ الاستهجانَ والشفقةَ، نسيرُ خائفين ملتصقين ببعضنا، لو تأخَّر أحدُنا عن أصحابه سرعان ما يلتحق بهم مذعورًا. أهلُ المدينة ينظرون إلينا بدهشة لا تخلو من ازدراءٍ يلتبس بإشفاق، كأننا مخلوقاتٌ غريبةٌ هبطَت من كوكبٍ آخر. أطفالُ المدينةِ وشبابُها كانوا أشدَّ وطأةً في تعامُلِهم معنا، لا يكتفون بنظراتِهم الحادَّة القاسية وسخريتِهم المبتذَلة منا، بل يستغلون أيَّة ثغرةٍ تحدُث في تكدُّسِ مجموعتنا ليرجُمونا بالحجارة، نفرُّ منهم ونحن نرتجف. دهشتُهم ربما تعود إلى منظرِنا غيرِ المألوف في كثيرٍ من الأشياء الغريبة عليهم، وجوهُنا كالحةٌ من سوءِ التغذية والحرمان، ثيابُنا منكمشةٌ، ألوانها متناشزةٌ، مشيتُنا ولغةُ أجسادنا مرتبكة.
كانت الفجوةُ بين نمطِ ثقافة وحياة المدينة والريف واسعةً جدًّا تلك الأيام، اللهجةُ مختلفةٌ، الزيُّ مختلفٌ، المطبخُ مختلفٌ، الاقتصادُ ونمطُ العيش مختلفٌ، بعضُ الأعراف ليست واحدة، العلاقاتُ مختلفةٌ، وكأن الفجوةَ لا حدودَ لها. تشكَّلَت شخصيةٌ مدينيةٌ تجاريةٌ للمدن العراقية تميَّز بوضوحٍ نسيجُها الحضري المختلف عن شخصيةِ الريفِ الزراعية والرعَوية، قبلَ تقويض مدينية المدينة وتبعثُرِ نسيجها الحضَري في حروبِ صدَّام وفاشيَّتِه وسفَهه، وجهلِ وعبثِ وفسادِ أكثرِ رجال السلطة من بعده.
كان امتحانُ البكالوريا ثقيلًا مملًّا، مخيفًا ككابوسٍ مرعب، أتطلع للخلاصِ منه كلَّ لحظة، في اليومِ الأخير للامتحانات عُدتُ مبتهجًا إلى مقرِّ إقامتي، وجدتُ كلَّ كتبي ودفاتري المدرسية ممزَّقةً، وكلَّ لوازمي المدرسية وأقلامي مهشَّمةً بحقدٍ عنيف، تحوَّل ابتهاجي فجأةً إلى اكتئابٍ أغرقَني في تراجيديا سوداء. لم يكُن هناك عداءٌ معلنٌ بيني وبين أيِّ تلميذٍ من زملائي، لم أتحسَّس أيةَ ضغينةٍ ضدِّي من أحد، كنا متفقين منسجمين متحابِّين في الظاهر، لكن ليس بالضرورة أن يكون ما يُخفيه كلٌّ منا من مشاعر متفقًا مع ما يُظهِره، اكتشفتُ لاحقًا أن ما يُخفيه كثيرٌ من الناس على الضدِّ مما يُعلِنُه.
لم أكن في ذلك العمر قادرًا على فهم ما يختبئ في باطنِ كلِّ إنسان، وإن كان صغيرًا، من غَيرةٍ ونفورٍ وغضبٍ وكراهيةٍ مضمَرةٍ لكلِّ منافسٍ له، كلُّ إنسانٍ يحاول التكتُّمَ لئلا يُفتضَح، وعادةً ما يُعلِن أكثرُ الناس المتنافسين احتفاءَهم بنجاحِ وتفوُّقِ زميلهم، وهم يُضمِرون غيضًا مُستعِرًا، ينفجر أحيانًا لدى بعض الأشخاص الانفعاليين بتحريضٍ وحتى عدوانٍ لا تُعرف دوافعُه ضدَّ الشخص الناجح، والأخطر عندما يتحول إلى مكائدَ خفية. لم أُدرِك أن هذه ضريبةٌ بسيطةٌ لنجاحي في المرتبة الأولى أو الثانية سنوات دراستي، وعليَّ أن أواصل دفعَ ضرائبَ شتى ﻟ «أعداءٍ متطوِّعين» في كلِّ مراحل دراستي ومحطاتِ حياتي الآتية؛ لأن ضريبةَ نجاحِ كلِّ إنسان وإنجازِه المميز باهظة.
التساؤلُ الذي كان يؤرِّقني في طفولتي: لماذا يكره الأطفالُ العصافيرَ والطيورَ الجميلة فيلاحقونها، ويقطعون رءوسَها بأيديهم بتوحُّش، وهم جذلون؟!
