(٣) الحُبُّ والأضدادُ في الطبيعة الإنسانية

أن تُحِبَّ ليس قرارًا تتخذُه، لا يُمكِن أن يصدرَ الحُبُّ عن أوامرَ تُفرَض عليك، فتُلزمك أن تُحُبَّ فلانًا، أو تكره فلانًا، ولا إرادةَ لك إلا أن تستسلمَ فتنفذَ هذه الأوامر، وعند عصيانك لها تُعاقَب. الحُبُّ حالةٌ تُحدِثُها مجموعةُ أسباب، وتغذِّيها عدةُ عناصر، المستترُ منها أكثرُ وأثرى من الظاهر، الحُبُّ يُعبِّر عن دينامياتٍ تفرضُها احتياجاتٌ عاطفيةٌ تعتملُ في أعماق النفس الإنسانية، ربما يتكشَّفُ للإنسان بعضُها، غير أنه لا يعرفُ كلَّ شيءٍ فيها. لا يصدُر عن الإنسان أمرٌ لأحدٍ يطلب منه أن يُحبَّه، الحُبُّ يبحثُ عن الإنسان، وغالبًا ما يستولي على قلبه لعواملَ يجهلُ أكثرَها. ماهيةُ الحُبِّ خارجَ التعريفاتِ وبيانِ الحدودِ والماهيات، كنهُه خفي، وجودُه لا يتحقَّق إلا بعد أن تتحقَّقَ كلُّ مقدِّماتِه وأسبابه والعناصر المنتجة له، وأشدُّها أثَرًا الأسبابُ والعناصرُ الكامنةُ في اللاشعور.

كثيرٌ مما يحيط بالإنسان يغذِّي الشرَّ الأخلاقي ويرسِّخه. وهو ما يؤشِّر إليه الكمُّ الهائلُ من التعصُّب والغضب والحقد في الأرض، والكراهياتُ المتفشِّيةُ في الحياة، على الرغم من تشديدِ الأديان والثقافات ودعوتِها للرحمة والمحبة والسلام، والفضيلةِ والخُلُقِ الحَسَنِ، وإلحاحِها عليها، بغيةَ خفضِ بواعثِ الشرِّ المتراكمة في الطبقات الغاطسة في باطن هذا الكائن، بواعثُ الشرِّ التي تبدأ بالتراكُم بعد ولادته. إن حضورَ الشرِّ فَظٌّ عاصفٌ وعنيفٌ، عواملُ إنتاج الشرِّ في الحياة كثيرةٌ، بل إن ما يُستنبَت في شخصية الكائن البشري وينمو ويترسَّخ بالتدريج منذ طفولته الأولى أكثرُه يُراكِم الشرَّ الأخلاقي ويغذِّيه، الطبيعةُ الإنسانية تتناغم مع ذلك وتستجيب لأنها ملتقَى الأضداد. لعل في تقديم الفجور على التقوى ما يشي بهذا المعنى في القرآن الكريم: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا.١ يطغى الشرُّ الأخلاقي ويتمدَّد ويوظِّف كلَّ ما يُمكِنه توظيفُه ليفترسَ الحياة ويعملَ على هدم ما يبنيه الإنسانُ في الأرض، لو لم يقف الإنسانُ بوجه اجتياح الشرِّ لتهدَّم كلُّ ما هو جميل في الحياة.

بسبب الكمِّ الهائل للشرِّ الأخلاقي المقيم في الأرض، يسعى الشرُّ أن يتغلَّبَ في حياة البشر على الخير، وتحاولُ عواملُ إنتاج القسوة التغلبَ على الرحمة، وعواملُ إنتاج العنف تحاولُ التغلبَ على السلام، وعواملُ إنتاج الكراهية تحاولُ التغلبَ على المحبة. وإلا فكيف نفسِّر كلَّ هذا الخذلان والظلم والاستبداد والعنف وانتهاك الكرامة الإنسانية، المقيم في الأرض أمسِ واليومَ.

ربما يكون ذلك أحدَ أهمِّ أسبابِ عُزلة الفلاسفة، وهروبِ معظمهم من العلاقات الاجتماعية، وإعراضِهم عن العيش بين الناس، وجنونِ وانتحارِ غير واحدٍ منهم، وكلُّنا يعرفُ أن عقولَ الفلاسفة هي الأعمقُ والأدقُّ في الكشف عن حقيقة الإنسان وما يُخفيه في داخله. وهكذا عُزلة كثيرٍ من العرفاء وأصحاب التجارب الروحية السامية؛ لأن بصيرتَهم يتكشَّف فيها شيءٌ مما يحتجب في أعماقِ الإنسان.