لماذا يكره الأطفالُ الكلابَ فيطاردونها بالحجارة، وربما يقتلونها؟!
لماذا يكره الأطفالُ كلَّ شيءٍ غريبٍ على محيطهم، فيرجُمون السيارةَ الخشبية (اللوري)، وهي تسير بالحجارةِ ويهربون، مع أنه نادرًا ما كنا نرى سيارةً تصل قريتَنا النائية؟!
لماذا يكره الأطفالُ الأطفالَ؟!
تضخَّم هذا التساؤلُ وتعمَّق في مراهقتي وشبابي، كنتُ أقول: لماذا يكره الإنسانُ الإنسانَ؟!
هل يحتاج الإنسانُ الكراهيةَ أكثرَ من حاجته للمحبَّة، أم يحتاج الكراهيةَ كحاجته للمحبَّة، أم أن الكراهيةَ مرضٌ غريبٌ على البشر وليست حاجة؟!
لماذا لا تُجدي نفعًا الكلماتُ الجميلةُ من رجالِ الدين والوعَّاظ وغيرِهم في هجاءِ الكراهية والثناءِ على المحبَّة؟!
إن كان المحيطُ الذي يعيش فيه الإنسانُ يضيق ذَرعًا بأي اعتراف، ويغطي وجوهَ أغلب الناس كثيرٌ من الأقنعة، فإن أكثرَ الناس يقومون بعملية تمثيلٍ على مسرح، كلٌّ منهم ينتخب الدَّورَ الذي يريد أن يختبئ خلفه كي يخدعَ به الكلَّ. في مثل هذا المحيط تستمع إلى مَنْ يتحدثون عن المحبَّة والمشاعر الصادقة، غير أنك لا ترى إلا القليل منها، وقلَّما تتذوَّق مشاعرَ صادقة.
يحتاج الإنسانُ الكراهيةَ أحيانًا أكثر من المحبَّة
بعضُ البشر يفرضون على غيرِهم كراهيتَهم، أحيانًا لا يحتمي الإنسانُ من نزعةِ الانتقام العنيفة لديهم إلا بالهروبِ والاختباءِ بعيدًا عنهم، ولو حاول أن يتسامح لن يجدي تسامحُه معهم نفعًا، لو حاول الصمتَ لن يصمتوا، لو حاول الإحسانَ لن يكفُّوا. هؤلاء كأنهم شرطةٌ متخصِّصةٌ في تفتيش المعتقَدات والأفكار والكلمات والنوايا، يستبدُّ بهم شعورٌ زائفٌ يُوهِمهم بأن لهم الحقَّ بملاحقة كلِّ الناس ومحاسبتهم وعقابهم، يرَوْن أنهم أوصياءُ على الكلِّ، من دون أن يحقَّ لأحدٍ محاسبتُهم وردعُهم، بعضُهم يشعر أنَّ لديه تفويضًا إلهيًّا بالوصايةِ على الناس، والتدخُّل في حياتهم الخاصة، وفرضِ قناعاته عليهم.
ويتورَّطُ الإنسانُ أحيانًا بعلاقاتٍ خطأ بمصابين بأمراضٍ نفسية أو أخلاقية، وربما يجتمع لديهم النوعان من الأمراض، يفرضون عليه وصايتَهم، وهذه الحالة هي الأقسى والأعنف. أكثرُ هؤلاء لا ينفعُ معهم الصدقُ والكرمُ والعطاءُ والوفاء. يتضاعفُ ويتسعُ حضورُ هؤلاء في المجتمع باتساعِ وتفشِّي: الجهل، والفقر، والمرض، وشيوعِ أساليب التربية والتعليم القمعية، والحروب العبثية، والنفاق، والتديُّن الشكلي، وانهيار منظومات القِيَم والأخلاق.
أحيانًا يشعُر الإنسانُ بحاجته لكراهية بعض البشر ممن يتخذون مواقفَ عدائية مؤلمة ضدَّه، من دون سبب يدعوهم لذلك، وربما يشعر بحاجته للانتقام منهم. الشعورُ بالكراهية موجع، إنها كالعلقم الذي لا يتجرَّعه الإنسانُ بسهولة، ولا يستطيع كتمانَها إلا بمكابداتٍ قاسية، إلا أنه يجدُ نفسَه بحاجة لها. أحكمُ الناس من يحرصُ على تفريغ شحناتِ الكراهية بوسائلَ غيرِ عنيفة، الإنسانُ الأخلاقي تمنعه أخلاقُه من الانتقام. أظنُّ الحاجةَ إلى الكراهية أشدَّ من الحاجة إلى الحُبِّ عند بعض البشر، وإن كان الحُبُّ دواءً لذيذًا، والكراهيةُ داءٌ مرٌّ. يقول دوستويفسكي: «لقد كُتِبَ على الإنسان أن يعيش في تحدٍّ دائم، إنه ليس في حاجة إلى السعادة فقط، فهو يُحبُّ العذاب، وأحيانًا يُحبُّه بشغفٍ.»