الحُبُّ شحيحٌ في حياتنا

الحُبُّ شحيحٌ في حياتنا، الكراهيةُ ‏كثيرةٌ، الحزنُ طويلٌ في حياتنا. في مجتمعنا ينشُد الناسُ الحزنَ أكثر من الفرح، أكثرُ أفراحنا تتلوها أحزان، أكثرُ أعيادنا تتلوها أحزانٌ، أيامُنا لا تبتهج إلا قليلًا، أكثرُ كلماتنا يسكُنها الموت، أحلامُنا مؤجلةٌ لما بعد الموت. الفرحُ شحيحٌ، لحظة يفرح بعضُ الناس ويضحك يتشاءم ويتوجَّس خيفةً من فرحه وضحكه؛ لأن ثقافتَه تلقِّنه أن كلَّ فرح يتلوه حزنٌ عاجلٌ يداهمه فجأةً، ولأن الحزنَ هو الأكثر حضورًا في يومياته. حياتُنا كئيبةٌ، نتعلمُ كراهيةَ الناس والبراءهَ منهم قبل أن نتعلمَ محبتَهم، الدعوة للمحبة منحصرةٌ بمن هم مرآةٌ لمعتقَداتنا، ممن نُشبِههم في تفكيرنا ويُشبِهوننا، وإن استمعنا دعوةً للمحبة نستمع معها دعوةً لكراهية مَنْ لا نشبههم في تفكيرنا ولا يشبهوننا في معتقداتهم. المنابرُ مكرَّسةٌ لذلك، تراثُ الفِرَق وعِلمُ الكلام ومقولاتُ وفتاوى التكفير مشبعةٌ بذلك، ظاهرُ كثيرٍ من العلاقاتِ ‏لا يشبه باطنَها. الخطبُ والأحاديثُ الدينيةُ أكثرُها يجهلُ الطبيعةَ الإنسانية، ‏مَنْ يتحدثون على هذه المنابر، و‏مَنْ يكتبون كتاباتٍ وعظية، نادرًا ما تجد أحدًا منهم يشير إلى شيءٍ من التباسِ وغموضِ هذه الطبيعة وأسرارِها وتناقُضاتِها. الإنسانُ الديني الذي يتحدَّثون عنه موجودٌ في كلماتهم وكتاباتهم ومتخيَّلهم، قلَّما يعرفه الواقع. الإنسانُ الذي يعيش على الأرض شخصيتُه مكوَّنةٌ ‏من سلسلة طبقات، بعضُها غامض لم تصلِ الفلسفةُ وعلومُ الإنسان والمجتمع والعلوم الطبيعية إلى المدَيَات القصوى لها حتى اليوم، وربما لن تصلَ إليها غدًا. وإلى ذلك يعود التضارب الذي يصل حدَّ التناقض أحيانًا بين علماء النفس والإنسان والمجتمع في فهمِ شخصية الكائن البشري وتفسيرِ دوافع سلوكه. ‏يقول علي الوردي: «إن طبيعةَ البشر هي من أصعَب المواضيع النفسية والاجتماعية، إن لم تكن أصعَبها جميعًا؛ فهي موضوع متشعِّب ومعقَّد إلى أبعد الحدود، والواقع أني كلَّما توغلتُ في دراسته شعرتُ بأني لا أزالُ في أول الطريق، وكلَّما بحثتُ في جانبٍ منه ظهرَت لي جوانبُ أخرى تحتاجُ إلى بحث. ظهرَت في موضوع الطبيعة البشرية نظرياتٌ متعدِّدة، ونُشرَت فيه دراساتٌ لا تُحصى، وأعترف أني أشعُر بالعجز تجاه تلك النظريات والدراسات؛ فهي في غاية الصعوبة، بل من المستحيل استيعابُها كلِّها. أضِف إلى ذلك أنها قد تتعارض وتتناقض، ولهذا يقف الباحث حائرًا لا يعرف ماذا يأخذ منها وماذا يترك.»٢

‏الاستثمارُ في الحُبِّ أصعبُ أشكال الاستثمار في مجتمعنا. ما يدعو في حياتنا للعنفِ وكراهيةِ الآخر أكثرُ وأشدُّ مما يدعو للمحبة. كثيرٌ مما نرى ونسمع في حياتنا اليومية: ‏عنفٌ لفظي، عنفٌ رمزي، عنفٌ جسدي. اللغةُ عنيفةٌ، الصوتُ عنيفٌ، ‏أساليبُ التعبير عنيفةٌ، لغةُ الجسد وتعبيراتُه حادَّةٌ، نظراتُ العيون مخيفةٌ، ‏الوجوهُ باكيةٌ، الحديثُ ‏بين شخصَين ليس دافئًا، ‏النزاعاتُ التافهة أحيانًا تنتهي إلى عنفٍ جسدي ودمٍ مسفوح، وكأننا نستأنف حربَ البسوس. ‏صوتُ المحبة الصادقُ في مثل هذا المجتمع نشازٌ، إنه كمن ينفُخ في رماد، الكلامُ والكتابةُ عن الحُبِّ ليست شائعة، وأحيانًا مُستهجَنة. قلَّما نعثرُ على معلِّمين للحُبِّ في مدارسنا وجامعاتنا، الدينية منها والمدنية. لدينا فائضٌ كبيرٌ من معلِّمي إنتاجِ الكلام وتكديسِه، واستنزافِ العقل في مغالَطات، وتعطيلِ التفكير في جدلٍ عقيم.

ضياعُ الحُبِّ

يضيع الحُبُّ ويتحوَّل من دواء إلى داء ومن ترياق إلى سُمٍّ، عندما يفرضه على الإنسان الانتماءُ إلى معتقَد يعتنقُه، أو أيديولوجيا سياسية يتبنَّاها، أو قوميةٌ ينتسبُ إليها، أو جماعةٌ يرتبط بها. يضيع الحُبُّ عندما يفرض عليه معتقَدُه أن يحُبَّ شريكَه في الاعتقاد خاصة، وإن كان لا يتحسَّس في مواقفه وتعامُله مع غيره ما يدعوه لمحبته، وألا يحبَّ المختلف عنه في الاعتقاد وإن كانت أخلاقُه إنسانيةً نبيلةً تدعو الناسَ لمحبته. وهكذا الحالُ عندما تَفرِض على الإنسان أيديولوجيا الجماعةِ الحزبية المنخرِط فيها كُرهَ بعضِ أصناف الناس، مهما كانت أخلاقُهم مهذبةً ومواقفُهم إنسانية، واحتكارَ الحُبِّ في إطار الجماعة المنتمي إليها لا غير. وكأن الحُبَّ شيءٌ يجري امتلاكُه وتداولُه، مثلما يجري تداولُ السلع وامتلاكُها في عمليات الإنتاج والتسويق والبيع والشراء والاستهلاك. يضيعُ الحُبُّ عندما ينقلب من كونه حقيقةً فيصير شيئًا، الحُبُّ ليس سلعةً مبتذلةً قابلةً للتداول المادي والاستهلاك. الحُبُّ حالةٌ للقلب يعيشها، وطَورُ وجودٍ للإنسان يحقِّقه ويتحقَّق به، وتجربةٌ للحقيقة يتذوَّقها. الحُبُّ كالإيمان لا إكراه فيه؛ لأنه خارج مجال الأمر والنهي وكلِّ أنواع الخطابات التي يتلقَّاها الإنسانُ من الخارج. الحُبُّ خارج تحكُّم الإرادة الذاتية، وكلِّ القرارات المفروضة على الإنسان من غيره.

حالةٌ أخرى لتضييع الحُبِّ، وهي أكثر ضبابيةً وغموضًا، حالةٌ يصير فيها الحُبُّ معبودًا لذاته مثلما تُعبَد الأوثان، فيجري إهدارُه وتنقلب آثارُه إلى الضدِّ منه. إذا كان الحُبُّ هو الغاية يصير الإنسانُ وسيلةً، ما يعني استلابَ الإنسان. الإنسانُ هو الغايةُ في الأرض، وكلُّ شيء مُسخَّر له، كلُّ شيء لأجله، وإن كان أمرًا معنويًّا وليس ماديًّا. الدينُ من أجل الإنسان، الحُبُّ من أجل الإنسان، العلوم والمعارف والآداب والفنون من أجل الإنسان، كلُّ شيء من أجل الإنسان. الحُبُّ بوصفه تجربةً يتحقَّق فيها ويتكامل، يظلُّ وسيلةً يتسامى بها الإنسانُ، ويصير عيشُه فيها أجمل. ينحطُّ الإنسانُ ويفتقد ذاته إذا صار أيُّ شيء غيره هو الغاية، وتحوَّل الإنسانُ إلى أداةٍ ووسيلةٍ تُستخدَم لأجل ذلك الشيء. أحيانًا يمتلك الحُبُّ الإنسانَ ويتحكَّم بكلِّ شيء في حياته، إلى الحدِّ الذي يستعبدُ فيه عقلَ الإنسان وقلبَه وروحَه، ويُخرِس ضميرَه، ويشلُّ إرادتَه، ويُوقِف أيَّ فعلٍ خلَّاق في حياته، ويعطِّل قدرتَه على العطاء والإنجاز. هنا بدلًا من أن يكون الحُبُّ حالةً يعيشها الإنسانُ ويحقِّقها ويتحقَّق فيها وجودُه بطورٍ أسمى، يتحول إلى وثنٍ يسقُط الإنسانُ في أسره ويظل مسجونًا في شِراكه. عندما يصير الحُبُّ معبودًا لذاته يستلبُ كلَّ شيء في حياة الإنسان وتنحطُّ معه كرامتُه. يقول أحدُ مفكِّري القرنِ التاسعَ عشرَ: «إن الحُبَّ هو إلهةٌ شرسة، وككلِّ ألوهية فإنها تريد الاستيلاء على الإنسان بكامله، ولا تكتفي بتقديمه لها لروحه فقط، بل جسده كذلك. إن عبادتها هي المعاناة وقمَّة هذه العبادة هي التضحية بالنفس، الانتحار.»٣
١  الشمس، ٨.
٢  وجهًا لوجه، د. علي الوردي، ود. جليل العطية، العربي، الكويت، ع٣٦٠، نوفمبر ١٩٨٨م.
٣  هذا المفكر هو إدغار باور، ذكر ذلك في مقالة له عن الحب ١٨٤٤م. راجع: فروم، إريك، حب الحياة: نصوص مختارة، تقديم: راينر فونك، ترجمة: حميد لشهب، ص١٦٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