الإنسانُ ضحيةٌ لغريزة العدوان، وهو ما تتحدث عنه الصراعاتُ والنزاعاتُ، وأحيانًا الحروبُ العنيفةُ الماثلةُ في مختلف العلاقات بين الدول والشعوب والجماعات والأفراد. حتى العائلة الواحدة ربما لا يُمكِنها حمايةُ كِيانِها على الدوام من الغَيرة والتباغض والتنازع.
الكراهيةُ حاضرةٌ في حياة الناس وعلاقاتهم الاجتماعية، غير أنها قلَّما تكون معلَنة، نرى آثارَها في الدسائس والمكائد والنمائم والسعي بين الناس بالباطل، ولو خرجَت الكراهيةُ المختبئة في أعماق النفس الإنسانية، وأعلنَت عن وجودها بلا حذرٍ وخوف، واخترقَت كلَّ المعايير الأخلاقية والقانونية والعقابية، لأكلَت الكراهيةُ البشرَ، وصار عيشُ الإنسان على الأرض متعذرًا. يتحدث علماءُ النفس والأطباءُ النفسانيون وعلماءُ الجنايات والإجرام والاجتماع والأنثربولوجيا والأحياء عن هذه الحاجة، ويكشِفون عن جذورِها في النفس الإنسانية، ويبحَثون مناشئها في اختلالات وإخفاقات: التربية والتعليم، والثقافة والآداب والفنون، والتطوُّر الحضاري، ومنظوماتِ القِيَم، وتدهور مستوى العيش الكريم للإنسان، وانهيار موقعه الطبقي، وتعصُّبات الهُويَّة الإثنية والدينية، وغير ذلك. الإبداعُ والِابتكارُ والحضارةُ تعبيرٌ عن تفريغِ الكبت والشحنات العنيفة داخل الإنسان، يقولُ علمُ النفس التحليلي.
من روافد الشرِّ الأخلاقي
اختلافُ الأديان وانقسامُها على ذاتها ظاهرةٌ اجتماعية أبدية، ناتجة عن: اختلاف ذوات البشر، واختلاف أفهامهم، واختلاف مصالحهم. كلُّ كائن بشري نسخةٌ فريدةٌ لا تتكرَّر، وذلك ينتهي إلى الاختلافِ في الفهم الذي يُغذِّيه اختلافُ شبكات المصالح وتعارضُها.
للقِيَمِ السامية في الأديان آثارٌ روحية وأخلاقية أساسية في خفض الكراهية، وغرس المحبَّة وتكريسها، وتغذية منابع التراحم والتكافل والتضامن في العائلة والمجتمع، إلا أن القِيمَ السامية في الأديان لا تكفي وحدَها لكبح جماح الكراهية والعنف، أحيانًا تجد تاريخَ أكثر الأديان دعوةً للمحبَّة والعفو والمغفرة أقساها عنفًا في حروبها؛ لذلك تحتاج الدول والمجتمعات إلى قوانينَ عادلة لإرساء أسُس السلم والعيش المشترك، وإلى صرامة في تنفيذها على الكلِّ مهما كانوا بلا أيِّ تمييز.
لا يُمكِن الحكمُ على الأديان بمطالعة نصوصها فقط من دون نظرٍ إلى تاريخها، وما أنتجَتْه من تعصُّبات وحروب. أكثرُ دراسات الأديان والنقاشات حولها لا تنظر لتجربتها في الواقع، تظلُّ أسيرةَ الكلامِ، والتبرير، وتلجأ للاستدلال بنصوصها المقدَّسة، والاحتجاجِ بالتراث الذي تمحوَر حول نصوصها، وتتجاهل تجربتَها العملية ومواقفَ أتباعها عبْر مسيرتها الطويلة. الأديانُ كائناتٌ حية تتأثِّر وتؤثِّر بما حولها من ظروفٍ متنوِّعة، يؤثِّر الأفرادُ والمجتمعاتُ في الأديان، وتؤثِّرُ هي في الأفراد والمجتمعات على وَفْق المعطَيات المتاحة في الواقع.
إصلاحُ معاش الناس، وتربيتُهم السليمة وتعليمُهم الجيد، وإعادةُ بناء ثقافتهم، يكفلُ إنتاج قراءة تستفيق فيها القِيَم الروحية والأخلاقية المشتركة في الأديان، مثلما يكفلُ إدارةَ الانقسامات وحلَّ النزاعات بالوسائل السلمية، ويخفضُ كثيرًا من اللجوء إلى العنف في سياسة إطفاء النزاعات.